الكل"الحياة" الدوليةمجلة "الوسط""الحياة" السعودية

المافيا دولة الاجرام المنظم متغلغلة في ايطاليا وفرنسا والمانيا وسويسرا وقدراتها تشكل أخطر تحدٍ أمني - اقتصادي للوحدة الاوروبية 

تفاصيل النشر:

المصدر: الوسط

الكاتب: شوقي الريس

تاريخ النشر(م): 3/8/1992

تاريخ النشر (هـ): 5/2/1413

منشأ: روما

رقم العدد: 27

الباب/ الصفحة: 39 - 40 - 41 - 42 - 43 - قضايا دولية

"انها الحرب"، "أيها المواطنون احملوا السلاح": هذه كانت بعض عناوين الصحف الايطالية اثر قيام عناصر من المافيا يوم 19 تموز يوليو الجاري باغتيال القاضي باولو بورسالينو مع خمسة من مرافقيه الامنيين في باليرمو صقلية بتفجير سيارة مفخخة قرب موكبه. وهذه العملية مشابهة تماماً لعملية اغتيال جيوفاني فالكوني المسؤول القضائي الرئيسي عن مكافحة المافيا في ايطاليا، يوم 23 ايار مايو الماضي. وكان بورسالينو يستعد لتسلم مهام فالكوني. وقد اغتالت المافيا 12 قاضياً بارزاً منذ عام 1969. وقد اعتبر المراقبون المطلعون في روما ان اغتيال بورسالينو بعد جيوفاني يشكل "ضربة كبيرة للنظام والدولة والحكومة" ويعكس تغلغل المافيا في الاجهزة الامنية الايطالية ويضع الحكومة الايطالية الحالية برئاسة الاشتراكي جوليانو اماتو امام خيارات صعبة.

ما هي المافيا؟ ما قصتها؟ ما مدى تغلغلها في اجهزة الدولة ونفوذها؟ هذا التحقيق الخاص من روما يجيب عن هذه التساؤلات.

يتندّر الايطاليون هذه الايام، وهم نادراً ما يتندرون حول هذه الامور، بأن قانون القرن الواحد والعشرين، سيكون الترخيص، بمقتضى مادة دستورية جديدة، لنشاط المافيا على جميع الاراضي الواقعة تحت سيطرة الدولة الايطالية. هذه الدولة التي، في عرف كثيرين، تخلّت عن رمز الصراع الذي تخوضه العدالة ومؤسساتها ضد اجرام المافيا المنظم، عندما استطاعت هذه الاخيرة اختراق الطوق الامني الذي كان يرافق القاضي جيوفاني فالكوني ثم القاضي باولو بورسالينو في باليرمو.

بعد يومين من اغتيال فالكوني الذي ذاعت شهرته في العالم عندما ترأس المحاكمة الضخمة ضد المافيا في العام 1986، اقيم مأتم حاشد على ارواح الضحايا القت خلاله ارملة احد مرافقي الموكب كلمة جاء فيها: "… اخاطبكم وأعرف ان بعضكم موجود الآن هنا في هذه الكنيسة، اوقفوا حمّام الدم هذا، اوقفوه ونحن على استعداد لأن نغفر وننسى".

وفي السابع والعشرين من حزيران يونيو الماضي شهدت شوارع باليرمو تظاهرة شارك فيها 200 الف شخص احتجاجاً على اجرام المافيا وتضامناً مع اجهزة الدولة القضائية والامنية. لكن بعد ساعات من انتهاء التظاهرة علم ان 95 في المئة من الذين شاركوا فيها كانوا وفدوا الى الجزيرة من مناطق اخرى في رحلات جوية وبحرية خاصة، وان عدداً ضئيلاً جداً من سكان باليرمو انضّم اليهم، بينما كانت نوافذ وشرفات المنازل المطلّة على الطريق التي سلكها المتظاهرون، مقفلة على الخوف الذي يسكن اهل هذه الجزيرة، وعلى الصمت الذي تفرضه المافيا فوق كل شبر منها. والشيء نفسه حدث بعد اغتيال بورسالينو.

