متابعات

توفيق صالح للوثائقية: أهم أفلامي بدون سيناريو

درب المهابيل فشل عند عرضه واعتبر من الكلاسيكيات
أخرجت أفلاماً تسجيلية كثيرة وأهمها كان بدون سيناريو
 فيلم "الأيام الطويلة" يروي قصة صدام حسين وليس البعث ولم أتقاض عنه مليماً

سألته: سميرة مزاحي

المخرج توفيق صالح جنح منذ بداياته لما هو مغاير وجديد على الفن السينمائي، وذلك بتقديم تجارب جديدة حطم بها المعطيات القديمة السائدة في هذا العصر، حيث تميز أسلوبه بالواقعية والتألق، وبدا ذلك جليا في طرحه لقضية أهمية العلم في مواجهة الفقر والجهل في فيلم "صراع الأبطال" عام1962م، وجرأته في تجسيد الصراع بين القديم والجديد في فيلم "السيد البلطى" عام 1967م، كما تطرق إلى الثورة وإخفاقاتها في فيلم المتمردون، وعالج بسخرية علاقة القانون بالواقع في فيلم "يوميات نائب في الأرياف" في عام 1968م، كما شارك فيلمه "المخدوعون" في أسبوع المخرجين في "مهرجان كان الدولي" عام 1972م، فكانت رحلته عبارة عن رصد تاريخي لأمة شاهدا على تحولاتها، ونجده أيضا رقما مهما عادة ما تضاف إليه الأسماء الأخرى في التأسيس لحركة تحويل السينما إلى قطاع عام، وبالرغم من كل هذا التاريخ المضيء.. وأكثر، وبرغم
 عشقه الذي بلا حدود لعالم السينما، إلا أنه فرض العزلة على نفسه منذ سنوات طويلة إلى أن التقيناه ضيفا في مهرجان الإسماعيلية الدولي للسينما التسجيلية، حيث استقبلتني زوجته السيدة "روضة" في الجناح المخصص لإقامتهم، تلك السيدة التي ما إن تراها حتى تدرك سر إبداع هذا الرجل... وكان معه هذا الحوار الجريء فهو كإنسان لا تنقصه الشجاعة في تعرية الذات، والكشف عن عيوبها ولحظات ضعفها، مثلما يكشف عن لحظات كبريائها وزهوها.
 
محطات مهمة في حياة توفيق صالح

الإسكندرية

هو من مواليد الإسكندرية في 27 أكتوبر 1926م، درس في "كلية فيكتوريا كوليدج"، عشق الفن من خلال قراءاته لمسرحيات شكسبير بالإنجليزية، وأحب اللغة العربية من خلال قراءاته لكل ما كتب توفيق الحكيم... يقول توفيق صالح: لقد تربيت فنيا على مسرحيات توفيق الحكيم، وبعد التحاقي بكلية الآداب ـ قسم اللغة الإنجليزية ـ كانت سعادتي لا توصف لأنني عثرت في مكتبة الجامعة على نسخة من رواية توفيق الحكيم "يوميات نائب في الأرياف" باللغة الإنجليزية التي أجيدها، وفى السنة النهائية أخرجت مسرحية "رصاصة في القلب" لتوفيق الحكيم أيضا، وعندما عرضت في المركز الثقافي الفرنسي بهرت جميع الحاضرين، وحصلت بسببها على منحة لدراسة المسرح في فرنسا قدمها لي رئيس القسم الفرنسي بالكلية، ولكنني طلبت أن تكون بعثتي لدراسة السينما وليس المسرح.

فرنسا

* ما الذي دفعك لدراسة السينما؟

يقول توفيق صالح: السينما كانت بالنسبة لي ولزميل الدراسة بمدرسة "فيكتوريا كوليدج" يوسف شاهين هي الحلم الكبير الذي لم يفارقنا يوما، ولكن يوسف سافر إلى أمريكا لدراسة السينما هناك، وسافرت أنا في عام 1950م لدراسة السينما في باريس، ولكن.. تم سحب المنحة مني بعد سنة واحدة لعدم انتظامي في الدراسة، فقد وجدت في باريس كل ما أفتقده في مصر مثلا لم يكن في مصر أي كتب في السينما، ولكن في باريس هناك مكتبات متخصصة في السينما والمسرح والموسيقى، وكنت أقضي الليل كله في القراءة والتردد على نوادي السينما ـ ويتنهد ـ ثم يقول: في باريس عالم آخر، حضارة أخرى.

