عزيزي المواطن المصري، أتفهّم قلقك البالغ تجاه حريق "المجمع العلمي المصري"، وأتفهّم كذلك اتصالات المواطنين الهلعة ببرامج التوك شو للتعبير عن غضبهم تجاه ما حدث لهذه المؤسسة العلمية الرفيعة.
ذلك لأنني أعرف مكانة هذا المبني الصغير حجما والعظيم شأنا لديك، ومدى اهتمامك به ومعرفتك بتاريخه وتفاصيل محتوياته، وأعرف دولة العلم التي نشأت وإياي فيها، التي ترفع من قيمة المؤسسات العلمية إلى ما فوق أي مؤسسة سيادية أوأمنية أخرى، ربما كان عدم تواجد الأمن لحمايته على غرار الاستماتة الضخمة في حماية مجلس الوزراء و وزارة الداخلية مجرد ثغرة أمنية أو خطأ إداري، لكني أعرف يقيناً أنك منذ اللحظة الأولى ميّزت المبنى خلال الأحداث ونشوب الحريق فيه، وتذكرت زياراتك المتتالية له، كما تذكرك ما درسته عنه في أي مرحلة دراسية وما مثله لك فيما بعد.
أنا لا أتهكم عزيزي المواطن المصري، فالمجمّع حقيقةً مؤسسة علمية هامة، واندلاع النيران في بنيانها خسارة علمية وقومية لاشكّ، أنا فقط أريد أن أحدثك عن مجموعة من التفاصيل، تبدأ كلها من المشهد الذي كررته وسائل الإعلام لمجموعة غير متناسقة من الأطفال والشباب ومتوسطي العمر يهللون ويهتفون أمام المبنى المشتعل: ولسه...ولسه، ليسأل الجميع السؤال الحتميّ: دول ثوار؟ دول بذمتك ثوّار؟
نعم، عزيزي المواطن، بعض ممن رأيتهم في المشهد أعلاه _ إن لم يكن كلهم_ من المحتمل كثيراً أن نطلق عليه التسمية السامية: ثوّار.
منهم من نزل في 25 يناير و28 يناير، وهذا لا يعني بالضرورة أنهم على درجة عالية من الرقي والتعليم والسلمية والثقافة والمعرفة الحضارية بالمواقع والمباني والمؤسسات العلمية والتاريخية الهامة في مصر كما تفترض عزيزي المواطن في تعريفك "للثائر الحق".
لا أحد يعرف على وجه التحديد من أشعل المبنى، وإن كنت أذكرك بتاريخ حرائق المباني والمخازن الطويل في نظام مبارك الذي لا يزال جهازه الأمني بعقليته الشهيرة قائم وفاعل، وهؤلاء الذين رأيتهم في المشهد، وتتسائل حول مدى ثوريتهم، هم مواطنون رأوا مبنى حكومي بحسب ما توحي هيئته تشتعل فيه النيران، مجاوراً لعدد من المباني التي تعرضوا من فوقها ومن داخلها وفي محيطها للرصاص والطوب والقنص والسحل والتعذيب، فهللوا وابتهجوا، لا لأنه "المجمع العلمي المصري"، والذي أشكّ في أنك كنت تسمع بوجوده أو تعرف محله قبل أن تعمل الآلة الإعلامية في تعزيتك الحارة فيه، بل لأنه مبنىً ينتمي إلى "الحكومة"، ينتمي إلى منظومة القمع والقهر والعنف، يشتعل، لأنها خسارة للـ"حكومة"، خسارة للـ"ظلمة" الذين يحاربونهم في الشوارع من أجل حريتهم.
هل هم "ظلمة "فعلاً؟ سأجيبك عن ذلك فيما بعد لكن الآن أريد أن أعرف لمن توجه لومك العميق عزيزي المواطن، كون بعض "ثوار" بلدك يفتقدون إلى الثقافة والوعي، في جهلهم بقيمة المجمع العلمي المصري وبوجوده من الأساس، ربما مثلك بالضبط، إلا للنظام الذي شكّل وعي هؤلاء ووعيك، نظام خرّب ثقافتهم ونفسيتهم ومعرفتهم بالحدود الفاصلة بين الحكومة والدولة.النظام الذي يحاول البقاء قائماً بكل الوسائل الممكنة وأقذرها، وعبر استغلالك أنت كذلك.