في الماضي كان يقال ان الآفة التي يعاني منها الجسم السياسي الايطالي هي الحزبوقراطية، اي سيطرة الاحزاب على الدولة. لكن هذه لم تعد تعتبر اكثر من زكام اذا قورنت بالمافيوقراطية المتوغلة في نسيج الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والتي من اخطر عوارضها الاقتناع السائد بين غالبية الايطاليين بأن "الكوزا نوسترا" هي من المسلّمات الثابتة، ومن العبث محاولة القضاء عليها او التخلّص منها.

لم تعد المافيا، كما كانت حتى مطلع الخمسينات، واحدا من الرموز التي عرفت ايطاليا بقدرتها على تسويقها وبناء تمايزها عليها. ولم يعد نشاط "الجمعية السرية" مقصوراً على حدود جزيرة صقلية وبعض المدن الواقعة في اقصى الجنوب الايطالي. المافيا اليوم امبراطورية اقتصادية تقدّر مساهمتها في اجمالي الناتج القومي بنسبة 14 في المئة، يعمل لحسابها اكثر من مليون شخص، وبالتالي فهي اكبر مؤسسة في ايطاليا، وبفارق بيّن عن شركة فيات عنوان القدرة الصناعية الايطالية. ويمتد الاخطبوط المافيوزي متوغلاً في عمق الجسم السياسي والاداري الايطالي، مكوّناً ما يعتبر ابرع اشكال العلاقة بين السياسة والاجرام المنظّم.

ويرى البعض ان قدرة المافيا الاقتصادية، وشبكة علاقاتها السياسية، تشكلان خطراً حقيقياً يتهدد اوروبا بأكملها، بعدما بدأت تظهر في السنوات الاخيرة مؤشرات واضحة على تمركز مجموعات مافيوزية قوية ومنظّمة في المانيا وفرنسا وسويسرا واسبانيا. وكان لا بد من توقع انتشار المافيا اوروبياً، بعدما بدأت العائلات المافيوزية غزو الشمال الصناعي في ميلانو وتورينو والذي كان ينظر اليه دائماً، مقابل الجنوب الفاسد، على انه "احتياطي ايطاليا الاخلاقي"، وخصوصاً بعد النقلة النوعية التي قررها قادة العائلات الكبرى - كما يستفاد من اعترافات النادمين في محاكمة باليرمو الضخمة العام 86 - محولين اساس انشطتهم الى تجارة المخدرات والاسلحة وتهريب الاعمال الفنية.

المناهضون علناً للمافيا، والداعون الى تغيير جذري في نظام الحكم وبنية الدولة الايطالية، يؤكدون استعدادهم لمواجهة التحدي الذي اعلنته المافيا عندما اطلقت حملة الاغتيالات ضد من يشكلون رموز مكافحتها بالطرائق الشرعية ويرفضون الاذعان لمشيئتها. لكنهم يحذرون من ان الخطر الاكبر يكمن في ان السرطان المافيوزي يهدد بتقويض البنيان السياسي في اشد الدول الاوروبية تناقضاً، وينذر بكارثة اقتصادية لا مثيل لها، في البلد الذي ادهش العالم وأذهل المحللين عندما انتزع، قبل سنوات، من بريطانيا، موقع القوة الاقتصادية الخامسة في العالم.

من أبرز الاصوات التي ارتفعت منادية بهذا التغيير الجذري، صوت رئيس الجمهورية السابق فرانشيسكو كوسيغا، الذي استقال من منصبه وتخاصم مع حزبه الديموقراطي المسيحي احتجاجاً على عرقلة مساعيه الرامية الى ارساء قواعد جمهورية ثانية، عصرية ونظيفة، تطل بها ايطاليا على القرن الواحد والعشرين.

لكن في حين يجمع المحللون على ان السبيل الوحيد للقضاء على المافيا هو نزع الغطاء السياسي عنها، وقطع علاقاتها بمؤسسات الدولة وأجهزتها، تمهيداً لتطويقها وإخضاعها لسيادة القانون وأحكام القضاء، يشدّد العارفون على ضرورة الاخذ بالعوامل التاريخية والاجتماعية التي واكبت نشأة المافيا، وأثرّت في التحولات الكبرى التي مرت فيها على مدى تاريخها الذي يختصر السنوات المئة الماضية من تاريخ ايطاليا.

