كلمة غبطة البطريرك  ميشيل صباح

 في ذكرى الثلاثين على تأسيس جامعة بيت لحم

 

1        نجتمع لنحتفل بثلاثين سنةً من عمر هذه الجامعة. ثلاثون عاما من الجهود المبذولة من قبل الإدارة والمعلمين والطلاب في سبيل التعلُّم وبناء المجتمع. هذه مناسبة، كما تقول الدعوة، لتوزيع شهادات التقدير والأوسمة. والوسام الأول والشكر والتقدير هو للكرسي الرسولي ولذكرى زيارة البابا بولس السادس للأرض المقدسة عام 1964 والذي أراد أن ينشىء إذذاك هذه الجامعة، هدية لمدينة بيت لحم، ليوفر للشباب فيها فرصة للتعلم من غير أن يهجروا بلدهم.

والوسام الثاني يعلق على صدور الإخوة الرهبان، والحياة الرهبانية التي يمثلونها، والتي باسمها جاؤوا وقبلوا بل أحبوا العيش معنا في الظروف الراهنة الصعبة وشاركونا آلامنا وآمالنا. أنشئت الجامعة لتمكن الشباب الفلسطيني من البقاء في أرضه والعمل على نموها وازدهارها بعلمه ودرايته في التعامل مع ظروف الاحتلال والحرية المعتدى عليها. كانت وما زالت أياما صعبة، ولكنها غنية بالتجارب والأزمات التي فيها يولد الرجال، مواطنين مخلصين للأرض ولكل إخوتهم المواطنين، ومؤمنين مخلصين لله ولجميع خلق الله. وكانت الروح الرهبانية، في قلوب الإخوة، بتجردها ونزاهتها، هي إحدى العوامل الساندة لهذه المسيرة.

 

2        أود أن أتكلم في حديثي في هذه المناسبة عن الدين بصورة عامة وفي حياتنا الفلسطينية بصورة خاصة، وكيف نَغنَى به فيكون عاملا قويا في بناء شخصيتنا، وفي المطالبة بحريتنا وكرامتنا. الفلسطينيون مؤمنون بالله وهم مسلمون أو مسيحيون. ينظر المسلم إلى هذه الأرض وقفا لله، يعيش فيها فيحترم قدسيتها ويحافظ عليها لله ولنفسه هبةً من الله. وينظر المسيحي إليها وهي له الأرض المقدسة بامتياز، قبل كل مكان مقدس أو مزار في العالم. لأنها مكان الجذور حيث ولد يسوع المسيح، وعاش وعلّم ومات ثم قام ممجدا. وهي لليهود أيضا أرض مقدسة وأرض الإيمان والجذور. ومن أجل هذه القداسة الصراعُ قائمٌ على هذه الأرض، بالإضافة إلى كل مسبِّباته السياسية المحلية والعالمية.

يصنف الإنسان المؤمن صراعاتِه صراعاتٍ في سبيل الله وصراعاتٍ في سبيل الإنسان وحقوقِه المعتدى عليها. في سبيل الله قامت حروب دينية كثيرة، باسم الدين وباسم الله، في التاريخ الطويل المشترك بين الإسلام والمسيحية. فكانت بلاد الإسلام دار سلام، وما عداها في سائر أنحاء العالم فهي دارُ حرب. تُعلَنُ الحربُ عليها شرعا وباسم الله ولحمل الإسلام إليها. والحالة في البلدان المسيحية شبيهةٌ بها في الإسلام. كانت تنظر إلى نشر المسيحية وكانت ترى البلد الآخر المسلم أو غير المسيحي بلدا يجب أن تحَُمَلَ إليه بشارة المسيح. هكذا امتدت الفتوحات الإسلامية غربا وشمالا إلى البلدان المسيحية. وهكذا قام الكثير من الحروب الأوروبية حتى نهاية القرون الوسطى. وعلى سبيل المثال لدى اكتشاف أمريكا، فمن أجل تعريف الناس بالله وبرحمته كانت الحرب بكل ويلاتها تسبق أحيانا تلك المعرفة. وهو خليط معتل بين الدين والحرب ترفضه روحنا اليوم. وبالإضافة إلى الحروب الخارجية، كانت حروبٌ داخلية أيضا بين البلدان المسيحية نفسها، كما وبين البلدان الإسلامية نفسها. وفي هذا سر من أسرار التاريخ، وسر من أسرار الله في تدبيره لشؤون البشرية: كيف تداعى الناس إلى القتال في سبيله وهو الرحيم ومحب البشر.

