Wednesday, May 29, 2013

قابيل وهابيل

تُصوّر هذه اللوحة المصير البائس الذي انتهى إليه قابيل، الابن الأكبر لآدم وحوّاء، والذي بعد أن قتل شقيقه الأصغر هابيل، حُكم عليه بالتيه الدائم.
قابيل المنهك والسائر على غير هُدى يظهر في أقصى يمين الصورة وهو يقود قبيلته عبر الصحراء استباقا لغضب الربّ. وعلى محفّة خشبيّة يحملها أبناؤه، تجلس امرأة حائرة مع طفليها النائمين. بينما تظهر حيوانات وقطع من لحم نازف وهي معلقّة على طرف المحفّة.
الرجال الآخرون، وبينهم صيّادون، يمشون جنبا إلى جنب. الخوف من غضب الربّ مرتسم على الوجوه. أحد الأشخاص يحمل بين ذراعيه امرأة شابّة يبدو على ملامحها الإنهاك والمرض، بينما تظهر بعض الكلاب الضالّة في الخلف.
الرسّام الفرنسي فرناند كورمون جعل الظلال طويلة كما لو أن ضوء الحقيقة يلاحق المذنب في هذا السهل المجدب والكئيب. وقد استخدم الألوان الترابيّة وضربات الفرشاة القويّة كي يضيف توتّرا إلى الصورة. كما انه ركّز على دقّة التشريح بأن جلب إلى محترفه أشخاصا حقيقيين لتمثيل كلّ شخصيّة.
هذه اللوحة تمثل إعادة بناء انثروبولوجية للقصّة المشهورة التي وردت في العديد من الكتب السماوية. كما أنها تقدّم ميدانا جديدا، أي عصور ما قبل التاريخ، وبالتحديد الوقت الذي بدأ فيه الإنسان بالرسم على الصخور في العصر الحجريّ القديم.
وفي غياب أيّة وثائق أو أسانيد مؤكّدة، خمّن الرسّام طبيعة الحياة في تلك الأزمنة البعيدة، عندما كان البشر البدائيّون يكافحون من أجل البقاء ويتنقّلون بأقدام حافية وشعر مجعّد وجلد خشن. وقد اختار الرسّام عنوانا فرعيّا للوحة اقتبسه من استهلال قصيدة لـ فيكتور هوغو بعنوان "الضمير" يقول فيه: عندما فرّ قابيل من غضب ربّه أشعث الشعر مغبرّا كان يصحبه أبناؤه. كانوا يرتدون جلود الحيوانات وتتقاذفهم العواصف. وعندما تلاشى الضوء، وصل الرجل الكالح إلى سفح جبل في سهل واسع".
تقول القصّة إن قابيل، بعد ارتكابه جريمة قتل شقيقه، رحل وهو وزوجته عن منزل والديه ليعيشا في مكان بعيد. وقد أنجبا في ذلك المكان أطفالا. ثمّ أسّس أبناؤه في ما بعد مدينة أطلق عليها قابيل هانوك أو إدريس، على اسم طفله الأوّل.

❉ ❉ ❉

حملت حوّاء من آدم بطفلهما الأوّل وأسمياه قابيل. وبعد فترة أنجبت طفلا ثانيا أسمياه هابيل. وفي ما بعد أصبح هابيل راعيا للغنم، بينما كان قابيل يعكف على استزراع الأرض. تقول القصّة إن قابيل قدّم بعضا من نتاج الأرض التي كان يزرعها قربانا للربّ، بينما قدّم هابيل قربانا بعضا من أبكار غنمه. وقد تقبّل الربّ قربان هابيل، لكنّه لم يتقبّل قربان قابيل. لذا غضب الأخير وأحسّ بالنبذ. وذات يوم دعا قابيل شقيقه كي يذهبا معا إلى الحقل بعد أن أسرّ في نفسه أمرا. وهناك هاجم قابيل هابيل وقتله.
محور هذه القصّة هو الأنانيّة المتأصّلة عند قابيل وعدوانيّته وغيرته الشديدة. الرواية القرآنية عن القصّة تماثل تلك التي وردت في التوراة، وهي توحي بأن دافع قابيل لارتكاب الجريمة كان رفض الربّ أن يتقبّل منه قربانه.