صحيح ان المافيا كانت بارعة دائماً في تحميل عنفها رسائل او انذارات سياسية، كما حصل عندما اغتالت القاضي فالكوني، بينما كانت تتعثر عملية انتخاب رئيس للجمهورية، وبعد ان ظهرت بوادر احتمال قيام تحالف بين الحزب الديموقراطي المسيحي وحزب اليسار الديموقراطي الشيوعي سابقا، على غرار ما حصل في السبعينات عندما كان يحاول تيّار من الديموقراطيين المسيحيين بزعامة آلدو مورو الانفتاح على الشيوعيين بقيادة انريكو برلينغوير، فاختطف مورو ثم اغتيل بعد اشهر في ظروف لا تزال غامضة. لكن الصحيح ايضاً ان المافيا ظهرت في ظروف اجتماعية معينة، وتكونت متأثرة بهذه الظروف وبعوامل نفسانية واقتصادية وتاريخية محددة، تعتبر اساسية لفك رموز هذه الشركة الاجرامية المساهمة التي يؤكد البعض ان عدداً من افرادها يجلسون على مقاعد البرلمان الايطالي والبرلمان الاوروبي اليوم. بل ثمة من يقول ان الحكومات الايطالية التي تعاقبت على الحكم منذ مطلع الخمسينات، والكنيسة الكاثوليكية النافذة جداً في الدولة الاوروبية الوحيدة التي لم يحكمها اليسار ابداً، كانت دائماً مطعّمة بحضور مافيوزي ما.

من الدلال الى الاجرام

"كم هي MAFIUSEDDA"، اي "كم لديها من المافيا"!. بهذه العبارات كان الصقليون يغازلون الفتيات الجميلات عندما يلتقون بهن في الشوارع. فكلمة "مافيا" باللغة الصقلية الشعبية، كانت توحي بالدلال والغنج والجاذبية لدى الانثى، قبل ان تتبدل الاحوال، بحيث لم يعد لهذا المصطلح سوى المدلول الاجرامي المعروف، المرتبط بمفهوم التكاتف بين مجموعة من المجرمين، وبوجود جمعية اجرامية واحدة منتشرة عبر العالم.

المرة الاولى التي لوحظ فيها انتشار هذا المفهوم لكلمة "مافيا" كانت في النصف الأول من القرن الماضي، وبالتحديد في العام 1838 حيث وردت في تقرير قضائي رسمي صادر عن محكمة تراباني. وكان المقصود بالتعبير آنذاك، احدى الجمعيات السرية الخطيرة التي "لا تتردد في استخدام كافة السبل والوسائل لتحقيق اهدافها ومآربها".

لكن قبل ان تنتهي كلمة "مافيا" الى مفهومها الذي نعرفه اليوم، كانت ترمز في السابق الى انبل المواقف وأكثرها شجاعة في وجه مختلف اشكال القمع والاضطهاد التي عرفتها جزيرة صقلية. ويؤكد بعض المؤرخين السياسيين ان تعبير "مافيا" كان، لفترة طويلة، رديفاً لمجموعة من المشاعر والمواقف والانماط الحياتية، هي في اساس تكوين الشعور القومي لدى الصقليين، والذي غالباً ما ارتبط بنزعة الى الانفصال عن الجسم الايطالي.

كيف اذن تحوّل هذا المفهوم حتى صار يطلق في الولايات المتحدة على نوع من الاتحاد المنظّم لنقابات الاجرام الذي يؤكد بعض الباحثين "انه يسعى الى استلاب الدولة والسيطرة على مقدراتها ومؤسساتها الحيوية"؟

ان قوة المافيا، وتأثيرها ونفوذها في صقلية، سابقة للفترة التي اكتسبت فيها تسمية خاصة، كواحد من العناصر المكونة للضمير الشعبي اولاً، ثم كشعور تزامن نموه مع تطور النظام الاقطاعي في الجزيرة لاحقاً. وهي ظاهرة ملازمة لتطور الانماط الاجتماعية، والروائية، لأعمال السطو والسلب، واضحة معالمها في سياق التاريخ الاجرامي.

