صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)

الصفحة السابقة   //   الصفحة التالية
 

الكتاب : ملامح يونانية في الأدب العربي
المؤلف : إحسان عباس
الطبعة : 1
تاريخ النشر : 1977
الناشر : المؤسسة العربية للدراسات والنشر
عنوان الناشر : بناية صمدي وصالحة - ص.ب: 5460 /11 بناية برج شهاب - تلة الخياط - ص.ب: 195119 - برقيا: موكيالي - بيروت
معلومات إضافية :
تم طبع هذا الكتاب في كانون الأول (ديسمبر) 1977
مصدر الكتاب : الوراق

[ ترقيم الكتاب موافق للمطبوع ]

تكاد تكون العلاقة بينهما واهية، النوع الأول خرافات تصور حياة الحيوانات وعلاقاتها فيما بينها وطبائعها وحيلها ومكايدها، دون أن يرمي إثارة عبرة أخلاقية، أو إعطاء مثال للسلوك، وكأن غرض هذا النوع من الخرافات أن يقول إن ما يجري في عالم الإنسان من تظالم وغصب واستبداد وما إلى ذلك موجود مثله في عالم الحيوان، كالخرافة التي تروي أن الضفدع كان ذا ذنب فسلبه الضب ذنبه (1) ، وكالقصة التي يشير إليها أمية بن أبي الصلت في شعره فيقول:
بآية قام ينطق كل شيء ... وخان أمانة الديك الغراب إذ يقول الجاحظ في تفسير هذه الإشارة: " وفي كثير من الروايات من أحاديث العرب أن الديك كان نديما للغراب، وأنهما شربا الخمر عند خمار ولم يعطياه شيئا، وذهب الغراب ليأتيه بالثمن حين شرب، ورهن الديك، فخاس به فبقي محبوسا (2) " . وإلى مثل هذا النوع تنتسب الأمثال المبنية على أفعل، مثل: آلف من كلب، أجرا من الذباب، أجهل من حمار، أحمق من نعامة، وغير ذلك، فإنها جميعا في تبيان طبائع الحيوان، وإلى ذلك يشير حمزة الأصفهاني بقوله: " فحين تأموا (أي العرب) أخلاق تلك البهائم، فألفوها متفرقة في أنواعها ثم رأوها مجتمعة في الإنسان الذي يجمع إلى حرص الذئب حذر الغراب، وإلى تدبير الذر كسب النمل، وإلى هداية الحمام حزم الحرباء، وإلى حراسة الكراكي ختل الثعلب، إلى غير ذلك من أخلاقها، قالوا عند ضرب الأمثال بأخلاق الإنسان، إن فلانا له جرأة الأسد ووثوب النمر وروغان الثعلب وختل الفهد (3) ؟ " .
غير أن العرب ؟من ناحية ثانية - أجروا الحيوانات مجرى الأناسي، فتصوروها تذهب مذهب الإنسان في التهاجي والتفاخر، وعقدوا بينها منافرات كالتي كانت تجري بينهم، فالقطاة والحجلة تهاجيا، فقالت الحجلة للقطا: قطا قطا أرى، أمعك بيضك ثنتان وبيضتي مائتان، فقالت القطاة: حجل حجل، أنت تفرين في الجبل، إذا بصرت
__________
(1) الدرة الفاخرة: 212.
(2) الحيوان 2: 320 - 321.
(3) الدرة الفاخرة: 60.

(1/71)


بالرجل (1) ، وشبيه بذلك منافرة الأرنب للوبر، إذ قالت الأرنب: وبر وبر، عجز وصدر، وسائرك حقر نقر، فقالت الوبر، اران اران، عجز وكتفان، وسائرك أكلتان (2) ، وليس وراء هذا النثر المسجوع أية عبرة أخلاقية، وإنما هو مذهب من التعبير والتباهي، جرى عليه الناس أنفسهم في منافراتهم.
أما النوع الثاني فهو تلك الخرافات التي تهدف إلى العبرة، ومنها ما يبدو عربيا خالصا، لا سمة فيه لمؤثرات خارجية، كقصة الغراب الذي قال لأبنه: يا بني إذا رميت فتلوص ؟أي تلو - فقال: يا أبت إني أتلوص قبل أن أرمى، وقصة الضب الذي قال لأبنه: يا بني أتق الحرش، فقال يا أبه وما الحرش؟ قال: أن يأتيك الرجل فيمسح بيده على جحرك ويفعل، ثم إن جحره هدم بالمرداة، فقال: يا أبت، أهذا الحرش، فقال: يا بني، هذا أجل من الحرش (3) ، وها هنا تتبدى البساطة والإيجاز معا في الخرافات ومنها ما هو ذو صلة وثيقة بالمؤثرات الخارجية، كهذه القصة المستمدة من أحيقار ؟وإن كنا لا نقطع بأنها كانت معروفة لدى الجاهليين - وتقول القصة إن رجلا من بني إسرائيل نصب فخا فجاءت عصفورة فنزلت عليه فقالت: مالي أراك منحنيا، قال: لكثرة صلاتي انحنيت، قالت: فمالي أراك بادية عظامك؟ قال: لكثرة صيامي بدت عظامي ، قالت: فمالي أرى هذا الصوف عليك؟ قال: لزهدي في الدنيا لبست الصوف، قالت: فما هذه العصا عندك؟ قال: أتوكأ عليها وأقضي حوائجي، قالت، فما هذه الحبة في يدك؟ قال: قربان إن مر بي مسكين ناولته إياها، قالت: فإني مسكينة، قال: فخذيها، فدنت فقبضت على الحبة فإذا الفخ في عنقها، فجعلت تقول: قعي قعي (4) ؛ هذه القصة مروية عن وهب بن منبه، ونسبتها إلى رجل من بني إسرائيل قد جعلت
__________
(1) الدرة الفاخرة: 555.
(2) المصدر السابق.
(3) الدرة الفاخرة: 156،118 - 119 وانظر أخبار الأذكياء: 253 والمستقصي 1: 50، 62 والميداني 1: 126، 153.
(4) العقد 3: 67 - 68 والنص العربي في:
The Story of Ahikar No. 10، P. 28
وانظر أيضا أخبار الأذكياء: 254 والدميري 2: 103 حيث تجد الخرافة نفسها برواية أخرى.

(1/72)


الأستاذ عبد المجيد عابدين يعدها من الخرافات التي تعود إلى أصل إسرائيلي (1) ، مع أنها بابلية في نسبتها، ولكن رواية وهب بن منبه لها تدل على دور المثقفين بالثقافة اليهودية أو المسيحية في إشاعة هذا اللون من الخرافات قبل الإسلام وبعده، في البيئة العربية والإسلامية، ولهذه الخرافة نظائر أخرى لا حاجة بنا إلى إيرادها (2) .
ومن هذا النوع ذي الصلة الوثيقة بالمؤثرات الخارجية خرافات نجدها عند إيسوب، وإن لم يكن من الضروري أن تعود في الأصل إلى البيئة اليونانية، ومن أقدم هذه الصور المشتركة قصة الرجل والحية، وهي ذات جذور عميقة في الأدب الجاهلي (3) حتى لنجدها مسرودة في قصيدة تنسب للنابغة الذبياني، يقول فيها (4) :
وإني لألقى من ذوي الضغن منهم ... وما أصبحت تشكو من الوجد ساهره
كما لقيت ذات الصفا من حليفها ... وما انفكت الأمثال في الناس سائره
فقالت له أدعوك للعقل وافيا ... ولا تغشيني منك بالظلم بادره
فواثقها بالله حين تراضيا ... فكانت تديه المال غبا وظاهره
فلما توفى العقل إلا أقله ... وجارت به نفس عن الخير جائره
تذكر أنى يجعل الله جنة ... فيصبح ذا مال ويقتل واتره
فلما رأى أن ثمر الله ماله ... وأثل موجودا وسد مفاقره
أكب على فأس يحد غرابها ... مذكرة من المعاول باتره
فقام لها من فوق حجر مشيد ... ليقتلها أو تخطى الكف بادره
فلما وقاها الله ضربة فأسه ... وللبر عين لا تغمض ناظره
تندم لما فاته الذحل عندها ... وكانت له إذ خاس بالعهد قاهره
__________
(1) الأمثال في النثر العربي: 82 - 83.
(2) انظر الحيوان 5: 238 - 239 والعقد 3: 68.
(3) انظر أمثال الضبي: 84 - 85 والميداني 2: 61 والدميري 1: 254.
(4) ديوان النابغة: 131 - 135 (تحقيق محمد الطاهر بن عاشور) والمصادر المذكورة في الحاشية السابقة.

(1/73)


فقال تعالي نجعل الله بيننا ... على مالنا أو تنجزي لي آخره
فقالت يمين الله أفعل إنني ... رأيتك مسحورا يمينك فاجره
أبى لي قبر لا يزال مقابلي ... وضربة فأس فوق رأسي فاقره والقصة في الأساطير العربية أن أخوين خربت بلادهما فأرادا انتجاع مرعى، وكان في جوارهما واد فيه حية قد حمته، فنزلاه، فعدت الحية على أحدهما فقتلته، فحلف أخوه ليأخذن بثأره، فلما لقيها ليقتلها عرضت عليه الصلح وأن تعطيه دية أخيه، كل يوم دينارا، وحلف كلاهما للآخر، حتى كان أن تذكر الرجل أخاه، وكأنه وجد من العار أن يقبل الدية بديلا عن الثأر، فلما حاول قتلها أخطأها، وأصاب صفاة كانت عند جحرها، ثم ندم لما فاته الذحل ؟كما يقول النابغة - فأراد أن يتعاهدا ثانية، فأبت الحية ذلك، وقالت له: " كيف أعاودك وهذا أثر فأسك " ؟.
أما في خرافات إيسوب فخلاصة القصة أن حية قتلت ابنا لأحد المزارعين، فغضب، وحمل فأسه وذهب إلى وكر الحية ولبث يترقب ظهرها ليضربها حالما تبرز، فلما أخرجت الحية رأسها أهوى عليها المزارع بفأسه ولكنه أخطأها وأصاب صخرة كانت هنالك، ثم عرض على الحية نوعا من التسوية والمصالحة، فقالت له الحية: لا، لأني لا أستطيع أن أحس بمشاعر الصداقة نحوك بعد أن رأيت أثر فأسك في الصخرة، وأنت لا تستطيع أن تنسى حين تنظر إلى قبر ابنك (1) . والمقتول ؟حسب الرواية العربية - أخ لا ابن، كما أن هناك عنصرا هاما قد حذف من الرواية اليونانية وهو الذهب، فالحية حسب الرواية العربية قبلت المصالحة، وأخذت تعطي الرجل كل يوم دينارا، فلما استشعر الغنى رأى أنه لم يعد بحاجة إلى الحية، وأخذ يتذكر ما كان من فقد أخيه، ولكن للقصة رواية لاتينية لا تتحدث أولا عن مقتل ابن أو أخ، وإنما عن صداقة عقدت بين رجل وحية، يقدم الرجل بموجبها اللبن للحية وتقدم الحية إليه ذهبا، وأن زوجة الرجل أشارت عليه بقتل الحية، بعد إذ أصبح الذهب لديه وفيرا، وحين أخطأ الرجل الحية وأثرت ضربته في الصخر، هاجمت الحية غنمه وقضت على عدد كبير منها، ثم قتلت ابنه فأشارت عليه زوجته مرة أخرى أن يصالح الحية، وحين حاول الرجل ذلك وأخذ قعبا من لبن
__________
(1) دالي رقم: 51، ص: 115 وملحق بابريوس رقم: 573 ص: 529.

(1/74)


ليقدمه لها، دلالة على حسن نيته، قالت الحية له: " لن نستطيع أن نعود إلى ما كنا عليه لأني حين أرى أثر الضربة سأتذكر الفأس، وأنت حين ترى سرير ابنك خاليا ستتذكر إساءتي إليك " (1) .
هذه الخرافة ترجع فيما يقال إلى أصل هندي (2) ، ومع ذلك فإننا نلحظ فيها تغييرا أساسيا في الرواية العربية، وذلك هو جعل المقتول أخا لا ابنا، لأن ذلك هو الذي يتفق مع النسبة الكبرى من قصائد الرثاء في العصر الجاهلي (3) .
وبعد العصر الجاهلي تصبح هذه الروايات أو الخرافات، جزءا هاما من الأدب الإسلامي، حتى إن رواتها لا يترددون في نسبة مثلها إلى الرسول. فقد نسب إلى النبي قوله: " مثل الذي يفر من الموت كالثعلب تطلبه الأرض بدين، فجعل يسعى حتى إذا أعيا وانبهر دخل جحره، فقالت له الأرض: يا ثعلب ديني ديني، فخرج فلم يزل كذلك حتى انقطعت عنقه فمات (4) " . وترد قصة الأثوار الثلاثة في خطبة لعلي ابن أبي طالب، على النحو التالي: " إنما مثلي ومثل عثمان كمثل ثلاثة أثوار كانت في أجمة، أبيض وأسود وأحمر، ومعها أسد فكان لا يقدر منها على شيء لاجتماعها عليه، فقال الأسد للثور الأسود وللثور الأحمر: إنه لا يدل علينا في أجمتنا إلا الثور الأبيض، فإن لونه مشهور، ولوني على لونكما، فلو تركتماني آكله خلت لكما الأجمة وصفت، فقالا: دونك وإياه فكله، فأكله، ومضت مدة على ذلك ثم إن الأسد قال للثور الأحمر: لوني على لونك فدعني آكل الثور الأسود، فقال له: شأنك به، فأكله، ثم بعد أيام قال للثور الأحمر: إني آكلك لا محالة، فقال: دعني أنادي ثلاثة أصوات، فقال افعل، فنادى: إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض (قالها ثلاثا) (5) ، وهذه أيضا من قصص إيسوب (6) .
__________
(1) دالي رقم: 573 ص: 261 وبابريوس، الملحق: 530.
(2) عابدين: 42 - 43 نقلا عن: .Ency. of Religion and Ethics
(3) بعض الأمثلة قد يكون هاما في تبيان هذه الحقيقة مثل مراثي لبيد والخنساء وكعب بن سعد الغنوي ودريد بن الصمة ومتمم بن نويرة وغيرهم.
(4) الدميري 1: 164.
(5) الدميري 1: 167، والمستقصى 1: 417 والميداني 1: 17.
(6) بابريوس رقم: 44 ص: 59.

(1/75)


وتعود إلى الظهور تلك القصة التي تتصل بأوميرس عن الليث الذي يأبى أن يلطخ شاربه بدم الخنزير، في رسالة كتب بها المنصور العباسي إلى ابن هبيرة، حين دعاه للمبارزة، ونص الرسالة: " يا ابن هبيرة إنك امرؤ متعد لطورك، جار في عنان غيك، يعدك الشيطان ما الله مكذبة، ويقرب لك ما الله مباعده؟ مثلي ومثلك أن أسدا لقي خنزير، قاتلني، فقال الأسد: إنما أنت خنزير ولست لي بكفؤ ولا نظير، ومتى فعلت الذي دعوتني اليه فقتلتك قيل: قتل خنزيرا، فلم أعتقد بذلك فخرا ولا ذكرا، وإن نالني منك شيء كان مسبة علي وإن قل، فقال: إن أنت لم تفعل رجعت فأعلمت السباع أنك نكلت عني وجبنت عن قتالي، فقال الأسد: احتمال عار كذلك أيسر علي من لطخ شاربي بدمك " (1) وورود هذه الحكاية على هذا النحو في تاريخ إسلامي مبكر، ينفي ما حاول ابن بطلان أن يرسخه في اذهاننا، وهو أن هذه الحكاية مترجمة مباشرة عن اللغة الإغريقية (2) ، إلا أن نفترض أن مثل هذه الترجمة قد تم في تاريخ مبكر جدا قد يرجع إلى العصر الجاهلي.
وفي عهد المنصور العباسي نفسه نصادف خرافة أخرى يرويها وزيره أبو أيوب المورياني، فقد كان أبو أيوب يخشى المنصور، فيما قيل، وإذا طلبه للمثول بين يديه اصفر وارتعد، فلما سئل عن سبب ذلك ضرب مثلا فقال: زعموا أن بازيا وديكا تناضرا، فقال البازي للديك: ما أعرف أقل وفاء منك، فقال: وكيف؟ قال: لأنك تؤخذ بيضة فيحضنك أهلك وتخرج على أيديهم فيطعمونك بأكفهم حتى إذا كبرت صرت لا يدنو منك أحد إلا طرت ها هنا وها هنا وصحت، وإن علوت حائط دار كنت فيها سنين طرت وتركتها وصرت إلى غيرها، وأنا أوخذ من الجبال وقد كبرت سني، فأطعم السيء القليل وأونس يوما أو يومين ثم أطلق على الصيد فأطير وحدي، فآخذه وأجىء به إلى صاحبي، فقال له الديك: ذهبت عنك الحجة، أما لو رأيت بازيين في سفود ما عدت اليهم أبدأ، وأنا كل يوم ووقت أرى السفافيد مملوءة ديوكا، وأقيم معهم، فأنا أوفى منك لو كنت مثلك (3) .
__________
(1) البلاذري، أنساب الأشراف 3: 152 وانظر محاضرات الراغب 2: 417.
(2) انظر ما تقدم ص: 51.
(3) الحيوان 2: 362 والأذكياء: 256 والدميري 1: 101 والجهشياري، كتاب الوزراء والكتاب: 102 ومحاضرات الراغب 2: 417 والغيث 1: 209.

(1/76)


وهذه القصة ؟وإن لم توجد في خرافات إيسوب - تدل على أن نقل كليلة ودمنة إلى العربية، في حدود هذه الحقبة التي نومئ إليها، كان يمثل رغبة الناس في هذا اللون من الأمثال، كما أنه أيضا كان ذا أثر في توجيه الأنظار إلى الينابيع الفارسية والهندية التي يستمد منها ذلك الأدب. وحين نجد أن أبان بن عبد الحميد اللاحقي وغيره قد نظموا قصص كليلة ودمنة (1) ، ليسهل حفظها في أغلب الظن، وأن سهل بن هارون قد عارضها بكتاب سماه " ثعلة وعفرة " (2) يتجلى لنا أن الاهتمام بهذا اللون من الأدب كان آخذا في الازدياد، رغم أن مصادرنا من القرن الثالث لا تؤيد هذه الحقيقة على نحو مباشر (3) ، ولكن يحق لنا أن نعتبر مصادر القرن الرابع، مصداقا على ما كان يجري في القرنين السابقين، وبخاصة كتب المختارات المتنوعة مثل البصائر للتوحيدي، فإنما هي عودة إلى تنسيق ضروب النشاط الأدبي في ذينك القرنين السابقين.
ولما كان ما يهمنا من ذلك الأدب هو مدى لقائه بنظيره اليوناني، فإني سأعرض ؟في إيجاز - نماذج تمثل ذلك اللقاء، على أن يرد أكثر الحكايات بشكله الكامل، في ملحق خاص بها (4) .
1 - قصة الشيخ الذي نصب للعصافير فخا، وضربه البرد، فكلما قبض على عصفور، دمعت عينه مما كان يصك وجهه من برد الشمال، فظنته العصافير امرءا صالحا رقيق الدمعة، فقال عصفور منها: لا تنظروا إلى دموع عينيه، ولكن انظروا إلى عمل يديه (الحيوان 5: 238 - 239 وملحق بابريوس رقم: 193، ص 458)، وقد مرت حكاية أخرى عن مناسك نصب فخا (انظر: 72 فيما تقدم)، ويمكن أن تقارن
__________
(1) من هؤلاء الذين نظموا كليلة ودمنة أيضا سهل بن نوبخت وعلي بن داود كاتب زبيدة، انظر عبد الله بن المقفع لمحمد غفراني خراساني (ط. القاهرة) ص: 255.
(2) نشرت قطعة من هذا الكتاب في حوليات الجامعة التونسية (العدد الأول، ص 19 - 40) بعنوان: النمر والثعلب، تحقيق عبد القادر المهيري.
(3) لم يعره الجاحظ اهتماما كثيرا في الحيوان، وكذلك ابن قتيبة في عيون الأخبار والمبرد في الكامل ؟ الخ. كما ان كتب الأمثال حتى عهدئذ أبرزت جانبا من البيئات المحلية للأمثال دون أن تعنى كثيرا بالمؤثرات الخارجية.
(4) انظر الملحق الأول في آخر الكتاب.

