ديسمبر 02، 2007

يجيبوا لنا الأعرج


المناقشات السياسية أصبحت متعبة. نلف وندور كلنا في حوارات غير مجدية ولا نصل إلى نتائج. هذا الغموض المستمر يتعبني كما يتعب غيري، أما ما يؤلمني فهو افتقاد من كان يجيبني على كل أسئلتي.

قبل قدوم الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى الفترة الثالثة والأطول والأخيرة لحكمه، وفي أثناء الحكم القصير للسلطان المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، اضطربت أحوال البلاد السياسية وزاد على ذلك جفاف أصاب ماء النيل فتشائم الناس. تعاطف المصريون مع ابن السلطان الذي كان الحكم من حقه بعد مقتل أخيه الأكبر الذي حقق بطولات كبيرة ولكن عامل أمراءه بكثير من الطيش. في حكمه الأول والثاني، أضطر الملك الناصر إلى ترك ملكه ومن حظه وسعد أقداره أن تُرك حيا. كان من يصل إلى السلطنة من المماليك هو ببساطة الأقوى، ليس صاحب الحق.

ولكن، كان نظام حكم المماليك سلطانيا وراثيا، حتى وإن كان السلطان الأب قد اغتصب السلطة من سابقه. كانت موافقة الأمراء الكبار ضرورية بالطبع وكان الصراع على السلطة لا يتوقف ولهذا من كان يصل إليها كان يعرف جيدا أن احتمالات خروجه منها مقتولا هي الأقوى.

الوراثة في النظام الملكي أو السلطاني مفهومة وإن لم أقبلها. الوراثة في النظم الجمهورية، سواء وراثة السلطة أو الحكم، لا مقبولة ولا مفهومة ولا أي حاجة.

تشائم المصريون في أواخر حكم الملك المظفر بيبرس الجاشنكير من الحال السياسي وجفاف الشريان الإلهي فظهرت أغنية شعبية:

"سلطاننا رُكين، ونايبنا دُقين، يجينا الماء من أين؟
يجيبوا لنا الأعرج...ييجي الماء ويدحرج"

لم يكن الملك الناصر بحسب الوصف وسيما كمعظم المماليك، وكان بإحدى رجليه عرج. يقول المقريزي عنه:
"وكان السلطان أبيض اللون...خطه الشيب، وفي عينه حول، برجله اليمنى ريح شوكة تمغص عليه أحيانا وتؤلمه، وكان لا يكاد يمس بها الأرض، ولا يمشي إلا متكئا على أحد أو متوكئا على شيء، ولا يصل إلى الأرض إلى أطراف أصابعه. وكان شديد البأس، جيد الرأي، يتولى الأمور بنفسه، ويجود لخواصه."

حكم السلطان الملك الناصر محمد مصر وأجزاء من الشام والحجاز لاثنتين وثلاثين سنة في فترته الثالثة. يحسب له أنه كان قويا وأنه كان من البنائين العظام. كان به مما فرض زمن المماليك وظروفهم عليهم من ظلم وبطش ولكنه كان "محبا للعمارة." يشتهر الناصر محمد بين سلاطين المماليك بأنه أكثر من شجع أمراءه على البناء وأجزل لهم العطاء لهذا الغرض. يصفه المقريزي بأنه كان قويا مهابا و"عارفا بأمور رعيته وأحوال مملكته،" شديد الذكاء ويعرف كيف يكسب الناس إلى صفه، ولكنه كان يغدر بمن يكبر من أمرائه وتتعدى قوته الحد المطلوب، "وكان مخادعا كثير الحيل،" حازما في التخلص من أي شخص يستشعر منه خطرا، ولا يؤمن جانبه إذ قد لا يفي بعهوده ولا يمينه.

بالمقارنة بسلاطين آخرين، كان الملك الناصر محمد معقولا جدا!

كانت له شهرة عجيبة عند العامة. يقول المقريزي: "واشتهر في حياته بديار مصر أنه إن وقعت قطرة من دمه على الأرض لا يطلع نيل مصر مدة سبع سنين. فمتعه الله من الدنيا بالسعادة العظيمة في المدة الطويلة، مع كثرة الطمأنينة والأمن، وسعة الأموال..."