❉ ❉ ❉

قصّة قابيل وهابيل تتضمّن طبقات متعدّدة من المعاني. فالقصّة تقول لنا أن الله يفضّل قرابين اللحم على قرابين الخبز والفاكهة. كما أنها توضّح تفوّق ثقافة الرعي والترحال على ثقافة الزراعة والاستقرار. وهذه الفكرة تتكرّر في قصص العهد القديم، حيث يثور الأنبياء ضدّ شرور أهل المدن، بينما يمتدحون الرعي والعيش في الأرياف. وهناك في العالم المعاصر اليوم من لا يزالون يفضّلون الحياة في البوادي والقرى باعتبارها أكثر طهرانية ونقاءً.
لكن القصّة تتضمّن مجموعة أخرى من الأفكار التي أسهمت في تغيير تاريخ البشر وفي تحوّل الوعي الإنساني. تذكر القصّة، مثلا، أن الله وضع وصمة على قابيل بعد ارتكابه للجريمة وذلك بأن جعل بشرته سوداء وشعره مجعّدا. والغريب أن انتشار الرقّ في القرنين الماضيين في أمريكا وفي غيرها من مناطق العالم كان يُبرّر دائما بأن الأفارقة ينحدرون من سلالة قابيل، ولذا حلّت عليهم تلك اللعنة وأصبح قدرهم أن يعيشوا مستعبدين في الحياة.
وليس البيض وحدهم هم من يؤمنون بهذا الشيء، بل إن رجال الدين السود يشاطرونهم هذا الرأي أيضا ويعتقدون بأن الحال ستظلّ هكذا إلى أن يعود المسيح إلى الأرض ثانية فيرفع عنهم تلك اللعنة بعد أن يتأكّد من أنهم أصبحوا أتقياء صالحين!

بعد طرد آدم وحوّاء من جنّات عدن، اشتغلت ذرّيتهما في الأعمال البدائيّة البسيطة. إبناهما، أي قابيل وهابيل، يوصفان كأوّل مزارع وراعٍ في سلالة البشر. غير أن الاثنين مارسا أيضا شيئا لم يعرفه أبواهما في الجنّة، أي الدين.
وعلى الرغم من أن القصّة لا توحي أبدا بأن الربّ طلب منهما هذا الأمر، إلا أن الاثنين قدّما إلى الله قرابين دينيّة على هيئة جزء من غلّتهما. وعلى ما يبدو، كان الله مستاءً من قابيل لأنه قدّم قربانا من الحبوب والفاكهة، في حين انه كان يفضّل أضحية من دم كتلك التي قدّمها هابيل. هذا على الأقل ما افترضه قابيل وهابيل. يمكننا فقط أن نخلص إلى أن هابيل أصاب ثروة أفضل من تلك التي جمعها قابيل، وهذا ما انتهى إليه فهمهما.
وأيّا ما كان الأمر، فقد شعر قابيل بالغيرة من هابيل وقام بقتله. وكانت تلك أوّل جريمة قتل تُرتكب في تاريخ البشرية وأوّل حادثة عنف دينيّ.
طوال فترة مكوثهما في الجنّة، لم يقدّم آدم وحوّاء أيّ قربان لله. لكن لم يمض وقت طويل حتى قرّر ابناهما أن تلك هي الطريقة المثلى لنيل رضا الخالق. وما أن بدءا هذه الممارسة حتى انكشف شرّها المتأصّل بطريقة مأساويّة.
يذهب بعض مؤرّخي الأديان إلى انه من الصعب أن نتصوّر أن الله يمكن أن يروّج لمثل هذه العادة المشكوك فيها. وحتى الآن، ما يزال جزء كبير من اللاهوت المسيحيّ الغربيّ يرتكز على فكرة أن الله يطلب الاضحيات والقرابين لكي يتمّ استرضاؤه وتجنّب غضبه. لكن هناك من الأنبياء من قالوا صراحة بخلاف ذلك، أي أن الله ليس مهتمّا بقرابين البشر، وأن كلّ ما يطلبه منهم هو أن يعملوا بعدل ومحبّة ورحمة.