(1/77)


القصتان بثالثة رواها صاحب العقد (3: 68) عمن صاد قبرة فرجته أن يطلقها على أن تقدم له ثلاث نصائح. ويبدو أن هذا النوع من القصص قد كان ملائما للتعبير عن الحقيقة الخادعة تحت مظهر نسكي.
2 - قصة الذئب الذي أخذ يعدد الذنوب على الحمل افتئاتا، لكي يسوغ لنفسه أكله (1) (الدرة الفاخرة: 294 وانظر الميداني 1: 302 والزمخشري 1: 233 وبابريوس رقم 89، ص: 111 وفايدرس، الكتاب الأول رقم: 1، ص: 91) ويبدو أن هذه القصة قد وضعت في صيغة شعرية، في عهد مبكر، إذ جاءت على هذا النحو (2) :
وأنت كذئب السوء إذ قال مرة ... لعمروسة والذئب غرثان مرمل
أأنت الذي من غير جرم سببتني ... فقال متى ذا قال ذا عام أول
فقال ولدت العام بل رمت ظلمنا ... فدونك كلني لا هنا لك مأكل 3 - قصة الحمار الذين يهين الفيل بقوله له: " يا أخي " ، وإذ يستغرب الفيل هذه القرابة يشير الحمار إلى الشبه بين غرموله وخرطوم الفيل (الدرة الفاخرة: 552 ومحاضرات الراغب 2: 416 وفايدرس، الكتاب الأول رقم: 29، ص: 225 وقد جمعت هذه القصة أيضا عند فايدرس معنى الاستعلاء الذي أدى بالليث إلى أن يعف عن دم الخنزير لئلا يلطخ به شاربه).
4 - قصة الأسد والثعلب والذئب الذين اصطحبوا معا في رحلة صيد، فصادوا حمارا وظبيا وأرنبا، وسئل الذئب أن يقوم بالقسمة فأعطى الحمار للأسد والأرنب للثعلب واحتفظ لنفسه بالظبي، فخبطه الأسد فأطاح رأسه، قم أقبل على الثعلب وطلب إليه إجراء القسمة فقال الثعلب: الحمار لغدائك والظبي لعشائك والأرنب في ما بين ذلك، وقد تعلم القسمة العادلة من رأس الذئب الطائح عن جثته (الدميري 1:
__________
(1) ذكر حمزة في كتاب الدرة الفاخرة أن هذه الخرافة تقع في حديث طويل من حديث الأعراب، وتابعه في ذلك الميداني، إلا أنهما لم يذكراه، ولا ريب في أن ذلك الحديث يمثل الخرافة وما فيها من حوار بين الذئب والحمل، ولكني لم أعثر عليه.
(2) يضاف إلى المصادر المذكورة في المتن لهذه الأبيات، محاضرات الراغب 1: 138.

(1/78)


161 - عن المعافى بن زكريا النهرواني (390/999) صاحب كتاب أنيس الجليس ومحاضرات الراغب 2: 417 وملحق بابريوس رقم: 149، ص: 449، وفي الحديث عن " حصة الأسد " انظر أيضا بابريوس رقم: 68، ص: 83 وفايدرس، الكتاب الأول، رقم: 5، ص: 199).
5 - قصة الأسد الذي اعتل فزارته جميع السباع إلا الثعلب، فكاد له الذئب، فانتقم منه الثعلب بأن جاء عائدا للأسد ووصف له دواء يشفيه من مرضه وهو مرارة الذئب، فضربه الأسد، وكان ضعيفا، فسلخ بعض جلده، ومضى الذئب ملطخا بدمه والثعلب يصيح في أثره " يا صاحب السراويل الأحمر، إذا جلست عند الملوك فأعقل كيف تتكلم " (البصائر 2: 727 وكتاب الأذكياء لابن الجوزي والدميري 1: 161 ومحاضرات الراغب 2: 416 ودالي رقم: 258، ص: 200 - 201 وبابريوس ص: 473). ومع أن العبرة في الروايتين متفقة، فثمة فروق أساسية بينهما، منها أن الدواء في القصة الأيسوبية هو جلد الذئب ومرارته، وهو هنالك يموت ولا ينجو بنفسه، وإنما يقف الثعلب فوق جثته شامتا ويقول: " لا بد للمرء من أن ينصح الملك بالحب ر بالكراهية " .
6 - قصة الثعلب (أو الذئب) الذي ابتلع عظما فبقي في حلقه، فاستخرجه الكركي بأجر فلما طالب بأجره قال له الثعلب إن أجرتك خروج رأسك صحيحا من حلق الثعلب (البصائر 2: 702 - 705 والكلم الروحانية: 131 ومحاضرات الراغب 2: 416 وبابريوس رقم: 94، ص 115 وفايدرس، الكتاب الأول رقم: 8، ص: 201).
7 - قصة الكلب الذي عدا خلف غزال، فقال الغزال: أنك لن تلحقني لأني أعدو لنفسي وأنت تعدو لصاحبك (البصائر 2: 305 وعند بابريوس عن كلب وأرنب بري، رقم: 69، ص: 85 وعند الدميري 1: 160 عن كلب وثعلب وعند ابن الجوزي: 255 عن كلب وذئب).
8 - قصة الجمل الذي قيل له أتصعد أو تهبط؟ فقال: ذهب الاستواء من الأرض؟! (البصائر 7 الفقرة رقم: 62 وبابريوس رقم: 28، ص: 15).

(1/79)


9 - قصة الرجل الذي أراد أن يثبت لأبنائه فائدة الاتحاد، فعرض عليهم أن يكسوا حزمة من عصي مجتمعه فما قدروا، ولكن كل واحد منهم كان يقدر على ان يكسر العصا مفردة (1) (بابريوس رقم: ص: 63، وأعتقد أنها مبكرة في تاريخها، وأنها تنسب للمهلب بن أبي صفرة، وإنما أضعها هنا، بحسب الترتيب الزمني (أواخر القرن السابع) لأنها تروى عن زاوي بن زيري أحد زعماء البربر في الفتنة البربرية في الأندلس (انظر لسان الدين ابن الخطيب، الإحاطة 1: 523).
10 - قصة الجدي الذي وقف على سطح، وشتم ذئبا مارا، فقال له الذئب لست أنت الذي تشتمني إنما يشتمني الموضع الذي أنت فيه (الكلم الروحانية: 131 - 132 وبابريوس رقم: 96، ص: 125).
11 - قصة ثعلب رأى أفعى فوق جرزة شوك وقد حملها السيل فقال: هذه السفينة لا يصلح أن يصلح أن يكون لها إلا مثل هذا الملاح (الكلم الروحانية: 132 والمجتنى رقم: 4 ومحاضرات الراغب 2: 417 وانظر تخريجها عند روزنتال، حيث يذكر أن لها شبها في قول من أقوال أحيقار، النص العربي رقم: 28).
12 - قصة ثعلب أراد أن يصعد حائطا فتعلق بعوسجة فجرحته فلما لامها قالت: لقد أخطأت حين تعلقت بي وأنا من عادتي أن أتعلق بكل شيء (الكلم الروحانية: 132 ومحاضرات الراغب 2: 417 وملحق بابريوس ص: 425 رقم: 19 وهي عند دالي رقم 19، ص: 102).
13، - 14 - قصة الكلب الذي عير الأسد بنكوله، وقصة الخنزيرة التي عيرت اللبؤة بقلة الأولاد (وقد مرت القصتان ص: 50 ؟ 51، وهما عن ابن بطلان، ومر تخريجهما).
__________
(1) ليست هذه القصة من الخرافات على ألسنة الحيوانات. ولكني أوردها هنا لوقوعها في المصادر العربية وعند بابريوس .

(1/80)


15 - تمثل برسيس (Persius) (1) لما بلغة أن عدوه اغتابه فقال: بلغنا أن كلبا وقردا اجتازا بمقبرة سباع، فقال القرد للكلب، اصعد بنا نترحم على إخواننا هؤلاء، فقال الكلب: ومن أين بينكما معرفة؟ فقال القرد: سبحان الله! ما اعلم شيئا من هذا، ولكني كنت أود أن يكون أحدهم حاظرا وتقول هذا (رسائل ابن بطلان، الورقة: 162 وبابريوس رقم: 81، ص: 101 والملحق ص: 435 - 436 حيث تخريجها).
16 - ذكروا أن فيلسوفا أودع بعض أمناء قضاة أثينية ثوبا فضاع عنده فأغتنم به الفيلسوف غما شديدا، فعير بذلك، فقال: بلغنا أن خطافة عششت في مجلس قاض فسرقت الحية فراخها، فعزاها الطير فلم تتعز فأنكر ذلك عليها فقالت: والله ما بكائي لتفردي دون الطير بهذه الرزية وإنما بكائي لما يأتي علي من الجور في مجلس الحكم (رسائل ابن بطلان، الورقة: 162 وتاريخ الحكماء: 309 وبابريوس رقم: 118، ص: 155).
هذه نماذج وحسب، يمكن أن يضاف إليها غيرها، وبعضها قد عرفه العرب مترجما عن الإغريق (مثل 6، 10 - 16)، وبعضها مشترك بين أمم مختلفة، كما أن قسما منها قد يكون عربيا خالصا (انظر رقم: 8)، وقد زاد نطاق التلاقي بين الأدبين بعد إذ أصبح " كليلة ودمنة " جزءا من التراث العربي (2) ، كما أن نطاق الخرافات الأيسوبية أتسع على مر الزمن، فنسب إلى إيسوب كثير من الحكايات التي كانت من قبل تروى عن غيره، وأكتفي هنا بإيراد مثلين:
__________
(1) ورد عند القفطي (109) باسم " ثوسيوس " وقال: انه شاعر يوناني قد أحكم الطريقة اليونانية، وهو ينقل عن ابن بطلان.
(2) قارن قصة النسر الذي علم السلحفاة كيف تطير (بابريوس رقم: 115) بقصة السلحفاة والبطتين في كليلة ودمنة: 86 - 88 وقصة الزانيين (ملحق بابريوس رقم: 520) بقصة المرأة وجارها المصور (كليلة ودمنة: 108) وهناك مجالات أخرى للمقارنة لمن أراد الاستقصاء.

(1/81)


1 - قصة مصارع كان يفتخر فقيل له إنه لا معنى لافتخاره لأنه لم يغلب من هو أقوى منه أو من هو مثله وإنما غلب من هو دونه (رويت لسيمونيدس الشاعر في الكلم الروحانية: 119 ومنتخب الصوان: 88 وانظر فايدرس رقم: 13، ص: 391).
2 - قول ديوخانس لرجل أصلع شتمه: أما أنا فلا أشتمك ولكنني أغبط شعرك على مقدمة رأسك فإنه قد استراح منك (الكلم الروحانية: 109 وملحق بابريوس رقم: 248، ص: 471).
وقد تم للخرافات العربية اتجاه جديد حين ابتعد بعضها عن دائرة العبرة الأخلاقية، وأصبح جزءا أساسيا من الفكاهات الشعبية أو النقد الاجتماعي والفكري والسياسي، وان لم تبارح الدائرة العامة للأمثال. وتتجلى السخرية الفكاهية في مثل: قالت الخنفساء لأمها: ما أمر بأحد إلا بزق علي، قالت: من حسنك تعوذين (1) ، ومن التعليقات الفكرية الحادة ما تنطوي عليه القصة التالية: دخل كلب مسجدا خرابا فبال على المحراب، وفي المسجد قرد نائم، فقال الكلب: أما تستحي أن تبول في المحراب؟! فقال الكلب: ما أحسن ما صورك حتى تتعصب له (2) . أما النقد السياسي المباشر فتصوره هذه القصة: كان بالموصل بومة وبالبصرة بومة فخطبت بومة الموصل إلى بومة البصرة بنتها لإبنها، فقالت بومة البصرة: لا أفعل إلا أن تجعلي لي صداقها مائة ضيعة خراب، فقالت بومة الموصل: لا أقدر على ذلك الآن، ولكن إن دام والينا علينا ؟سلمه الله - سنة واحدة فعلت لك ذلك (3) ، ونختم هذا اللون بهذه الحكاية. نظر ثعلب إلى حمل يعدو فقال: ما وراءك؟ قال: جعلت فداك، سخرت الحمير والبغال، فقال: وما أنت والحمير والبغال، قال: أخاف جور السلطان (4) . وأحيانا أصبحت
__________
(1) البصائر 2: 464 وتذكرة النهروالي: 96 نقلا عن التمثيل والمحاضرة: 379 وابن العبري: 51.
(2) البصائر 2: 719 ومحاضرات الراغب 2: 417.
(3) الدميري 1: 147 ومحاضرات الراغب 1: 101 وسراج الملوك: 107 وابن العبري: 51 وقد قدم لها بمقدمة تجعل جوها غير عربي.
(4) البصائر 2: 719.

(1/82)


هذه الخرافات مادة لتصوير بعض جوانب من العصبية، كالمفاضلة بين البلدان مثلا، ومن أوضح الأمثلة على ذلك قصة الثعلب الشامي والثعلب العراقي، ودعوى الأول، وقدرة الثاني على ابتكار الحيلة للنجاة (1) .
ومهما يكن من أمر هذه الصبغة التي أصبحت تمثلها بعض الخرافات، فإن الأثر الإيسوبي ظل ملموسا على مر الزمن، وتغلغل هذا الأثر في أعماق الحياة الشعبية حتى أصبح جزءا منها، وقد مر بنا كيف احتفظت الأمثال العامية حتى القرن العاشر الهجري ؟وربما بعده - بقصة الذبابة التي شاءت أن تحط على نخلة أو جميزة (2) ، ومن غير المستبعد أن يكون هذا الأثر قد واكب الآداب العامية منذ أن بدأت تأخذ حيزها إلى جانب الأدب الفصيح، ونحن نجد في الأمثال التي احتفظ بها الوهراني في مناماته، هذا المثل: " قال الحائط للوتد: لم تشقني؟ قال: سل من يدقني؟ لم يتركني ورائي، الحجر الذي من ورائي " (3) وهو مما ورد في أمثال إيسوب (4) ، وفي ذلك الأدب الشعبي نجد الجمل الذي تجنب الأدب الفصيح أن يمس جانبه بالسخرية (5) ، يصبح ؟كما هو أحيانا في بعض خرافات إيسوب - موضع سخرية وتندر، من ذلك هذا المثل الذي أورده الوهراني: " قالوا للجمل: ما لرقبتك معوجة؟ قال: وأي شيء في مقوم حتى تكون رقبتي مقومة؟! " (6) ، وهذا المثل الآخر الذي أورده الأبشيهي: " قالوا للجمل زمر،
__________
(1) البصائر 2: 727 - 729 ومحاضرات الراغب 2: 416 دون توضيح لنسبة كل من الثعلبين.
(2) انظر ما تقدم ص: 67.
(3) ركن الدين محمد بن محمد الوهراني: منامات الوهراني: 70، وروائي الأولى تعني: ورأيي.
(4) ملحق بابريوس رقم: 270، ص: 476.
(5) في الأدب الفصيح أحيانا قدح في الجمل، وذلك أمر تقتضيه المقايسة بين ضخامة الجسم وقلة العقل، ومثل هذا يصدر في الغالب عن رجل ضئيل يعبره الناس بضآلته، فهو يرد على ذلك بقوله:
لقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعير (ديوان كثير عزة: 530)، ويتحاشى هذا الموقف آخرون، كما في قول القائل " جسم البغال وأحلام العصافير " وكان في مقدوره أن يقول " جسم الجمال " .
(6) منامات الوهراني: 171 - 172.

(1/83)


قال: لا شفف ملمومة، ولا أيادي مفرودة " (1) ، ومن ثم يتجلى كيف ظل الأدب الشعبي يهتم بهذا النوع من الأمثال والخرافات، ولعل من أبرز الشواهد على ذلك، إدخال قصة " أحيقار " كلها ضمن الإطار القصصي في ألف ليلة وليلة، ذلك الكتاب الذي ينبئ أيضا عن عدد من مواطن اللقاء مع الأساطير الإغريقية (2) .
__________
(1) المستطرف 1: 52 وقارن ذلك بما ورد عند بابريوس رقم: 80، ص: 99 حيث اراد صاحب الجمل في حفلة شرب ان يقسر جمله على الرقص، فقال له الجمل، حتى أتقن المشي أولا.
(2) سيأتي الحديث عن هذه الناحية في فصل تال.

(1/84)


" 5 "
" ترجمة الشعر الخمري اليوناني إلى العربية
" نظرة في بيئة الأندلس والقيروان "
قد يقال إن ما ترجمه العرب من أشعار الأمم الأخرى لا يتعدى أقوالا موجزة اختلط فيها الشعر بغير الشعر، وهي تندرج في معظمها في باب الحكم وتشتبه بها حتى ليعز التمييز بينهما، فإذا تجاوزوا ذلك استأثرت باهتمامهم الأمثال والخرافات التمثيلية، فإذا تجاوزوا هذه أيضا وقفوا عند نوع من المنظومات ليس لها من الشعر حظ إلا الوزن، عرفوها عند الهند واليونان، ولعلهم تأثروها فيما نظموه من العلوم، من ذلك كتاب دروثيوس الصيداوي (القرن الأول ب.م.) في الفلك، وهو يتألف من ستة فصول أو كتب، على وزن سداسي (Hexameter)، وقد ترجمه أو اختصره ثوفيل الرهاوي ( - 785) (1) وشرحه عمر بن الفرجان ( - 815) (2) ، ويقول الأستاذ كريمر إنه كان ذا أثر لدى العرب وغيرهم يفوق الأثر الذي تركته الأعمال الشعرية الأخرى المترجمة عن أصل إغريقي (3) ، ولا بد أنهم عرفوا كتب ديمقراطيس نفسه في الأدوية وأنهما مكتوبة بشعر موزون في اليونانية (4) وأن ديمقراطيس نفسه قد وصف الدواء المتخذ
__________
(1) ثوفيل Theophilus)) كان رئيس منجمي المهدي العباسي (القفطي: 109).
(2) عمر بن الفرجان أبو خفص الطبري أحد رؤساء التراجمة والمتحققين بعلم حركات النجوم وأحكامها، كان منقطعا إلى يحيى بن خالد بن برمك ثم إلى الفضل بن سهل. وقد ترجم للمأمون كتبا كثيرة وألف كتبا أخرى (القفطي: 241 - 242).
(3) كريمر، التعليق: 511 - 512.
(4) تحقيق ما للهند: 61.