في الحكومات المفترض أنها جمهورية، يُفترض أن الإبن لا يرث الأب ليصبح حاكما، كما أنه من المفترض ألا تكون له سلطة تقارب سلطة الأب لمجرد أنه الإبن. المفترض أن يأتي الحاكم بالانتخاب، وإن كان ذلك في الكثير من الأحيان غير مفروض إلى أن يُفرض بقوة ما.

الحاكم الشرعي القادم لهذا البلد في هذا الزمان ليس الوريث المورث. كل ما أرجوه الآن أن تحل عصابة الفساد عن سمانا حتى يأتينا الماء بعد الجفاف، قبل أن يقتلنا العطش.

نحن نستحق حاكما يأتي كما ينبغي لهذا الزمن. ونستحق نظام حكم حقيقي يضمن لهذا البلد تقدما طال انتظاره.

كل ما أتمناه أن يصل إلى حكم هذا البلد من يحبه أهله ويطلبونه عن حق فيأتي جالبا معه الماء بعد السنوات العجاف.

أنا في انتظار الصباح...وأعرج لهذا الزمان

المصادر:
أبو المحاسن بن تغري بردي، مورد اللطافة في من ولي السلطنة والخلافة، المجلد الثاني، تحقيق نبيل محمد عبد العزيز أحمد (القاهرة، 1997)
تقي الدين المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، الجزء الثالث، تحقيق محمد زينهم ومديحة الشرقاوي (القاهرة، 1998)

نوفمبر 23، 2007

مجدوب لا حيلة فيه*


"نعم ولكن كان هذا في الشاهنامة..."

ينظر إلى بغضب فأعرف أنني قد ارتكبت خطأ ما. أنتهي من سؤالي فيصحح:"نعم، في'الشاهنامة'..." ينطقها نطقا إيرانيا صحيحا بتفخيم حروف المد وكسر آخرها كسرا خفيفا، لا بطريقتي الخاطئة التي تطغى عليها العربية. إلى الآن، لا أنطق الكلمات التي تعلمتها منه إلا كما ينبغي أن تنطق وإن بدا هذا غريبا في بعض الأحيان. في نطقه لعربيته الجيدة جدا يحرص بشدة على نطق كل الحروف صحيحة. تقف القاف الصعبة في حلقه قليلا قبل أن تخرج واضحة وقوية وصحيحة. ينطقها بصعوبة لكنه ينطقها من الحلق، لا صوتا مشوها بين القاف والكاف كما تخرج من الكثيرين ممن تعد لغة الضاد لغتهم الأم. يجتهد ويدقق فيتوقع المثل من تلاميذه، لذا لا يسمح لنا لا بأخطاء ولا هنات. يتباسط في التعامل مع طلبة الدراسات العليا، فهم ليسوا أطفالا. يخاطبونه كلهم باسمه الأول وهو ما يسمح به ويشجعه. لا أجسر أنا على رفع الكلفة أبدا، فلا أشير إليه إلا بلقبيه، العلمي والاسمي، ولا أخاطبه إلا قائلة: "سيدي."

خرجت من مناقشة رسالة الماجستير منهارة في بكاء حبسته طوال الجلسة وانفجر في ألم بعدها. كان قاسيا علي جدا. كلنا نعرف قسوته تلك لأنه يريدنا أن نكون باحثين جيدين، ولكني لم أتوقعها لهذه الدرجة. كتبت الرسالة في أسوأ فترات حياتي على الإطلاق فلم تخرج كما تمناها هو لي ولم يسامحني عليها. لم ير أن لي عذر في أن أقدم أقل مما أقدر عليه. الآن، نسي كل هذا ويقابلني ببشاشة دائمة ويشجعني إن استطاع. أدين له بالكثير مما تعلمت وتتبعني دقته إلى الآن. إن كتبت، أقرأ ما كتبت مرة وأخرى وفي ذهني سؤال عما سيقول إن قرأ ما كتبته يوما. الأستاذ المتفاني يجبر التلميذ على احترامه إلى آخر العمر. كان من حظي السعيد أن رزقني الله بأساتذة يحبون مجالهم بقدر شدتهم وزملاء يجمعهم غرام بذات المجال ورغبة دائمة في الاستزادة.