صدمة التغيير بعد العودة

* كيف تآلفت مع التغيير بعد الثورة؟

يجيب صالح: بعد أن انتهت النقود معي اضطررت للعودة من فرنسا في عام 1953م، يعنى بعد قيام الثورة في مصر، وقد كنت رافضا في البداية لفكرة الثورة، حتى جاء قرار تأميم قناة السويس وتغيرت فكرتي تماما عن الثورة، وأدركت أن هناك فعلا رجلا وطنيا يجب أن نقف وراءه.
وأذكر أنه بعد عودتي كان الحماس يملؤني للعمل في السينما وتطبيق كل ما تعلمته، ولكنى قررت أن أشاهد أولاً ما تم إنتاجه من أفلام خلال سنوات غيابي عن مصر.

صالح أحد حرافيش نجيب محفوظ

* كيف كان التعارف بينك وبين نجيب محفوظ؟

يتذكر صالح ما حدث ويقول: عند متابعتي للأفلام، لفت نظري تكرار اسم نجيب محفوظ في أكثر من فيلم، ولم أكن أعرفه من قبل وسعيت للقائه خلال ندوة أقيمت له، وطلبت رأيه في معالجة سينمائية كنت قد كتبتها من تأليفي قبل أن أعرضها على المنتج، ولكن المفاجأة أنه اتصل بي بعد أيام لينصحني بعدم تنفيذها قائلا: "لو نفذتها حيقولوا عليك شيوعي". ولكن لأن الفكرة أعجبته قرر إعادة صياغتها وقام بتغيير الاسم الأصلي إلى "درب المهابيل"، وقتها أدركت أنه كاتب وأديب كبير وبدأت أقرأ له، وتطورت صداقتنا بعد ذلك، وكان يصطحبني معه إلى حي الحسين، وقهوة الفيشاوى. تلك الأماكن تعد تجسيدا فعليا لفكرة فيلم "درب المهابيل "فالفيلم يطرح قضية الصدام الناتج عن التناقض بين مستلزمات العصر وبين التراث والتقاليد الدينية.

قلب الموازين

كيف تسبب فيلم درب المهابيل في قلب الموازين السينمائية؟

قال توفيق صالح: عند إخراجي لفيلم درب المهابيل عام 1954م كان كل همي الابتعاد عن النمط السائد في الأفلام، كان هدفي تقديم لغة جديدة متميزة في السينما المصرية، وبالرغم من أن الفيلم أعتبر من أهم أفلام السينما المصرية فيما بعد، إلا أنه فشل في وقت عرضه، وهاجمه النقاد والصحفيون، ولكن ـ بعد أن فاز الفيلم بجائزة وزارة الثقافة حدث تغير كبير وأصبح يعرض في نوادي السينما على أنه نموذج جديد للسينما المصرية.

معاناتي مع معهد السينما

* متى كان انضمامك إلى هيئة التدريس بالمعهد العالي للسينما؟

يبتسم توفيق صالح وهو يقول: أنا كنت من أوائل الناس الذين قاموا بالتدريس في معهد السينما عندما أنشئ، ولكن بعد فترة من الوقت حوالي عامين أو أكثر (طردوني).