(1/85)


باللعابات التي استخرجها ماناقراطس بشعر موزون ذي ثلاثة مصاريع (1) ، ولعلهم لم ينتظروا حتى عهد أبي الريحان البيروني ليعرفوا أن للهند كتبا في العلوم مقدرة بأوزان كالأراجيز (2) ، وأنهم اختاروا أن تكون منظومة ليسهل استظهارها (3) .
قد يقال كل ذلك، ما دامت مصادرنا لا تزال تظن علينا بأي تغيير ولو جزئي، في الصورة العامة، وربما كانت إضافة شيء يسير إلى الصورة السابقة أمرا عزيزا، فلا أقل من وضعها في أبعاد جديدة وتحت أضواء كاشفة، وهذا هو ما ستحاول تحقيقه الفصول التالية. أما هنا، فإن تتبع المصادر في سبيل استنطاقها عن شيء جديد يضاف إلى الصورة المعروفة، هو الحافز الأول، وفي هذا الصدد كان لا بد من الاتجاه إلى الأندلس والقيروان.
ومن المستبعد أن تكون الأندلس قد تلقت تأثيرا مباشرا من الأدب اليوناني، وإنما اعتمدت على ما ترجم من آثار يونانية في المشرق، ولكن المثقفين، وغير المثقفين بالأندلس كانوا يحسنون اللاتينية أو صورة منها، وقد كانوا يتحدثون بهذه اللغة منذ عهد مبكر، وكان المثقفون منهم يدركون دقائق الفروق بينهما وبين العربية، وعندما وضع ابن حزم كتابه في تقريب حد المنطق، توقف عند بعض المصطلحات فقال: " ومن أحكم اللغة اللطينية عرف الفرق بين المعنيين اللذين قصدنا في الاستفهام " ، وقال في موضع آخر من كتابه هذا " ولهذا المعنى في اللطينية لفظة لائحة البيان (4) " والشواهد على اتقان الأندلسيين للغة اللاتينية كثيرة، ونحن نعلم أن الأندلسيين ترجموا كتاب أوروسيوس (هروسيس)، وهو كتاب في التاريخ، وصل إليهم في عهد عبد الرحمن الناصر (5) ، وقد بقيت نسخة من هذا الكتاب محفوظة بمكتبة جامعة كولومبيا (تحت رقم، X 893. 712 H)، وقد وصف هذه النسخة، وترجم بعض أجزائها إلى الإيطالية
__________
(1) المصدر السابق: 73.
(2) المصدر السابق: 61.
(3) المصدر السابق: 65 - 66.
(4) ابن حزم، التقريب لحد المنطق: 15، 54.
(5) عن هذا الكتاب وانتقاله إلى الأندلس انظر ابن أبي أصيبعة 2: 47 وهو ينقل عن ابن جلجل في كتاب " طبقات الأطباء والحكماء " ، انظر مقدمة الكتاب: كط - لج.

(1/86)


الأستاذ دلافيدا (1) . وعند اطلاعي على هذه النسخة تبين لي أنها في الحق تضع القارئ أو المثقف الأندلسي يومئذ في جو عجيب من الأخبار والأساطير والأشعار اليونانية والرومانية. فمن قرأ تاريخ أوروسيوس عرف قصة الحروب الطروادية وصلة أوميرس (ميرش الشاعر) بها، فهنالك نص واضح على أن سبب الحروب إنما كان اختطاف زوجة أمير من أمرائهم اسمها إلانة (Helen) وأنه " كان لابتزازها خبر يطول وصفه " وأن جميع الروم الغريقيين احتموا لها " وتحالفوا وتعاهدوا على خراب مدينة طروية (Troy)؟ فغزوها بنحو من ألف مركب وحاصروها عشر سنين " ، ثم كيف تم فتحها على نحو عجيب بعد أن سفكت الدماء وهلكت أمم " مثل الذي وصفه ميرش الشاعر في شعره الواضح الفصيح، إلى ما وصفه غيره من الشعراء وواضعي القصص " . ولا بأس من إيراد قصة الحصان الخشبي كما يرويها أوروسيوس: " وذلك أن الروم الغريقيين لما عجزوا عنها بعد محاصرتهم إياها عشر سنين عملوا صورة صورة من خشب عظيمة، مثقوبة تدور على فلك، وأدخلوا فيها خمسمائة مقاتل، ثم أمرهم المشير عليهم بذلك أن يضربوه بالسياط ضربا وجيعا فضربوه وتركوه مع الصورة، ثم احتملوا ودخلوا مراكبهم وعبوا كتائبهم يظهرون الانصراف إلى بلدهم، فلما خرج أهل المدينة وجدوا الصورة والمضروب أمامها، فسئل عنها فقال لهم: إن هذه الصورة وثنهم الذي يعبدونه، وكانوا قبل ذلك قد أظهروا عبادتها حينا، وكنت أنا خادمه وقسه، فلما كشفوني عن قوله في أمر هذه المدينة أعلمتهم عنه أنها غير مأخوذة ولا مقدور عليها، فغضبوا من أجل ذلك علي فضربوني كما تروي، وكان وجيها فيهم، معروفا عندهم، وأنا أعلمكم أنه رب صدوق، فإن أكرمتموه أعانكم عليهم ودلكم على هلاكهم، ففرحوا بذلك، ثم أخذوا الصورة وجروها على فلكها، حتى وصلت المدينة، ولما يسعها باب فتحوا لها ثلمة في السور، فلما كان الليل أقبل الذين كانوا أظهروا الانصراف إلى بلدهم؟ "
وقد قرب هذا الكتاب إلى المثقفين بعض الأساطير وعرفهم بها، من ذلك أسطورة رجل من الحدادين في الروم اسمه ديدال (Daedalus) وابنه ييقار (icaros) وأنهما عملا
__________
(1) انظر هذا المقال في:
AI - AndaIus XIX (1954) PP. 257 - 293
وهو مضمن أيضا في كتابه:
Note di Storia Letteraria Arabo - Ispanica، Roma، 1971، PP. 79 - 107.

(1/87)


أجنحة من ريش وكانا يطيران بها (1) ، ولكن الأهم من ذلك أنه يضع أولئك المثقفين في جو من الشعر، يبعدهم إبعادا كاملا عن التصور بأن العرب وحدهم هم المتميزون بفضيلة الشعر. ففي كل موقف اسم شاعر أو أسماء شعراء، فالحروب بين فارس وأثينا وإسبارطة وصفها بلقاط الشاعر والحروب بين الاقطانيين والطشاليين (Thessalians) وصفها أيضا هذا الشاعر نفسه، وفي حرب المشانيين (Messenians) واللجذمونيين (Lacedaemonians) كان أمير اللجذمونيين هو تراؤش الشاعر (Tyrtaios) فلما غلب قومه وتهيبوا القتال نظم قصيدة أنشدها إياهم فحييت بها قلوبهم وعادوا للقتال وأبلوا فيه بلاء حسنا. وفي زمان شحشار (Xerxes) ملك الفرس كان يعيش بأثينا الفلاسفة اشيليوس (Aeschylus) وبناروش (Pindarus) وشفقلاؤس (Sophocles) الذين إليهم أشعار المراثي. ومن الطريف هنا أن كلمة " المراثي " تطلق على التراجيديا، وأن الذين استغلوا كتاب الشعر شرحا واقتباسا إنما سموها " المدائح " .
وتتسع دائرة الحديث عن الشعر: فسليمان شاعر على ما يحكيه ديوان أخبار الأنبياء، له في الكلام الموزون ألف قصيدة وخمس قصائد في طريق التهليل، على مثل ما كان الأنبياء يستعملون فيه موزون الكلام في عصرهم ذلك. وشبيلة (Sibyl) العالمة تنسب إليها الأشعار وأنواع من الكهانات والعلوم.
وللرومان شعراءهم من أمثال مرقش (Marcus) وفرقيلش (Virgil - Virgilius) وججرون (Ciceron). كذلك ترد في الكتاب إشارات إلى مواطن من الشعر الروماني، منها قوله عند الحديث عن بعض الحروب: " وهي الحروب التي قال فيها فرقيليش أشعاره المعروفة عند العامة (2) ، وفرقيليش هذا هو الذي يقول في سبأ: " أن أغصان البخور للسبأيين خصوصا " . وثمة شاعر روماني آخر يقول في نهر صرنة الذي فاض عندما غزا أنيبال (Hannibal) إيطاليا: " ناهيك بالأبحر التي مادتها صرنه " . ومن ذلك ؟وهو شيء يلفت النظر حقا - أن المترجم نقل بعض الشعر الروماني إلى شعر عربي، أو
__________
(1) يشير إلى الأسطورة اليونانية التي تتحدث كيف هرب ديوالوس وابنه ايقاروس من سجن في كريت على أجنحة من الريش والشمع، وان الابن لم يسمع أبيه فأعتلى في طيرانه حتى أقترب من الشمس، فذاب الشمع وسقط في البحر جنوب جزيرة ساموس.
(2) تاريخ اوروسيوس: 283 وكتاب دلافيدا: 99.

(1/88)


لعله حاكي الشعر الروماني بقول من عنده، فقد جاء هنالك: وفي ذلك (أي في محاولة صلب المسيح) يقول مركش الشاعر الروماني، وكان مجوسيا (في كلمة طويلة):
لما رأى الناس الكسوف مخالفا ... لسبيله حسبوه ليلا سرمدا
فرحت له الدنيا وظنت أنه ... أمرا عليها لا يزال مؤبدا وفيها يقول:
صلبت بنو يعقوب يوما ربها ... إيسوعها فاديها الممجدا
ظنت بأن تخفي بذلك أمره ... وأبى الإله بأمره إلا الهدى ثم ذكر الحواريين فقال:
وكأنني حينا بنور إياته ... يعلو ويسمو في الدهور مؤيدا وقد يكون لهذا الشعر في ذاته قيمة يسيرة أو لا يكون، ولكن وجوده يفتح أفقا جديدا للأمل في وجود صور أخرى من هذا اللقاء، بين الأدبين العربي والروماني، ترى ألم يتساءل المثقفون الأندلسيون عن ماهية أشعار فرقيليش المعروفة عند العامة، ثم ألم يحاولوا التعرف إليها؟
أما القيروان فإن المجالات الثقافية التي توفرت في زمن بني زيري، وخاصة في عهد باديس وابنه المعز، ما تزال بحاجة إلى مزيد من البحث والاستجلاء، وقد تحملنا الأسماء الأدبية التي لمعت في تلك الفترة مثل عبد الكريم النهشلي وابن شرف وابن رشيق والحصري الضرير والحصري صاحب زهر الآداب، على القول بأننا هنا نواجه ثقافة عربية خالصة، ولكن التفاتة إلى زاوية أخرى قد تجعل هذا الحكم يبدو متحيزا، وحسبنا أن نذكر راعي الأدب والأدباء في عصره ومن بأسمه ألف ابن رشيق كتاب العمدة أعني علي بن أبي الرجال، فقد كان مضطلعا بالثقافة اليونانية، وكتابه " البارع " في علم النجوم خير دليل على ذلك، ففي هذا الكتاب نقول مستفيضة عن المصادر المترجمة والمؤلفة في هذا العلم، وقد احتفظ بكثير مما ترجمه توفيل أو فسره عمر بن الفرخان من

(1/89)


كتاب دروثيوس المنظوم ؟الذي تقدم ذكره - وخاصة في باب " الاختبارات " (1) . وفي الكتاب ما يدل على أن ابن أبي الرجال كان يمارس العمل بالنجوم أيضا فهو ينبئنا أنه حكم اعتمادا على حساباته النجومية في عدة أحداث، ويقول إن المعز بن باديس طلب إليه أن يستخرج مدة ولاية ثقة الدولة أحمد بن الحسين أمير صقلية، فحكم بأن المدة ستكون سبع عشرة سنة شمسية ونصفا، فلما بلغها وزاد عليها مدة جمعة قتل، كذلك استكشفه المعز عن مدة ولاية المنصور بن عبد الله بن محمد لبيت المال فوجد أنها خمسة وخمسون شهرا، قال: فو الله متا زاد عليها سوى أحد عشر يوما، قال: " وقد جربت وحكمت في عدة من العمال وولاية الثغور والمدن والدواوين وبيت المال عدة لا أحصيها، فما انخرم منها شيء واطردت على سنن واحد؟ " (2) ، ولا نستبعد أن يكون لعلي بن أبي الرجال الذي كان في رأي ابن رشيق مجليا في فني المنظوم والمنثور على السواء (3) أثر في من حوله من طلاب العلم والأدب، وفي توجههم وجهة الثقافة اليونانية، وحين نتذكر أثر ابن أبي الرجال والميدان الذي استأثر باهتمامه لا نستغرب أن يقول ابن رشيق، " ومن فضائله (أي الشعر) أن اليونانيين إنما كانت أشعارهم تقيد العلوم والأشياء النفيسة (4) والطبيعية التي يخشى ذهابها " (5) . وفي مثل ذلك الجو نستطيع أن نفهم موقف عبد الكريم النهشلي في النقد على نحو أوضح، فهو يسرع إلى المقارنة بين العرب (6) ، وينظروا إلى قسمة الشعر من زاوية الخير والشر (7) ويجيز الفوارق المتأتية لا عن اختلاف المقامات والأزمنة وحسب، بل عن اختلاف البلاد أيضا " ويستحسن عند أهل بلد ما لا يستحسن
__________
(1) قد اعتمدت على النسخة المحفوظة في مجموعة يهودا رقم: 292 بجامعة برنستون، من هذا الكتاب، انظر الورقة 55 ب حيث يقول " غير أن الذي عليه العمدة هو قول دروثيوس؟ " ، ويبدأ باب الاختيارات على الورقة: 224/أ، وانظر أيضا مقالة كريمر، الملحق: 512 وما بعدها.
(2) البارع، الورقة: 102/أ - ب.
(3) ابن رشيق: كتاب العمدة 1: 6 (ط/ 1907).
(4) لا أرى هذه القراءة صحيحة، ولعل الصواب " النفسية " لتجيء على وفق " الطبيعية " .
(5) العمدة 1: 9.
(6) يرى عبد الكريم أن الشاعر عند العرب هو المتغزل المتماوت، وعادة العجم أن يجعلوا المرأة هي الطالبة والراغبة المخاطبة (العمدة 2: 100).
(7) العمدة 1: 76، 28.

(1/90)


عند أهل غيره " (1) ، ولا إخال إلا أن هذا كله يعود إلى شيء من أثر الثقافة اليونانية.
ولم تكن تلك الحلقة الثقافية التي التأمت حول ابن أبي الرجال إلا نتاجا طبيعيا لتلك الحقبة الباديسية، التي يمثلها المؤرخ الكبير إبراهيم الرقيق (حوالي 425/1033) (2) وقد كان إبراهيم جامعا لضروب من الثقافات الضرورية لمن يقوم بدور النديم ودور المؤرخ، وإذا كانت لفظة " الرقيق " صفة تتوجه إليه، لا إلى أبيه، فربما أوحى ذلك أنه لم يكن بعيدا بحكم الانتماء عن ثقافات أخرى غير العربية. مهما يكن من شيء فإن اطلاعه على الثقافة اليونانية أمر تشهد به مؤلفاته، وخاصة كتابه " قطب السرور " ، فلأول مرة يقدم لنا هذا الكتاب أشعارا يونانية مترجمة إلى العربية، لا في الحكمة والأمثال والخرافات، ولا في المنظومات العلمية، وإنما في موضوع آخر كنا نظن أن العرب قد وقفوا فيه من يحس بالاكتفاء والرضى الذاتي فيه، وذلك هو شعر الخمر. ففي الفصل عقده الرقيق بعنوان " منافع الأشربة ومضارها على مذاهب الفلاسفة " (3) ، لم يكتف بالإحالة على آراء جالينوس وبقراط وكتاب روفس في الشراب ترجمة قطسا ابن لوقا وكتاب " الكرمة " لارسطاطاليس وآراء أطباء العرب مثل إسحاق بن عمران ومحمد بن زكريا الرازي، وإنما ضمن ذلك الفصل شعرا في الخمر لشعراء يونان. ولسنا نستطيع أن نجزم إن كان الرقيق ؟ وأصله قد يغري بالقول إنه كان يعرف لغة أخرى غير العربية - هو الذي ترجم تلك الأشعار، أو أنه وجدها مترجمة ونقلها، وإن كان قد وجدها مترجمة فمتى ترجمت، وهل كان مترجمها مشرقيا أو مغربيا؟ وإن كان قد نقلها فهل تم ذلك عن طريق مصادره الطبية أو الأدبية، وإذا كانت الثانية فما هي تلك المصادر؟ أسئلة كثيرة لا يمكن الإجابة عليها، على أن ثمة ما يوحى بأنه كان يعرف اليونانية، إذ قال في التعليق على إحدى المقطعات المترجمة: " وهذا بكلام اليونانيين شعر موزون " (4) ، وهي قولة يحاول أن يؤكد بها أن الأصل
__________
(1) العمدة 1: 58.
(2) في ترجمة الرقيق انظر معجم الأدباء لياقوت 1: 288 (الطبعة الأوربية) وورقات لحسن حسني عبد الوهاب 2: 438 ومقدمة المنجي الكعبي على القطعة الباقية من تاريخه، بعنوان: " تاريخ أفريقية والمغرب " تونس 1968.
(3) إبراهيم الرقيق: قطب السرور في أوصاف الخمور: 225 وما بعدها.
(4) قطب السرور: 260 وانظر القطعة رقم: 3 في ما يلي.

(1/91)


لديه على غير ما توحي به الترجمة، إن لم يكن ينقل ذلك التعليق عن شخص آخر.
من هم أصحاب هذه القطع الشعرية؟ من الصعب أن يقال في هذا الصدد قول دقيق، لأن أسماء الشعراء قد حرفها النساخ، ولأن بعض الأسماء قد تصرف بها المحقق، على هواه، كما أن المؤلف نفسه في حالات أخرى لم يذكر أسم الشاعر. أما القطع نفسها فتتفاوت طولا بين سطر وعشرة أسطر، غير أنها جميعا تتمتع برفعة في الأسلوب، حتى إن إحداهما لترد في معظمها على شكل مسجوع (1) ، وهذا أمر قد يجعلها مستساغة أكثر لدى القارئ العربي، ولكنه يلقي شكا على الدقة في الترجمة. ولكن من اللافت للنظر أن جمال الأسلوب ليس وقفا على القطع الشعرية بل إنه يشمل أقوال الحكماء والأطباء التي وردت في هذا السياق. أما من حيث المحتوى فيجب أن أقرر أن جميع القطع تمجد صفات الخمر، ما عدا قطعة واحدة منسوبة لأفلاطون (2) ، وربما كانت تلك القطع بذلك تثبت قوة انتسابها إلى الشعر.
ويتطلب اسطفن الرهاوي (3) - صاحب إحدى القطع - وقفة خاصة إذ يقر المحقق أن الاسم غير واضح في النسخة الأصلية، ولست أعتقد أنه اسطفن ابن بسيل الذي ترجم الأقوال المناندرية، لأنه 0في أعلى تقدير - مترجم لا منشىء، ورغم اهتمامه الكبير بترجمة الأشعار اليونانية، فانا لا نستطيع أن ننسب إليه المقطعة التي أوردها الرقيق، كما لا نستطيع أن نصدق أن الرقيق يدرجه بين الحكماء والفلاسفة، وعلى هذا فإن في سند الرواية سقطا، ولا بد فإن لم يكن الأمر كذلك فربما افترضنا أن صاحب هذه القطعة العميقة شاعر يوناني قد تحرف اسمه أو تصحف. وفي القطعة المنسوبة إليه نبرة من التوحيد، وهذا غير مستغرب في الآراء والأفكار الفلسفية اليونانية المنقولة إلى العربية، لأنها قد حورت لتطابق المشاعر الإسلامية. ويجري نص القطعة المشار إليها على النحو التالي:
- 1على أي شيء نشكر رب الكل ومبدع الأشياء، أعلى اصطناعه الخمرة أم على أنه ملكنا إياها وأباحها لنا مع أباح من الذهب والفضة، فمن بين محروم ومرزوق،
__________
(1) انظر القطعة رقم: 5 في ما يلي.
(2) قطب السرور: 257.
(3) قطب السرور: 258.