في وسط إيران خمسة جوامع تنتمي للمرحلة الزمنية بين 1445 و1535 وبكل منها منبر مكسو بالقاشاني وهو ما لم يكن معتادا في إيران على كثرة التنويعات على فنون الخزف والفخار بها وتمكن فنانيها من هذه الفنون لدرجة الإبهار. حتى فترات تدهور فن الخزف في إيران أنتجت ما هو من أبدع ما تراه العين، فما بالك بتحف فترات الإتقان.

أحد هذه المنابر هو منبر المسجد الجامع، أو مسجدي ميدان، بكاشان (قاشان). للأسف لم أجد أية صور للمنبر على النت، ولكن ربما تعطي هذه الصور بعض الفكرة عن خزف كاشان:

1 ، 2 ، 3 ، 4، 5 ، 6 ، 7 ، 8 ، 9

على المنبر كتابات منها:

"أغثني يا غياث المستغيثين"

"عمل حيدر كاشي تراش"
(أي عمل حيدر قاطع البلاطات)

"في أيام دولة السلطان الأعظم و الخاقان الأفخم الأكرم غياث الدنيا و الدين سلطان أبو سعيد كوركان خلد الله ملكه و سلطانه"


دراسة ما تحب من متع الحياة وأحلى ما تقضي فيه أيامك، والفن من مباهجها الأجمل.

ربما تتطور الدراسة إلى شغف طاغ، ثم إلى انجذاب تام!
حينذاك تدرك أن لا حيلة لك.


المصادر:
Bernard O’Kane, “The Tiled Minbars of Iran,” in Studies in Persian Art and Architecture (Cairo, 1995)
* محمد العزبي يحكي عن يس

أكتوبر 22، 2007

حدائق الأحزان

انتهيت من قراءة كتاب ممتاز: "حدائق الأحزان – إيران وولاية الفقيه" لمصطفى اللباد. الكاتب باحث متميز اعتمد على دراسة وافية وزيارات متعددة وخبرة جيدة جدا بالبلد الذي يكتب عنه كما استخدم مراجع عديدة أكثرها إيراني. الكتاب هام جدا لمن يجهلون هذا البلد وتاريخه المعاصر وثورته وسياساته، ولمن يدّعون العلم به أيضا فيكوّنون آراء لا معنى لها، وهم كثر! يقدم الكاتب عرضا موضوعيا وشاملا لنظرية حكم لم أكن أفهمها ولا أعرف أبعادها وبلد لا زلت أجهل الكثير عنه وأتشوق كثيرا للمعرفة.

يقول الكاتب: "اخترت للكتاب عنوان "حدائق الأحزان" لاعتبارات متعددة، منها إعجابي بحدائق إيران وتصميمها وعمارتها الفريدة التي تأخذ بالألباب، وما تركه في نفسي الأثر العميق لحزن الإيرانيين الدائم، الذي يبدو ركنا أساسيا في وجدان المسلمين الشيعة عموما، والإيرانيين خصوصا. ولا تقتصر وظيفة الحديقة في إيران على تدليل العيون والأبصار، إذ هي، سواء في تراث إيران الشعبي أو ممارسات الإيرانيين الاعتيادية، جزء من الحياة اليومية، فيها يستريحون ويتنزهون ويتناولون طعام العشاء في ليالي الصيف."

لحدائق فارس تاريخ طويل قبل الدولتين الإلخانية والتيمورية. يُرجع بعض الدارسين أهمية الحدائق في عصور فارس الوسطى إلى الأصول البدوية للمغول الإلخانيين والتيموريين. كانت الحدائق الملكية في الدولتين كثيرا ما تُستخدم كمقار للحكم بسبب التنقل الدائم للملوك المحاربين بجيوشهم. الحديقة قريبة من مخيم الجيش المنصوب في مواقع تصلح للرعي كما يحتاج الجيش المعتمد على الخيول، وبداخلها السرادق الملكي رائع الزينة وبها ما يمتع الناظرين من الأشجار والنبات. كما تقام بها الاحتفالات والأفراح. لم تكن تلك الحدائق الكبرى مجرد بساتين، بل كانت لها خطط تقسمها وكانت مواقعها تُختار بعناية.