ويضيف متعجبا: السبب!! كنت أفضل كأستاذ لمادة الإخراج في المعهد أن يكون التدريب عمليا، ولهذا كنت أصطحب معي الطلبة في أوقات عملي بالأستوديو ـ في البداية ـ كان المسئولون بالمعهد فرحين بأسلوبي، لكن.. فوجئت بأنهم طردوني قبل نهاية العام الدراسي حتى امتحاني تم استبداله بآخر، وحرمت من أخذ مستحقاتي المالية، وعلمت بعد ذلك أن هناك شكاوى قدمت في حقي تتهمني بأنني أعمل ضد الدولة،  وأنني أشرب السجائر أثناء المحاضرات في رمضان، وأنني تسببت في تأخير الطالبات عن الرجوع لبيوتهن بسبب المحاضرات العملية في الأستوديو.. (حاجات كده يعنى مالهاش معنى).

وبمرارة يكمل كلماته: نتيجة هذا كله كنت خسرت موقعي كأستاذ بمعهد السينما وبعد عدة أعوام لا أذكر عددها أعادوني مرة أخرى وبدأنا لعبة في منتهى الغرابة قواعد اللعبة هي: (المسئولين يرفدونى إنهاردة وبعد كام شهر يرجعوني)، لأنهم وجدوا أن وجود اسمي ضمن قائمة هيئة التدريس يكسب الناس الثقة في المعهد، في حين أنني استقلت رسميا.

تجربة الأفلام التسجيلية

* كم عدد الأفلام التسجيلية التي أخرجتها؟

يجيب صالح: أنا أخرجت أفلاما تسجيلية كثيرة جدا، ولكن هناك فيلمين هما أقرب إلى نفسي من غيرهما، أولهما كلفني بإخراجه المخرج الكبير أحمد بدرخان عندما كان مستشارا لمؤسسة السينما في أواخر الخمسينيات، الفيلم كان دعاية لفن العرائس الذي أدخل حديثا في مصر، وبالرغم من سهولة الفكرة إلا أنني عجزت عن الالتزام بالروتين وقواعده التي تجبرني على كتابة سيناريو للحصول على موافقة الرقابة.

ويضحك توفيق صالح بصوت مرتفع وهو يقول: والله أنا كنت وقتها مفلس ولا أملك مليما واحدا، وعندما صارحت أحمد بدرخان بذلك قال لي: يا ابني ده فيلم دعاية! طيب إنت عايز إيه، قلت له: أنا ح أسلمك فيلم يشرفك، بشرط انك لا تطلب منى سيناريو. وقد كان ـ ووضعت في هذا الفيلم الكثير من الإبداع، وأثبت أن فن العرائس في مصر منذ أيام الفراعنة، مرورا بعرائس المولد كتراث شعبي، وانتهاء بفن تصميم وتحريك العرائس الحديث، مدة الفيلم كانت حوالي 9 دقائق، وتم تلوينه في معامل ألمانيا، وقد أشاد به الجميع وتم تقييمه أنه من أنجح الأفلام التسجيلية في السينما المصرية، لما تميز به عن كونه فيلم دعاية.

وكان هذا الفيلم فاتحة خير لي وبدأت أكلف بعمل أفلام دعاية خاصة لبعض الوزارات، كما أخرجت سلسلة أفلام عن إنجازات الثورة، كانت تعرض في احتفالات كل عام.. للأسف هذه الأفلام لا أعلم أين هي الآن ويحزنني أنني أرى لقطات منها تمت سرقتها للاستعانة بها في أعمال أخرى.

"القلل" ضد التهميش

* وماذا عن الفيلم التسجيلي الثاني الذي تعتز به؟

يجيب صالح قائلا: الفيلم الثاني كلفت بإخراجه من وزارة الثقافة بعد إعلان عدد كبير من السينمائيين عن غضبهم نتيجة تهميشهم، نتيجة توزيع الإنتاج على عدد قليل من السينمائيين دون غيرهم، واختارت الوزارة مجموعة من الأفكار وتم توزيعها على الثائرين لتهدئتهم، وجاء دوري وكلفت بإخراج فيلم تسجيلي عن "القلل"، ولأنني في رهان دائم من أجل التميز قمت بعمل دراسة شاملة عن نشأة "القلة"، وطريقة صنعها، والقوالب الجمالية التي تخصص لوضعها على جوانب الشبابيك التي اشتهرت في التاريخ العربى الإسلامي، ولم أكتف بذلك ـ ولكنى استعنت بمشهد كان قد طبع في ذاكرتي من رواية قرأتها للأديب يحي حقي عن راقصة تتعامل مع القلة بمهارة فائقة أثناء الرقص فتضعها على رأسها تارة وتارة أخرى تلتقطها بقدميها.. وهكذا.