(1/92)


لأن هذه الثلاث معادن بها قوام هذا العالم، والخمرة أفضل الثلاثة، لأنه الاثنين جوهر البدن، والخمرة جوهر الروح، لأن النفس تتربى بالخمر وتسر بها وتفرح لها، والبدن يتربى بالآخرين ويسر بهما ويفرح لهما، والخمرة تستعمل من داخل والجوهر من خارج، والداخل أفضل (1) .
2 - والقطعة الثانية المؤلفة من سطر تنسب إلى الحكيم (2) مع التأكيد بأنها ترد في شعره لا في حكمته، ولكن من هو الحكيم المقصود؟ ذلك أمر لا يمكن تبينه، فهو قد يكون ارسطاطاليس كما قد يكون أوميرس، يقول الحكيم: " الخمرة جوهر ذائب والجوهر خمرة جامدة " ، وهذا القول قد ورد نصا عند أبي نواس (3) :
أقول لما تحاكيا شبها ... أيهما للتشابه الذهب
هما سواء وفرق بينهما ... أنهما جامد ومنسكب 3 - وترد القطعة دون ان يذكر اسم ناظمها، ولكن لا مجال للشك ؟حسب تصريح الرقيق - بأن صاحبها شاعر، وهي تتحدث عن الشراب على النحو الآتي: " هو أخو إخوان ونديم ندمان، يشربه أقوام كرام يشاكلونه في الأفعال، يتصاحبون ويتزاورون، ويتحابون ويتآلفون، لا كأقوام يرون الحسنات مساوئ والمساوئ حسنات، غفران الذنوب طبع لهم، وترك الأحقاد سنة لهم، لا يتجاوزون طبعهم ولا يتركون سنتهم، الحسنة الصغيرة عندهم عظيمة، والسيئة العظيمة عندهم صغيرة مغفورة " (4) .
هذه القطعة السابقة هي التي شغفها الرقيق بقوله: " وهذا بكلام اليونانيين شعر موزون " ، والقطعة تتحدث عن المشاكلة بين الخمر والشاربين في كرم الطباع، على
__________
(1) قطب السرور: 258.
(2) المصدر نفسه.
(3) ديوان أبي نؤاس: 243 (آصاف) وقطب السرور: 520.
(4) قطب السرور: 259 - 260.

(1/93)


أساس من التكافؤ، وتذكر أيضا من هذه الناحية بقول أبي نؤاس (1) :
والخمر قد يشربها معشر ... ليسوا إذا عدوا بأكفائها ثم تأخذ في الحديث عن فضائل الندامى في الألفة والتغاضي والمغفرة، وربما كان الحديث عن أخلاق الندامى في الشعر العربي مستفيضا، ولكن هذه القطعة ما تزال تنفذ إلى خصائص فيهم يمر بها الشعر العربي مجملا دون تفصيل.
- 4 والقطعة الرابعة تنسب إلى من اسمه لبيروس، ومن الصعب أن نجزم أهو شاعر أم لا، ووقوع هذه القطعة بين اقتباستين شعريتين لا يمكن أن يتخذ دليلا على أنها مقطوعة شعرية، ومع ذلك فإن طبيعتها ترجح أنها شعر، يقول لبيروس: " ينتقد بالخمرة الناس فيعرف الزائف منهم والمغشوش كالحجر الذي يحك به الذهب فيعرف خالصه من مغشوشه، كذلك الخمر في الأشربة إن عدت فيما يطرب النفس وينشر السرور والفرح ويسلي الأفكار الرديئة كانت حقيقة بذلك، وإن عدت فيما يزيل الهموم ويذهب الغموم اجتمع ذلك فيها، وإن قلنا إنها تنشط الكسلان وتروي العطشان وتشجع الجبان وتسخي البخيل فيعطي الجزيل ويراه نزرا قليلا وتعزي عن المصائب وتسلي عن العشق المبرح، ولولاها لم تعمل الملاهي، ولكانت الأحزان والهموم دائمة لا تبرح، لكنها تزيلها وتذهب بها وتبدلها بأضدادها " (2) .
وأول ما يلفت النظر في هذه القطعة طبيعتها التحليلية، فهي تبدأ بالقاعدة العامة. " الخمر محك وصيقل " ثم تذهب بعد ذلك في جزئيات تتحدث عن نواحي مختلفة من الآثار الإيجابية للخمر، مع إغفال التعرض لآثارها السلبية، وتلك الآثار الإيجابية تتردد في الشعر العربي، وليس فيها شيء كثير يميزها من حيث المحتوى، ولكنها ؟من ناحية ثانية - تذكر بشعر للشاعر اليوناني ألقايوس (Alcaeus) (3) ، إذ يقول في إحدى قطعه: " إن كان امرؤ يشكو ألما فليشرب؟ وإذ قال لك بعضهم: لا خير
__________
(1) ديوان أبي نؤاس: 239.
(2) قطب السرور: 260.
(3) كان في أواخر القرن السابع وأوائل السادس (ق.م)، من مواطني جزيرة لسبوس، شارك في الحياة السياسية ونفي، وبينه وبين أبي نواس مشابه في غير ما وجه.

(1/94)


في الشراب فقل له: أغرب عن وجهي " (1) ويقول في أخرى: " وخير دواء أن تدعو بالخمر وتمعن في الشراب " (2) ولا ريب في ان هذا الموضوع عام شائع في الشعر الخمري، ولا يسعفنا على ترجيح نسبة المقطوعة السابقة إلى القايوس (وإن كان رسم الكلمة قد يلتبس برسم لبيروس).
- 5 وآخر هذه القطع الشعرية أطرفها نسبة لأنها لشاعرة اسمها طريطاوس، وقد أنجبت يونان شاعرات كثيرات، أبعدهن شهرة صافو، ومنهن من عرفن بنظم " أغاني الخمر " وهي قصائد ليس من الضروري أن تتحدث عن الخمر، وإنما كانت تنشد في احتفالات باخوس، ومن أولئك الشواعر مثلا براكسيلا (3) غير أن المحير في نسبة هذه القطعة التي أوردها الرقيق أن الاسم " طريطاوس " لا ينصرف إلى المؤنث، وإنما هو صورة من الاسم (Tyrtaeus) وهو اسم شاعر إيوني عاش في إسبارطة أيام الحروب المسينية (685 - 668 ق.م.) (4) ، غير أنه ليس فيما تبقى من شعره ما يشير إلى اهتمامه بموضوع الخمر، وعلى هذا فمن العسير أن ننشئ صلة بينه وبين القطعة المترجمة، وأقرب صورة أخرى للاسم هو اسم (myrtis) وهو اسم لشاعرة من معاصري بندار (5) ، وتظل المشكلة نفسها قائمة لأن هذه الشاعرة لم يبق لها من المقطعات ما ينبئ باتجاه خمري.
وتقوم هذه القطعة: " الشراب معدن اللذات وجالب المسرات، يطيب النفوس،
__________
(1) Lyra Graeca، ed. And translated by J.M. Edmunds، The Loeb Classical Library، 1928، Vol. 1، pp. 421 - 22.
(2) Ibid، p. 417. Of. Greek Lyric Poets، Selected and Translated by Francis Brooks، London، 1896، p. 67.
(3) من شعراء القرن الخامس، انظر Lyr. Graeca المجلد 3: 73 - 79.
(4) انظر Greak Lyr. Poets ص2 - 3 وكتاب:
Greek Lyric Poetry، trans. By Wills Barnstone، Secnd printing.
Newyork، 1975، p. 39.
(5) في المصادر العربية إشارات إلى نساء عرفن في حقل الفلسفة، انظر مثلا المجتنى لابن دريد: 89 والسعادة والإسعاد: 389، 391 حيث يذكر حكيمة اسمها " فرياغوراس " ومرة يرد الرسم " فيثاغوراس " (392 - 395).

(1/95)


ويصرف البؤس ويعفي على النحوس ويولد طرب الجليس، ويشد القلب ويزيل الكرب، ويذكي الأذهان ويغسل الادران، وينير البصر ويصفي الكبد، ويغرس العلوم ويوفر الحلوم، إذ كان بقصد واعتدال، وإذا جاوز الحد وزاد عادت أفعاله إلى الأضداد " (1) : ومن الواضح أن موضوع القطعة هو أثر الخمر أو " مآثرها الإيجابية " وأنها بذلك تنحو منحى القطعة السابقة.
وإذا نحن قارنا بين هذه الأقوال الشعرية وقول مترجم عن أرسطاطاليس لم نجد فرقا كبيرا لا في الموضوع ولا في مستوى الصياغة. يقول ارسطاطاليس " إن الذي استخرج القوة التي غيرت ماء الكرم حتى صيرته خمرا يتولد عنها لشرابها الفرح والسرور، قد أتى بشيء تقصر عنه عقول المستنبطين، وقد أتى بما فاق وعلا كل قوة شجرية، وقد أشرقت الأرض بفعله وأزهرت بصنيعه، لأن نور الخمرة لا يعدله نور من الأنوار الأرضية، وإذا عدت المحاسن كلها وجدتها قد كملت فيها فصارت غاية المحبوب ونهاية المطلوب، وكما أنها ملكه الأشجار صار من يشربها ملكا بها، ومن فضائلها؟. الخ " (2) فهذه القطعة أعرق في الشاعرية من القطع السابقة.
ومن المؤسف أن النص يضطرب عند بداية إيراد الأشعار، إذ يورد الرقيق أن اليونانيين يسمون القوة التي تعيد ماء الكرمة خمرا ؟وهي تلك القوة التي تحدث عنها ارسطاطاليس - " القوة المتقدمة في الشرف على جميع الأنوار " لأنها أشرف الشجر وماؤها أشرف المياه " لأنها تولد السرور والفرح " وبعد هذا تأتي عبارة " ففي خيرها أكون باقي حياتي " وهي عبارة شعرية تدل على أن ما قد سقط من النص كان اقتباسا شعريا، لقول المؤلف بعده " وقال شاعر آخر " ، إلا أن ننسب كل ما تقدم إلى بيلسون، المذكور في أول الفقرة، وعندئذ يكون بيلسون هو الشاعر المقصود، وبذلك تصبح القطع التي أوردها الرقيق ستا (إذا عددنا قطعة اصطفن الرهاوي بينها). ولكن ما هو الوجه الصحيح لهذا الاسم " بيلسون " ؟ ذلك ما لم يمكن التوصل إليه كما هي الحال في الأسماء الأخرى.
__________
(1) قطب السرور: 260 - 261، وقيام المقطوعة على السجع قد يحملنا على أن نقرأ " وينير البصر ويصفي الكدر " .
(2) قطب السرور: 256 - 257.

(1/96)


وعلى الجملة تمثل هذه القطع نغمة جديدة في سياق الصلات بين الأدبين اليوناني والعربي، وتشير إلى أن الترجمة لم يبق وقفا على الأشعار الحكمية والعلمية وإنما شملت أيضا جانبا من الشعر الغنائي. وقد تكشف الأيام لنا عن جوانب أخرى إلى جانب الشعر الخمري، فإن كتاب الرقيق قد قوى مثل هذا الاحتمال، إذ ما كان أحد قبل ظهور هذا الكتاب يظن أن العرب عنوا أدنى عناية بالشعر الغنائي عند اليونانيين.

(1/97)


فراغ

(1/98)


" 6 "
استخدام الفكر السياسي اليوناني
مادة في الرسائل الأدبية
حاولت في الفصول السابقة أن أصور جوانب من اللقاء بين الأدبين اليوناني والعربي عن طريق الترجمة، وسأحاول فيما يلي أن أتحدث عن طرق أخرى تم فيها استخدام الفكر الإغريقي في قالب أدبي عربي، سواء أكان ذلك القالب رسالة أو شعرا أو مقامة، وسواء أكان اللقاء بين الأدبين اقتباسا للمضمون أو محاكاة له.
ولعل من أول ضروب هذه اللقاءات اقتباس عبد الحميد الكاتب المعارف اليونانية في السياسة، واستخدامها في رسائله، وقد حاول الدكتور طه حسين أن يقول إن أسلوب عبد الحميد متأثر ببعض معالم الأسلوب اليوناني (1) ، ولكن هذه القضية ليس من السهل إثباتها أو القول برأي قاطع أو محتمل فيها، والأقرب إلى الاحتمال أن عبد الحميد كان مطلعا على ما ينقل في عصره من الثقافات المختلفة وخاصة الفارسية واليونانية. فأما الفارسية فهناك إجماع من الروايات على أن عبد الحميد كان صديقا لابن المقفع، وكان ابن المقفع ؟دون ريب - داعية للثقافة الفارسية بما ينقله أو يترجمه أو يلخصه عنها، ومن المستبعد ؟والصلة وثيقة بين الرجلين - ألا يتأثر عبد الحميد بذلك اللون من الثقافة. وأما اليونانية فإن عبد الحميد كان ختنا لسالم مولى سعيد بن عبد الملك، وكان سالم كاتبا عند خلفاء بني أمية حتى عهد هشام بن عبد الملك ولا يستبعد أن يكون
__________
(1) من حديث الشعر والنثر: 43.

(1/99)


عبد الحميد قد تخرج به وسلك طريقه ونسخ على منواله، ومن المعروف أن سالما هذا " نقل من رسائل ارسطاطاليس إلى الاسكندر ونقل له وأصلح هو " كما يقول ابن النديم (1) ، وأن رسائله التي عرفها ابن النديم كانت نحو مائة ورقة. وعلى هذا يصح أن يقال إن سالما أتاح لعبد الحميد الاطلاع على أدب سياسي منسوب إلى يونان. وقبل المضي في تبيان هذه الناحية أبادر إلى القول بأن تلك الرسائل ليست صحيحة النسبة إلى أرسطاطاليس، وإنما نحلت له، ولكن العرب ظلوا قرونا طويلة يتكئون عليها ويقتبسون منها دون أن يخالجهم شك في نسبتها. وتحتاج عبارة ابن النديم شيئا من المحاكمة فقوله " نقل " يعني أن سالما كان يعرف اليونانية أو السريانية حتى يقوم بهذا العمل، ثم قوله " ونقل له وأصلح هو " يشير إلى أنه اعتمد على جهود بعض المترجمين والنقلة، وهذا يعني أحد شيئين: أن سالما لم يكن يعرف إحدى اللغتين وهذا شيء يبطله قوله " ونقل " أو أن مشاغله الكثيرة في الدولة جعلته يستعين في بعض ما نقل بأحد النقلة، فهو على التوجيه الأخير قد قام بعملين بالنقل المباشر والإصلاح لما نقله غيره، ومعنى الإصلاح هنا منح المنقول في الأسلوب وصوغه في قالب بليغ مقبول، بحيث يلتبس بأسلوب سالم نفسه عندما ينشئ، أو يقاربه كثيرا. وعندي أن عبارة ابن النديم يجب أن تقرأ " نقل؟ أو نقل به " وأن الشك في أي الأمرين هو الذي حدث يعود إلى ابن النديم، وعلى ذلك فإن المرجح أن سالما لم يكن يحسن اليونانية أو السريانية، وإنما حكم أسلوبه البلاغي في ما أعانه به بعض المترجمين. وأي الأمرين كان فإنه يشير إلى جهود مبكرة في النقل، قبل أن يبدأ عصر الترجمة المنظم، ولهذا ما يؤيده في شهادة أخرى أوردها المسعودي، فقد ذكر أنه رأى عام 303 كتابا باصطخر يشتمل على علوم كثيرة من علوم الفرس وأخبار ملوكهم وأبنيتهم وسياستهم وأن ذلك كان مما ترجم لهشام بن عبد الملك في سنة 113ه؟ (2) ، فلم يكن نقل الرسائل المنسوبة إلى ارسطاطاليس هو الجهد الوحيد الذي تم في أواخر الدولة الأموية، وحسبنا أن نتذكر جهود ابن المقفع في النقل عن الفارسية، وأنه من غير الممكن أن يكون قد تنبه لذلك أو باشره في السنوات القليلة التي عاشها في ظل الدولة العباسية (3) .
__________
(1) ابن النديم، الفهرست: 117.
(2) التنبيه والأشراف: 106.
(3) انظر عهد اردشير، المقدمة: 34.

(1/100)


أين هي رسائل ارسطاطاليس إلى الاسكندر التي نقلها سالم أو نقلت له؟ إن ضياع معظم آثار سالم الأصيلة أو المنقولة يجعلنا نتوقف دون القطع بأن الصورة التي وصلتنا من هذه الرسائل هي عينها التي عرفها سالم. نعم هناك ثلاث مخطوطات تحتوي على هذه الرسائل (1) ، عدا ما هو موجود منها منفردا، وقد قام الأستاذ ماريو غرنياسكي بدراسة هذه المخطوطات على نحو دقيق في مقالتين كبيرتين (2) ، حاول فيهما أن يثبت أن قسما من تلك الرسائل كان ولا بد من عمل سالم، وأتى على ذلك بأدلة من خلال فحصه للنصوص ومقارنته لهذه الرسائل بأصول يونانية، ومن أدلته تلك أن الرسائل تشير إلى جو الدولة الأموية، ولا تعرف كثيرا مما طرأ من تغير بعد نشوة الدولة العباسية، فالكاتب يتحدث كثيرا عن الموالي والعبيد، وإذا ذكر نظام الجيش تحدث عن الصفوف ولم يذكر الكراديس إلا عند الحديث عن الترك، وهو يصور الترك عدوا مخوف الجانب، كما كانوا في الدولة الأموية، وأن الخراسانيين شعب محارب " إذا مالوا إلى مقاتلة ثبتوا فيها وإذا رغبوا في أحد أحبوه وطال شكرهم له " ولكنه لا يذكر أبدا أنهم عماد جيش الدولة، كما أصبح حالهم أيام العباسيين، ثم إن المسؤول عن هذه الرسائل كان ذا مكانة عالية في الدولة، وتلك هي حال سالم الذي كان أثيرا عند هشام حتى إنه كان يقرأ عليه ما يرد من كتب ولا يدخل عليه منها إلا ما يسره (3) ، إلى غير ذلك من أدلة (4) ، هي أشبه بالتلمس الذي لا يبلغ اليقين أو يشارفها، ثم كأن هذه الأدلة تفترض أن سالما كان مؤلفا لتلك الرسائل، فإن لم يكن كذلك فإنه حور في الأصل كثيرا حتى يتناسب ومفهوماته عن الدولة ونظم الحرب وأحوال الأمم، ومع أن شيئا من التحوير قد يتم في مثل هذه الحال فإنه لا يمكن أن يبلغ الدرجة التي تصورها أدلة الأستاذ
__________
(1) هي مخطوطة آيا صوفيا رقم 4260 ومخطوطة الفاتح رقم 5323 ومخطوطة كوبريللي رقم 1608.
(2) Mario Grignaschi: Le Roman Epistolaire Classique Conserve dans la Version Arabe de Salim Abu - l - Ala، Le Museon 80، 1967 pp. 211 - 264، idem: Les Rasail Aristatalisa ila - l - Iskander de Salim Abu - l - Ala، Bulletin d'Etudes Orentles، Tome XIX، 1965 - 66 pp. 7 - 88.
(3) الكندي: كتاب الولاة والقضاة: 80.
(4) هي منشورة في المقالين، وانظر بخاصة المقالة الأولى ص: 25 وما بعدها.