استمرت الحدائق في احتلال مكانة كبرى في المدن الفارسية فكانت مثلا من العناصر الهامة بمدينة إصفهان الرائعة التي بناها شاه عباس الأول، الحاكم الصفوي. ورثت دولة الهند المغولية التي أحب حكامها إرجاع أصولهم إلى الأسر الحاكمة الفارسية نفس الولع بالحدائق. لم يكن الولع بالحدائق قاصرا على الشرق الإسلامي ولكن تبقى آثاره إلى الآن وتمتد غربا إلى الأندلس.

ولكن يأبى الفن الفارسي إلا أن يترك لنا أثرا زائدا. ينقلك التصوير الفارسي شديد الثراء إلى عالم آخر يبدو بعيدا في الزمن لكنه كما لو كان يُطال باليد. كثير منه يصور مناظر تحدث في الحدائق ومبانيها. يمكن رؤية بعض تلك المناظر هنا:
1، 2، 3، 4

التصوير الإسلامي أكثره فارسي وما بقى منه أكثر مما يقدر إنسان على دراسته كاملا في حياة واحدة! التقليد والتنوع لا مثيل لهما.

هذا البلد وما حوله، تلك الحضارة القائمة شرقنا حاملة كل روحها وبعض روحنا، هي زيارة يتمناها قلبي بشدة.

المصادر:
مصطفى اللباد، حدائق الأحزان – إيران و"ولاية الفقيه." (القاهرة، 2007)
Lisa Golombek, “The Gardens of Timur,” Muqarnas XII (1995): 137-146

سبتمبر 28، 2007

باب الطلسم

كان من أبواب بغداد إلى أن دمرته الجيوش العثمانية حال انسحابها من المدينة أمام جيوش الاحتلال البريطاني عام 1917. مر الباب بمراحل عدة وكان له أكثر من اسم. كان على الباب نقش يقول بأن بانيه ومرممه هو الخليفة العباسي الناصر لدين الله وسنة البناء هي 1221. بناه الخليفة كجزء من أسوار بغداد التي كان الغرض منها حماية المدينة من الغزوات والفيضانات.

ولكن من الواضح أن الخليفة لم يكن أول من بنى هذا الباب لأنه كان معروفا قبل 1221 وكان من أسمائه آق قابواي أو الباب الأبيض وباب الحلبة. يقال أن سبب تسمية باب الحلبة هو أن السلطان السلجوقي مالك شاه عندما زار بغداد لأول مرة عام 1086 تحرك بموكبه من قصره إلى تلك المنطقة حيث لعب فيها بالصولجان أو الكرة، كما كانت عادة الملوك، فتحول المكان بعدها إلى حلبة لتلك الرياضة. أغلق السلطان مراد الرابع العثماني باب البرج عند احتلاله بغداد عام 1638.

كان فوق مدخل الباب شكل منحوت في الحجر: شخص جالس مربع الرجلين، يمثل الحاكم القوي المسيطر، وعلى جانبيه تنينان مجنحان بجسدي أفعى. يمد الجالس يديه داخل فمي التنينين باطمئنان الواثق. يعرف جيدا أن الكأئنين المرعبين لا يقدران على إيذائه، بل ربما كانا أوليائه.

تُسمى إحدى بوابات قلعة حلب بوابة الأفاعي. فوق البوابة التي بناها الملك الظاهر غازي عام 1209 ضمن ما بنى وأضاف إلي هذه القلعة الرائعة، أفعتان ملتفتان تنتهيان إلى عض جسديهما دليلا على أن القلعة في حماية دائمة. كانت رؤية هذه البوابة رؤى العين من السحر!