وجاءت اللحظة الحاسمة، والمتمثلة في عرض الفيلم على لجنة الرقابة وكان يرأس اللجنة صديقي الكاتب الكبير نجيب محفوظ، وإذا بصوت ضحكات نجيب محفوظ تجلجل المكان خارج قاعة العرض حيث كنت واقفا، وعندما خرج قال لي: القلة راحت فين يا توفيق؟ وكانت النتيجة هي رفض لجنة التحكيم عرض الفيلم.

أقول لك بصراحة.. أنا أخذت النسخة الأصلية ومحتفظ بها في بيتي إلى الآن.

صراع الأبطال يحل أزمة السينما

* هل يمكن أن تحكي لنا عن دورك في تحويل السينما إلى قطاع عام؟

يحكي توفيق صالح فيقول: بعد صدمة الهجوم على فيلم "درب المهابيل"، توقفت عن الإخراج سبع سنوات كاملة، إلى أن أسند لي المخرج الكبير عز الدين ذو الفقار إخراج فيلم "صراع الأبطال" عام 1962م، وهو يحكى عن صراع الشعب المصري مع مرض الكوليرا أثناء فترة الاحتلال الإنجليزي، وعندما عرض الفيلم على الرقابة لتجيزه، فوجئت بقرار حذف (22 مشهدا) من مشاهد الفيلم قبل عرضه في دور العرض، وناقشت الرقيب ولاحظت تعاطفه معي وانتهينا إلى حذف مشهد واحد (يصور مجموعة من الفلاحين أثناء جمعهم ـ زبالة ـ المعسكر الإنجليزي ويظهر أحدهم وهو يلتقط شيئا ما ويأكله)، من أجل الحفاظ على صورة وكرامة المصري. ووافقت على ذلك بالرغم من أن باقي الأحداث تصور هذا الفلاح يمرض ويموت، ولكن لأن المشاهد لم يره وهو يأكل من الزبالة فلم يفهم سبب وفاته، وبعد عرض الفيلم، أصدر الرئيس جمال عبد الناصر قراره بتحويل السينما إلى قطاع عام، بعد محاولات عديدة استمرت ثلاث سنوات كانت تنتهي بالرفض القاطع قبل فيلم "صراع الأبطال".

رقابة "المتمردون"

* ماذا عن صحة اتهامك بأنك شيوعي؟

يبتسم بهدوء ويقول: السبب في هذا الاتهام هو إخراجي لفيلم "المتمردون" عام 1966م، وقد تعرضت فيه لإخفاقات الثورة، وتدهور الوضع السياسي في مصر بعد أحداث حرب اليمن، وهو ما كنا نعيشه بالفعل، ولكن جاء قرار الرقابة بالمنع من العرض دون إبداء الأسباب، فقد رفض أعضاء الرقابة كتابة تقرير يدين الفيلم لأنه من إنتاج القطاع العام، وبعد عامين تقرر عرضه وكرمت بمنحي نيشانا عن إخراج "المتمردون"، ولكن رئيس شركة توزيع القطاع العام رفض بيع وتوزيع أي من أفلامي خارج مصر بحجة أنها تسيء إلى سمعة مصر، واتهمني بانتمائي للشيوعية. ويكمل توفيق صالح ويقول: أنا لم أكن يوما شيوعيا، ولن أخجل أن أصرح بذلك إن كانت تلك هي الحقيقة، ولكن حقيقة الأمر أن كثيرا من أصدقائي كانوا شيوعيين، وبعيدا عن انتماءاتهم فقد كانوا من أفضل العقول التي يمكن التعامل معها.

