العدد 2983 ليوم 05 حزيران 2014
 
 
صحيفة يومية مستقلة شاملة - تأسست في 14 أيار 1993
مواضيع مفضلة
 
مكة قبل الإسلام .. المعمار والطعام
خليل علي حيدر

يسترعي انتباه الباحث في مظاهر حياة أهل مكة قبل الإسلام، أنه على الرغم مما حظوا به من ثراء من التجارة، وبخاصة الأثرياء منهم، وما نعمت به مكة نفسها من ازدهار اقتصادي، إلاّ أنه لم يُذكر أن أحداً من المكيين بنى قصراً أو داراً فخمة. وتفسر د. إلهام البابطين ذلك باتسام حياتهم بالبساطة القريبة من حياة الصحراء، ورغبتهم في استثمار أموالهم بدلاً من تجسيدها في المباني المكلفة.
ولكن ثمة أسباباً أخرى ربما منعتهم من ذلك، كالخوف من الحسد ومن غارات القبائل والغزوات واللصوص. وهي مخاوف واعتبارات كانت مؤثرة في المدن العربية والشرقية لفترة طويلة. ولا يزال الكويتيون مثلاً يعلقون يافطات كبيرة على فيللهم الكبيرة التي هي قيد الإنشاء، يستعيذون بها من العين والحسد.
وتقول الباحثة إن أقدم دار بُنيت في مكة تنسب إلى قصي بن كلاب، وقد جعل سقفها من خشب الدوم وجريد النخل. والعجيب في تاريخ معمار مكة أن من جاء بعد قصي من أهل مكة، كانوا "يبنون دورهم مستديرة الشكل وذلك تحاشياً للتربيع حتى لا تضاهي شكل الكعبة. وأول من تمرد على هذا العرف السائد حميد بن عبدالعزى، إذ بنى داره مربعة، فاندهشت قريش أول الأمر، ولما رأوا أنه لم يحل به مكروه حذوا حذوه".
ولا نعرف الآن على وجه التحديد الواقع والأسطورة في مثل هذه المعلومات المعمارية. ولكن تستوقفنا بعض الشيء مواد البناء التي كان يستخدمها المكيون عند ظهور الإسلام فكانت المدر، أي الطين اللزج، والحجارة. أما الأسقف فتُبنى من خشب الدوم أو خشب الأثل وجريد النخل وشجر الإذْخِر. ويقول لسان العرب إن "الإذخر" حشيش طيب الريح، أطول من الثيِّل، واحدتها "إذْخِرَة"، وهي شجرة صغيرة، وإذا جفّ الإذخر، أبيضّ. ولكلمة "الـمَدَر" التي ذكرناها، بمعنى الطين اللزج المتماسك مفردها "مَدَرَة"، أهمية خاصة في تحديد مساكن العرب. فقد تم تقسيمهم إلى "أهل مدر"، وهم الحاضرة أو الحضر، و"أهل الوبر"، وهم أهل البادية من سكنة بيوت الشعر والخيام. ويقال "بنو مَدْراء" أي أهل الحضر، ويقال "ما رأيتُ في الوبر والمدر مثله: في البدو والقرى".
أما "الـمَدَرة" فهي القرية المبنية بالطين وطابوق اللَّبِن. أما الـمَمْدَرَة فهي الموضع فيه طين حر يؤخذ منه. (قاموس الوسيط). أما "الدوم"، وكان مصدر الخشب الرئيسي، فتقول الموسوعة العربية المختصرة، إنه من الفصيلة النخيلة، موطنه الصحراء الكبرى، والواحات المصرية، وبلاد النوبة والسودان، وقد عرفه قدماء المصريين، وكانوا يسمون الشجرة "ماما"!
والدوم نخلة ذات جذع أسطواني أملس داكن اللون، ذات أوراق كبيرة مروحية الشكل باهتة الخضرة، أما الثمار فكبيرة في حجم البرتقالة، ذات أضلاع غير منتظمة، والنواة في حجم البيضة ولها غلاف خشبي صلب. وتصنع من النواة أزرار ومسابح، ومن الأوراق زنابيل - سلال - ومن الألياف حبال متينة، ومن الجذوع سقوف للمنازل. وتقول الموسوعة إن "خشب الدوم أصلب من خشب نخيل البلح، يقاوم الأرضة وفعل الماء، ولذا اتخذ منه قدماء المصريين التوابيت والأطواف - أي الجدران والحواجز - والجسور واتخذه أهل الواحات أنابيب للمياه".وتذكر الباحثة أن ثمة إشارات في المراجع عن استخدام الجص والنورة والآجر في فترة الدراسة، أي منذ ظهور الإسلام حتى نهاية العصر الأموي. فقد تحسنت نوعية البناء في مباني الخلفاء والولاة بعد أن وظفوا فيها خبرات أهل البلاد المفتوحة، وأنفقوا عليها المال بسخاء، "فمعاوية أنشأ عدداً من الدور الفخمة في مكة، واستخدم في بنائها عمالاً من الفرس والنبط". وهذا ما فعله ابن الزبير والحجاج وأخوه محمد بن يوسف الثقفي.