لا يحدد الدارسون بدقة من هو الحاكم الذي أضاف الطلسم على الباب الذي زال عن بغداد. يُرجعون استخدام التنانين والأفاعي إلى تأثيرات شرق آسيوية واضحة. تقول واحدة منهم في أول القرن الماضي أنها رأت أشكالا مماثلة على أبواب كنائس عدة، في الموصل وحولها، مما يرجع تاريخها إلى القرن الثالث عشر كذلك ومما تشي زخرفاتها بتأثير الفن الإسلامي المجاور لها والمتأثر بدوره بما حوله.

قبل رمضان بأيام وصلتني هديتان قيّمتان: مخطوط قديم مكتوب بخط اليد وحَجَر منقوش. بكل طلاسم لم أعرف حلها برغم معرفتي بالغرض منها. ليس علي فهم الطلسم لأحبه! ليس علي فهمه لأعرف جيدا أنه يحميني.

المصدر:
Gertrude Lowthian Bell, Amurath to Amurath (London, 1911)

أغسطس 28، 2007

المشي طاب لي


اقترب الشهر الكريم. المشي حيث يطيب لي الآن مملوء بالفوانيس الملونة. تمشية طويلة بعض الشيء في شارع الأزهر تنتهي إلى شارع المعز بعد أن تضجر مني الصحبة وتتعب ويعترض بعضهم: "هو إنت عارفة إنت رايحة فين؟"

"قربنا خلاص! مش عاوزة شكوى!"

نقف في أوله فتتطلع العيون بفضول إلى قلبه. أقف بينهم وبينه محيلة نظرهم إلى الغورية. ليس لهذا سبب يتعلق بهم، بل بي أنا. عند بدء المشي الذي يطيب، يطيب لي التباطؤ والتحضير. الوقت ليل لأن الزيارة نهارا تستحيل في هذا الحر الرهيب. شارع المعز لدين الله جميل في ليله كما في نهاره.

الشارع الآن ممهد بعد أن قضى فترة طويلة في حفر وفحت وتمر السيارات بأجزاء فيه ولكن ليس فيه كله.

في هذه الزيارة الليلية دخلت أكثر من أثر. في ليل الصيف ونس. كنت في صحن مدرسة برسباي عندما تذكرت المشي الطيب.

هذه المرة أنا مع من صحبة توحدني بهم قرابة الدم. يجمعنا شبه واحد وخصال واحدة تدهش الأغراب. نمشي في وحدة واحدة منا من يسكن هذا البلد ومنا من جاء من قارة أخرى عاش فيها طويلا. لا زال يجمعنا التشابه ولا زلنا لا نستطيع التغلب على خصلة السخرية من أنفسنا وكل ما حولنا.
في كل كلمة وكل خطوة حنين إلى زمن مضى ولن يعود. تاريخ بلد في هذا الشارع وفي القلوب ذكريات بعدد أيام العمر في أماكن أخرى أسعد الله زمانها.

أقف في صحن المدرسة وأنظر إلى الطراز الكتابي ثم إلى السماء. أما في الشارع، فيكاد البدر يكتمل لينير منه ما أظلم.

كان السلطان الملك الأشرف بارسباي من سلاطين المماليك البرجية. في مقدمة كتابه عن برسباي يقول المؤلف: "فبعد وفاة السلطان الناصر محمد، اضطربت أحوال البلاد السياسية والاقتصادية، وذلك بسبب النزاع على السلطة وازدياد نفوذ الأمراء، مما دفع بأعداء الدولة إلى التربص بها والنيل منها، فانتهز بطرس الأول ملك قبرص هذه الفرصة وقام بالهجوم على مدينة الإسكندرية مركز التجارة العالمية في سنة 767ه/1365م، فكان هجوم القبارصة على الإسكندرية في ظروف غير مواتية للمصريين، مما تعذر عليهم التصدي للقبارصة الذين استولوا على الإسكندرية، ثم ما لبثوا أن تركوها بعد أن نهبوها وخربوا كل ما فيها وعادوا إلى بلادهم، سالمين غانمين.

