أدبيات صالح المطيري

 

سر الإشادة بالنسر

في قصيدته المشهورة (ركزوا رفاتك في الرمال لواء)  التي قالها في عمر المختار، يقول احمد شوقي:

كرفات نسر او بقية ضيغم   باتا وراء  السافيات هباء

ألا تلاحظ عزيزي القاريء على هذا البيت ان فيه تنافرا معنويا بين النسر والضيغم؛ والذي هو ان لم تخني الذاكرة السبع ؟

ووجه التنافر ان الضيغم (السبع)  هو من الحيوانات الشريفة ذات المكانة عند العرب نظرا لانه لا ياكل الا صيده، اما النسر فهو من المخلوقات الوضيعة لدى العرب لانه يتصف بخلال شتى أهمها الجبن ، فهو لا يقدم على فريسته ولا يحرك ساكنا حتى تخرج روحها،  بل انه ينتظر مليا امام الفريسة بالساعات الى ان تسلم الروح،  وهو من بين الطيور والجوارح مختص بالتعامل مع الجيف، فكثيرا ما تجده عاكفا على جيفة يتغذى منها، في حين ان جوارح اخرى كالعقاب مثلا لا تاكل إلا من صيد مخالبها من الصيد الطازج الجديد، بينما النسر مرابط عند الجيفة التي لها شهور.

هذه هي الصورة التي ظلت في مخيلة العربي ابن الصحراء على مر القرون.

لكن في العصر الحديث أصبحنا نرى النسر رغم مكانته الوضيعة في مخيلة العرب – أصبحنا نراه يرد كرمز لصفات ايجابية كالشجاعة والصمود والاقدام والكرامة والعلو والسمو ،  اي صفات  تشيد بالنسر وتخصه من بين الطيور بالفضل والتنويه حتى غطى على الصقر،   واليك  هذه الامثلة من الانترنت:

... ربيتك لتكون نسراً يحلق في السماء وتنتزع حقك
انتزاع
اً ، لا فأراً مرعوباً ينزوي في قعر

... في السابعة عشرة من عمره، بدأت أحوال كيفن تتغير،
وخيوط الشرنقة تتقطع، لينطلق منها نسراً...

. كان الزمن نسراً
وحمامةْ. خطف النسر حسامه. وانبرى يقتل أهله. ...

يوسف قباني

إني أتيتك من ذروة الحب نسراً جريحاً

فايد ابراهيم

ليصبح نسراً فوق سماء تشرين

. أخي في الأفق تلقائي كنسرٍ سابح تيـها
… وأسـتعلي بإيـماني علـى الدنيا وما فيها

فلماذا يا ترى انصرفت مخيلة الكاتب العربي او الشاعر الى  الاشادة  بالنسر من بين الجوارح؟ ولماذا يظهر النسر في الآدب العربي الحديث ليمثل تلك الرموز؟

الذي اراه ان الاشادة بالنسر جاءتنا عبر الترجمة، والترجمة الخاطئة على وجه الخصوص. كيف حصل هذا؟ لنرى .

في التفكير الغربي والامريكي على وجه الخصوص نجد الطير المسمى eagle  يتصدر كثيرا من الشعارات، فهو يوجد على كثير من شعارات الحكومة الامريكية وادراراتها المختلفة،  ويظهر في كثير من قصص الاطفال كالنسر الذهبي مثلا، كما يستخدم في الادب الأمريكي ايضا كرمز  للحرية والانطلاق والعلو .

لكن لما احتك العرب بالأمريكان ترجموا اسم  هذا الطير بالنسر واخذوا معه استخدامه في الادب والكتابة كرمز لصفات ايجابية .

لكن حدث خطاء فادح هنا في الترجمة الى العربية ، إذ ان الطير المسمى eagle  ليس هو النسر اطلاقا وانما هو العقاب كما هي الترجمة الصحيحة له،  وكما يذكر معجم الحيوان للفريق امين المعلوف، أما النسر  فهو الذي يطلق عليه في الانجليزية vulture   وتصفه المعاجم بما ينطبق على وصفه في العربية.

واذا تأملنا العقاب فانه سنجده تنطبق عليه الصفات الايجابية المذكورة اعلاه التي نُحّـلـت خطأ للنسر،  وهو يعتبر من الجوارح التي لها شرف ومكانة في مخيلة العرب،  لانه طائر قوي لا ياكل من الا من صيده، وينقض على طرائده من عل، وله نظر ثاقب يضرب به المثل فيقال (أحد من نظر العقاب)، ويغلب الصقر في القوة،  بل ان الصقر يفر منه في العادة نظرا لانه يفوقه في الحجم وقوة الباسفتامل اخي القاريء  كيف أضفت الترجمة العرجاء على النسر ماليس فيه،  وكيف غيرت من تصور العربي للنسر والبسته تصورا ليس اهلا له.  وعلى سيرة حدة النظر ، نجد أن الآمر بين النسر والعقاب  قد اختلط على الجواهري أيضا، إذ قال في قصيدة الراعي:  (يقفو بعين النسر ترقب  أجدلا ذئبا أزلا) ووجه الاختلاط  هو أن حدة البصر تعزى للعقاب وليس للنسر. ونفس الخلط وقع لأبي القاسم الشابي في قوله (سأعيش رغم الداء والأعداء كالنسر فوق القمة الشماء) إذا أن الذي كثيرا ما يستوطن القمم وذرى الجبال هو العقاب بينما النسر قد يعشش فوق شجرة في الصحراء.، فالقمم للعقبان دون النسور.

والخلاصة ان الترجمة السيئة ليس فقط تبدل كلمة محل كلة وانما قد  تغير التصورات والرموز المرتبطة بها ايضا.

 

والان لي عودة إلى بيت شوقي اعلاه، اقصد قوله :

كرفات نسر  أو بقية ضيغم   باتا وراء السافيات هباء

فكما رأينا ما فيه من تنافر معنوي بين النسر والضيغم فاني مع احترام الشديد لامير الشعراء الا اني ارى ان البيت يحتوي على عيب فظيع أيضا،  اذ كيف يشبه قبر عمر المختار او رفاته برفات أي بقايا حيوان : نسر او سبع ملقاة في الصحراء، تسفي عليها الرياح ؟ ولو رايت بقايا حيوان ميت في الصحراء وقد  تحول بعضها إلى هباء لاستأت من المنظر  ثم لا ستنكرت من بعد على شوقي ان ياتي بهذه الصورة الغير موفقة .

لكن من الجهة المقابلة قد يقول قائل ان شوقي استخدم النسر  هنا كرمز لطول العمر والشيخوخة التي كان عليها المختار   عندما أعدمه الطليان ، والمعروف عن العرب انها تضرب المثل بالقدم وطول العمر بالنسر.

 

عـلـق على هذا الموضوع