ربما تعتقد عزيزي المواطن أن كل ملابسات حريق المجمّع وصلتك بكل دقّة وحيادية عبر وسائل الإعلام، الرسمية وغير الرسمية، لأنك لم تسمع اتهاماً واضحا للثوار هذه المرة، لم يتم كالعادة تلفيق فيديو لأحد الأشقياء يعترف أنه تلقى تدريباً في صربيا لحرق المجمع، لكنك للأسف تعرضت لما هو أسوأ، عبر عدد من آليات خداع الإعلام، الذي أدرك القائمون على صنعه أن عليهم تطوير آلياتهم في مقابل تطوّر وعيك النسبي في مواجهته منذ أحداث الثورة والفضيحة الإعلامية آنذاك.
الخدعة الأولى كانت "التأطير"؛ أن يصلك الخبر داخل إطار وجود "مخربين" _طرف ثالث_ مأجورين بين "الثوار" أشعلوا النيران في المبنى، دون أقل دليل رسمي واحد على ذلك، وهي للصدفة نفس نظرية السلطة بشأن سبب اشتعال المبنى وهي ليست نظرية عشوائية، تعتمد السلطة، أي سلطة، في استمرارها على شرعية تروّج لها بكل السبل وبكل وسائل التضخيم والتهويل: "الحفاظ على مقدّرات الوطن من أخطار وتهديدات خارجية وغامضة"، ليظل المواطنون مدينون على الدوام لهذه السلطة مهما ارتكبت من أخطاء أو تجاوزات بفضل حمايتهم وتجنيبهم ما لايعرفون تفاصيله بوضوح.
الخدعة الثانية هي "الإيحاء الضمني"، نعم لم يتّهم أحد هذه المرة "ثوار 25 يناير"، الذين نعرفهم جميعاً، الثوار الأطهار الأبرار مهندمي الزيّ شباب الفيسبوك السلميين خريجي كليات القمة، والذين على مايبدو ووفقاً لبيانات المجلس العسكري، لم يشاركوا بعد التنحي في أي تظاهرات أو احتجاجات أو مسيرات أو اشتباكات.
لكن الإعلام ظل يكرر عليك بشكل مستمر: مخربون بين الثوار، هناك طرف ثالث يندس بين الثوار، الثوار بينهم من يشعل الموقف، هؤلاء من أشعلوا المبنى_وبالمرة يواجهون القوات الأمنية الآن_ ليسوا ثواراً، الثوار سلميون، لايمكن أن يفعلوا "تخريباً" مماثلاً. لتصلك الرسالة: الثوار لابد أن يوضّحوا موقفهم، الثوار لابد أن يعودوا إلى منازلهم كي تتمكن السلطة من العثور على المخربين،الثوار لا يستطيعون السيطرة على الموقف، الثوار كائنات ملائكية مطيعة وغير صدامية،وفي نفس الوقت! نزول الثوار مرتبط بالخسائر والحرائق، يجب أن تتوقف الاحتجاجات والتظاهرات كي لا يندسّ أحد.
وهو ما تريده السلطة تحديداً،وحدث ويحدث، أن يتحول "نزول الثوار" في ذهنك إلى مصدر قلق عارم واحتمال للخسارة الفادحة على غرار المجمع العلمي الذي أقدر مصابك فيه.
وأن يتحول أي عمل صدامي، لا أقول الحرق أو التخريب، بل "أي" عمل "صدامي" مع قوات الأمن إلى عمل منسوب لـ" المخربين" و"الطرف الثالث".
يتوّج كل هذا في النهاية "التحييد"، "الخدعة الثالثة"؛ أن يحوّل الإعلام المشهد الكبير إلى مجموعة من قطع مشاهد صغيرة متفرقة، ليتحول بالدور حكمك على كل قطعة على حدة، فأنت أمام مشهد الفتاة التي انتهك جنود الجيش آدميتها وعرضها في الأسفلت تشعر بغضب عارم تجاه "هؤلاء الجنود" الذين تصرفوا على نحو وحشيّ، وأمام مشهد حريق المجمع العلمي تشعر بغضب عارم تجاه "الثوار" الذين سمحوا أن يندس بينهم من يقوم بهذه الأفعال، ثم تعرف أن السبب كان "لعب الكرة" _هكذا ببساطة_ دون أن يسمح لك الإعلام بلقطة واسعة للمشهد الكامل لتعرف الدوافع والأسباب والتراكمات والتطور الحقيقي للأحداث والمقصّر الأول في ترك المجمع يحترق وفي إعطاء الأوامر بالسحل والضرب والانتهاك.