وظلت غزوة الإسكندرية وصمة عار على جبين المصريين بصفة خاصة والمسلمين بصفة عامة، وقد تعذر على المصريين الثأر لأنفسهم ورد إعتبارهم حوالي اثنين وستين عاما، وذلك بسبب أن حالة مصر بعد غزوة القبارصة كانت امتدادا لما هي عليه قبل تلك الغزوة، فقد كثرت الأوبئة والفتن والمؤامرات. علاوة على هجوم التتار على بلاد الشام وتعدي الفرنج على سواحل مصر والشام.

وقد اجتازت مصر هذه الفترة العصيبة من تاريخها في عهد السلطان الأشرف برسباي، الذي تولى الحكم في سنة 825ه/1421م، فقد امتازت فترة حكمه بالاستقرار وقلة الاضطرابات، وذلك على الرغم مما قاساه الناس في عهده بسبب سياسته الاحتكارية، هكذا تهيأت لبرسباي الفرصة للأخذ بالثأر ورد الاعتبار لمصر بفتح قبرص في سنة 829ه/1426م وأسر ملكها جانوس الذي أصبح نائبا عن السلطان برسباي في قبرص، وذلك بعد أن عفا عنه برسباي مقابل دفع الفدية المتفق عليها والتعهد بدفع الجزية السنوية للسلطان برسباي.

وهكذا أخذ المصريون ثأرهم من قبرص كاملا، مما حل بهم من قبل على يد بطرس الأول ملك قبرص في سنة 767ه/1365م، ولقد وصف بعض المؤرخين هذا العمل بأنه نوع من أعمال الجهاد والفتح."


أخرج من المدرسة الهادئة ليلا إلى الشارع الساكن إلا من صوت آذان العشاء. أنا في هذا الشارع من المريدين والدراويش. في كل شبر منه ونس للقلب.
في الشارع أجدني أدندن:
المشي طاب لي
والدق على طبلي
ناس كانوا قبلي قالوا في الأمثال
الرجل تدب مطرح ما تحب...

المصدر:
د. محمد عبد الغني الأشقر، الملحمة المصرية: عصر المماليك الجراكسة ورد الاعتبار في عهد برسباي (767-829ه/1365-1426م) (القاهرة، 2002)

أغسطس 20، 2007

المؤيد

تمتد أيادي صحبتي إلى الأفق ويشيرون متسائلين: وما هاتان؟

ابتسامة واسعة تصاحب الفكرة. هذا السلطان الذكي جعل مأذنتيه الجميلتين من علامات القاهرة.

من أحب القاهرة التاريخية أحب مآذنها. لا زلت أنفذ نصيحة أساتذتي لمن يفقدون الاتجاهات والطريق بسهولة مثلي. كل ما علي عمله هو الخروج إلى مكان واسع والنظر إلى الأفق والتعرف على المآذن. إن كنت قد ذاكرت جيدا، أعرف حينئذ أين أنا وأتوجه صوب المأذنة القريبة من هدفي. لم ترتفع مباني القاهرة التاريخية بعد لتطغى على مآذنها وأتمنى ألا يحدث هذا أبدا. أحب أن أعتقد أن كل مرة سأذهب إلى أي من تلك الأماكن التي أهوى وأضل طريقي كما يحدث لي دائما، ستظهر لي واحدة أو أكثر من الرشيقات الجميلات، الألف الشهيرات، لتهديني.

كان السلطان الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي الظاهري قبل سلطنته من مماليك السلطان الظاهر برقوق. بنى السلطان المؤيد مجموعته تلك داخل باب زويلة الفاطمي ووضع مأذنتيه فوق أبراج البوابة لتظلا دائما من العلامات الجميلة المبهرة. تضم المجموعة جامعا وضريحين ومدرسة للمذاهب الأربعة مخصصة للطلبة المتصوفين ولذلك تُعد مدرسة وخانقاه في آن واحد.

كان للمجموعة ثلاثة مآذن: التحفتان التوأم اللتان فوق باب زويلة وثالثة مختلفة الشكل قرب المدخل الغربي ولكن اختفت الأخيرة في القرن التاسع عشر.