الشخصية الاولى التي اكتسبت طابع الاسطورة، كانت شخصية قاطع الطرق كبطل شعبي. وهذا مفهوم متضمن في تسمية "Uomo d'onore"، اي "رجل شرف" التي تطلق على اعضاء المافيا. فهو كان الرجل الذي "يملك القدرة على معرقة الحق، والسبل التي تخوله ان يفرضه على الاقوياء". وليس مستغربا ان تكون هذه الصورة لقاطع الطرق استمرت قائمة في المجتمع الايطالي لفترة اطول، مقارنة مع مجتمعات اخرى، اذ كانت روح المقاومة في وجه ظلم الامراء وتعسف الاسياد توفر المناخ الملائم للعيش خارج القانون. ولم يكن ذلك مستهجناً، لأن اسلوب التمييز بين القانون الرسمي والنزعة الوطنية من جهة، وبين مختلف الطبقات الاجتماعية من جهة ثانية، هو من الملامح الاساسية للضمير الصقلي، الذي تكون على مدى الفي عام من التاريخ المتوتر والدامي، والمحصور في ضيق جزيرة مزروعة عند مفترق طرق المتوسط الرئيسية. مرة اخرى، هي الجغرافيا التي تملي مسار التاريخ ومواصفاته.

كانت الروح المافيوزية ترتكز في اساسها على الاقتناع الراسخ بأن يملك المرء الشجاعة اللازمة لمواجهة القانون، فارضاً مصيره الذاتي تحقيقاً لصعوده اجتماعياً. وقد زاد من صلابة هذا المفهوم، وعمق رسوخه، الصورة التعيسة للفارس - قاطع الطرق، او قاطع الطرق - المستعبد، الامر الذي دفع بالضمير الشعبي للتعبير عن حاجته الى نوع من الحركية الاجتماعية تتيح لقاطع الطرق، الفارس والمقدام، ان يصبح "شخصية مرموقة".

ويلاحظ ان النزعة الى تسلّق السلّم الاجتماعي ظهرت بوضوح لاحقاً في تصرّفات بعض الزعماء المافيوزيين، الذين سعوا الى تنصيب انفسهم كطبقة بورجوازية، او الى السطو على السلوك الارستقراطي القائم اساساً على تسخير القوة لمآرب شخصية.

لكن كان مستحيلاً ان يتحول قطع الطرق الى مسلكية اجتماعية. والروح المافيوزية لم تكن تتعمد الاجرام في الاساس. كانت روحا تنزع بشدة نحو الانفرادية، وتقوم على المبدأ القائل بأن من يحدد هدفاً، عليه توفير الوسائل الكفيلة بتحقيقه. وكان في التطور الذي طرأ على الروح المافيوزية توجه نحو تكوين وظهور شخصية المنتقم لحقوق المظلومين والمصلح بين المتخاصمين، اي نحو التعبير الشهير المعروف بـپ"رجل شرف".

مع مرور الزمن، اصبحت المافيوزية في مواجهة عسف الاسياد المتربعين على رأس الهرم الاجتماعي، تعكس التوجه الشديد نحو الانفرادية المتطرفة. وبدأ يتضح ان "الرجولية"، التي تميز بها المافيوزيون دائماً، لم تكن نابعة من الخوف فحسب. هكذا راحت تتكون وتترسخ في ذهنية المجتمع الصقلي فكرة مؤداها ان الانسان ذئب. وبدأت تنحسر العناصر الفروسية في الشخصية المافيوزية، على رغم ان هذه ظلت تحتفظ ببعض الملامح والمواصفات التي تميز بها دائماً الخارجون عن القانون، مثل احترام الام والنساء والاطفال والارامل، والوعد، والدين، وواجبات الضيافة. ويرى باحثون في هذه الملامح والمواصفات تأثيراً للوجود العربي الطويل في جزيرة صقلية.