 

3        وعلى قاعدة هذا السر ما زلنا نحمل التراث الإيماني بكل ما في ذلك من تداخلات بين نقاء الإيمان الروحي وبين نزعاتنا القبلية والفردية. الله يُدافَعُ عنه بالعنف وبقتل أبنائه، وهو اعتداء على صورته وروحِه فيهم وحبِّه لهم. فالسؤال الذي يُطرَحُ هو: هل فوَّض الله المؤمنين في أية ديانة أن يحملوا بشرى الدين ومعرفةَ الله بتقتيل أبناء الله؟ هذا قي الواقع مجال في تاريخ الشعوب، عليها أن تراجِعَ نفسَها فيه، فتحاسب نفسها لترى ماذا دفعها إلى الحروب الدينية، أهو مجد الله فعلا أم مجد للإنسان ومصالحُ متعددة له.

وهذا واقع نعيشه حتى اليوم ورثناه في الوقت نفسه إيمانا بالله ورفضًا لمن هو في إيمانه مختلِفٌ عنا. المسيحي رافض للمسلم لأنه مختلف عنه. والمسلم رافض للمسيحي لأنه مختلف عنه. ويضاعَفُ الرفض الديني بالرفض القبلي. يظهر ذلك في الاضطراب الحاصل اليوم داخل المجتمع الفلسطيني هنا في بيت لحم وفي غيرها من المدن كذلك. هناك طبعا مرحلة إيجابية من الأخوّة توصلنا إليها اليوم إثر الجهود والتجارب الكثيرة والمشاركة في المعاناة نفسها واختلاط الدماء، ولكن ذلك يشمل فئة ضئيلة ولا يمس سوى السطح في نفس الفرد، ولم يبلغ بعد إلى عمق الروح سواء في الفرد أو في الجماعة. والفرد من الجماعة. وهي التي يجب أن تصنع لنفسها، بإيمانها وبالأمانة التامة لجميع أصوله، سواءٌ كان الإسلام أو المسيحية، يجب أن تصنع الجماعة لنفسها رؤية جديدة لإيمانها بالله، أي رؤية جديدة لله الذي تؤمن به وله تقدم حياتها، ورؤية جديدة لسائر أبناء الله المختلِفين عنها.

 

4        الله في حقيقته هو المحبة وهو السلام. ومن ثم المؤمنون بالله يجب أن يعيشوا المحبة والسلام. ومن عاش المحبة والسلام نال الحقوق كلها. لأن المحبة والسلام لا يعنيان التنازل عن أي حق، بل هما ضمان لكل حق. ولكننا نعيش في واقع يصعب فيه فَهمُ مثلِ هذا الكلام: واقعنا هو احتلال وتقتيل وتدمير للبيوت والزراعة ولكرامة الإنسان، وهو حواجز يتلهى الجندي عليها بإذلال الإنسان الفلسطيني... وفي منطق الناس، لا في منطق الله، أن يُرَدَّ على العنف بالعنف وعلى الاعتداء بالاعتداء، وإن عجز الإنسان عن الثأر ملأ نفسه بالكراهية وانتظار الفرصة المؤاتية للثأر. قد يكون هذا أمرا طبيعيا لدى الكثيرين. ولكن ليس هذا هو كلَّ المدى وكلَّ إمكانيات العمل لإنسان مؤمن بالله. الإنسان المؤمن بالله قادر على أكثرَ من الكراهية والثأر. هو قادر على المطالبة بكل حق له، هو قادر على رفض الاحتلال والظلم والإذلالِ كلِّه، وهو إن أراد أن يكون في نضاله مؤمنا بالله، فإنَّ لديه طاقة روحية تمكّنه من الظفر ومن وضع حد لكل ذلك، ومن إكراه العدو مهما عتا وتجبر من أن يخضع للسلام ولطاقة الروح التي يحملها المؤمن.