يقول المقريزي في خططه: "هذا الجامع بجوار باب زويلة من داخله. كان موضعه خزانة شمائل حيث يُسجن أرباب الجرائم، وقيسارية سنقر الأشقر، ودرب الصغيرة، وقيسارية بهاء الدين أرسلان."

ثم يزيد: "وأول ما ابتدئ في أمر هذا الجامع: أن رُسم، في رابع شهر ربيع الأول سنة ثمان عشر وثمانمائة، بانتقال سكان قيسارية سنقر الأشقر التي كانت تجاه قيسارية الفضائل. ثم نزل جماعة من أرباب الدولة في خامسه من قلعة الجبل، وابتدئ في الهدم في القيسارية المذكورة وما يجاورها، فهُدمت الدور التي كانت هناك في درب الصغيرة، وهُدمت خزانة شمائل. فوُجد بها من رمم القتلى ورؤوسهم شيء كثير..."

"وكان السبب في اختيار هذا المكان دون غيره، أن السلطان حُبس في خزانة شمائل هذه، أيام تغلب الأمير منطاش وقبضه على المماليك الظاهرية، فقاسى في ليلة من البق والبراغيث شدائد، فنذر لله تعالى إن تيسر له ملك مصر أن يجعل هذه البقعة مسجدا لله عز وجل، ومدرسة لأهل العلم، فاختار لذلك هذه البقعة وفاء لنذره."

كان أن استولى السلطان على باب مدرسة السلطان حسن الذي يُعد من التحف الفنية والتنور النحاس المكفت الذي كان لذات المدرسة ليضمهما لمجموعته. بالرغم من أن المؤيد اشترى الباب والتنور من وقف السلطان حسن إلا أن ذلك لم يكن من الأفعال المقبولة على الإطلاق. لا يجوز الاستيلاء على أجزاء أو ممتلكات وقفها صاحبها لصالح المسلمين ولو بالشراء، ولا حتى لتحويلها لوقف آخر كما فعل المؤيد، ولكن من كان يجرؤ على منع السلطان؟

يصف بدر الدين العيني، المؤرخ المعروف بميله إلى المديح الزائد، ألقاب السلطان المؤيد فيقول:

"ولم يذكر لقب من ألقاب السلاطين مثل ما ذكر هذا اللقب، ففيه إشارة عظيمة لمولانا السلطان المؤيد – خلد الله ملكه – حيث خصه الله بهذا اللقب الشريف، وقد ذكرنا أن وضع الألقاب إلهام من الله تعالى، كما قيل الألقاب تنزل من السماء، وفيه دلالة على (أنه) مقوى على أعدائه، فإذا كان هو مؤيدا – بفتح الياء – ، فكذا هو مؤيد – بكسر الياء – يعني يؤيد شرائع النبي صلى الله عليه وسلم ويقوي أحكام الدين. وقد اجتمعت فيه هذه المحاسن، وهي: اسمه الشريف شيخ الذي يدل على ما ذكرنا (من) أنه شيخ الملوك والسلاطين، وكنيته الشريفة أبو النصر التي تدل على ما ذكرنا (من) أن النصر صار جزءا منه وأنه لا يفارقه، ولقبه الشريف المؤيد الذي يدل على أنه مؤيد من عند الله، ومؤيد لدينه وشرائعه."

على خرطوشتين فوق مداخل المأذنتين إمضاء المهندس: المعلم محمد بن القزاز. كان ذلك من النادر في عمارة القاهرة.

منذ سنوات حضرت محاضرة عن تنفيذ مشروع ترميم باب زويلة. أذكر أن مديرة المشروع قالت أنهم اكتشفوا رنوك على الأبراج ولكن لم يبق أثر لما بداخلهم. فقط بقت الدوائر الفارغة التي تظهر الآن على الأبراج بعد الترميم.