"تنظيم الصمت"

بديهي أن اول ما خسرته المافيا في العصر الحديث، هي روح الفروسية والاباء. وآراء الباحثين الطليان جازمة بذلك. فيقول آلونغي، مثلاً "ان كافة الطبقات الاجتماعية الخطيرة هي التي تتكون منها المافيا". ويقول بونفانديني "ليست المافيا جمعية سرية مؤسسة هيكلياً. بل هي تطور متقن لنزعة المغالاة في استعمال القوة، والتضامن الغريزي، الفظ والجشع، لاولئك الذين يعتاشون من العنف". اما فرانكيتي، فانه يعتبر "ان المافيا اتحاد بين اشخاص ينتمون الى مختلف الطبقات الاجتماعية، ويتحالفون لتحقيق منافع غير مشروعة، دون ان تربط بينهم اواصر ظاهرة، او دائمة، او منتظمة".

كان النافذون في المناطق الصقلية التي كانت عناصر الذهنية المافيوزية منتشرة فيها، ينتظمون في مجموعات تعرف باسم "كوسكيه". وكانت كل "كوسكيه" مكونة من عشرين فرداً او عضواً، وكان لها نظامها الداخلي، وتسلسلها الهرمي الذي لم تكن تميزه ظواهر او علامات خارجية. وكانت كل "كوسكيه" تحدد انماط تصرفها ونشاطها، وطرق تحالفها وتعاملها مع المجموعات الاخرى، او مع السلطات. وكانت تلك المجموعات متحدة في بنية اجتماعية وصفت بأنها "خرشوفية"، اي ان مختلف الطبقات الاجتماعية كانت متضافرة فيها من دون تسلسل هرمي مسرف في المركزية. وكانت مجموعات المافيا تلك تعرف بمواصفات مثل: المافيا العليا، مافيا القبعات، مافيا الكفوف الصفر، مافيا الريف، مافيا المدينة، مافيا الساحل. في نهاية القرن الماضي كانت المافيا احكمت سيطرتها على مختلف المرافق، ولم يبق امام المواطنين، فقراء او اثرياء، سوى الاذعان او الرحيل. وبينما كانت المافيا تحكم طوقها على صقلية، كان زعماؤها ينهجون مسلكاً يتسم بمزيد من الدهاء والحذاقة، وبنسبة اقل من العنف المباشر. كانوا قرروا مواجهة القانون والسلطة، لكن ليس وجهاً لوجه.

وفي العام 1878 حاول قائد شرطة صقلية القضاء على المافيا، فعمد الى نفي افرادها بالمئات، بعد ان كانت المحاكم تضطر لتبرئتهم لعدم توفر الادلة. وقد نجم عن ذلك مزيد من التضامن بين مختلف المجموعات المافيوزية التي اعادت تنظيم نفسها ووجهت اعضاءها البارزين، والذين كانت تحوم الشبهات حولهم، الى ممارسة انشطة مشروعة، موكلة الاعمال الاجرامية الصرفة لاعضاء جدد غير معروفين، وموفرة لهم كل وسائل الدعم والمساعدة القانونية والمادية، اذا وقعوا في قبضة القضاء.

تلك كانت بداية مرحلة جديدة في تاريخ المافيا المنظمة، "مرحلة تنظيم الصمت"، كما اطلق عليها. الصمت القائم على الخوف، والشرف، والمصلحة، وهي عناصر اساسية في تطور المفهوم المافيوزي والاستراتيجية الاجرامية "للجمعية الشريفة" لاحقاً.

في العام 1925 سعى الفاشيّون الايطاليون لضرب المافيا التي كانت بدأت توسع نفوذها السياسي، فوضعوا المافيوزيين في سلة واحدة مع الشيوعيين، وباشروا ضدهم حملة واسعة من الملاحقة والاعتقال والنفي والابعاد. لكن في اواخر الحرب العالمية الثانية دخلت المافيا في علاقة مباشرة وعلنية بالمخابرات الاميركية، متولية التحضير للانزال الذي قامت به قوات المارينز على شواطئ صقلية. تلك العلاقة اعطت المافيا نوعاً من الاعتراف الضمني بـپ"مشروعية" وجودها ونفوذها المحلّي.