(1/101)


غرنياسكي. ومهما يكن من شيء فإن هناك ما قد يرجح أن بعض تلك الرسائل سابق لعهد الترجمة المنظمة، وربما كان الأستاذ غرنياسكي على صواب حين يرى أن الرسالة في السياسة العامية تمثل صورة قديمة من الرسائل المترجمة، ولكن التباين الشاسع أحيانا بين أساليب تلك الرسائل مجتمعة، يجعلني أعتقد أن ما جاء في المخطوطات المذكورة ليس من الضروري أن يكون من عمل ناقل واحد، وأن ما ينتمي إلى سالم منها ما يزال بحاجة إلى إثبات، وهذه قضية لا تؤثر كثيرا في طبيعة هذا البحث، لأن هناك فرقا واسعا بين أن يقال إن سالما عرف رسائل منسوبة إلى ارسطاطاليس وأن يقال إن تلك الرسائل أو بعضها هي نفسها التي وصلتنا في المخطوطة الفلانية، فإذا انهارت كل الأدلة التي توفق بين القولين، بقي القول الأول ثابتا بشهادة ابن النديم وبعض القرائن الأخرى.
وأهم هذه القرائن اثنتان: أولاهما أن نعرض بعض هذه الرسائل على أسلوب سالم نفسه. وتعترض هذا الأمر صعوبات منها ندرة ما وصلنا من كتابات سالم وصعوبة الحكم لدى المقارنة بين الأساليب، وتقارب أساليب عصر ما في كثير من الخصائص، ومع ذلك فإن محاولة ما لا بد من أن تبذل في هذه الناحية، وقد بقي لدينا نتف يسيرة من رسائل سالم (1) ، ولكن يبدو أن له رسالة تامة كتبها عن هشام بن عبد الملك إلى عمرو بن سعيد يهدئ فيها من روعه لأن خالدا القسري استخف به واستهان بمقامه، وقد أوردها الطبري غير منسوبة (2) ، وجاءت مقترنة باسم سالم في كتاب " العطاء الجزيل في كشف غطاء الترسيل " لنحمد بن أحمد البلوي الأندلسي وهو يضم مجموعة من رسائل المشارقة والمغربة موزعة على أبواب مختلفة (3) .
يقول سالم في هذه الرسالة: " أما بعد فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك وفهم ما ذكرت من تسليط [خالد] عليك لسانه في مجلس العامة، مستحقرا لقدرك ومستصغرا لقرابتك بأمير المؤمنين، وإمساكك عنه تعظيما لأمر أمير المؤمنين وسلكانه وتمسكا بوثائق عصم
__________
(1) انظر جمهرة رسائل العرب 2: 425 حيث يجب أن نقرأ " سالم مولى هشام " بدل سالم بن هشام، وكذلك ص: 431، 432.
(2) تاريخ الطبري 1: 1644 وجمهرة رسائل العرب 2: 412 ويمكن أن نعد الرسالة التي أرسلت إلى خالد لتوبيخه على موقفه من عمرو بن سعيد من إنشاء سالم أيضا، الطبري 1: 1642 وجمهرة رسائل العرب 2: 409.
(3) مخطوطة الخزانة الملكية بالرباط رقم: 6148.

(1/102)


طاعته، على مؤلم ما تداخلك من قبيح ألفاظه وشرة منطقه، وإكبابه عليك عند إطراقك عنه، مرويا ما أطلق أمير المؤمنين من لسانه وأطال من عنانه ورفع من درجته ونوه من خموله، وكذلك أنتم ؟آل سعيد - في مثلها عند هذر الذنابى وطائشة أحلامها صمت من غير ما إفحام تنهضون بأحلام تخف الجبال عندها وزنا، وقد أحمد أمير المؤمنين تعظيمك إياه وتوقيرك سلطانه وشكره، وجعل أمر خالد إليك عزله واقراره، فإن عزلت أمضى عزلك، وأن أقررت فتلك منة على خالد لا يشكرك أمير المؤمنين فيها " (1) .
يمكن أم يسمى هذا أسلوب الأناة الفكرية حيث يعمد الكاتب إلى الامتداد بالجملة قبل أن يبلغها غايتها ولذلك قد يعمد الكاتب فيه إلى جمل فرعية معتمدة على الجملة الأصلية، إما بإيراد جمل وصلية أو بالخروج إلى حيز متفرع عن الحال الموصوفة: " تعظيما لأمير المؤمنين وسلطانه وتمسكا بوثائق عصم طاعته على مؤلم ما تداخلك من قبيح ألفاظه وشره منطقه واكبابه؟الخ " ففي بدئه " على مؤلم؟ " تفريع جديد على الأصل/ ولكنه لا ينسى أبدا أن التفريع له حظ الأصل، من الجمل المتعاطفة والمزدوجات، فبعد قوله تعظيما؟ وتمسكا " يورد " من قبيح؟ وشرة؟ واكبابه " ، فإذا انتقل إلى تفريع جديد قال: " مرويا فيما أطلق؟ وأطال؟ ورفع؟ ونوه؟ " وبذلك تتركب الفقرة من مستويات متدرجة إلا أنها مستويات مفسحة ممطوطة، تمنح الفكر المتأمل حظا من النقلة دون وثب أو عجلة (2) .
ضع إزاء هذا ما جاء في إحدى الرسائل: " أما بعد فإن دوائر الأسباب ومواقع العلل وإن كانت ساعدتنا بالأمور التي أصبح الناس لنا بها دائنين، فانا جد واجدين لمس
__________
(1) العطاء الجزيل، الورقة: 125.
(2) أعتقد أن هذا اللون من الأسلوب كان هو العامل الأكبر في نقلة الكتابة العربية إلى أسلوب سريع قصير الفقرات مسجوع، خروجا من الملل ورغبة في السرعة في بلوغ القصد وكان هذا ما حققه البديع في المقامات، وجرى الأمر على ذلك إلى أن حدث تغيير صناعي في استحداث أسلوب يجمع بين السجع والاسترسال، والسجع داخل الاسترسال، والاستطالة بالعبارات حتى يفقد القارئ نفسه ويغدو لاهثا قبل ان يصل إلى النهاية، وهذا ما نجده لدى القاضي الفاضل وابن الأثير والعماد الكاتب في رسائله لا في وصفه للمعارك. ولأبي العلاء شأن آخر، يشذ عن قاعدة هذا التطور، وهو اختياره دائما هذا الأسلوب " المتوتر " داخل إطار من الأغراب.

(1/103)


الاضطرار إلى حكمتك، غير جاحدين للإقرار بفضلك، و الاستنامة إلى مشورتك والاجتباء لرأيك والاعتقاد لأمرك ونهيك،لما بلوناه من جدا مغبة ذلك علينا، وذقنا من جنى منفعته حتى صار ذلك بنجوعه فينا وترشيحه لعقولنا (1) كالغذاء الذي تلتاط به الطباع بالتقوت به؟ وقد كان مما سيق إلينا من النصر والفلج، وأتيح لنا من الظفر والقهر وبلغنا في العدو من النكاية ما يعجز القول عن وصفه ويقصر اللسان عن أداء مفترض الشكر للمنعم به " (2) . لاحظ في هذا الأسلوب ورود الجملة الوصلية " وإن كانت ساعدتنا " ؟ وهي فرعية، ثم هذا الاسترسال مع " الإقرار؟ والأستنامة؟ والاجتباء.. والاعتقاد " ثم التفريع على التفرع " بنجوعه؟ وترشيحه " ؟ ثم العودة إلى التعداد المسترسل " سيق، أتيح، بلغنا؟ " وأدل من كل ذلك " مفترض الشكر للمنعم على الأنعام به " فلو لم تكن الأناة المسترسلة هي القاعدة لاكتفى الكاتب بقوله " مفترض الشكر للمنعم " .
إن العيب في هذا البرهان أنه ينقل فيما ينقل إحساسا ذاتيا بطبيعة الأسلوب، ولكن هب أنه أصبح مقبولا بنوع من الإحساس الغامض لموسيقى الأسلوب وإيقاعه فإنه يظل يشكو من عيب آخر، وهو أن هذه السمة تنطبق على عصر لا على كاتب واحد، وحين تقرأ ابن المقفع أو عبد الحميد أو حتى الجاحظ ؟بعد زمن - تكاد تقف مبلسا إزاء الفوارق الداخلية التي تميز أسلوب كل واحد منهم. إن هذه دراسة لم يحاولها أحد بعد، أعني وضع السمات الفارقة التي تميز كل كاتب عن غيره من أبناء عصره، ويزداد الأمر صعوبة حين تجد كاتبا قديرا مثل أبي إسحاق الصابي، يعيش في عصر، ويكتب بأسلوب عصر آخر. ولكن مهما يكن من شيء فإن الرسالة التي اقتبست منها آنفا لا بد أن تكون قد كتبت في عصر سالم وعبد الحميد وابن المقفع. وفي الرسالة المتعلقة بالسياسة العامية ملامح كثيرة من هذا الأسلوب مما قد يجعل على القول بأنها تمثل ما قام به سالم أبو العلاء أو أحد من معاصريه.
أما القرينة الثانية ؟وهي الأمم فيما يتصل بهذا البحث - فهي العثور على أناس معاصرين
__________
(1) في شرح النهج: وترسخه في أذهاننا.
(2) مخطوطة آيا صوفيا، الورقة 92/أ - ب والمقالة الثانية لغرنياسكي: 59 وهي حسب ترقيم غرنياسكي تعد الرسالة الحادية عشرة بين مجموعة الرسائل، وانظر أيضا شرح نهج البلاغة 17: 52.

(1/104)


لسالم، تأثروا بتلك الرسائل وأفادوا منها، وانعكست بعض مادتها في كتاباتهم. وهنا يبرز ؟دون مواربة - دور عبد الحميد، أظهر معاصر لسالم وأجدر من يمكن أن يتأثر به من خلال التلمذة والمعاصرة، وحالنا مع عبد الحميد خير من حالنا مع سالم من حيث تنوع ما وصلنا من رسائله وخاصة بعد الإطلاع على مخطوطة " العطاء الجزيل " التي تحوي من رسائله أربع عشرة رسالة لم يكن معروفا منها سوى رسالة واحدة (1) .
وفي كل ما وصلنا من كتابات عبد الحميد تقف رسالته إلى عبد الله بن مروان ولي العهد حين وجهه أبوه لمحاربة الضحاك الشيباني الخارجي متميزة بين سائر رسائله في هذا الصدد، فهذه الرسالة ؟حسبما أوردها ابن أبي طاهر طيفور في كتابه " اختيار المنظوم والمنثور " - تحمل تاريخ 129 من الهجرة، وموضوعها في السياسة الحربية (2) ، ولهذا فإن ما قد تحمله من شبه برسائل ارسطاطاليس إنما يدور حول هذا الموضوع نفسه. وقد لمح الأستاذ غرنياسكي بعض شبه بين ما جاء في رسائل ارسطاطاليس ورسالة عبد الحميد (3) ، وكان هذا في الحق هو المنطق الصحيح لإثبات أن تلك الرسائل كانت معروفة في ذلك الدور الكبير المبكر.
وأحب أن لا يتبادر إلى الذهن أن عبد الحميد قد اقتبس معلوماته في السياسة الحربية عن الرسائل المنسوبة إلى أرسطاطاليس، فإنه قد لازم مروان بن محمد مدة طويلة منذ أن كان مروان واليا بأرمينية (114/732) إلى أن قتلا معا، بعد معركة الزاب (132/ 749)، ومهما ينس التاريخ من مآثر مروان فإنه لا ينسى جهوده في تنظيم الجيوش، وفي سياسة الحروب، ولكن الذي أعنيه هنا أن عبد الحميد كان نموذج المثقف في عصره، وأنه بالإضافة إلى معرفته التجريبية في شتى شئون الحياة كان يجمع إلى تلك المعرفة اطلاع المثقف على ما لدى الفرس واليونان وغيرهم من الأمم في قواعد الحرب والسلم، وأنه حين كتب رسالته إلى ولي العهد فإنه كان يستمد من التجربة والثقافة معا، ولا ريب في أن الرسائل المنسوبة إلى ارسطاطاليس قد أعطته القالب العام للمشورة في شئون الحرب، حتى أننا لو فرضنا أن الجانب التاريخي في رسالته لم يكن حافزا واقعيا، فإن
__________
(1) يذكر ابن النديم أن رسائل عبد الحميد كانت تجيء في نحو ألف ورقة (الفهرست: 117).
(2) انظر رسائل البلغاء: 173 - 210.
(3) المقالة الثانية: 23، التعليق رقم: 5.

(1/105)


صوغها ؟أنموذجا فيما يمكن أن يتبع في مثل ذلك الموقف - لم يكن لينقصها حظها من الأصالة والفائدة والقيمة العملية.
وتجيء رسالة عبد الحميد في قسمين واضحين: أولهما يتضمن حديثا عن السلوك الأخلاقي الذي يجب أن يتصف به القائد الحربي من جميع الوجهات، والثاني القواعد الحربية التي يجب أن يأخذ بها في جميع المراحل داخل نظام الجيش وعند التعبئة أو الرحيل أو النزول أو خوض المعركة، وقد بلغ من الدقة في هذه الأمور بحيث أصبحت رسالته ركازا لبعض ما كتب في الفن الحربي من بعد. ويبدو أنه في القسم الأول منها خضع لجانب من ثقافته الفارسية كما خضع في بعض جوانب القسم الثاني للثقفة اليونانية، ولكنه سلك في كل ذلك مسلكا بارعا حقا، فأعتمد في الجانب الأخلاقي، الذي يشغل القسم الأول ؟جانب التركيز: " ومن ذلك أن تملك أمورك بالقصد وتصون سرك بالكتمان، وتداوي جندك بالإحسان، وتداوي حقدك بالأنصاف، وتذلل نفسك بالعدل، وتحصن عيوبك بتقويم أودك، وتمنع عقلك من دخول الآفات عليه بالعجب المردي، وأناتك فوقها الملال وفوت العمل، ومضاءتك فدرعها روية النظر واكفها بأناة الحلم؟ " (1) - وهذه وغيرها صفات وجوانب قد عولجت بالتفصيل فيما نقله ابن المقفع عن الفرس في " الأدب الكبير " . حتى إذا تناول القواعد الحربية - وهي القسم الأهم من الرسالة - عالجها بالتفصيل والتحليل، فهذه اقولة المجملة في رسائل أرسطاطاليس " حصن العورة، واضبط الضيعة، وأذك العيون، واجتهد في الاحتراس " (2) تنحل في عدة فقرات، تبدأ كل فقرة بواحدة من هذه النصائح: " حصن جندك (189)؟ ثم أذك عيونك (190)؟ واعلم أن موضع الأحراس (194)؟ " .
وإذا قال ارسطاطاليس: واجعل الحرب آخر أمرك " (3) عانيا بذلك إدراك ما لا بد من إدراكه بالمكيدة بدل الحرب، وجدنا عبد الحميد يقف عند هذه القاعدة في موضعين يقول في أولهما: " اعلم أن الظفر ظفران أحدهما وهو أعم منفعة وأبلغ في حسن الذكر قالة وأحوطه سلامة، وأتمه عافية، وأعوده عاقبة، وأحسنه في الأمور موردا،
__________
(1) رسائل البلغاء: 177.
(2) العامري: السعادة والإسعاد: 332.
(3) السعادة والإسعاد: 325.

(1/106)


وأعلاه في الفضل شرفا، وأصحه في الرؤية حزما وأسلمه عند العامة مصدرا، ما نيل بسلامة الجنود وحسن الحيلة ولطف المكيدة " (1) ويقول في الموضع الثاني " اعلم أن أحسن مكيدتك أثرا في العامة وأبعدها صوتا في حسن القالة ما نلت الظفر فيه بحسن الروية وحزم التدبير ولطف الحيلة " (2) .
وإذا كانت نصيحة ارسطاطاليس في باب المكايد نوعين أولهما: " أدخل المكايد على عسكر عدوك بإفساد مياههم وبإلقاء البذور التي تهلك الدواب في مروجهم " (3) وثانيهما " كاتب أشد قواد عدوك بأسا وأوفرهم نصيحة لعدوك لتوقع وهما في قلب عدوك على صاحبه الناصح له، واعمل على أن يقع كتابك بيد حراس عدوك " (4) ، اختار عبد الحميد المكيدة الثانية وأهمل الأولى لأنها لا تتفق مع عقيدة الدينية، فقلب في ذلك: " وكاتب رؤساءهم وقادتهم وعدهم المنالات ومنهم الولايات وسوغهم التراث، وضع عنهم الإحن، واقطع أعناقهم بالمطامع، واستدعهم بالمثاوب، واملأ قلوبهم بالترهيب، أن أمكنتك منهم الدوائر وأصارتهم إليك الرواجح، وادعهم إلى الوثوب بصاحبهم أو اعتزاله إن لم يكن لهم بالوثوب عليه طاقة، ولا عليك أن تطرح إلى بعضهم كتبا كأنها جوابات كتب اليهم، وتكتب عل ألسنتهم كتبا تدفعها إليهم، وتحمل بها صاحبهم عليهم وتنزلهم عنده منزلة التهمة ومحل الظنة؟ " (5) .
ومن الطريف أن هذا المبدأ الذي تتضمنه الرسائل المنحولة لأرسطاطاليس قد ورد أيضا في نصوص سياسية منحولة لأفلاطون، فلدينا ثلاثة عهود يقال إنها مستخرجة من رموز كتاب السياسة لأفلاطون من تأليف أحمد بن يوسف المشهور بابن الداية (حوالي 340/951) وقد جاء في العهد الأول منها: " وينبغي أن تسلك في مجاهدة من أعرق في الرياسة واضطلع بتدبير المدن أن قصدك غير هذا المسلك من بث الجواسيس في عسكره وإظهار الكتاب على ألسنة خواصه بطلب الأمان منك، وتضمنها ما صح عندك من
__________
(1) رسائل البلغاء: 189.
(2) رسائل البلغاء: 209.
(3) السعادة والإسعاد: 333 وسر الأسرار: 150 ومخطوطة كوبريلي: 88.
(4) السعادة والإسعاد: 334.
(5) رسائل البلغاء: 209.