❉ ❉ ❉

ترى كيف كانت طبيعة العالم الذي وجده آدم وحوّاء بعد طردهما من الجنّة؟ هل كان هناك بشر بدائيّون يعيشون خارج عدن؟ ومَن كان الطغاة العمالقة الذين تذكر بعض المصادر الدينية أنهم كانوا يعيشون على الأرض ويعيثون فيها الخراب إلى أن انقرضوا قبيل حادثة الطوفان؟ هل الله هو الذي خلقهم أم أنهم كانوا تمظهرات وتحوّلات للشيطان؟ ومن كانت زوجتا قابيل وهابيل؟
الكتب المقدّسة لا تتطرّق إلى مثل هذه الأمور. لكن يمكننا أن نفترض أن العالم خارج عدن لم يكن عالما مثاليّا. ومع ذلك كان هناك شكل من أشكال الحضارة الإنسانيّة، بل وربّما أنواع أخرى من البشر شبيهة بالإنسان. وكانت هناك مزروعات وقطعان من الحيوانات المفترسة والمستأنسة تتعايش مع الإنسان في أجواء من الصراع والخطر والموت.

❉ ❉ ❉

في الفنّ المسيحيّ الذي يعود إلى القرون الوسطى، ولا سيّما فنّ القرن السادس عشر، كان قابيل يُرسم بشكل نمطيّ على هيئة يهوديّ ملتحٍ وذي شعر أشعث. وهو يقتل هابيل الذي يظهر بملامح أوربّية وشعر أشقر ويرمز للمسيح.
وقد استمرّ هذا التصوير التقليدي لعدّة قرون. وأقرب مثال عليه هو لوحة جيمس تيسو بعنوان قابيل يقود هابيل إلى الموت والمرسومة في القرن التاسع عشر. لكن في ما بعد أصبح قابيل يُصوّر كأب للمجموعات السرّية وعصابات الجريمة المنظّمة.
وكثيرا ما شكلّت قصّة قابيل وهابيل موضوعا للأعمال الدرامية المأساوية. كان قابيل يُصوّر غالبا بشعر احمر ولحية ملوّنة، كما في مسرحيّة شكسبير "سيّدات وندسور المرحات". شكسبير أيضا يذكر قابيل وهابيل على لسان كلوديوس في مسرحيّة هاملت. كما يرد ذكر الاثنين في مسرحية "بانتظار غودو" لـ سامويل بيكيت.
وفي روايته شرقي عدن ، يستدعي جون شتاينبك قصّة قابيل وهابيل ليسقطها على وقائع هجرة الأوربّيين إلى كاليفورنيا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
اللورد بايرون أعاد كتابة القصّة في قصيدة له بعنوان "قابيل". وهو ينظر إلى قابيل كرمز للمزاج الدمويّ الذي أثاره نفاق هابيل وتظاهره الزائف بالتقوى. وفي الكوميديا الإلهية، يواجه قابيل العقوبة التي فرضها الله عليه لارتكابه خطيئة الحسد بعبارته المشهورة: سأصبح مطاردا وهائما على وجهي في الأرض، ومن يجدني سيقتلني".
وفي أعمال أدبيّة أخرى، أصبح اسم قابيل مرادفا للعنة المتوارثة. فالوحش في قصّة بيوولف ينحدر من سلالة قابيل. غير أن بودلير كان الكاتب الأكثر تعاطفا مع قابيل في قصيدته "هابيل وقابيل" من مجموعة أزهار الشرّ ، حيث يصوّر قابيل كممثّل لكلّ الشعوب المضطهدة في العالم.
في الرسم، كانت قصّة قابيل وهابيل احد المواضيع المفضّلة للفنّانين منذ القدم. ومن أشهر من رسمها كلّ من تيشيان وغوستاف دوري وتينتوريتو وروبنز ووليام بليك وغيرهم.
بعض من كتبوا عن قابيل وهابيل في ما بعد حلّلوا قصّتهما من منظور معاصر مع بعد دياليكتيكيّ، فأشاروا إلى أن الموت العنيف لهابيل كان نتيجة لحالة من حالات الصراع الطبقيّ المبكّرة، وأن العنف هو نتيجة حتميّة طالما أن المجتمع يصنّف الناس على أساس الثروة والسلطة، بدلا من توحيدهم على أساس التعاطف المتبادل والأخوّة الإنسانيّة.