وفي العام 1950 شكّل مجلس الشيوخ الاميركي لجنة للتحقيق حول الاجرام المنظم، برئاسة السناتور كيفوفير، اكدت في تقريرها النهائي "ان ثمة نقابة اجرامية منتشرة على المستوى الوطني في الولايات المتحدة تعرف باسم مافيا". وأضاف كيفوفير في ملاحظاته: "ان اعضاء هذه النقابة يحتكرون اعمال الابتزاز ويمارسون العنف والقتل في المدن الكبرى". وفي العام 1957 عقد "المجلس الاكبر" للمافيا اجتماعه الأول في ولاية نيويورك بحضور خمسة وسبعين من كبار الزعماء. وفي العام 1967 وضعت "لجنة كاتزينباخ" تقريراً اكدت فيه وجود شبكة اجرامية منظمة، تمارس كافة انواع القمع والتهديد، وتتسلّل الى بعض القطاعات الاقتصادية المشروعة، فارضة عليها اساليبها الخاصة، ومتدخلة ايضا في النزاعات العمالية والاجتماعية.

هل نحن امام المافيا الصقلية اذن؟

في بداية القرن الحالي تدفق المهاجرون الصقليون بكثرة الى الولايات المتحدة الاميركية. لكن من السذاجة الاعتقاد بأن وجود الصقليين في الولايات المتحدة هو الذي ادى الى تنظيم عالم الاجرام الاميركي على النمط المافيوزي، او ان الاميركيين انتظروا قدوم المهاجرين الصقليين ليكتشفوا دور العنف في تحقيق الثروات والسلطة. فالادب والافلام السينمائية كانت تدل بوضوح على ان الذهنية الاجرامية المنظمة كانت سائدة ايضا في منطقة الغرب الاقصى، قبل قدوم الصقليين بكثير. بل ان الصقليين، عندما وصلوا الى تلك البلاد، كان الهدوء عاد اليها بعد ان تقاسمت المجموعات المتناحرة الثروات والمغانم، وكانت كبريات العائلات الرأسمالية بدأت تنعم بفترة من الاستقرار.

وكان من نتائج ذلك، ان المهاجر الصقلي، الوافد حديثاً، شعر بشيء من الرفض تجاهه، وبأنه ضعيف ومعزول، وبالتالي محتاج الى من يحميه، على غرار ما كان يفعل "رجال الشرف" في صقلية غابرا. وهكذا، بعد ان لجأ المهاجرون الصقليون الى المدن الكبيرة، عادت المافيا لتلعب دور المدافع عن الجماعات الصقلية. وهو دور قبلته تلك الجماعات، بل وتمنته احياناً.

يقول رومانو في كتابه "تاريخ المافيا"، "ان الصقليين اصيبوا بنوع من الجمود النفساني والمعنوي، عندما وقعوا تحت تأثير صدمة الهجرة، فقد بقيت صقلية في ذاكرتهم كما كانت عندما غادروها، وكانوا، عندما يرجعون اليها، يندهشون من الكهرباء والمياه والراديو في المنازل. والمافيا بدورها، لم تتغير بالنسبة اليهم، اذ كانوا ينظرون اليها دائماً على انها تلك الجمعية التي تمد يد العون الى الضعفاء والمعوزين". من المفارقات اذن، ان تكون الذهنية القديمة للمافيا، التي تسيطر فيها مشاعر التضامن والاحترام لبعض القوانين الطبيعية، هي التي حطّت في اميركا مع وفود المهاجرين، فتشكلت مجموعات او شبه مستوطنات ايطالية، وراحت العلاقات فيها تخضع تدريجاً لانماط وأساليب الحماية والتبعية، كما لو كان المهاجرون ما زالوا يعيشون في جزيرة، لكنها اجتماعية هذه المرة.

وهكذا ظهرت اولاً "اليد السوداء" التي اعادت الى الاذهان الاسلوب المافيوزي الصقلي الصرف، اذ كان الطابع الاجرامي المنظم هو السائد، وكان ضحاياه من الصقليين. لذلك لم تكن السلطات الاميركية تكترث لما يحدث في تلك "الايطاليات الصغيرة"، الى ان أدّت النزاعات الداخلية للسيطرة على تجارة الفاكهة والزيت، الى خروج الفئات المتناحرة عن اطارها الاثني، وكانت اولى نتائج ذلك الخروج، مقتل شرطي اميركي في مدينة نيو اورليانز".