هزيمة سيد البلطى

*هل أبعدك قرار الرقابة عن الإخراج؟

بسرعة يقول: على العكس اتخذت من هذا القرار حافزا لإخراج المزيد من الأفلام وقمت بإخراج فيلم "السيد البلطى" في عام 1967م، وكان يحكى عن شعب يخلق من شخص ما أسطورة، ويراهنون على قدرته على عمل كل شيء، فتكون النتيجة هي الهزيمة.. وكعادة الجميع في طريقة استقبالهم لأفلامي، فقد قوبل بالرفض ومن ثم بالهجوم، والحذف للكثير من المشاهد.

النجوم في عز الضهر

*ما هي العلاقة بين وزير الداخلية ويوميات نائب في الأرياف؟

تعلو ضحكات توفيق صالح ويقول: "شعراوي جمعة ـ ورانى النجوم في عز الضهر ـ لولا عبد الناصر ما كانش الفيلم ده إتعرض"،  وتبدأ القصة بعد إجازة الرقابة لعرض فيلم "يوميات نائب في الأرياف"، علم شعراوي جمعة ـ وزير الداخلية ـ في هذا الوقت أن الفيلم به مشاهد يظهر فيها ممثلون يقومون بدور ضباط، فطلب رؤية الفيلم قبل عرضه، ولكن في حقيقة الأمر أنه لا يمتلك صلاحية اتخاذ قرار عرض الفيلم من عدمه طالما حصلت على موافقة الرقابة، وتم استدعائي وبلغت بأن قرار السماح بعرض الفيلم يتوقف على موافقتي بإخراج فيلم تسجيلي بالألوان  تحت عنوان "الشرطة في خدمة الشعب"، وجاء ردي بالرفض وقلت لهم: أنا ما أعرفش أعمل أفلام تسجيلية، وكانت نتيجة هذا الرفض معاناة ثلاثة شهور وتشكيل ما يقرب من عشر لجان حتى إنه قام برئاسة إحدى هذه اللجان بعد أن وزع على أعضاء اللجنة نسخا من رواية نجيب محفوظ لقراءتها والتوصل لأية مشاهد كنت قد اختلقتها ليتم حذفها، والمدهش إجماع اللجان على المستوى الجيد للفيلم، وعدم احتوائه على ما يستحق الحذف.. ولأنه كان مسئولا عن الاتحاد الاشتراكي فقد قرر عرضه على لجنة الاتحاد الاشتراكي والتي يبلغ عدد أعضائها (115 عضوا)، وشاركهم المشاهدة جميع ضباط ومباحث وزارة الخارجية ولم يقتصر العرض على هؤلاء فقط ولكنى فوجئت بحضور وزراء وشخصيات هامة ذات وجوه مألوفة، عدا شخص واحد لفتت نظري الحفاوة التي استقبله بها الجميع، وسألت رئيس مؤسسة السينما عن هوية هذا الرجل، فإذا به يقول لي: ده مدير مكتب الرئيس جمال عبد الناصر.. وأمسك بكتفي وقال: "بص يا ابني إنت يا إما حتدخل السجن.. يا إما حتدخل التاريخ" ويبتسم صالح بسخرية وهو يقول: أثناء فترة العرض كنت أتنقل بين الصفوف دون أن يلاحظني أحد لأستمع إلى التعليقات، إلى أن وصلت للصفوف الأمامية خلف الوزراء فوجدت وزيرا يقول لزميله: (آهى الحته دى في الفيلم تبعك..)، وآخر يعلق على أحد المشاهد ويقول (آه ده أكيد قصده على فلان..).. وهكذا، كان عرض الفيلم يوافق يوم الأربعاء، اتصل بي مدير مكتب وزير الثقافة وطلب مني إحضار نسخة من الفيلم وعندما سألته عن السبب، أخبرني أن رئاسة الجمهورية هي التي أرسلت في طلبه.