(1/107)


أسراره، ولتحمل هذا جواسيسه اليه فيضطرب أمره ويرتاب بمن كان يثق به، ومكاتبة من قدرت إجابته من جيشه من كاف حزم؟ " (1) .
وإذا تحدث ارسطاطاليس عن نوع السلاح الذي به تؤخذ الأهبة على نحو موجز: " وربما احتاج إلى آلات يقابل بها مكايد العدو كمنجنيق ينصب بازاء منجنيق وعرادة إزاء عرادة " (2) ، وجدنا عبد الحميد يطيل في هذه الناحية ويتفنن في وصف ضروب الأسلحة اللازمة في موضعين من رسالته، وبحسبنا هنا للتمثيل أن نقتبس جزءا مما جاء في الموضع الأول: " وخذهم من السلاح بأبدان الدروع ماذية الحديد، شاكة النسج، متقاربة الحلق، متلاحمة المسامير، وأسوق الحديد مموهة الركب، محكمة الطبع، خفيفة الصوغ، وسواعد طبعها هندي وصوغها فارسي، رقاق المعاطف بأكف واقية وعمل محكم، وبلق البيض مذهبة ومجردة، فارسية الصوغ، خالصة الجوهر، سابغة الملبس، واقية الجنن، مستديرة الطبع، مبهمة السرد وافية الوزن؟ معهم السيوف الهندية وذكور البيض اليمانية رقاق الشفرات مسمومة الشحذ غير كليلة الحد، مشطبة الضرائب معتدلة الجواهر صافية الصفائح لم يدخلها وهن الطبع ولاعابها أمت الصوغ؟ الخ " (3) . ودقة عبد الحميد هنا ؟كما هي في غير موطن - دليل على مبلغ معرفته التجريبية، كما أنها قد تشير إلى ابتهاجه بإظهار تلك المعرفة.
وفي النظرة إلى العدو يورد أرسطاطاليس هذه النصيحة: " ضع أمر عدوك على أن في الدرجة العليا من القوة ثم عامله بقدر ذلك، واقصده من قبل أن يطول وارتق الفتن قبل أن يتمكن من فاتقه " (4) ويقابل هذا عند عبد الحميد: " معظما أمر عدوك لأكثر مما بلغك حذرا يكاد يفرط لتعد له من الاحتراس عظيما ومن المكيدة قويا " (5) .
غير أنه لا يفوتنا أن كثيرا من هذه القواعد الحربية كان قد اصبح متأثلا في كل أمة، بحيث يمكن أن يكون التشابه فيها أقل من الفروق التي تصلح لأمة دون أخرى،
__________
(1) الأصول اليونانية للنظريات السياسية: 31.
(2) السعادة والإسعاد: 326.
(3) رسائل البلغاء: 196 وانظر الموضع الثاني : 207
(4) السعادة والإسعاد: 332 وسر الأسرار: 83 ومخطوطة كوبريلي: 83.
(5) رسائل البلغاء: 191.

(1/108)


فمبدأ تجنب القتال ؟ما كان إلى ذلك سبيل - أمر نجده أيضا عند الفرس، إذ ينقل ابن قتيبة عن الآيين: " ولا يحاربن جندا إلا على اشد الضرورة، وعلى حال لا يوجد معها من المحاربة بد " (1) ثم ينقل المؤلف نفسه نصيحة بهذا المعنى عن كتاب للهند " الحازم يكره القتال ما وجد بدا، لأن النفقة فيه من الأنفس، و النفقة في غيره من المال " (2) . أما طرح الحسك في المواضع التي يتخوف فيها البيات فإنه يكاد يكون خطة عامة (3) ، وقد نجد عبد الحميد يقول: " ثم ول على كل مائة رجل منهم رجلا من أهل خاصتك " (4) ، ونجد سابور يقول لابنه هرمز " اجعل على كل مائة رئيسا " (5) ، ثم لا يكون هذا التشابه إلا تعبيرا عن قاعدة حربية أصبحت عامة لا يتميز فيها الفرس عن العرب ولا يستقل فيها هؤلاء دون اليونان، ولهذا فإن ميزة رسالة عبد الحميد ليست في هذه المشابه بمقدار ما هي في قدرته على توجيه القواعد العسكرية بحيث تلائم جيشا إسلاميا يحارب جيشا آخر، يعتقد أصحاب الأمر أن الجند فيه من الخوارج " المتسمين باسم الإسلام " ، ولهذا لن نجد عند عبد الحميد حديثا عن مدى متابعة العدو عند الهزيمة أو حديثا عن الغنائم أو ما أشبه ذلك. ولكن مهما يكن من شيء فإن ميل عبد الحميد إلى التفنن والأصالة لم يستطع أن يحجب مقدار حركته في الإطار الثقافي الموجود لدى الفرس واليونانيين.
__________
(1) عيون الأخبار 1: 113.
(2) عيون الأخبار 1: 112 وهذا القول في كليلة ودمنة: 156 (وقارن بما ورد ص: 84) وفي وصايا أسطاليس، انظر السعادة والإسعاد:325 .
(3) عيون الأخبار 1: 113 .
(4) رسائل البلغاء: 207 ، وهذا المثل نفسه قد جعل الدكتور طه حسين يستدل على ان عبد الحميد كان متأثرا لا باليونانية وحدها بل بما كان مألوفا عند اليونان لأن الوحدة الصغرى في الجيش البيزنطي كانت تتألف من مائة (من حديث الشعر والنثر: 45 - 46).
(5) السعادة والإسعاد: 331.

(1/109)


فراغ

(1/110)


" 7 "
معارضة مراثي الحكماء للاسكندر
في الأدب العربي
لم يكن موقف عبد الحميد إلا نموذجا واحدا من اعتماد الرسالة الأدبية على المادة اليونانية إلا أنه نموذج هام لسببين: أولهما حدوثه في دور مبكر من تاريخ الكتابة العربية، وثانيهما أنه يمثل تأثرا مباشرا لا محض تأثر مستمد من العيش في جو ثقافي عام، كما قد يحدث في العصور التالية، وحين نفرض أنه ليس المثل الوحيد، فإننا نرجو أن نعالج استمراره ؟في القالب الرسائلي - في غير هذا الموضع، ولكن حسبنا الآن ونحن نعرض نماذج من التأثر أن ننقل إلى صورة أخرى، تعتمد المحاكاة وسيلة لها، والمحاكاة في العادة لا تكون ظاهرة مرموقة إلا لقوة الأنموذج وتميزه. وتقف قصة الاسكندر في جوانب مختلفة منها نموذجا قويا يصلح للمحاكاة وخاصة لدى أبي سليمان المنطقي وتلامذته وأصحابه، وربما كانت ثمة قصص أخرى تفرض نفسها بقوة الأنموذج ولكنها لم تجد ناقلا شغوفا بالنقل عامة، وبقل الحكمة والفلسفة بخاصة، مثل التوحيدي. ونقف من هذه القصة عند نموذجين:
1 - أولهما قول الأسكندر وقد سئل: أيهما أحب اليك أبوك أو معلمك؟ فقال: معلمي ؟يعني ارطاطاليس - لأن والدي كان سبب كوني القريب وارسطاطاليس كان سبب تجويد كوني (1) . وفي رواية أخرى، قيل له إنك تعظم معلمك أكثر من تعظيمك
__________
(1) صوان الحكمة: 147 (ط. طهران)، والمنتخب: 51.

(1/111)


والدك فقال: لأن أبي كان سبب حياتي الفانية ومؤدبي سبب حياتي الباقية (1) .
ففي هذا القول تجاوز ؟لا يعدم تسويغا - لذلك النص الصريح في الدين على حق الوالدين، واقتران طاعتهما بطاعة الله تعالى، وها هنا نحن نجد مقارنة بين المؤدب والأب، وتميزا بينهما في المفاضلة، ولكن لا بد من أن نقر هنا بأن الآيات القرآنية تنص على شيئين هما الطاعة والرفق ثم ما يتبع من بر وحدب، بينا تقوم النظرة المنسوبة للأسكندر على الإجلال والتعظيم. وقد كان هذا الجواب، حافزا قويا لعدد من مثقفي القرن الرابع يحاكموه، فهو نموذج بارز من الإجابة إلا أنه لا يزال يفسح مجالا لوجهات نظر أخرى، وقد تناوله كل من أبي زكريا الصيمري وأبي سليمان المنطقي والنوشجاني وأبي محمد الأندلسي (2) بالإعجاب الذي لا يحول دون إبداء الموقف الذاتي، ولهذا عبر كل منهم عن نظرته الفكرية لو أن السؤال وجه إليه:
فقال الصيمري: لو قيل لي هذا لقلت: لأن أبي كان قضى وطرا بالطبيعة فعرضت، ومعلمي يفجر من أجلي أوطارا فكملت به (3) .
وقال المنطقي: لو قيل لي هذا لقلت: لأن ابي أفادني الطبيعة التي انطلقت علي بالكون والفساد، ومؤدبي أفادني العقل الذي به انطلقت إلى ما ليس فيه كون أو فساد.
وقال النوشجاني: لو قلت أنا لقلت: لأن أبي كونني بالعرض، ومعلمي زينني في كوني بالعرض.
وقال الأندلسي: لو قلت أنا لقلت: لأن أبي قيدني فأوثق، ومعلمي حل قيدي وأطلق.
__________
(1) المصدر السابق: 159 (طهران) وأورد هنا القول السابق برواية " سبب حياتي؟ سبب تجويد حياتي " . وانظر محاضرات الراغب 1: 25 والتمثيل والمحاضرة: 137.
(2) جميع هؤلاء يتردد ذكرهم في مؤلفات أبي حيان التوحيدي، ويمكن تصورا آرائهم ومواقفهم من تلك المؤلفات، ولهذا أعتقد أن هذا القول من منقولات أبي حيان نفسه، ويمثل الأندلسي بينهم الثقافة اللغوية النحوية، مع ملابسة للفلاسفة الذين حول أبي سليمان، وقد تحدث عنه أبو حيان في عدة مواطن: انظر المقابسات: 95، 96، 126 ومثالب الوزيرين: 260 والبصائر 2: 591 وفي هذا الأخير قال إنه توفي سنة 375 ببغداد، وهذا قد يحدد تاريخ الأنموذج الذي حاكى المفكرون فيه قولة الأسكندر.
(3) كذا وهو قلق في معناه، والنص مضطرب في أصل المنتخب.

(1/112)


2 - النموذج الثاني ؟وهو أقرب إلى جو الأدب من النموذج السابق - مستمد من موقف المفكرين عند تابوت الاسكندر، فهناك رواية تقول ؟وليس هنا موطن البحث في قيمتها التاريخية - إن الأسكندر توفي في أرض العراق ثم نقل إلى الإسكندرية ليدفن فيها، وقد تجمع عدد من الفلاسفة والحكماء عند قبره، وقال كل منهم قولة في تأبينه إذ طلب إليهم عظيمهم أن يقول كل واحد منهم قولا " يكون للخاصة معزيا وللعامة واعظا " (1) .
وقبل أن أتحدث عن قوة هذا الأنموذج وما أثاره لا بد من وقفة عند هذه الأقوال نفسها، فهي ؟فيما يبدو - قد ترجمت في دور مبكر، تم ذلك قبل عهد حنين بن اسحاق، وربما أمكن نسبتها إلى أيام سالم وجهوده هو ومن حوله في الترجمة. وتثير هذه الأقوال عددا من الأسئلة حولها، وفي مقدمة هذه الأسئلة: كم كان عددها عندما ترجمت أول مرة؟ إنه لم يتح لي الإطلاع على نوادر الفلاسفة لحنين، ولكن اليعقوبي لا يورد منها إلا تسعة، ثم نجدها عند سعيد بن البطريق اثنين وثلاثين، وعلى نحو مقارب عند المسعودي والثعالبي، ومع أن المبشر بن فاتك يورد منها أربعة عشر، فإنه يوضح أنه لم يوردها جميعا: " وقال جماعات أخر من الناس من الحكمة والموعظة مثل ما قال هؤلاء، وحذفته اختصارا، وقد أوردته وباقي أخباره في تاريخي الكبير مستوفى على تمامه " (2) .
وهناك نصان يعتمدان أصلا واحدا هو " صوان الحكمة " ، الذي يقترن باسم المنطقي وهما منتخب منه، ومختصر له، وعدد هذه الأقوال في المنتخب خمسة، وفي المختصر ثلاثة وعشرون، وقد يقال إن صانع المنتخب حذف ما شاء على أساس الانتقاء، ولكن التوحيدي وهو تلميذ أبي سليمان وصاحبه المرافق له في فترة غير قصيرة من حياته يقول ان الحكماء الذين تحدثوا حول تابوت الاسكندر كانوا عشرة (3) ، فهل قيد التوحيدي هذا
__________
(1) مروج الذهب 2: 10 - 12، واجتماع عدد من الفلاسفة وتبادلهم الأقوال في موضع ما، شائع فيما نقل من صور الفكر اليوناني، انظر مثلا مخطوطة كوبريللي: 16 حيث يذكر أن سبعة من الحكماء اجتمعوا في بيت الذهب فقالوا نريد أن نذكر أشياء من الحكمة؟الخ.
(2) مختار الحكم: 241.
(3) أبو شجاع: ذيل تجارب الأمم، 75نقلا عن كتاب الزلفة لأبي حيان.

(1/113)


قبل أن يعرف أبا سليمان؟ وهل ظل يجهل أن لأستاذه كتابا يسمى " صوان الحكمة " بحيث لا نراه يقف عنده أو يسميه أبدا؟ إن العدد الذي يورده التوحيدي لا يختلف كثيرا عن ما ذكره اليعقوبي، وربما كان هذا الرقم يشير إلى عدد تلك الحكم في القرن الثالث، حتى إذا كان القرن الرابع أصبحت هذه الحكم تزيد على الثلاثين، فإذا رجعنا إلى مخطوطة كوبريللي (1608) وهي متأخرة كثيرا ففي تاريخها ؟وجدنا هذه الأقوال قد بلغت ثلاثة وخمسين قولا، فكيف نفسر هذه الزيادة المطردة؟ قد يكون سبب ذلك تعدد المصادر التي أخذت عنها تلك الأقوال واختلافها فيما تورده منها، وفي مخطوطة كوبريللي ما يفيد الاعتماد على نسختين سابقتين تنفرد إحداهما بعدد من الأقوال لا يرد في الأخرى، وهذا يؤدي إلى الافتراض بأن الترجمة المبكرة لهذه الأقوال قد خلفتها ترجمة أو ترجمات متوالية أضافت كثيرا إلى النواة الأولى، ولعل المقارنة بين أبن البطريق والمسعودي ؟وهما متعاصران - يوضح هذا الخلاف في الأصول المعتمدة، فالأقوال متقاربة في العدد إلا أن ابن البطريق ربما كان يعتمد مصدرا سريانيا، ولهذا فإن المؤرخين لا يتفقان إلا في اثني عشر قولا مما يوردانه، ثم ينفرد كل منهما في سائرها. وقد عثر الأستاذ بروك على صورة سريانية من هذه الأقوال وجدها أقرب إلى ما أورده ابن البطريق والمكين وأبو شاكر مما هي إلى ما أوردته المصادر العربية (1) ، وإذا تقدمنا خطوة أخرى في المقارنة واتخذنا المسعودي والثعالبي محورا لها، وجدنا التقارب في العدد موجودا إلا أن الاتفاق لا يتعدى أحد عشر قولا، ينما ينفرد الثعالبي عن سائر المصادر، لا عن المسعودي وحده، في ثمانية عشر قولا لا يشاركه في بعضها إلا مصدر متأخر عنه مثل زهر الآداب لعله ينقل عنه أيضا. فهل نقول إن الثعالبي يعتمد مصدرا فارسيا قد تفرد في أكثر ما أورده من تلك الأقوال؟ أن تعدد المصادر واختلافها أمر محتمل، بل لعله السبب الأهم لا في تفسير الزيادة المطردة وحسب، بل في الخلافات الواردة في صياغة
__________
(1) S. P. Brock: The Laments of the Philosophers over Alexander in Syriac، Journal of Semitic Studies 15 (1970) PP. 205 - 218، cf. P. 207.
أما الصورة السريانية المشار إليها فأنها محفوظة في:
Mingana Syr. 47، f. 267
وقد وجدت المخطوطة في ألقش قرب الموصل، وتاريخ نسخها حديث (1907).

(1/114)


بعض النصوص المشتركة (1) ، غير أن لهذه الخلافات نفسها أسبابا أخرى منها اختلاف المترجمين وتفاوتهم في الميل إلى " تعريب " الأسلوب المنقول، ويبدو أن مثل هذا الميل كان موجودا في الدوائر الأدبية، وأنه كان أحيانا يعمي الأصل وينقل القول المترجم إلى حيز جديد، وهذه ظاهرة ستعالج على نحو مفصل تال. أما هنا فيكفي أن أقول: إن من قبيل هذا الانسياق وراء أضواء الأسلوب ؟في الحالين - ورود القول التالي على صورتين أسلوبيتين متفاوتتين:
المسعودي: يا عظيم السلطان اضمحل سلطانك كما اضمحل ظل السحاب ؟وعفت آثار مملكتك كما عفت آثار الرباب.
صوان الحكمة: ما كنت إلا ظل سحاب اضمحل، لما أظل، فما نحس لملكك أثرا ولا نعرف له خبرا.
فالتصرف الأسلوبي في العبارتين واضح ومقصود، والمعنى الأساسي واحد.
ومن صور التصرف اليسير في الترجمة دون محاولة لرفع المستوى البلاغي، ما يتصل بتلك القولة التي تومئ إلى أن الأسكندر وضع في تابوت من ذهب، وأن المفارقة قد تمت، بين الحياة والموت، فهو في الحياة كان يخزن الذهب، وفي حال الموت أصبح الذهب " خازنا " لجسده.
ابن البطريق: كفى بهذا عبرة أن الذهب كان بالأمس كنزا للأسكندر فأصبح الأسكندر اليوم بالذهب مكنوزا.
المسعودي: هذا الإسكندر الذي كان يخبأ الذهب فصار الذهب يخبأه.
الثعالبي: ما زال الإسكندر يكنز الذهب حتى كنزه الذهب الآن.
المبشر: كان الإسكندر يكنز الذهب والفضة ويصونه، والآن أصبح الذهب يصونه ويكنزه.
__________
(1) أشار الأستاذ روزنتال إلى الاختلاف في نصوص تلك الأقوال، انظر:
The Classical Heritage، P. 121
واختار من بينها نص الثعالبي وترجمه.

(1/115)


الحصري: كان الملك يخبأ الذهب، وقد صار الآن الذهب يخبؤه.
آيا صوفيا: كنت بالأمس للذهب جامعا واليوم الذهب قد جمعك.
فهذه ستة أقوال تختلف في الصياغة اختلافا يقل أو يكثر، فأما أن يكون اختلافا ناشئا عن الترجمة نفسها وإما أن يكون ناشئا عن الرواية بالمعنى دون التقيد الدقيق في الألفاظ، والأمر الثاني مألوف بكثرة.
على أن تزايد تلك الأقوال واختلافها ؟وهما أمران مقترنان أحيانا - إنما نجما عن نوع من الوضع، غير متعمد، فهؤلاء المؤرخون الذين رووا هذه الأقوال لم يحاولوا الكذب، ولكن الحمل على المعنى جعل نوعا مما أثبتوه يشبه الوضع عن حسن نية: مثل ذلك جميع تلك الأقوال التي تقع بين قطبي: كان؟ فصار، فإذا كانت الجملة الأصلية المقولة عند تابوته مثلا: طان آسرا فصار أسيرا، فمن السهل في الرواية على المعنى أن تجيء في صور مختلفة " ناطقا صامتا، قاتلا مقتولا، غالبا مغلوبا، مرتفعا متضعا، قاهرا مقهورا، ؟الخ (1) بل من السهل أن يتم التصرف في هذا المعنى على صيغ أخرى تبتعد عن التقابل ين طرفي المفارقة، وكل هذا عند رواته لا يعني كذبا في الوضع لأنه يظل ينقل روح المعنى المراد، ومما يقارب ذلك معنى " العظة " بالموت، فإن إيرادها في صور مختلفة يحمل معنى الوضع غير المتعمد كما يجمع إلى ذلك أحيانا وهما في حقيقة المعنى الأصلي أو نسيانا له إذا كانت الرواية من الذاكرة، فمن تلك الصور:
المسعودي: قد كنت لنا واعظا فما وعظتنا موعظة أبلغ من وفاتك.
ابن البطريق: لا تعجبوا ممن لم يعظنا في حياته ثم قد صار بموته لنا واعظا.
فنحن نرى هنا أن المسعودي قد ناقض ابن البطريق إذ زعم الأسكندر كان واعظا للناس في حياته بينا هو عند ابن البطريق لم يفعل ذلك، ثم ان ابن البطريق نفسه تحدث عن هذه العظة في قولتين أخريين، مؤدى إحداهما أن العامة تتعظ بموت الملوك كما أن الملوك يتعظون بموت العامة (رقم 43 في الملحق) وأن الإسكندر ما اتعظ بعظة أبلغ من وفاته (رقم 44) وهما يمثلان تفريعين صغيرين على الأساس الأول لهذه الحكمة،
__________
(1) انظر الأرقام: 31، 41، 52، 54، 88، 118 في الملحق: 2.