Thursday, May 23, 2013

يوميّات صانع عطور

يُعتبر جان كلود إللينا احد اكبر صانعي العطورات في العالم اليوم. وقد اقترن اسمه بعدد من أشهر العطورات العالمية التي كان وراء ابتكارها مثل "فيرست" من فان كليف اند أربلز، و"تير دي ايرميس" من دار ايرميس، و"ديكليراسيون" من كارتييه، و"بوا فارين" من لارتيزان وغيرها.
في هذا الكتاب بعنوان "يوميّات أنف: عام في حياة صانع عطورات"، يتحدّث إللينا عن أساليبه في تحضير العطور ويشرح العملية المضنية التي يتطلّبها خلق عطر جديد والاختبارات المتعدّدة وعمليات التصفية التي تسبق طرحه في الأسواق. كما يُضمّن الكتاب ملحقا تفصيليا يشرح فيه كيفية إعداد روائح مختلفة باستخدام موادّ وصيغ كيميائية معيّنة.
يقول المؤلّف في بداية الكتاب: الرائحة تشبه قطعة الموسيقى، يجب أن يكون لها ارتباطات كي تجذبك للدخول إلى عالمها. وصناعة رائحة هي أقرب ما تكون إلى البحث عن إبرة في كومة من القشّ. لقد كرّست كلّ حياتي للعطور بحثا عن أسلوب للتعبير عن المشاعر. ومثل هذا الأمر يمكن في كثير من الأحيان أن يتسبّب في الإرهاق البدني والعقلي وإنهاك حاسة الشمّ.
ويضيف: أن تحاول اكتشاف ما يمكن أن تتضمّنه رائحة جديدة يشبه أن تحفر عميقا في ذاكرتك. في البداية، ستجد تلميحا من هنا وهناك. لكن ينبغي عليك أن تتجرّد من عواطفك الخاصّة، لأنك لا تستطيع أن تضع ذكرياتك في زجاجة. الأمور لا تعمل بهذا الشكل.
ويشير إللينا في جزء آخر من الكتاب إلى أن أدواته التي يستعين بها في مهنته هي عبارة عن قلم رصاص وورق وذاكرة، وأن من عادته أن يرسم الروائح في ذهنه قبل خربشة الصيغ وتمريرها إلى مساعده في المختبر. وهو يفتخر بكونه يستخدم أقلّ عدد من المكوّنات في العالم، حيث يتألّف كلّ عطر من عطوراته من اقلّ من 200 مادّة مقارنة بألف إلى ألف وخمسمائة مادّة للعطر النموذجي.
وإللينا هو أوّل صانع عطورات يستخدم رائحة الشاي في ابتكاراته. وقد استوحى هذه الفكرة من زيارات زوجته المتكرّرة لمحلّ متخصّص في إنتاج أنواع مختلفة من الشاي. لكنّه أيضا يحبّ العمل مع روائح أقدم وأكثر قتامة، مثل نفحات العرق التي أضافها إلى عطر تير دي ايرميس الذي يحتلّ اليوم المرتبة الخامسة في قائمة أكثر العطورات مبيعا في فرنسا.
ولد جان كلود إللينا (64 عاما) لأب كان يشتغل بالعطور، ونشأ في "غراس" عاصمة العطور في جنوب شرق فرنسا، والتي تنتج حصّة الأسد من الروائح الطبيعية المستخدمة في صناعة العطور في البلاد. وقد أخذ أولى خطواته في عالم العطور وعمره ستّة عشر عاما، ثم عمل بعد ذلك لمدّة ثلاث سنوات كمساعد صانع عطور في شركة غيفودان السويسرية. وبعدها عمل في نيويورك وجنيف، قبل أن ينتقل إلى باريس عام 1975م.
في الكتاب، يتناول إللينا أيضا قوّة العطر ودور الإلهام في استنباط وخلق رائحة جديدة. يقول: الروائح تتمتّع بقوى سحرية قادرة على أن تنقلك إلى ماضيك وأن تؤجّج خيالك. وكلّ رائحة لها طابعها المميّز الخاصّ بها. وفي أيدي العطّارين الكبار، يتحوّل صنع عطر جديد إلى نوع من الخيمياء. وغالبا ما يبدأ كلّ شيء بلحظة إلهام. والإلهام يمكن أن يأتي من أيّ مكان: سوق، منظر طبيعي، مقهى .. إلى آخره. ذات مرّة شممت رائحة كومة من الكمثرى الشتوية في سوق ايطالي. وأتذكّر أنني أنفقت بضع سنوات بعد ذلك في محاولة لتحويل تلك التجربة إلى عطر.