كثيرا ما يقفز ذلك السؤال إلى ذهني. ترى من كان صاحب الرنوك على البوابة حاملة المآذن؟


المصادر:
تقي الدين المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، الجزء الثالث، تحقيق د. محمد زينهم ومديحة الشرقاوي (القاهرة، 1998)
بدر الدين العينى، السيف المهند في سيرة الملك المؤيد شيخ المحمودى، حققه وقدم له فهمى محمد شلتوت وراجعه محمد مصطفى زيادة (القاهرة، 1966)
Doris Behrens-Abouseif, Islamic Architecture in Cairo: An Introduction (Cairo, 1989)

يوليو 09، 2007

عين طائر حر

الصيد باستخدام الجوارح من أنواع الصيد المتوارثة عند العرب وفي العالم الإسلامي. تظهر مناظر الصيد بالصقور بكثرة في الفن الإسلامي.

تدريب الصقور عملية صعبة ذات خطوات عدة. يذكر المدربون أن من علامات اطمئنان الصقر لصاحبه أثناء تدريبه "الاستقرار على يد الصقار دون تحريك الجناحين بقوة "الكفاخ" وكذلك الاكل دون النظر لعين الصقار ."

عالم الطيور عالم مدهش. بحركة غريزية بسيطة يحرك الكائن الصغير جناحين فيصعد إلى السماء ويرانا نحن من مملكته تلك صغار صغار! ترانا عين الطائر من السماء رؤية شديدة الاختلاف عن عالمنا على الأرض.
كنت دائما من المهتمين بعالم الطيور. يُحكى لي عن أنواعها واختلافاتها فأنصت باهتمام بالغ. أحب من يحكي فيزيد ذلك من اهتمامي. أتأمل تلك الكائنات منذ طفولتي كلما كانت هناك فرصة لذلك.
ربما لا يجب أن يفعل الإنسان ذلك مع الحيوان في كل الأحوال، لكني تعودت على أن أنظر إلى عيون من أواجههم. العين مفتاح الروح كما يقولون. من لا ينظر إليها، لا يرى.
كلما اقتربت بدرجة كافية من أي طائر، نظرت لا إراديا إلى العين التي تواجهني. كل منهم يخاطبك على قدره وكما تملي عليه روحه. أكرر التسبيح حين أسمعه منهم كما قيل لي من زمن، وإن افتقدت رؤية صاحب الأخبار والرسائل، أهمس في نفسي كما تعملت: "ما لي لا أرى الهدهد"* فيستجيب للنداء أو لا يستجيب.
أما طيور القنص، فتقول عيونها: اخفض أنت عينك! ليس لك أن تنظر إلى من يحلقون في السماء!
حضرت الشهر الماضي محاضرة للدكتورة شاهندة كريم عن جامع الأمير حسين. الجامع في حالة سيئة جدا الآن وتعرض عبر تاريخه لتدهور كبير. لكنه هام جدا في تاريخ عمارة المماليك البحرية ودراسته للأسف مهملة إلى حد كبير.
كان الأمير حسين من الأمراء المقربين للسلطان الناصر محمد بن قلاوون إلى أن غضب الناصر عليه ونفاه ثم سمح له بالعودة في آخر أيامه ليموت في مصر ويُدفن في الضريح الملاصق لمسجده الذي شيده قبل ذلك بسنوات. كان الأمير حسين أمير شكار السلطان.
يقول القلقشندي في صبح الأعشى:
أمير شكار: وهو لقب على الذي يتحدث على الجوارح من الطيور وغيرها وسائر أمور الصيد. وهو مركب من لفظين: أحدهما عربي وهو أمير والثاني فارسي وهو شكار بكسر الشين المعجمة وكاف وألف ......ومعناه الصيد فيكون المراد "أمير الصيد."
يتحدث الأمير شكار على الجوارح من الطيور. ربما لم تكن الجوارح تجرؤ على النظر في عينيه.

المصادر:
* 20 قرآن كريم - سورة النمل: جزء من الآية
أبو العباس أحمد القلقشندي، صبح الأعشى - الجزء الخامس (القاهرة، 1913)
محاضرة د. شاهندة كريم، أستاذ تاريخ الفن والعمارة الإسلامية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة في المجلس الأعلى للآثار في 4 يونيو 2007