          قلت إن الحروب الدينية وُجِدَت في كل ديانة وتاريخ وحضارة. في كل ديانة وتاريخ وحضارة رفع الإنسان المؤمن راية الله وقتل أخاه الإنسان. وهي اليوم، لكل مؤمن ناضج في إيمانه، على أي دين كان، وقائع للمراجعة والمحاسبة والتقييم، حتى لا تبقى هي المقياسَ لحاضر الإنسانية ولا لمستقبلها. والتحول عن هذا الواقع التاريخي أمر صعب. لأنه يقتضي تحولا عن واقع راسخ رسوخ الحياة في الإنسان: فالشعوب المؤمنة بحاجة إلى تجديد دمائها كاملة. وليس على الطريقة الأوروبية أو الثورة الفرنسية بفصل الدين عن الدولة ثم بإقصاء الله عن المجتمع وبعزله في النفوس المنفردة. المؤمن بحاجة إلى تنقية دينه مما هو ليس من دينه، أي مما هو ليس من الله، مما هو ضعف وفتنة في نفس الإنسان تحوِّلُ هبةَ الله والإيمانَ به إلى مخاصمة للأخ. مطلوب انقلاب كامل في روح الفرد المؤمن وفي جميع الهيكليات الاجتماعية التي تحتوي إيمانه وترشده وتغذيه. وهو أمر صعب ويكاد يكون مستحيلا. نعم، في التاريخ المسيحي تجربة النساك والزهاد، وفي التاريخ الإسلامي ظاهرة المتصوفين، هم مؤمنون حاولوا تجريد أنفسهم وتنقية إيمانهم من الشر العالق بل المتولد في إنسانيتهم التي جرحتها الخطيئة، وقد نجحوا. ولكن، هو أمر خيالي طبعا أن نتصور أن الإنسانية كلها يمكنها أن تسلك هذا الطريق من التجرد والتعفف بحيث تؤمن بالله مصدرِ المحبة والسلام، من غير أن يمر إيمانها بالله بأُطُرِ قتال وكراهية تتولد في نفس الإنسان وفي الامتدادات القبلية والنزعات الفردية التي تفسد نقاوة الدين. ومع ذلك، البعض يجب أن يكونوا كذلك. وهؤلاء البعض هم القادة والمسؤولون. نعم، القادة والمسؤولون، ولا سيما في هذه الفترة الحاسمة، يجب أن يكونوا لا حكاما متزعمين بل خداما أقوياء، تَزيدُهم نزاهتُهم قوةً وخدمةً حسنة.

 

5        والآن في فلسطين مسيحيون ومسلمون. وكيف يعيشون؟ البعض يتغنى ويقول: العلاقات بيننا كانت دائمة مثالية. والعلاقات بيننا اليوم هي وحدة وطنية، والوضع مطَمْئِنٌ والحمد لله. الوضع غير مطمئن. نعم هناك مجاملة، بل أكثر من مجاملة، هناك مودة وصداقة وتقدير للآخر على صعيد محدود بين الفلسطينيين، على مستوى أصحاب السلطة، السيد الرئيس عرفات ومن يحيط به، وعلى مستوى بعض المثقفين ورجال الدين والعاملين في المجال السياسي. ولكن هناك أيضا مجالا كبيرا ما زال بحاجة إلى أن يحقق الاتزان الكافي حتى نجنب أنفسنا مظالم، نظلم بعضنا بعضا، فنَضعُفُ في رد المظالم الجاثمة على صدورنا من الخارج. نحن بحاجة إلى تجديد جذري. الولادة الفلسطينية لا تحتاج فقط إلى إبعاد الاحتلال. الولادة الفلسطينية، قبل إبعاد الاحتلال وبعده، بحاجة إلى إبعاد الأمور السلبية الكثيرة في داخل ضمائرنا، وهذا بيدنا، ولا يحتاج إلى أية مفاوضات، ما عدا أن يحاسب كل واحد نفسه، وما عدا أن تكون هناك مشورة بين المسؤولين عن المجتمع الفلسطيني، وبين رجال الدين الإسلامي والمسيحي، والسلطات المسؤولة عن الوجه االتربوي والحضاري والديني لهذا المجتمع، فيضعون الأسس لولادة فلسطين جديدة. مناهج التربية يجب أن تتبدل لتُرِىَ كل مواطن أن كل مواطن هو أخوه ولو اختلف عنه، ولتقول له إن هناك من يختلف عنه ويجب قبوله واحترامه. هذه تربية جديدة للمسيحي والمسلم على السواء. إذذاك يطمئن المسلم ويطمئن المسيحي. وإذاك يجتهد المسلم ويجتهد المسيحي في بداية جديدة في حياة وحضارة إسلامية ومسيحية تملآن المسلم والمسيحي ازدهارا واستقرارا جديدا. إذذاك يمتلك المسحي والمسلم قوة جديدة وطاقة روحية جديدة لوضع حد للاحتلال ومظالمه ولاسترجاع الحرية والكرامة.