ثم يتحدّث عن مواصفات الرائحة ودور الحواسّ. يقول: يجب أن تكون النفحات الأولى من أيّ عطر ممتعة ومرغوبة، حتى لو كانت الرائحة تتطوّر لتصبح بعد ذلك أكثر تعقيدا. الأمر يعمل مثل النوتات الموسيقية لأغنية. وبالنسبة لصانع العطور، تتشابك الحواسّ الخمس كلّها. وعلى الرغم من أن صانع العطور يركّز على حاسّة الشمّ بشكل خاصّ، إلا انه يوظّف في عمله الحواسّ الأربع الأخرى بشكل متزامن.
ويعبّر إللينا عن أسفه من حقيقة أن تجّار السوق هم من يحكم هذه الصناعة، ويصف الصراع النفسي بين رغبته في إرضاء ربّ عمله والجمهور وبين حرصه على أن يظلّ مخلصا لرؤيته الفنّية. "العطر في جزء كبير منه فنّ وليس علما. ولكي تخلق عطرا، فأنت لست بحاجة لأن تحكي قصّة. وعندما أصمّم رائحة، أضع في حسباني أن تظلّ على الأرفف لأطول فترة ممكنة. وفي معظم الأحيان، يلزمك عشر سنوات لكي تبتكر رائحة جديدة يمكنها الصمود والاستمرار بحيث تصبح مع مرور الوقت علامة فارقة في هذه الصناعة.
صانعو العطورات، مثل جان كلود إللينا، يسعون للاستفادة من تلك الطاقة التي للكيمياء كي يوظّفوها في خدمة الإغواء. وقد استخدم مهارته في خلق عطور كلاسيكية رائعة (القائمة الكاملة لابتكاراته على هذا الرابط ). كما انه يكتب عن الفنّ والأدب والموسيقى واليابان والرسم والبحر والسماء، إلى جانب العطور، ويأخذ العبرة من كلّ هذه الأشياء في إبداعه. "أحبّ البحر والأفق، خاصّة عندما تمتزج زرقة السماء مع زرقة البحر. وأقدّر الهيئات الجميلة والملابس الخفيفة المنسدلة والأناقة الرصينة والمنضبطة. وأؤمن بالسعادة وبالروحانية البسيطة، كما أفضّل الاتصال بالعين على الثرثرة والكلام الطويل".
وبالنسبة له، فإن العيش مع إحساس متعاظم بالرائحة يبدو أمرا مثيرا للاهتمام. وهو كثيرا ما يستمتع حتى بالروائح المزعجة. فعندما كان بصحبة أشخاص آخرين في رحلة في جبال الألب الفرنسية، لاحظ كيف أن الأزهار في إحدى التلال بدأت في إفراز رائحة تشبه العرق البشري. وقد فرّ من كانوا معه من المكان، لكنه ظلّ واقفا هناك كي يسمح لتلك الرائحة البهيمية أن تغسله، كما يقول. ثمّ يروي قصّة حدثت له في إحدى رحلاته بالطائرة قائلا: جلست إلى جوار امرأة كانت تضع واحدا من عطوراتي. كان العطر يكافح كي يغطّي على رائحة السغائر الملتصقة بملابسها، في حين كانت حركة زوجها تكشف عن نفحات دورية من ثوم لم يتمّ هضمه بعد".
مثل كلّ شيء في الثقافة الإنسانية، فإنّ تصوّراتنا عن العطور تتغيّر باستمرار. وإللينا يصف كيف تمّ حرمان صناعة العطور من روائح نادرة كالنعناع والليمون من خلال توظيفها بإسراف في صناعات معاجين الأسنان والعلكة وسوائل التنظيف. ويؤكّد على انه من الصعب خلق نكهات وروائح جديدة وحقيقية في عالم متطوّر باستمرار، مشيرا إلى أنه بعد أن عرف العالم نكهة ورائحة قويّة مثل الكوكاكولا، أصبح من المستحيل استعادة براءة وطزاجة الرائحة الأولى.