(1/116)


ويورد الثعالبي تفريعا آخر عند المقابلة بين النطق والعظة: قد كنت أمس أنطق وأنت اليوم أوعظ (رقم: 58) ثم نجد لدى الشهرستاني انطلاقة جديدة ينكر فيها وعظ الإسكندر للناس في حياته (كما هي الحال عند ابن البطريق) ولكنه وعظهم في مماته، إلا أن الجديد هنا أن عدم الوعظ كان اختيارا وأن الوعظ كان اضطرارا (رقم: 80)، هل كل هذه الأقوال ترجع إلى أصل واحد؟ يبدو أن الأمر كذلك، ولكن استغلال المعنى الواحد من عدة أنحاء يدل على البراعة أيضا، وأن هذا النوع من التشقيق مبني على الأصل.
وشبيه بهذا التفريع تولد داخلي أعانت عليه نزعة أخلاقية زهدية دينية تتحرك بقوة في موقف الموت، وليس من الضروري أن يتم ذلك على أيدي الرواة العرب بل لعلهم وجدوه في الرواية المسيحية السريانية فنقلوه على حاله، أو بشيء يسير من التغيير، ولا نكران في أن كثيرا من هذه الأقوال إنما حور عن أصله ؟أو وضع أصلا - ليلائم بعض المشاعر الدينية التي تزهد في الدنيا أو تؤمن بالبعث، والأقوال التالية أمثلة على ذلك:
1 - أعجب لمن كانت هذه سبيله كيف شرهت نفسه بجمع الحطام البائد والهشيم الهامد (الملحق: 15).
2 - إن دنيا يكون هذا آخرها فالزهد فيها أولى أن يكون في أولها (24).
3 - هذه طريق لا بد من سلوكها فارغبوا في الباقية كرغبتهم في الفانية (34).
4 - ما أرغبنا في ما فارقت وأغفلنا عما عانيت (82).
5 - خرجنا إلى الدنيا جاهلين وأقمنا فيها غافلين ونخرج عنها كارهين (89).
6 - قل للملوك ليس بعد الحياة إلا الموت، ولعل ما بعد الموت أشد من الموت (96).
7 - قل للملوك ما الحياة بثقة فيرجى غدها ولا الموت بغابر فيؤمن يومه (97).
8 - لو كان له يقين لم ينصب نفسه لجمع ما تخلف عنه (107).
وحين يصرح المسعودي بأن القول الثاني إنما صدر عن أحد نساك الهند، فإنما ذلك إشارة إلى هذا الوتر الزهدي القوي الذي يتخلل أقوال أولئك الحكماء.

(1/117)


ولعل جانبا من هذا التكاثر قد تم بالنقل المعاكس فنحن نعرف مثلا صلة أبي العتاهية بهذه الأقوال ؟وذلك ما سيتم توضيحه في فصل تال - ولكن يبدو أن بعض أسباب الوصل بين أقوال الحكماء وأبي العتاهية إنما تمت بطريق معاكس، فأبو العتاهية هو الذي يقول " لدوا للموت وابنوا للخراب " وبسبب من تلك الصلة يعكس الأمر، وينقل قول أبي العتاهية ويدرج بين أقوال الحكماء على أنه لواحد منهم ويصبح: " الآن علمت أنك ولدت للموت وبنيت للخراب " (1) . كذلك حدث ؟فيما أعتقد - في كثير من صور الرثاء المألوفة عند العرب مثل:
1 - انظروا كيف خر الطود الشامخ ونضب البحر الزاخر وسقط القمر الطالع (74)
2 - قد كان هذا الأسد يصيد الأسود والآن وقع في الحبالة (59)
3 - انظروا إلى حلم النائم كيف انقضى وإلى ظل الغمام كيف انجلى (17)
ولن يغيب عن التأمل في هذه الأقوال وجود تيارين متضاربين فيها: أحدهما مليء بالأسف على الأسكندر وعلى العظمة التي زالت والقوة التي تلاشت، والثاني حافل بالشماتة والتقريع (2) ، ومهما نحاول أن نقول إن الروح الزهدية التي تقؤع من يجمع المال للوارث (3) ، وتتحدث كثيرا عن الأجل والأمل (4) وتشجب السعي الدائب من أجل الدنيا (5) ، هي المسئولة عن ذلك فإنها لا تكفي وحدها لتفسير التيار الثاني، خصوصا وان الإسكندر لدى المسلمين لم يكن محض ملك، ولا عد جبارا في الأرض، وإنما كان لدى الكثيرين هو ذا القرنين الذي اضطلع بعبء الإصلاح (6) ، فهل هناك عامل آخر ؟أو عوامل أخرى ساعدت النزعة الزهدية على إبراز جانب التقريع والشماتة في تلك الأقوال؟ حقا إننا نجد هذا التيار في الصور المبكرة عند ابن البطريق والمسعودي مثل: " أيها الساعي المغتصب جمعت ما خذلك؟الخ (رقم: 6 في الملحق)، ولكن
__________
(1) انظر رقم 73 وهو مما انفرد به الثعالبي وقد أشار إلى أن أبا العتاهية أخذ قوله منه. انظر غرر السير: 453، 455.
(2) لحظ ذلك الأستاذ غرنياسكي، انظر مقالته الأولى: 229، 231.
(3) انظر رقم 100، 113 في الملحق: 2.
(4) رقم : 5 في الملحق: 2.
(5) رقم: 104 في الملحق: 2.
(6) انظر مقالة غرنياسكي الأولى ص: 230.

(1/118)


الأقوال الدالة على الشماتة ؟في هذه الفترة - تظل أضعف بكثير من الأقوال التي تدل على الأسف، حتى نصل إلى الثعالبي، فنجدها قد ازدادت كثيرا، وهناك نقرأ:
1 - كل يحصد ما يزرعه فاحصد الآن ما قد زرعت (60)
2 - استرحت من أشغال الدنيا فانظر كيف تستريح من أهوال الأخرى (62)
3 - ما ينبغي لك ذلك التجبر أمس مع كل هذا الخضوع اليوم (1) (57)
4 - ما كان أغناك عن إماتة الخلق الكثير مع موتك هذا السريع (63)
5 - دخلت الظلمات لطلب نور الحياة ولم تعلم أن مصيرك إلى ظلمة التابوت (68)
فهذه الأقوال وغيرها ؟مما انفرد به الثعالبي - تقوي الظن بأنها وليدة بيئة فارسية، كان رضاها عن الأسكندر المغتصب، الذي سيحصد ما زرع ويلقى جزاء جبروته أقل بكثير من رضى الروايات الأخرى مسيحية كانت أو إسلامية. إلا أن هذه الروح في الرواية الفارسية قد وجدت من بعد عونا من النزعة الزهدية العامة. ويقف القول الخامس فيما تقدم عن دخول الظلمات وطلب نور الحياة فريدا، وذا دلالة على محاولة استخراج تلك الأقوال من التحركات التاريخية للإسكندر نفسه (أو على الأقل محاولة لاستخراجها من قصته تاريخية كانت أو أسطورية).
ومما يجب أن نلحظه في تلك الأقوال تسمية بعض قائليها وإغفال أكثرهم، واضطراب المصادر في أسماء المذكورين منهم، ونسبة القول لغير واحد، مما لن أحاول الوقوف عنده، بعد إذ أصبح ظاهرة تكاد تكون طبيعية في مثل هذه الأقوال. ولكن مما يلفت النظر أن اليعقوبي والمسعودي والمبشر بن فاتك لا يذكرون أسماء القائلين، ولعلهم كانوا على وعي بالخطأ التاريخي في جمع عدد من الأشخاص لا يجمعهم زمان، ولا يتأتى جمعهم في مكان، حول تابوت الإسكندر، ثم نجد ابتداء من المسعودي أنهم لم يكونوا جميعا من حكماء يونان بل كان فيهم بعض حكماء الهند ونساكها، وأنهم أيضا لم يكونوا جميعا من طبقة الفلاسفة والحكماء، وغنما كانوا يضمون صاحب مائدة الإسكندر وصاحب بيت المال وأحد الخزان (إلا أن يكون هؤلاء أيضا كانوا حكماء) كما برزت بينهم
__________
(1) انظر التعليق على هذه العبارة في الملحق (رقم: 75) حيث ترد العبارة في مخطوطة كوبريللي والحصري على نحو أكثر قسوة في الشماتة.

(1/119)


زوجة روشنك وأمه. ومن الطريف أن القول المنسوب إلى زوجته قد ألمح إلى تلك الشماتة التي تحدث عنها آنفا: " وأن كان هذا الكلام الذي سمعت منكم معاشر الحكماء فيه شماتة فقد خلف الكأس الذي تشرب به الجماعة " (1) .
وتستحق القولة المنسوبة إلى أم الأسكندر وقفة خاصة، لتباينها في المصادر على نحو واضح:
1 - ابن البطريق ومخطوطة كوبريللي (2) : قد بالغتم في التعزية والذي كنت أحذره على الأسكندر قد صار إليه، فلم يبق له ملك ولا عليه، فليكثر في الدنيا زهدكم وأعطوا الحق من أنفسكم، فقد قبلت تعزيتكم.
2 - اليعقوبي ومختصر الصوان والمبشر (3) : العجب يا بني لمن بلغت السماء حكمته وأقطار الأرض ملكه ودانت له الملوك عنوة كيف هو اليوم نائم لا يستيقظ وساكت لا يتكلم، فمن ذا يبلغ الإسكندر عني فيعظم حباؤه مني وتجود منزلته عندي بأنه وعظني فاتعظت وعزاني فتعزيت وصبرت، ولولا أني لاحقة به ما فعلت، فعليك السلام يا بني حيا وميتا فنعم الحي كنت ونعم الهالك أنت.
3 - مروج الذهب: لئن فقد من ابني أمره فما فقد من قلبي ذكره (4) .
4 - الثعالبي: يا بني قد كنت أرجوك وبيني وبينك بعد المشرقين وقد أمسيت منك الآن وأنت أقرب إلي من ظلي.
فإذا كان كل قسم من هذه الأقسام يمثل مجموعة من الروايات، فإن المجموعة الأولى
__________
(1) الملحق 2 رقم: 29 ونصه عند ابن البطريق: " أن كان منطقكم في الأسكندر باستهزاء فقد خلف الكأس التي نشربها معكم ولكلكم فيها ارواء (ص: آراء) وان كان تعزيه وبكاء فاستعدوا للجواب وأعدوا الحجة فإن مما ذاق ستذوقون فليكن العمل على حسب القول فأنكم غير آمنين " (ص: 84).
(2) تاريخ ابن البطريق: 84 - 85 ومخطوطة كوبريللي، الورقة: 4.
(3) تاريخ اليعقوبي 1: 145 ومختصر الصوان: 30 ومختار الحكم: 241 وأثبت رواية الثالث، وهناك اختلاف جزئي عنها لدى اليعقوبي ومختصر صوان الحكمة.
(4) الملحق 2 رقم: 30.

(1/120)


تتمشى وروح الزهد العامة في الأقوال، كما أن الثالثة والرابعة أوجز من أن تنسب إلى أم ثاكلة. وتتميز المجموعة الثانية بأنها قد جمعت جانبا غير قليل مما نثر في الحكم، مع الإلحاح على تذرع الأم الثاكلة بالصبر والعزاء، وإذا وضعناها إلى جانب قولة أخرى أوردها المبشر بن فاتك نفسه وجدنا الانتقال من الصبر إلى الجزع واضحا تماما حيث يرد على لسانها " قد ولت الدنيا عني، وهد الموت ركني، وأذعنت بحلول الزوال علي، والدوام لبارئ الكل الحي الذي لا يموت ولا يزول ولا يفنى. وكل مرضعة فللموت تربي، وللفناء تغذو وإلى الثكل تصير، فما العوض من فراق الحبيب وثمرة القلب ومنى النفس!! ما أرى أن في الدنيا وطنا ولا مقرا بعد هلاكه إلا بأن أهيم مع الوحوش إلى أن يكرمني الله باللحوق بدار الحبيب " (1) ، ومن تأمل هذه الاختلافات في الأقوال المنسوبة لأم الأسكندر أدرك أنها تمثل مواقف مختلفة، بحسب نفسيات الذين كانوا يتصورون أنا تشهد تابوت ابنها وبحسب تفاوت أمزجتهم وانتماءاتهم.
لقد أطلت القول بالحديث عن أقوال الحكماء لأنها اكتسبت أهمية لا في تاريخ الأدب العربي وحسب بل في الأدب السرياني والفارسي والتركي، وشاعت في الغرب منذ القرن الثاني عشر الميلادي (2) ، ولست أنوي أن أتحدث هنا عن ما تركته من أصداء غير مباشرة في الأدب العربي، فقد بان من الأمثلة السابقة مدى التلاقي ؟اطرادا وعكسا - بين هذه الأقوال وبين المرثية العربية، وإنما أكتفي بعرض صورة واحدة تمثل دور المحاكاة، - بقوة الأنموذج - كما أوضحت في مطلع هذا الفصل، وهذا يقضي عودة إلى مدرسة أبي سليمان المنطقي، ومؤرخها المخلص أبي حيان التوحيدي.
وتتصل المناسبة بوفاه عضد الدولة الذي ينعته أبو سليمان المنطقي بالملك السعيد (3) ، وقد كان هذا الملك يرعى أبا سليمان ويفضل عليه، ولهذا نجده يقول بعد وفاته: " من يذكرني وقد مضى الملك ؟رضوان الله عليه - ومن يخلفه في مصلحتي ويجري على عادته معي، ومن يسأل عني ويهتم بحالي، هيهات! فقد والله بالأمس من يطول تلفتنا إليه ويدوم تلهفنا عليه ؟إن الزمان بمثله لبخيل - كان والله شمس المعالي وغرة الزمن وحامل الأثقال وملتقى القفال ومحقق الأقوال والأفعال؟ " (4) " ، ويبدو أن فضل عضد الدولة
__________
(1) مختار الحكم: 242.
(2) انظر التوحيدي: الامتناع والمؤانسة 2: 116.
(3) انظر التوحيدي: الامتناع والمؤانسة 2: 116.
(4) الامتناع 1: 30.

(1/121)


لم يقف عند أبي سليمان، وإنما عم رجال مدرسته، ولهذا لا يستغرب أن يقف أولئك الفلاسفة وعهم أساتذتهم ؟أبو سليمان - يؤبنون عضد الدولة على نحو ما فعل الحكماء عند تابوت الإسكندر، وعلى ضوء المناسبة نستطيع أن نحدد تاريخ الأقوال لاتصالها بوفاة عضد الدولة (أي سنة: 372/982) وتلك الأقوال قد ذكرها أبو حيان في كتاب الزلفة ؟وهو من كتبه التي لم تصلنا حتى اليوم - فقال: " لما صحت وفاة عضد الدولة كنا عند أبي سليمان السجستاني، وكان القومسي حاضرا والنوشجاني وأبو القاسم غلام زحل وابن المقداد والعروضي والأندلسي والصيمري، فتذكروا الكلمات العشر المشهورة التي قالها الحكماء العشرة عند وفاة الإسكندر " (1) . وكان الذي اقترح عليهم محاكاتها هو الأندلسي فاستحسن أبو سليمان اقتراحه، وكان أول القائلين، ثم توالى بعده أصحابه على الترتيب الآتي:
1 - المنطقي: لقد وزن هذا الشخص الدنيا بغير مثقالها وأعطاها فوق قيمتها، وحسبك انه طلب الربح فيها فخسر روحه في الدنيا.
2 - الصيمري: من استيقظ للدنيا فهذا نومه، ومن حلم بها فهذا انتباهه.
3 - النوشجاني: ما رأيت غافلا في غفلته ولا عاقلا في عقله مثله، لقد كان ينقض جانبا وهو يظن أنه مبرم، ويغرم وهو يرى أنه غانم.
4 - العروضي: إما إنه لو كان معتبرا في حياته لما صار عبرة في مماته.
5 - الأندلسي: الصاعد في درجاتها إلى سفال، والنازل من درجاتها إلى معال.
6 - القومسي: من جد للدنيا هزلت به، ومن هزل راغبا عنها جدت له، انظر إلى هذا كيف انتهى أمره وإلى أي حظ وقع شأنه، وإني لأظن أن الرجل الزاهد الذي مات في هذه الأيام ودفن بالشونيزية احفظهما واعز ظهيرا من هذا الذي ترك الدنيا شاغرة ورحل عنها بلا زاد ولا راحلة.
7 - غلام زحل: ما ترك هذا الشخص استظهارا بحسن نظره وقوته، ولكن غلبه ما منه كان، وعنه بان.
__________
(1) ذيل تجارب الأمم: 75.

(1/122)


8 - ابن المقداد: إن ماء أطفأ هذه النار لعظيم، وإن ريحا زعزعت هذا الركن لعصوف.
ولا يخفى ما في هذه الأقوال من استجلاب للجو الزهدي حول الدنيا وشؤونها، وإذا استثنينا القولين اللذين يقران لعضد الدولة بحسن النظر وقوة الركن، فإن الأقوال الأخرى إما تنحو نحو التعميم وإما تحاول أن تغض من قيمة الطموح الدنيوي كما يمثله ملك، وقد تتفق في بعض دلالتها مع بعض ما جاء في أقوال الحكماء الذين أبنوا الإسكندر. ولعل إيمان أولئك المفكرين ؟ولو نظريا - بالسيرة الفلسفية التي يمثلها سقراط هو المحرك في هذا كله، إذ كم يبدو التباين جليا بين ما يقوله أبو يليمان المنطقي في لحظة فلسفية وبين ما يقوله في وصف عضد الدولة في لحظة شعوره باليأس من السند المادي. وكذلك سائر هؤلاء المفكرين فإنهم تجنبوا أن يذكروا ما كان للرجل من أثر في تشجيع العلم والفلسفة، وكان قمة ما يصبون إليه لا أن يحاكوا الأقوال الزهدية يمثلها وحسب، بل أن يعتقدوا ؟وشيخهم أبو سليمان دليلهم إلى ذلك - أن كل ما يمكن أن يقال في ذلك الموقف قد أتى عليه أبو إسماعيل الهاشمي الخطيب حين قال على المنبر يوم الجمعة يرثي عضد الدولة: " كيف غفلت عن كيد هذا الأمر حتى نفذ فيك، وهلا اتخذت دونه جنة تقيك، ماذا صنعت بأموالك والعبيد، ورجالك والجنود، وبخولك العتيد، وبدهوك الشديد، هلا صانعت من عجل (؟) على السرير، وبذلت له من القنطار إلى القطمير، من أين أتيت وكنت شهما حازما، وكيف مكنت من نفسك وكنت قويا صارما؟ " (1) ، فكل هذه الأقوال ترد موردا واحدا، وإن كانت خطبة الخطيب أبلغ أسلوبا. ولدى سبط أبن الجوزي تعليق يقول فيه: " بين كلام هؤلاء وأولئك المتقدمين المتكلمين على تابوت الإسكندر كما بين الملكين في المساواة " (2) . وليس الأمر كذلك بإطلاق، ولكن الذين حاكوا الأقوال القديمة حددوا لأنفسهم مجالا ضيقا، فلم يستطيعوا أن يقولوا شيئا يتعدى دائرة الزهد إلا قليلا.
__________
(1) ذيل تجارب الأمم: 76 - 77.
(2) هامش ذيل تجارب الأمم رقم: 6 ص 77 نقلا عن مرآة الزمان.