كلام كثير قيل في هذه الأيام في الدستور الفلسطيني المقترح. والحديث هو في ماذا يكون دين الدولة، هل يكون الإسلام دين الدولة وهل يكون مصدر التشريع الرئيسي؟ عبثا نجادل في هذا الموضوع إن كان يعبِّرُ عن مكاسب أو مخاسر يريد أن يحققها لنفسه المسيحي أو المسلم على حساب الآخر: نحن في هذا كمن يلعب لعبة شد الحبل، يشد كل واحد إلى نفسه ويهمه أن يخسر الآخر. الحياة تفرض علينا أن نكون كلنا من جهة واحدة نحقق مكاسب لنا معا. لا مكسب لأحد على حساب الآخر. والمكسب المشترك لنا هو أن تولد فلسطين جديدة بوجه جديد يطمئن له المسلم والمسيحي على السواء. فلسطين هي أرض مقدسة لنا ونديرها سَدَنَةً للبشرية. إذا استطعنا أن نرقى إلى هذه الرؤية تمكَّنَّا من أن نضع في الدستور الفلسطيني العبارة الملائمة والمُرضِية والمعبرة عن حضارة بكاملها، وإلا بقينا نخاصم بعضنا البعض ونشد الحبل على غير طائل.   

فلسطين أرض مقدسة للديانات الثلاث الموحِّدة، ولجميع المؤمنين فيها وفي العالم. فلسطين تراث للإنسانية، وعلينا أن نديرها نحن أبناءَ الأرض، ونديرها بروح قادرة على معانقة العالم واستقباله. وليس صحيحا أن التزام المؤمنِ دينَه والإخلاصَ له يجب أن يكون خانقا لهذه الرؤية الرحبة والشاملة، بل الدين أشمل وأرحب من صدورنا التي تضيق بكل مختلِِفٍ عنا وتعجز عن رؤية وجه الله فيه. فلسطين أرض الله، وقفٌ له، فهي بحاجة إلى دستور يعكس رحابةَ محبةِ الله والأخوَّةَ بين أبناء الله في هذه الأرض التي قدسها وجمعنا فيها في عميق سره.   

 

6        وهذا وجه من أوجه رسالة هذه الجامعة. أن تربي عقولا وقلوبا رحبة مثلَ قلب الله، تربي مسلمين مخلصين لدينهم ومسيحيين مخلصين لدينهم، الإخلاصَ الذي يكتمل في المحبة وفي رؤية الآخر، لا في خدمة الذات التي هي عبودية للذات وللنزعات القبلية. إخلاص هو محبة تجعل الإيمان والمؤمن وجها لله مشرقا مشعا بنوره الباعث على الطمأنينة والبهجة والسرور، وباعثا على بناء مجتمع واحد متين غني بكل مجهود حضاري لكل واحد من أبنائه وبناته.

          أرجو لهذه الجامعة، بعد أن خدمت ثلاثين عاما، أن تستمر في خدمتها، عاما بعد عام، وأن تقوى على تحقيق هذه الصياغة الإنسانية الرحبة في كل طالب وطالبة من طلابها وطالباتها. فتكون فعلا عاملا في نمو هذه المدينة وازدهارها وفي خلق فلسطين جديدة، بخدمتها لكل إنسان فيها. وتكون عاملا في تحقيق العدل والسلام بالطاقة الروحية التي تزود بها جميع طلابها.

 

                                                          + البطريرك ميشيل صباح

بيت لحم – 2 تشرين الأول 2003