وعن أسماء العطورات والارتباطات والمعاني التي تثيرها يقول: عندما أريد أن استثير رائحة ما، استخدم علامات لا ارتباط بينها إذا ما أخذت بشكل منفصل. لذا فإن أسماء العطورات قد لا تشي بالضرورة بمضمونها. فعطر او بارفامي او تي فيه (Eau Parfumée Au Thé Vert)، ومعناه ماء معطّر مع شاي أخضر، ليس في تركيبته أيّ قدر من الشاي. كما لا توجد مانغو، مثلا، في عطري المسمّى اون جاردان سور لا نيل (Un Jardin Sur Le Nil)، أو حديقة النيل. ومع ذلك يشعر الناس بوجود تلك النكهات والروائح هناك. ويشير إللينا إلى انه معجب برائحة عطر غاردينيا لـ شانيل، لأنه لا يتضمّن رائحة زهرة، بل رائحة السعادة، على حدّ وصفه.
وهو يدلّل على إحساسه العالي بأدقّ جزيئات العطور وقدرته على التقاط أيّة نقطة في سلسلة من الروائح بقوله: عند قطف الياسمين الطازج صباحا فإنه ينفث عبيرا اخضر خفيفا، أما إن قطفته في نهاية اليوم فإنه يبعث رائحة حارقة تشبه رائحة القطط الكبيرة. ويضيف: اشعر بمتعة كبيرة في استنباط مفاهيم جديدة للروائح وإعطاء الحياة أفكارا مجرّدة. وقد اعتدت على أن أمدّ أنفي إلى الخارج، وخصوصا عندما تعطي الطبيعة نفسها هزّة بعد المطر. وتجذبني بشكل خاص فكرة أن رجلا "أو امرأة" يمكن أن يختار عطرا معينّا وهو في سنّ العشرين، لكنه ما يزال يريد اقتناء نفس ذلك العطر بعد أن يكون قد بلغ الستّين، أي بعد أن يكون قد انغمس في بعض الخيانات الزوجية".
وإللينا يؤمن بأن العطر يحتاج لأن يتناسب مع عصره، لا أن يتوافق مع اتجاه أو موضة. ويضيف: أنا متعجّب كيف أن عطرا مثل تير دي ايرميس أصبح رابع أكثر العطورات مبيعا في فرنسا، ومندهش بنفس الوقت لأن عطرا مثل اون جاردان ابريه لا موسون (Un Jardin Après La Mousson) لم يكتسب النجاح الذي يستحقّه، رغم أنّني اعتبره واحدا من أكثر التوليفات الزهرية جمالا التي ابتكرتها في حياتي. ثمّ يصف مزاج عطره الآخر المسمّى جور دي ايرميس (Jour d’Hermès) بقوله: إنه أنوثة نقيّة، وهو بالنسبة لي بدعة في حدّ ذاته. كنت أرغب في أن اخلق رائحة خاصّة بالمرأة دون أيّة ارتباطات عطرية ذكوريّة على الإطلاق.
ثمّ يشرح أسباب شعبية عطر تير دي ايرميس (Terre d'Hermes) ورواجه الغير عاديّ بقوله: رائحة تير دي ايرميس هي قصيدة إلى نجيل الهند. هذا العطر له شخصيّة المطر وجذور الأرض. انه عطر طقوسيّ، هذه هي الكلمة الأنسب لوصفه. ولا عجب أن اسمه يختزل طبيعته: رائحة الأرض في أفضل حالاتها، الأرض المبلّلة بعد المطر، الرائحة الاستوائية اللاذعة جدّا، المعدنية تقريبا، والحادّة نوعا ما، ولكن الممتعة والمنعشة والمليئة بالذكريات؛ الذكريات العطرة من مرحلة الطفولة والصبا. ويضيف: غالبا ما يُصنّف هذا العطر على أنه "ذكوريّ"، غير أنني لا أتفق كثيرا مع هذه الوصف. أعتقد أن العطر لا علاقة له بالجنس. أنت تضع ما تحبّ ولا يهمّ بعد ذلك إن كنت رجلا أو امرأة".
اليوم يشغل جان كلود إللينا منصب كبير صانعي العطور في دار ايرميس الباريسية المرموقة، ويدير عمله من مكتبه القائم وسط تلال مكسوّة بالصنوبر فوق مياه خليج انتيب على ساحل البحر المتوسّط. وقبل انضمامه إلى ايرميس، وضع إللينا ثلاثة شروط: أن يبقى على مقربة من مسقط رأسه في غراس، وأن يكون متحرّرا من القيود والمعوّقات التسويقية، وأن يكون له القول الفصل في ما يتعلّق بأسماء وأسعار وتصاميم عطوراته. وقد قفزت المبيعات السنوية في قسم العطور بـ ايرميس من ستّين مليون يورو وقت التحاقه بالشركة قبل تسع سنوات إلى حوالي 140 مليون يورو في العام الماضي.