وفى يوم السبت جاءني رئيس مؤسسة السينما ليخبرني بما لم أكن أصدق حدوثه، وقال بالحرف الواحد: "إمبارح إللي هو كان يوم الجمعة، أرسلت رئاسة الجمهورية في طلبي، وعندما أخبرهم أبنائي أنني أصلي في سيدنا الحسين ـ ماكدبوش خبر ـ وصلوا وطلعونى من الصلاة، وقابلت الرئيس جمال عبد الناصر، وأخبرني أنه أصدر أمرا بعدم التعرض بالحذف لأي من مشاهد فيلم "يوميات نائب في الأرياف"، وقال لي: "إذا كانت المؤسسة ستقوم بإنتاج أربعة أفلام في العام الواحد على مستوى هذا الفيلم، سأضاعف من ميزانيتها".

عارفة النتيجة كانت إيه؟؟ لا الميزانية تضاعفت.. ولا أنا لقيت شغل، لأن رئيس مجلس المؤسسة قال لي: روح يا ابني دور لك على شغل، إنت مالكش شغل معانا تانى، أفلامك بتعمل لنا مشاكل مع كل الوزارات.

المخدوعون ولعنة النقاد

*وماذا عن فيلم "المخدوعون"؟

يقول توفيق صالح: بعد كل ما حدث، أصبحت لعنة في نظر النقاد، وأصبحت بدون عمل، إلى أن جاءتني دعوة المؤسسة العامة للسينما بسوريا تتمثل في استعانة المؤسسة بي في إخراج أحد الأفلام لهم، وسافرت سعيدا بذلك فقد كان ذلك أيام الوحدة بين مصر وسوريا،  ولكن بعد عرض أوراق المعالجة الأولى للفيلم على لجنة القراءة بمؤسسة السينما ثار أحد الأعضاء واتهمني بأنني جئت إلى سوريا لأنافسهم ولأحرمهم من العمل، ولكن المؤسسة دافعت عني، وطلبت تدخلا رسميا من وزير الثقافة، وتمت الموافقة على رواية غسان كنفانى "رجال تحت الشمس" والتي قدمت فيلما باسم "المخدوعون"، وهو يحكى عن هروب ثلاثة فلسطينيين إلى الكويت بحثا عن المال والاستقرار، وكأنهم على موعد مع الموت في غياب الحل العربي لقضيتهم ـ ولكن ـ منع الفيلم من العرض، وخرج قرار اللجنة بأن الفيلم دون المستوى الفني، وقال أحدهم: "أي مساعد مخرج من سوريا كان قادرا على إخراج هذا الفيلم أفضل من ذلك". إلى أن جاء يوم عرضه في مهرجان دمشق بسبب إصرار الناقد سمير فريد لإعجابه الشديد به، وشاهده الطاهر شريعة ـ رئيس مهرجان اليونسكو، وثلاثة من كبار النقاد في فرنسا، ومارسوا ضغوطا على مدير المؤسسة للسماح للفيلم بالاشتراك في "مهرجان كان الدولي" عام 1972م، ووافق شريطة أن لا يكون ضمن أفلام المسابقة الرسمية، وأحدث الفيلم ضجة كبيرة، وأشادت به الصحافة الفرنسية، كما حصل موزع فرنسي على حق توزيعه.

المفاجأة.. جاءت بعد 30 سنة بتكريمي في مهرجان دمشق، باعتبار فيلم "المخدوعون" من أهم إنجازات السينما السورية، وحصل على الجائزة الأولى في "مهرجان قرطاج".

من سوريا إلى العراق

*ولماذا كان السفر إلى العراق؟

بعد أن قضيت في سوريا 4 سنوات، التقيت هناك ببعض العراقيين، وطلبوا منى السفر إلى العراق للمساهمة في دورة تدريبية لمخرجي التليفزيون، وبالفعل وافقت حتى أستطيع سداد ديوني في سوريا، وقضيت أحد عشر عاما في العراق، وأنشأنا معهد التليفزيون هناك، وبعد ذلك أعددت برنامجا لدراسة قسم السينما في (أكاديمية الفنون بالعراق)، حتى أصبحت عضوا في مجلس إدارة مؤسسة السينما.