في العام 1950 حذرت لجنة مجلس الشيوخ الاميركي التي ترأسها السناتور كيفوفير، من وجود نمط جديد من المافيا: "منظمة من رجال العصابات، يشكلون دولة داخل الدولة، ويمتد نفوذهم الاجرامي الى مختلف القطاعات الاقتصادية والسياسية والقضاء والشرطة". وأوردت اللجنة المذكورة في تقريرها، ستين من الفروع التجارية والصناعية التي تسلّل اليها آلاف الخارجين عن القانون. وهكذا بدأت المافيوزية الاميركية تتحول الى مافيوزية اجرامية صرفة، مستوعبة كافة التنظيمات الاجرامية الصغيرة، بما فيها تلك التي ليست صقليّة.

مع هذه المرحلة الجديدة التي شهدت تطوراً كبيراً في الاساليب الاجرامية، نظراً الى وفرة المكاسب المتاحة، بدأت موجة اخرى من الصراعات الداخلية بين العناصر المسنة والشابة، حسمت لصالح هذه الاخيرة، وتمخضت عن ظهور ما اطلق عليه "كوزا نوسترا" بعد ان خسرت المافيا نهائياً طابعها الصقليي، وأصبح الكسب هو مبرر وجودها الوحيد.

في تلك الاثناء، كانت المافيا في صقلية، لا سيما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، دخلت في أزمة. فالاميركيون، عندما كلفوا رجال المافيا التحضير لانزال قواتهم في الجزيرة، اضفوا غطاء من الشرعية الضمنية على دور المافيا كوسيلة سياسية خفية. وكان بين المترجمين والمستشارين الايطاليين - الاميركيين الذين رافقوا القوات الاميركية، عدد من رجال العصابات الذين لعبوا دوراً بارزاً، وكانت لهم اليد الطولى في "تطعيم" المافيا الصقلية بعادات وتقاليد "الكوزا نوسترا" وأساليبها.

تلك كانت ضربة مصيرية تاريخية جديدة حلّت على الجزيرة بسبب موقعها الجغرافي، وما لبثت ان دفعت بالشباب الى خلع الزعماء القدامى للمافيا، وتأسيس فرع جديد للمافيا الاجرامية الدولية في صقلية.

يستفاد من محاضر اعترافات النادمين من زعماء المافيا، خلال المحاكمة الضخمة التي جرت في باليرمو سنة 1986 برئاسة القاضي فالكوني، ان المافيا منظمة بشكل مترابط وهرمي: عائلات، رؤساء العائلات، لجان، رؤساء اللجان، واللجنة وهي ارفع هيئة في اتخاذ القرارات. وقد اشرفت على ادارة المافيا دائماً لجنة من اقوى العائلات، كان عدد اعضائها يتغيّر حسب تغير عدد العائلات القوية والنافذة، على رغم ان بعض العائلات مثل غريكو وكورليوني كان لها دائماً ممثل في اللجنة العليا. ولهذه اللجنة سلطة مطلقة على جميع الانشطة غير المشروعة التي تمارسها المافيا، وهي التي تقرر الاستثمارات، والجرائم التي على المنظمة تنفيذها. هي التي تفصل في النزاعات بين العائلات، وتحدد الاطر الجغرافية لنشاط كل عائلة.

والمافيا مصطلح لا يلفظه ابداً اعضاء المنظمة التي تحكمها قواعد شفوية صارمة، منقولة بالوراثة جيلاً عن جيل. لذلك يستحيل العثور على اية وثيقة من اي نوع كان تتعلّق بالمافيا.