تجد نفسك في النهاية مع تفتت المشاهد إلى بازل غير مترابط ولا مؤدٍ إلى بعضه البعض، مجرد مشاهد متتالية مؤثرة، أمام السؤال المؤجّل: "هل المجلس العسكري وأذرعته السياسية والقمعية ظلمة فعلاً؟"، غير قادر على الجزم.
خاصة أن هناك صورة ذات دلالات كثيرة عن سبب حرق المجمع العلمي المصري، الصورة التي توضح لك فعلاً من حرقه وكيف، الصورة التي ستجدها لاحقاً في هذا المقال وستجدها بالصدفة على فيسبوك وتسأل نفسك لمَ لم ترها في أي وسيلة إعلامية خلال محزنة المجمع المصري؟
هنا تتجلى أدوار إعلاميين على غرار "خيري رمضان" و"لميس الحديدي" وغيرهم، إعلاميي الولولة والتشتيت، إعلام "ليه كده بس؟" و "ينفع كده؟" و"هما دول الثوار؟" و"حرام..كفاية"، إعلام إنهاك أعصابك بالصراخ والخسائر والتعليق المبتسر على المشاهد المتفرقة _ولا بأس من القليل من تنزيه ثوار 25 يناير الملائكيين من الخطيئة بكافة أشكالها_ لنصل في نهاية كل حلقة إلى: لا شيء، سوى ابتلاعك لمجموعة الخدع أعلاه ورسائلها الضمنية.
بينما لا يتم طمأنتك بأي شكل أن هناك نسخاً موجودة ولو حتى لأغلب هذه الكتب النادرة، تخيّل الموقف: لو كان قد نشب حريقاً مماثلاً بسبب ماس كهربائي، كانت نفس وسائل الميديا، ونفس البرامج ونفس المذيعين، سيحاولون تهدئتك أن "السلطات قد سيطرت على الأمر"، "هناك عدة نسخ من أي كتاب نادر وهذا بديهي في عدة أماكن ومؤسسات".
الأهم أنك لن ترى هذه الصورة، الصورة التي توضح لك من الذي "حرق" المجمع العلمي المصري، حين طلب من أفراده الصعود إلى سطحه وإلقاء الحجارة والرخام على المتظاهرين فحوله إلى مصدر تهديد وقتل واجب الحرق.
ينطبق الحديث على الصحافة المقروءة كذلك، مع ملاحظة أخرى مثيرة للدهشة، الصورة الأكثر تأثيراً وجدلاً في أحداث الأمس السبت 17 ديسمبر: صورة الفتاة المصرية عارية تحت أقدام جنود المجلس العسكري، التي نشرتها عدة صحف أجنبية على مستوى العالم: صنداى تايمز ونيويورك تايمز والميرور البريطانية ولوموند الفرنسية ووهآرتس الإسرائيلية وثينك بروجرس النرويجية وجريدة بيليد الألمانية، لم ينشرها من الصحف المصرية اليومية سوي: التحرير _ في صفحتها الأولى بشجاعة كاملة_والشروق في طبعتها الثانية في الصفحة الثالثة.
بينما يمكنك ملاحظة المانشيتات المروّعة والصور المفزعة والمراوغة والموحية عن التي صدّرتها الصحف اليومية المصرية على صفحتها الأولى عن حريق المجمع المصري وفداحة مصابك أيها المواطن في أعز ما تملك، مجمّعك العلمي. بعيداً عن مسألة هامشية، صورة أخرى من مشهد أخر لا يرتبط بالضرورة بمشهد حرق المجمّع: مصرية مسحولة يتم تعريتها ودهس صدرها، بعد ضربها بالهراوات و الأقدام عدد لا يحصى من المرات على كل قطعة من جسدها ثم سحبها على الأرض.
نعم، مصابنا لا يعوّض ولا يوازيه أي مصاب آخر.....في حريق المجمع المصري.