النهاية مع الأيام الطويلة

*هل كان فيلم "الليالي الطويلة" يؤرخ لحزب البعث الصدامي؟

يرد توفيق صالح: فيلم الليالي الطويلة لا يؤرخ لحزب البعث لا من قريب ولا من بعيد، هو يحكي عن بداية التحاق صدام حسين بحزب البعث حين كان عمره 19 عاما، وكلف هو ومجموعة من زملائه في الحزب بتنفيذ عملية اغتيال عبد الكريم قاسم ـ رئيس الوزراء العراقي عام 1959م، ولكنه فشل  نتيجة إصابته برصاصة في ساقه، واختبأ داخل الوكر (المكان الذي كان يتجمع فيه أفراد الحزب)، حتى استطاع أن يتخطى معاناته من الإصابة، وعندما علم بأنه تم القبض على باقي زملائه، استطاع صدام الهروب من بغداد حتى وصل إلى الحدود السورية، وأقام في مصر كلاجئ سياسي.

*ولكن إخراجك لهذا الفيلم تبعه هجوم شديد نال من شخصك؟

يقول توفيق صالح: لأنني كنت موظفا لديهم، ظلوا لمدة عامين متتاليين يتكرر عرضهم لي بإخراج هذا الفيلم عن صدام، وكان ردي عليهم بالرفض دائما، إلى أن أقنعني صديق لي وكان واسطة بيني وبينهم.

*ولماذا الرفض؟

يقول توفيق صالح: كنت أرفض لأني قلت أنا ما ليش دعوة بالحكام، وأيضا لما كان معروفا عن صدام حسين من سخاء في الدعم المالي لا بهدف دعم مشاريع الإبداع، بقدر ما كان بهدف دعاية رخيصة لنظامه.

المهم ما حدث بعد ذلك لم أكن أتخيل حدوثه، فقد قاد ناقد مصري حملة ضدي، وأشيع عنى أنني تقاضيت مليون دينار عن هذا الفيلم، وأنني قد بعت نفسي لنظام الحكم، ووجه لي قذفا شخصيا بأبشع الشتائم على صفحات الجرائد العربية، في حين أن هذا الناقد كان معروفا عنه تردده على العراق من أجل جني المال، واعتبر أن الجميع مثله.

*كم تقاضيت أجرا عن هذا الفيلم؟

على الفور يجيب توفيق صالح قائلا: ولا مليما واحدا، فبعد نجاح الفيلم وعرضه أخبرني وزير الثقافة العراقي أن صدام حسين قال له: "الفيلم ده خاص بي علشان كده مش ح أديله هدية، لكن لو عمل فيلم عادي أنا ح أديله"

الغربة داخل الوطن

*متى اتخذت قرار العودة إلى مصر؟

يجيب توفيق صالح قائلا: عندما كبر الحلم بداخلي أن أعود مع أولادي الذين ظلوا سنوات طويلة خارج مصر، وقد وصلوا إلى سن الوعي اتخذت قرار العودة حتى يكبر وعيهم على الانتماء لبلدهم، وساعدني على ذلك لقائي في العراق بصديق الدراسة القديم الذي أقنعني بأنه حان الوقت للعودة وزرع بداخلي الأمل والحماس بالعودة إلى الإخراج في مصر، وأكد أنني سأجد تغيرا كبيرا في المفاهيم، ووعدني بأن يقف بجانبي.

وقد كانت صدمتي بالواقع بلا حدود، فمن وعدني بالوقوف بجانبي طالبني بمبلغ 40 ألف جنيه حتى تنتج لي شركته فيلما وقال لي "أنا شركتي ما بتدفعش فلوس، إحنا بناخد دعم من فرنسا حتى نستطيع الحفاظ على الاستمرار. وكان ردي عليه: "أنا لو معايا 40 ألف جنيه ح أجيلك ليه؟"

والصدمة الأكبر كانت مع منتج آخر حيث وافق على التعامل معي وفوجئت بأن الأجر الذي أقره لي أقل من أجر المساعد الذي يعمل معي. وعندما واجهته، قال لي: لازم تبدأ من الأول، لأنك خرجت من السوق، فأصبح ليس لك سعر.. وتكرر هذا الموقف مع منتجين آخرين حتى قرر أحدهم أن يضعني في اختبار ليطمئن على قدراتي الإخراجية لأني مخرج بتاع زمان (كما قال لى)، وسألني: "تعرف تسرع الإيقاع في الأفلام؟"، وعلى الفور خرجت من مكتبه وقد أقسمت ألا أقدم على المحاولة بقية عمري.