واشتملت بعض الدور الفخمة على غرف علوية تسمى الواحدة منها "عُليّه" والجمع علالي، ويستخدم في الصعود إليها المراقي أو الدرج، وكان أهل مكة يبنون في بعض غرفهم "رواشن"، وهي الرفوف، وقلّ أن تخلو منها دار من دور مكة، ويوضع عليها الثمين من المتاع. و"الروشنة" في البيوت الكويتية والخليجية القديمة، رف مربع الشكل يُحفر في جدار الغرفة بنحو ثماني بوصات، وبارتفاع قدمين وبعرض قدمين توضع به الحوائج والأشياء.
ولإضاءة الغرفة، كان أهل مكة يتركون فتحة عند بناء الجدار ليدخل الضوء والهواء يسمونها "الكُوّة". وقد استفادوا من أسطح دورهم للجلوس والنوم ليلاً، وكان بعض أهل مكة يقدمون طعام الولائم فوق الأسطح، لأنه مكشوف ويتسع لجمع كبير من المدعوين. واعتمد المكيون على الآبار المنزلية التي استخدم بعضها إلى القرن الثالث الهجري. وليست لدينا معلومات عن وجود مراحيض داخل البيوت عند ظهور الإسلام. وذكر أن أهل المدينة لم يتخذوا الكُنُف - المراحيض عند ظهور الإسلام، "وإنما كان أمرهم في ذلك أمر العرب الأُول يلجأون إلى البرية أو في فُسح المدينة. ويظهر أن حال أهل مكة عند ظهور الإسلام لم يختلف كثيراً عن أهل المدينة". وكانت النساء تستخدم في البلدة حفراً عميقة أُعددت في أفنية المنازل لهذا الغرض. وكانت أسطح المنازل تستخدم لهذا الغرض كذلك. أما في الإسلام فقد استمر أهل مكة يأتون الشعاب والأودية لقضاء الحاجة. ويظهر أن استخدام الكُنُف في المنازل قد بدأ من أوائل الإسلام.
وانتقل المكيون من "الأثافي"، وهي عبارة عن ثلاثة حجارة يوضع عليها القدر وتوقد من تحته النار، ثم استعاضوا عنها بمناصب الحديد. وعرفوا "التنور" وهو البناء البارز المدور على الأرض، و"الساعور" وهو الذي يحفر في الأرض. وكانت القدور مصنوعة من حجارة البرام، كما ورد ذكر المراجل في زمن معاوية وهي قدور كبيرة من نحاس. ومن الآنية التي يقدم فيها الطعام المطهي الصحفة والقصعة وتصنع من الخشب. أما "الجفنة" فقد وُصفت بأنها أعظم القصاع. وكان لأشراف مكة جفان مشهورة مثل جفان عبدالله بن جدعان وجفنة أبي جهل، واستمر وجهاء مكة في الإسلام يقدمون الطعام في جفان. وكانوا يستخدمون وعاء "العس" للأكل والشرب معاً. وكانوا يشربون بالقدح والكوز والقَعْب والعُلبة. أما الآنية التي يقدم عليها الطعام فهي "النطع"، وهو من الجلد توضع عليه المائدة أو الفواكه، كما توضع عليه الأطعمة اللينة. وكانوا يأكلون الطعام على السفرة، وهي ذات عصام أو مسكات تعلق منها إذا انتهوا من الطعام، وتكون من الجلد المستدير أو خوص النخيل، وهذه ظلت تستخدم حتى وقت قريب في البلدان الخليجية وغيرها.
أما أواني حفظ الماء فمعظمها من الجلد، وتختلف مسمياتها وفقاً لحجومها وهيئاتها.
ومن أنواع الحلوى الفاخرة التي عرفت بمكة منذ العهد السابق للإسلام "الفالوذج". وتضيف د. البابطين، أن الفالوذج "من الحلوى الفارسية الأصل، واشتهر بصنعها قبل الإسلام غلمان من الفرس لعبدالله بن جدعان التيمي" ومن الحلوى أيضاً التمر بالجوز والكعك، وهو من الحلوى الفارسية الأصل يُحضّر من الخبز أو الدقيق والحليب والسكر، وبعض الإشارات تفيد أنه يُحمل إلى مكة من الشام. ومن أنواع الحلوى التي عرفت بمكة في العهد الأموي بتأثير فارسي الخشكنانج - ربما أصلها خشك نانك أي الخبز المجفف - وهو دقيق يعجن بزيت السمسم وماء الورد عجناً جيداً ويترك ليتخمر ثم يُقطع ويحشى باللوز والسكر".
وتلاحظ الباحثة على مأكولات هذه المرحلة "استمرار معظم الأكلات القديمة.. وأن التأثير الفارسي يفوق كل تأثير سواه، بل إن معظم الأكلات الجديدة تحمل أسماءها الفارسية".ولعلّ الوضع في تلك الأزمنة كان شبيهاً بعصرنا الراهن، حيث تحمل معظم الأكلات والوجبات أسماء فرنسية وإيطالية وأميركية وهندية وصينية.. وغيرها!
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة للمؤتمر الوطني العراقي
Copyright © 1997-2016 Iraqi National Congress. All rights reserved. info@inciraq.com