ازدواجية!

في التصرفات المتناقضة نقول ازدواجية سلوك ، وفي التطبيق الأخلاقي المتناقض نقول ازدواجية معايير، وفي اتخاذ جنسيتين أو أكثر للشخص نتحدث عن ازدواجية الجنسية أو الانتماء، وهناك ازدواجية اللغة وازدواجية الشخصية والفكر و... غيرها من حالات الازدواج، التي قد يكون بعضها نتاجاً طبيعياً لظروف ثقافية وسياسية مثلاً، كازدواجية الجنسية في حالات الكوارث والنكبات، وازدواجية اللغة كما في البلدان التي خضعت لاحتلالات طويلة حاول المحتل خلالها اجتثاث ثقافة ولغة الشعوب التي سيطر عليها لصالح لغته وثقافته.

في عالمنا نعاني بشكل أو بآخر؛ فكثيرون ممن حولنا ينتمون لعالم اليوم، تراهم يتسابقون لاقتناء وركوب أحدث وأفخم موديلات السيارات، الساعات، الثياب، يركبون الطائرات ويسكنون أرقى الفنادق الأوروبية، يجلسون في أكثر المقاهي والمراكز التجارية بذخاً وانتماء للفكرة الرأسمالية في أوضح تجلياتها الاقتصادية، لا يقرأون ولا تحوي أدمغتهم إلا ما حفظوه أيام المدرسة؛ لكنهم إذا ما رأوك تدخل مقهى أو مطعماً في أحد فنادق الدولة لتتناول الغداء مع أهلك صرخوا فيك: (هذا مكان فيه منكر!).

وإذا قرأت كتاباً نظروا إليه بازدراء، فهذا كتاب يجب حرقه لما يحويه من الفواحش، مع أنهم لم يقرأوه أصلاً، وإذا استمعت إلى أغنية جميلة، شمروا أكمامهم وبدأوا يسلقون السامع بألسنة حداد؛ فهو لا يصح أو مما اختلف فيه الفقهاء، وهم في حقيقة الأمر أكثر بعداً عما اتفق عليه الفقهاء. هكذا حالهم؛ يوزعون تهم الكفر والفجور والفواحش والانحراف وكأنهم يوزعون صدقات مجانية.

صحيح أن ازدواجية المعايير قضية خطيرة؛ لأن الكيل بمكيالين نوع من التحيز، وهي ممارسة ظالمة تنتهك مبدأ العدالة الذي يقوم على أساس افتراض أن نفس المعايير ينبغي أن تطبق على جميع الناس، لكن من قال إن ازدواجية الشخصية التي يعاني منها كثيرون لا تضعنا في الحالة نفسها، وإنها تربكنا اجتماعياً وتخلخل نظرتنا للعالم وعلاقاتنا ببعضنا؟ وتأملوا حين تبتلى المؤسسات بمديرين ومسؤولين يعانون من الازدواجية ويطبقون أحكاماً على الناس والموظفين هم أبعد ما يكونون عن تطبيقها أو الالتزام بها لمجرد قناعاتهم الشخصية!

هناك تربية يتلقاها البعض، سواء في المنزل أو عن طريق الأفكار التي تتسرب إليهم من جهات مختلفة تسهم في وجود هذا الخلل القيمي لديهم. وهنا نسأل عن دور مناهج التربية في إصلاح هذا الخلل وتقويمه؛ ففي زمن مضى كنا ندرس الموسيقى في المدرسة والفلسفة والمنطق واللغة الفرنسية، وهي علوم لها دور كبير في البناء الثقافي والذهني رغم محدودية الحصص المخصصة لها، حين منعت لأسباب سطوة التيار الديني نهضت الأفكار التي ترى في كل شيء كفراً وفجوراً وغير ذلك، الأمر بحاجة لمناقشة جادة فعلاً.

طباعة
comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

لأكثر شعبية

الأكثر قراءة

  • أقدم كنيسة في الإمارات وأصول التسامح!

    عندما وقف الإنجليزي بيتر هايلير على مسرح الفائزين بجائزة أبوظبي، في العام 2013، كان قد أمضى في دولة الإمارات نحواً من أربعين..

  • توافق المبادئ والمنافع

    جميل جداً أن تدخل قاعة الامتحان وأنت جاهز بفكرك ومعلوماتك ودراستك، فما إن توضع أمامك ورقة الأسئلة حتى تبدأ الإجابة بكل ثقة،..

  • ازدواجية!

    في التصرفات المتناقضة نقول ازدواجية سلوك ، وفي التطبيق الأخلاقي المتناقض نقول ازدواجية معايير، وفي اتخاذ جنسيتين أو أكثر للشخص نتحدث..

  • رحم الله امرأً عرف قدر نفسه

    نحمل في أعماقنا أحلاماً كثيرة وأمنيات نتمنى تحقيقها، ولكثير منا طموح يبلغ عنان السماء. طموحات كثيرة تراودنا بين الفينة والأخرى،

  • عقوق الآباء للأبناء

    قص عليَ أحدهم كيف أن أما جاءت تطلب منه أن يساعدها في العثور على ابنتها، تلك الابنة الجاحدة المنفلتة.

  • معنى البطولة ومبناها

    تجمع المعاجم العربية على أن البطولة هي الشجاعة الفائقة التي لا يتصف بها إلا قليل من البشر، ويقدم ابن منظور في «لسان

  • جوهر هجمات بلجيكا

    ماذا يعني عندما يتجاهلون معقلاً لمتشددين يقع على بعد أميال فقط من قاعدة حكومة أوروبية؟ إنها مأساة..

  • حادث اختطاف إرهابي

    أعادني حادث اختطاف الطائرة المصرية، نهار أمس الثلاثاء، والذي انتهى بسلام، إلى ما قبل 28 عاماً بالتمام والكمال، يوم كانت طائرة..

  • «أم الفرسان» وتكريم «أم الإمارات»

    سمو الشيخة فاطمة بنت مبارك رئيسة الاتحاد النسائي العام الرئيسة الأعلى لمؤسسة التنمية الأسرية رئيسة المجلس الأعلى للأمومة..

  • أهمية دور الأب في الأسرة

    لطالما ارتبط مفهوم التربية مع وجود المرأة، فعندما نتحدث عن الطفل، نتحدث عن الأم مباشرة، دون أن نلقي الضوء على دور الأب

اختيارات المحرر

تابعنا علي "فيس بوك"