متر المسلسل بكام؟

*لماذا لم تتجه لإخراج المسلسلات التليفزيونية كما فعل الكثيرون من مخرجي السينما؟

يقول توفيق صالح: من أقدموا على ذلك كان هدفهم الأساسي هو ـ الفلوس ـ لأن المسلسلات التليفزيونية يتم الحساب فيها بعدد الساعات والدقائق للحلقة الواحدة، زى ما تشترى قماش،  البياع يقول لك الـ3 أمتار بكذا، والـ6 أمتار بكذا، أما أنا فدائما هدفي كان الإبداع لهذا لم ولن أفكر في إخراج مسلسلات. وخاصة بعد أن اكتفى الإنتاج المصري بعمل المسلسلات، وترك الساحة السينمائية للفضائيات العربية، فأصبح الإنتاج المصري يباع لشركات (ART)، وروتانا، و(MBC) وجميعها برأس مال سعودي.

خرافة اسمها تنسيق عربي

*هل ترى بادرة أمل في إحداث تكامل بين المؤسسات العربية؟

يجيب بنبرة لا تخلو من السخرية ويقول: لا... لن يحدث أبدا التكامل بين البلاد العربية ـ إلا ـ في حالة واحدة وهى الاستعانة بكوادر أجنبية في كل بلد عربي مهمتها تنحصر في تنسيق التعاون بين البلاد العربية وبعضها، ومحاولة إيجاد لغة للتحاور.

*وعن سبب تلك النظرة التشاؤمية يقول توفيق صالح موضحا: تجدين اليوم مهرجانات في كل بلد عربي وأشهرها مهرجان أبوظبي، ومهرجان دبي ميزانية كل منهما تعادل ميزانية (20 فيلما مصريا)، وجوائزهما تمنح للأفلام الأمريكية، وكما يسعون لشراء ملاعب الكرة في انجلترا، وفرق رياضية إنجليزية، كذلك ينجحون في شراء نجوم من هوليود. ولا مانع من مشاركة شوية أفلام عربية من (مصر وسورية والعراق..) لإسكات الألسنة.

المهرجانات لا تخدم صناعة السينما

*ألا ترى أن المهرجانات تكون فرصة للاطلاع على ما ينتجه الغير من جديد وهو ما قد يخدم صناعة السينما؟

نفى توفيق صالح ذلك وقال موضحا السبب:  المهرجانات لم تخدم السينما الروائية ولا السينما التسجيلية في مصر، أولا: لأن لجان التحكيم لا تجيد اختيار الأفلام الجيدة، وسأعطيك مثالا على ذلك ما شاهدناه بالأمس في أفلام المسابقة بمهرجان الإسماعيلية وخاصة الفيلم التسجيلي الأرجنتيني فقد كانت مدة الفيلم 90 دقيقة وبعيدا كل البعد عن اللغة السينمائية، فهو يصور أناسا يتحاورون بالأرجنتيني ومن وقت لآخر يظهر سطران بالإنجليزي، والمدهش أنه لا يوجد أحد بقاعة العرض يعرف اللغة الأرجنتينية وأغلبهم لا يعرف الإنجليزية.

ثانيا: أجد القليل جدا من السينمائيين هم من يحرصون على حضور المهرجان، وأغلبهم من توقفوا عن العمل مثلى، والباقون منشغلون بأعمالهم.. يبقى المهرجانات علشان مين؟!!

قد ينال إعجابكم