Monday, May 20, 2013

سيرة إمام وعارف من القرن العشرين

يتحدّث مارتن لينغز في هذا الكتاب بعنوان "متصوّف ووليّ من القرن العشرين: سيرة حياة الشيخ أحمد العلاوي" عن شخصية دينية غير معروفة نسبيّا للدارسين خارج العالم الإسلامي. إذ يتناول حياة وتعاليم الشيخ احمد بن مصطفى العلاوي (1869 - 1934) مؤسّس إحدى أهمّ الطرق الصوفيّة في شمال أفريقيا والمعروفة بالطريقة العلاويّة.
ووفقا لمجلّة دراسات الشرق الأدنى، يُعتبر هذا الكتاب احد أكثر المصادر شمولا عن التصوّف التي كتبها مفكّر غربيّ. كما أن قراءته شرط أساسيّ لأيّة دراسة جادّة عن الصوفية، بحسب ما يقوله المفكّر الأمريكي من أصل إيراني سيّد حسين نصر في استعراضه للطبعة الأولى من الكتاب.
المؤلّف مارتن لينغز، المعروف أيضا باسم أبو بكر سراج الدين، هو كاتب وباحث إنجليزي سبق وأن ألّف ثلاثة كتب عن التصوّف في الإسلام. لكن كتابه الأشهر الذي حظي، وما يزال، بشعبية كبيرة هو السيرة التي كتبها عن حياة الرسول بعنوان محمّد: حياته استنادا إلى مصادر مبكّرة. وقد اكسبه هذا الكتاب شهرة واسعة في العالم الإسلامي ونال عليه العديد من الجوائز، كما اعتُبر أفضل سيرة كُتبت عن الرسول بالانجليزية.
النصف الأوّل من هذا الكتاب هو عبارة عن عرض لتاريخ التصوّف في شمال أفريقيا مع نبذة عن حياة الشيخ العلاوي. بينما النصف الثاني مخصّص لكتابات الشيخ مع مختارات من قصائده الصوفية المعروفة. وإحدى الملاحظات الجانبية المثيرة للاهتمام هو أن لينغز يشبّه مكانة الشيخ بالعصر الذهبي لمتصوّفة العصور الوسطى ويقرن عظمته بتلك التي للمتصوّف الهنديّ رامانا ماهارشي.
المعروف أن الشيخ أحمد العلاوي ولد في مستغانم بالجزائر عام 1869، وتلقّى تعليمه الأوّلي في بيت والده العالم. وقد أطلق على طريقته اسم العلاوية نسبة إلى الإمام عليّ بن أبي طالب الذي قال انه ظهر له في رؤيا واقترح عليه هذا الاسم.
يشير لينغز إلى إن الغرض من تأليف كتابه هو الذهاب إلى ما هو ابعد من الاستشراق الأكاديمي، في محاولة لتمكين حتى أولئك الذين لا يمتلكون خلفية عن الإسلام من فهم موضوعه وأخذ فكرة، ولو عامّة، عن أصول التصوّف الإسلامي. وهو يقدّم للقارئ رؤية عن شخصية وحياة الشيخ العلاوي، سواءً من خلال الناس الذين عرفوه أو من خلال مجموعة كتاباته التي تركها.