وتتكون الخليّة الاساسية من العائلات. وهي عادة تسيطر على منطقة او حي او مدينة، او حتى على مركز اكبر من المدينة. وتتكون العائلة من "رجال شرف" يسمون ايضاً "جنود". يتولى التنسيق بين كل عشرة من رجال الشرف، منسق يحمل اسم "رئيس على عشرة رؤساء"، وتخضع الخلية لسيطرة رئيس منتخب، يسمى ايضاً "ممثل" يعاونه نائب ومستشار. وإذا حدث طارئ حال دون انتخاب الرئيس بصورة طبيعية، تعينّ اللجنة مسؤولين موقتين يتولون شؤون ادارة الخلية حتى اجراء انتخابات طبيعية.

اما القواعد التي تنظم الانخراط في المنظمة وسلوك رجال الشرف، فهي دقيقة ايضا وصارمة. ويفترض بالمرشح لعضوية المنظمة ان "يتحلّى بالشجاعة والقسوة الشديدة، وان يكون وضعه العائلي شفافاً وناصعاً، وخصوصاً ان لا تربطه اية صلات قربى او صداقة مع الشرطة ورجال الامن". اذا توفرت هذه الشروط في المرشح، يخضع للمراقبة والتحقق، ليصبح جاهزاً للانخراط في "جمعية تستلهم حماية الضعفاء والقضاء على التسلّط والغطرسة". وعندما يقرر المرشح الانضمام الى المنظمة، يقتاده بعض الاعضاء الى مكان سري ومظلم لا يدخله نور الشمس، حيث يفترض وجود ثلاثة اعضاء، على الاقل، من العائلة التي سينتمي اليها المرشح كي يؤدي القسم امامهم. على المرشح عندئذ ان يتناول بين يديه رسماً مقدساً يلطخه بقطرات من دمه، ينزفها من جرح يحدثه في احدى اصابعه، ثم يوقد الرسم ناراً ويبدأ بتقليبه من يد الى اخرى حتى يحترق تماماً، وهو يردد القسم التالي: "فليحترق لحمي كهذا الرسم المقدّس ان نكثت بهذا القسم". وبعد ان يقسم العضو يمين الولاء للمنظمة، عليه ان يحترم قاعدة الصمت، فلا يحق له ابدا الافصاح عن انتمائه الى المافيا، او كشف اي من اسرارها. ولعل قاعدة الصمت هذه، هي الاكثر صرامة في مدونة السلوك المافيوزية، مما جعل التحقيقات القضائية حول المافيا بالغة الصعوبة دائماً، لان الخروج عن هذه القاعدة عقابه الموت.

وليست كثرة الكلام من الصفات المحببة في اوساط المافيا، بل هي دائماً مبعث للشك. لكن على اعضاء المنظمة ان يلتزموا الصدق المطلق عندما يتحدثون الى بعضهم البعض في اي موضوع كان. وإذا القي القبض على احد الاعضاء، فمن واجب المنظمة ان توفر له كل وسائل الدعم والمساعدة، وان تهتم بعائلته. اما هو، فعليه ان يرفض طعام الحكومة الذي يقدم له في السجن، وذلك من باب الازدراء الذي تكنه المافيا للدولة ولمن يمثلها. ومن واجب المعتقل ان يتحمل مسؤولياته في السجن وخلال المحاكمة، ممتنعاً عن ادعاء الجنون او محاولة الهرب، خصوصاً اذا كانت التهم الموجهة اليه خطيرة. لكن عدم التقيد بهذه القاعدة لا يشكل سبباً لانزال العقوبة بمن يشذّ عنها، مما يفسر ان زعماء المافيا الكبار لم يتقيدوا بها خلال السنوات الاخيرة خلال المحاكمات.

لكن هذه المافيا الرومانسية المشبوبة بالعاطفة، لا وجود لها اليوم عندما يقف الباحث امام مسؤولية تحليل الاجرام، ودرس مسبباته ودوافعه وظواهره ونتائجه. المافيا اليوم تطور تدريجي عكسي: انها الاجرام المنظم الذي يتوق الى التستر بالمظاهر المافيوزية. وهي بلا شك، على عتبة السوق الاوروبية الواحدة، من اخطر التحديات الامنية والاقتصادية والاجتماعية، بل والسياسية، التي سيواجهها الاوروبيون لاكمال بناء قلعتهم.