(1/123)


فراغ

(1/124)


" 8 "
إعادة صوغ الفكر السياسي اليوناني
في أسلوب أدبي
من السهل أن ندرك لماذا احتل الفكر السياسي مقاما هاما بين المسلمين، فهذا الفكر ؟سواءا أكان فارسيا أو يونانيا أو غير ذلك - هو أهم زاد ثقافي للأمراء والحكام، وهو أيضا المادة الثقافية الأولى التي يعول عليها الكاتب أو من يرشح نفسه ليكون كاتبا مترسلا في الديوان، ولماذا كانت الكتابة في معظمها ديوانية فإن شعلة هذا النوع من الفكر ظلت مضاءة على مر الزمن، رغم تغير الأزمان والأمكنة، وفي طليعة هذا اللون من الفكر تجيء الكتب التي يمكن أن يطلق عليها " مرايا للأمراء " ، وهي نصائح سياسية تسدى للأمير أو ولي العهد حتى يكون سياسيا ناجحا، وتقوم على قاعدة أخلاقية، وعن طريق هذه القاعدة ترتبط بالدين، وينظر إليها بشيء كثير من التقدير، حتى وإن كانت مصادرها بعيدة كل البعد عن أصول الإسلام. وقد لحظ أبو الحسن العامري 0أن الأدب الكبير لابن المقفع إنما يعتمد القواعد الأخلاقية التي جاءت في كتاب المجوس " الأبستا " وانه مع تقدمه في ذلك غير لائق شيئا منه بالقرآن " وكيف يظن به ذلك وقد علم أن الشرف الأنسي عند ملوك العجم كان معلقا بالأنساب، وكانوا يحرمون على رعاياهم الترقي من مرتبة إلى مرتبة، وفي ذلك ما يعوق التراكيب السوية عن كثير من الشيم الرضية، ويعقد الأنفس الأبية عن حيازة الدرجات العلية " (1) ، ومع ذلك فإن العامري نفسه
__________
(1) العامري: الأعلام بمناقب الإسلام: 160.

(1/125)


حين كتب " السعادة والإسعاد " لجأ إلى اقتباس كثير مما ورد في " الأدب الكبير " دون أن يسميه (1) . ومثل ذلك يمكن أن يقال في كثير من الكتب التي ترجمت عن الفرس كعهد أردشير وكتاب الآيين وكتاب التاج في أخلاق الملوك وغيرها، فأن معظمها أصبح " معتمد " المرشحين لولاية الأمور، وقد عرفنا أن عهد أردشير كان مما يؤخذ أولياء العهود بدراسته والتعمق فيه مع أن أساسه قائم على طبقية مصمتة لا مجال لتخطيها، وشيء من وصولية عملية، وإنكار تام لمصطلح " العدالة " والاستغناء عنه بمصطلح " الحزم " .
وكان من جراء الإتمام الكبير بهذا اللون من الفكر أن أقبل الناس فيه على الترجمة والتأليف إقبالا كبيرا، فبعد عبد الحميد وابن المقفع نجد طاهر بن الحسين يكتب عهدا لابنه عبد الله حين ولاه المأمون ديار ربيعة، وينال العهد إعجاب المأمون فيأمر باستنساخه وتفريقه في الأمصار (2) ، ونجد عمارة بن حمزة يكتب رسالة " الخميس " وهي التي كانت ؟كما يقول ابن خلكان - تقرأ لبني العباس (3) .
ويستمر الأمر على ذلك، فينتزع ابن الداية مما زعم أنه رموز كتاب السياسة لأفلاطون ثلاثة عهود، ويطول بنا القول لو شئنا أن نحصر الإسهام في هذا الحقل عل مر الزمن، ولكن حين نرصد الظاهرة نفسها نستطيع أن نتبين جهدا آخر في هذا النطاق يتمثل في أمرين: أولهما صياغة الحكمة السياسية الأخلاقية في أقوال تسير بين الناس ويسهل حفظها، كما فعل أبو الحسن علي بن محمد الصغاني صاحب كتاب " الفرائد والقلائد في الاستعانة على حسن السياسة " (4) .
__________
(1) انظر نماذج من ذلك في الصفحات: 380، 381، 149، 146، 160؟ الخ حيث تم النقل عن الأدب الكبير دون أن يذكر بالاسم.
(2) ابن أبي طاهر: كتاب بغداد: 34.
(3) ابن خلكان 4: 32.
(4) اقتبس منه أسامة بن منقذ في لباب الآداب: 67 وما بعدها، ومن نماذجه، آفة الملوك سوء السيرة، وآفة الوزراء خبث السرسرة.. وآفة الزعماء ضعف السياسة، وآفة العلماء حب الرياسة.. الخ " وقد ورد ذكر الكتاب في نصيحة الملوك للغزالي: 163 (من الترجمة الفارسية) منسوبا لأبي الحسن علي بن الأهوازي الحنفي ويعتقد المحقق أنه معاصر للثعالبي. (نصيحة الملوك تحقيق أستاذ جلال الدين همائي، طهران: 1351) والأهوازي المذكور ربما كان هو نفسه مؤلف كتاب " التبر المنسك في تدبير الملك " (مطبعة التمدن، القاهرة 1900).

(1/126)


وثانيهما ؟وهو ما يهمنا في هذا الصدد - إعادة " ترجمة " الآثار اليونانية بأسلوب رفيع، كما أشرت إلى ذلك في الفصل السابق، لا لكي يسهل حفظها وحسب، بل لكي تصبح نموذجا أدبيا يحتذيه الكاتب، وإذا أقتبس منه خفي اقتباسه، واندرج ما اقتبسه ضمن أسلوبه المتوازن المسجوع.
وكان من أوائل النصوص السياسية المنقولة إلى العربية الرسائل المحولة إلى ارسطاطاليس وخاصة رسالة بعنوان " السياسة في تدبير الرياسة " أو " سر الأسرار " فيما كتبه للإسكندر، وهي الرسالة التي يعتقد الأستاذ غرنياسكي أن أساسها الأولي تمثله " رسالة في السياسة العامية " المنحولة أيضا له، ولتي ربما كانت من النصوص التي نقلها سالم أو نقلت له. وقد حظيت تلك الرسائل المنحولة لأرسطاطاليس وبخاصة رسالته في السياسة العامية التي تطورت من بعد في ما سمي " سر الأسرار " بما لم يحظ به غيرها من عناية استنساخا واقتباسا وإضافة، ولكن الذي يهمنا ؟في هذا المقام - هو أنها وجدت من يعيد صياغتها في أسلوب مسجوع لتصبح قطعة أدبية لا محض رسالة سياسية.
متى حدث ذلك وعلى يد من؟ لا أجد على هذين السؤالين جوابا قاطعا حتى الآن، وإن كنت أعتقد أن " نظم " الرسالة قد يكون من فعل صاحب " الفرائد والقلائد " فإن لم يكن الأمر كذلك فصاحب الفرائد إنما يقلد محاولات سابقة في هذا المضمار، ولدينا ما يثبت أن بعض المحاولات لإعادة كتابة بعض الرسائل السياسية أو بعض أجزائها بأسلوب جزل مسجوع قد تم في القرن الرابع أو قبله، فقد أورد أبو حيان التوحيدي في " الإمتاع والمؤانسة " صورة من هذه الصياغة الأدبية بين مجموعة من الحكم القصيرة التي أظن أيضا أن يد التحوير قد مستها، وتجري العبارة التي أوردها التوحيدي كما يلي: " تجرع من عدوك الغصة إن لم تنل الفرصة، فإذا وجدتها فأنتهزها قبل أن يفوتك الدرك، أو يصيبك الفلك، فإن الدنيا دول تبنيها الأقدار، ويهدمها الليل والنهار " (1) ، وليست العبارة في صورتها هذه إلا " ترجمة " لقول ينسب إلى أرسطاطاليس وهو " افترص من عدوك الفرصة واعلم أن الدنيا دول " (2) .
__________
(1) الإمتاع والمؤانسة 2: 62.
(2) مختار الحكم: 193 وفي السعادة والإسعاد: 325 وردت عبارة ارسطاطاليس كما يلي: " ومتى أمكنتك فرصة فاهتبلها فإن ترك المبادرة عند مصادفة الغرة ممعقب للحسرة وإنما الدنيا دول " وفي سر الأسرار: 136 ولا تدع لك في عدوك فرصة إلا انتهزتها.

(1/127)


وعندما نصل إلى لباب الآداب لأسامة بن منقذ نجد العبارة التي أوردها أبو حيان بنصها (1) بين مجموعة من الأقوال السياسية التي خضعت لهذا النوع من الصياغة، وفيها قسط غير قليل مما يعد " ترجمة " جديدة لعبارات من رسائل أرسطاطاليس:
1 - فهذه العبارة: تفقد أمور عدوك قبل أن يطول ذراعه، وارتق الفتق قبل أن يتمكن فاتقه، لا تطلب ما بعد عنك حتى يستوي ما قرب منك، لا تخل فكرك ليلك ونهارك، فإذا أنشأت حربا فأعظمها، وإذا أشعلت نارا فألهبتها (2) .
قد نظم بعض أجزائها على النحو التالي: تفقد أمر عدوك قبل أن يمتد باعه، ويطول ذراعه، وتكثر شكته، وتشتد شوكته، وعالجه قبل أن يعضل داؤه، ويصعب دواؤه، فكل أمر لا يداوى قبل أن يعضل، ولا يدبر قبل أن يستفحل، يعجز عنه مداويه، ويصعب تداركه، وتلافيه ولا تشغل نفسك بإصلاح ما بعد عنك حتى تفرغ من إصلاح ما قرب منك (3) - إذا أنشأت حربا فأرهجها، وإذا أوقدت نارا فأججها (4) .
وإليك أيضا بعض العبارات الأخرى مقارنة بما صارت إليها عند إعادة صياغتها:
2 - سر الأسرار: يا اسكندر لا تباشر الحروب بنفسك (5) .
للباب الآداب: ولا تباشر الحرب بنفسك، فإنك لا تخلوا في ذلك من ملك تخاطر به، أو هلك تبادر إليه (6) .
3 - السعادة والإسعاد: صير استشارتك بالليل فإن الفكر فيه أجلى وأجمع (7) .
__________
(1) لباب الآداب: 63 - 64.
(2) السياسة العامية مخطوطة كوبريللي، الورقة 83 وبعضها في السعادة والإسعاد: 325.
(3) لباب الآداب: 64.
(4) لباب الآداب: 61.
(5) الأصول اليونانية: 149.
(6) لباب الآداب: 64.
(7) السعادة والإسعاد: 432 (من أقوال أرسطو للإسكندر).

(1/128)


لباب الآداب: ولتكن مشاورتك بالليل فإنه أجمع للفكر، وأعون على الذكر، ثم شاور في أمرك من تثق بعقله ووده (1) .
4 - السياسة العامية: وصير الأرزاق على الضعيف، وصير رزق الجندي ما يحمله ويحمل عياله؟ وإذا أمرت بالأرزاق فأنجزها لهم؟ وأي صاحب لقاء أو بطريق أو جندي اتهمته، فإن كانت له درجة فأسقطها، وإن كان جنديا، وكان ذلك أول فعله فأصفح عنه، وإذا كان يوم الحرب قربت الأمناء يكتبون بين الصفين ما يحدث في كل ناحية، ثم غنمهم على ذلك وأبرز لهم العطايا فإنهم يبذلون أنفسهم لها؟ وأجر الأرزاق على ولد الشهيد في الحرب وما أشبه ذلك، وأجر الأرزاق على الجرحى سوى أرزاق العامة، ومن ضرب في وجهه فكافئه بجائزة، ومن ضرب في ظهره فوبخه بالكلام فقط، ومن قطعت يده وبطلت له جارحة فقد وجب عليك رزقه بقية عمره. (2) .
لباب الآداب: وقال الحكيم: أفض على جيشك سيب عطائك، واصرف إليهم أحسن عنايتك وإرعائك، فإنهم أهل الأنفة والحمية، وحفظة الحوزة والرعية، وسيوف الملك وحصون الممالك والبلدان، وأوثق الأصحاب والأعوان، بهم تدفع العوادي، وتقهر الأعادي، ويزال الخلل، ويضبط العمل، قوي ضعيفهم يقو أمرك، وأغن فقيرهم يشد أزرك، وامنحهم قبل الفرض، واختبرهم عند العرض. ولا تثبت منهم إلا الوفي الكمي الذي لا يعدل عن الوفاء، ولا يجبن لدى االهيجاء، فإن المراد منهم قوة العدة، لا كثرة العدة. وإن أصاب أحدهم في وقعة تندبه لها، أو حملة تبرزه فيها، ما يعطله عن اللقاء، ويؤخره عن الاكفاء، فلا تمح اسمه، ولا تمنعه رسمه، وأن قتل في طاعتك، واستشهد تحت رايتك، فأكفل بنيه، وذب عن أهله وذويه، فإن ذلك يزيدهم رغبة في خدمتك، ويسهل عليهم بذل المهج والأرواح في نصرة دولتك ودعوتك (3) .
وفي هذه الأمثلة المقارنة نموذج لمن شاء أن يتصور كيف أصبحت الوصايا السياسية رسائل أدبية، ذات أسلوب مسجع، ولكن المثل الأخير منها يحمل مشكلة جديدة، ذلك لأن التطابق بينه وبين النقل الأسلوبي محمول على الجملة لا على التفصيل، ولعل
__________
(1) لباب الآداب: 64.
(2) رسالة في السياسة العامية، مخطوطة كوبريللي، الورقة: 88 وقارن السعادة والإسعاد: 334.
(3) لباب الآداب: 59 - 60.

(1/129)


" المترجم " هنا ناظر إلى نص آخر أو إلى نصوص أخرى غير هذا النسوب لارسطاطاليس، ذلك أن بعض الشبه يربط ما جاء هنا وبين نص منسوب لعلي بن أبي طالب (1) ، وربما حملنا هذا على القول بأن " الحكيم " ؟أو الذي نظم أقوال الحكيم - كان يتصيد كل ما يهمه في هذا المضمار، فالحكيم هنا لفظة لا تشير إلى رجل بعينه، وإنما قد تعني كل من يمكن أن تقتبس الحكمة عنه (2) .
وقد أورد أسامة مجموعة من هذه الأقوال السياسية المحبوكة على هذا المنوال، ونسبها إلى " الحكيم " ولما لم يكن في مقدوري أن أرد جميع صور هذه الصياغة إلى الآثار المنحولة لارسطاطاليس، فإن خير ما أختم به هذا الفصل أن أثبت مجموعة من تلك الأقوال، تمثل مزيدا من الشواهد على هذه الطريقة، فربما اهتدى البحث لأصولها " الساذجة " فيما بعد:
1 - حاجة السلطان إلى صلاح نفسه أشد من حاجته إلى صلاح رعيته، وفائدته في إحسان سيرته، أعظم من فائدته في ثبات وطأته، لأنه إذا أصلح نفسه صلحت رعيته، وإذا أحسن سيرته ثبتت وطأته، ثم يبقى له جميل الأحدوثة والذكر، ويتوفر عليه جزيل المثوبة والأجر، لأن السلطان خليفة الله في أرضه، والحاكم في حدود دينه وفرضه، قد خصه الله بإحسانه، وأشركه في سلطانه، وندبه لرعاية خلقه، ونصبه لنصرة حقه، فإنه أطاعه في أوامره ونواهيه تكفل بنصرة، وان عصاه فيهما وكله نفسه. (3) .
2 - من ملكه الله من أرضه وبلاده، وائتمنه على خلقه وعباده، وبسط يده وسلطانه، ورفع محله ومكانه، فحقيق عليه أن يؤدي الأمانة، ويخلص الديانة، ويجمل السيرة،
__________
(1) القاضي النعمان: دعائم الإسلام 1: 421 - 422.
(2) شاهد هذا على نحو لاشك فيه أن اقتبس عن الحكيم مرتين (ص:74) وكان هذا الحكيم هو ابن المقفع، فالنصان الواردان عند أسامة هما في الأدب الكبير، (رسائل البلغاء: 54،49) ولكن دون تحوير أو اعتماد صياغة جديدة كما هو الحال فيما نسب إلى أرسطاطاليس.
(3) هذه القطعة والثنتان التاليتان في لباب الآداب: 58 - 59، 61، والأساس الذي بنيت عليه القطعة الأولى موجود عند أرسطاطاليس في قوله: " أصلح نفسك لنفسك يكن الناس تبعا لك " (مختار الحكم: 193 ولباب الآداب: 58) ولكن هذه الصياغة تجاوزت هذا الأساس إلى غيره.

(1/130)


ويحسن السريرة، ويجعل الحق دأبه المعهود، والأجر غرضه المقصود، فالظلم يزل القدم، ويزيل النعم، ويجلب النقم، ويهلك الأمم.
3 - من أعرض عن الحزم والأحتراس، وبنى على غير أساس، زال عنه العز واستولى عليه العجز، وصار من يومه في نحس، ومن غده في لبس.
4 - من جد في حرب عدوه وقتاله، واحتال في قتله واستئصاله، يشغل بذلك قلبه، ويسخط ربه، وينفق عليه ماله، ويكد فيه نفسه ورجاله، ثم يكون من أمره على غرر، ومن حربه على خطر، ولو استعطفه بلطف مقاله، واستصلحه بحسن فعاله، واتخذه وليا صفيا يشاركه في الخير والشر، ويساهمه في النفع والضر، ويعضده غي الأحداث والعوادي، وينجده على الأضداد والأعادي، لكان أصلح له في دينه ودنياه، وأعود عليه في بدئه وعقباه " (1) .
وهذه القطعة الأخيرة تختلف عما في الرسائل المنحولة لارسطاطاليس وغيرها من حيث أنها تنص على التلطف للعدو ومحاولة استعطافه واستصلاحه إلى أن يصير صفيا، إذ أن أكثر تلك الأقوال إنما تخص على الحذر والتنبيه والكيد، وما إلى ذلك، وهذا الاختلاف يومئ إلى أننا يجب أن نبحث عن مصدر آخر لأمثال هذه الحكم (2) .
ومهما تتنوع هذه الأقوال وتتعدد مصادرها فإني أراها جميعا تنتمي إلى مصدر واحد، كتاب أو رسالة، حين تكون على هذا النحو من الأسلوب المسجوع. ولكن هل ينقل أسامة عن هذا المصدر بترتيب أو لا؟ ذلك ما لا يمكن القطع به.
ولعل سائلا أن يسأل: ما الجديد الذي قدمته هذه المحاولة؟ والجواب على ذلك أنها تفعل شيئا كثيرا سوى تقريب الأدب السياسي لمن يحبون جزالة الأسلوب
__________
(1) لباب الآداب: 61 - 62.
(2) لعل أقرب النصوص إليها من حيث المعنى هو ما ورد في كليلة ودمنة: 239 " فلا يمنعن ذا العقل عداوة كانت في نفسه لعدوه من مقاربته والتماس ما عنده، إذا طمع منه في دفع مخوف، ويعمل الرأي في إحداث المواصلة والموادعة " .

(1/131)


الصفحة السابقة   //   الصفحة التالية