ثمّ يتحدّث عن بعض مواقف وأفكار الشيخ العلاوي التي تدلّل على انفتاحه وتسامحه، فقد كان احد الدعاة الأوائل للحوار بين الأديان، كما عُرف عنه احترامه غير العاديّ للمسيحيين واطلاعه الكبير على الإنجيل. وهناك أيضا محاولاته المتعدّدة للتوفيق بين الإسلام والحداثة، وتشجيع أتباعه على إرسال أطفالهم إلى المدرسة لتعلّم اللغة الفرنسية، ثم دعوته إلى ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية ولغة الأمازيغ من أجل جعله أكثر يسرا، وهو الموقف الذي أثار في زمانه جدلا كبيرا.
الهالة التي اكتسبها الشيخ في أوساط المتصوّفة الكلاسيكيين يعزوها المؤلّف إلى حقيقة أن الشيخ كان منخرطا في القضايا المعاصرة، بالإضافة إلى الكاريزما الشخصية التي كان يتمتّع بها والتي أجمعت عليها مصادر عديدة. وما من شكّ - يقول المؤلّف – في أن جاذبية الشيخ وأفكاره الحضارية والمتسامحة أسهمت في انتشار إسلام يتّسم بالمعرفة والحكمة في أوربّا وفي إقبال العديد من الأوربيّين على اعتناق الإسلام.
ثم يتحدّث عن شخصية الشيخ كما تعكسها نظرة من كانوا يتعاملون معه من داخل دائرته. ويستشهد بكلام طبيبه الفرنسي مارسيل كاريه الذي لازمه أربعة عشر عاما وكتب يقول في مذكّراته: التقيت الشيخ العلاوي لأوّل مرّة في ربيع عام 1920. لم يكن لقاء صدفة، بل دُعيت إليه بصفتي طبيبا. وكان ذلك بعد بضعة أشهر من بدء ممارستي للطبّ في مستغانم. وما أثارني بصفة خاصّة هو ذلك الشبه الغريب بين ملامح الشيخ وبين الوجه الذي يُستخدم عادة لتمثيل المسيح. كنت اعرف أنني في حضرة شخصية غير عاديّة. كانت الغرفة مثل جميع الغرف في منازل المسلمين، خالية سوى من القليل من السجّاد والفرش. وكانت هناك خزانتان اكتشفت في ما بعد أنهما تحتويان على عدد من الكتب والمخطوطات. كان الشيخ العلاوي يجلس بصمت ووقار في زاوية الغرفة واضعا يديه على ركبتيه".
في جزء آخر من الكتاب، يتحدّث المؤلّف عن مذهب وحدة الوجود الذي يحتلّ مكانا مركزيا في معظم التقاليد الصوفية للإسلام، بل وأيضا في كلّ التقاليد الصوفية الأخرى. كما يتناول جوانب أخرى من مذهب الشيخ مثل "العوالم الثلاثة" التي تمثّل التسلسل الهرميّ للوجود، و"السلام العظيم" الذي يحقّق بلوغه غاية الرحلة الداخلية. كما يناقش مواضيع هامّة أخرى مثل النبوّة والقداسة.
الكاتب مارتن لينغز كان معروفا بكثرة أسفاره، على الرغم من انه في أخريات حياته لم يغادر منزله في لندن إلى حين وفاته في العام 2005. وبالإضافة إلى كتاباته في التصوّف، كان لينغز ضليعا بحياة وأدب وليام شكسبير. وقد أشار في عدد من كتاباته إلى المعاني الباطنية والروحانية العميقة التي وجدها في مسرحيات وأعمال الشاعر الانجليزي. "مترجم".