أثناء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2014، تابع العالم صور الشهداء والجرحى من قطاع غزة في فلسطين. شاهدنا صورا لسيارات إسعاف وجرحى، لكننا لم نعرف الحكاية وراء ما نراه في عناوين الأخبار.

كيف عاش مستشفى الشفاء (تأسس في غزة 1946) بأطبائه وممرضيه والعاملين فيه مع الجرحى والشهداء، خمسين يوما، تحت وابل القصف العدواني.

كيف كان الأطباء في غرفة العمليات يفطرون في رمضان، وكيف تتحول غرفة العناية المركزة وغرف المرضى العادية -وحتى الممرات- قاعات للعمليات، وكيف ينظف عامل فلسطيني آثار الدم باستمرار، ليمكن للجرحى في المستشفى الشفاء، دون أن يحصل على راتبه، وكيف تعمل الممرضة في المستشفى وعائلتها تحت القصف بعيدا لا تستطيع الاطمئنان عليهم.

هذه قصة حلقة "فلسطين تحت المجهر-مستشفى الشفاء" والتي بثتها الجزيرة اليوم الأربعاء 19/8/2015 تزامنا مع ذكرى العدوان الإسرائيلي على غزة صيف العام الماضي.

وداع الأحبة
تابعت كاميرا الجزيرة أما فلسطينية من عائلة البطش تودع أحبابها الشهداء بقولها "في الجنة اللقاء"، وأبا فلسطينيا من عائلة القصاص حين يفجع بمقتل أبنائه الثلاثة.

وبعد عام كامل، تابعت جريحا نراه في أول الحلقة يفقد رجليه ويتبرع له عمه بالدم، ويدخل في حالة حرجة في غرفة العناية المركزة، وكيف يأتي إلى المستشفى بعد عام كامل. ونتابع طفلة جريحة تصاب في يدها اليمنى، وكيف ما زالت بعد عام كامل تتعالج من أجل أن تستطيع معاودة الكتابة.

عايشنا النازحين من بيوتهم المهدمة إلى باحة المستشفى حيث ما زالوا بعد أكثر من 12 شهرا ينتظرون إعادة الإعمار، أطباء وممرضين تطوعوا بكل طاقاتهم لإنقاذ إخوانهم من العدوان الإسرائيلي، وإعلاميين تجمهروا في المستشفى لنقل صورة ما يحدث من ظلم على غزة المحاصرة.

يقول أحمد العمادي، منتج بفريق برنامجي "تحت المجهر" و"فلسطين تحت المجهر" إنه لن يحفظ المشاهدون أسماء الجرحى والممرضين، فـ"شفاء جابر" سينسى المشاهدون اسمها "لكنها ستبقى في ذاكرة كل جريح ضمدت جراحه وخففت مصابه".

شاهدنا في الحلقة الطبيب النرويجي المتطوع مادس جيلبرت الذي يتطوع في كل عدوان إسرائيلي على قطاع غزة ليكون مع إخوانه الأطباء الفلسطينيين بمستشفى الشفاء، وليكون لسان الفلسطينيين إلى العالم. ولكن، تمنعه إسرائيل لاحقا من دخول قطاع غزة.

حين انتهت الحرب في أغسطس 2014، ظننت أنها لحظات صعبة واندثرت، ولم أكن أتصور أنني سأقاسي معايشتها يوميا، وأتجرّع مرارتها في كل مرةٍ أتسمّر فيها أمام شاشات المونتاج!

كان من المفترض أن أنهي مونتاج هذه الحلقة من برنامج "فلسطين تحت المجهر" في أشهر معدودة، لكن الأمر استغرق أضعاف ما توقعت، لأنني كنت والفريق معي نصاب بنوبات من مزيج الصدمة والقهر والألم، أوصلتني حد النحيب في أحيان.

 لم أكن أقوى على البقاء أمام مشاهد مستشفى الشفاء لفترات طويلة، ولا أحتمل الاستماع للكثير من حكايا الألم التي حملتها لنا أجهزة التسجيل، بقصد وبغير قصد.

51 جرعة من الوجع المتوالي، بين جدران مستشفى الشفاء، المغلف ظاهرا بالطلاء الجديد الذي يخفي خلفه ضعفا في الإمكانيات وتواضعا في التجهيزات الطبية وعجزا في الأدوية واللوازم الضرورية، فالحصار والعدوان أضعف المستشفى، لكن ذلك المجمع يكتنز كفاءات بشرية عالية اكتسبت الخبرة العملية من خلال تعاملها مع الآلاف من الحالات عبر أزمات صعبة وحروب طاحنة، حيث يتحمل مستشفى الشفاء ما تنوء عن حمِله كبرى المستشفيات العالمية، ثم إنه يختزل بين جدرانه معاناة غزة ما بين الحصار والحرب، وفي هذا الفيلم "مستشفى الشفاء" نكتشف مستشفى الشفاء غير الصورة النمطية التي تنتقل عبر الأخبار.

عشت وفريق العمل ومن خلال هذا الفيلم الاستثنائي مع أناس من غزة تنوعت حكاياتهم ما بين ألم الجراح ووجع الفقد ولوعة الغياب ومرارة العجز وبهجة السلامة والمعافاة وعزة النفس ولذة التعب والتضحية في سبيل خدمة الآخرين.

صعوبة هذا الفيلم فنيا بالنسبة لي كمخرج تأتي من كونه واقعياً مجرداً إلى حد بعيد، لا مجال أمامك أن تتدخل حتى في أبسط التفاصيل، كتتابع القصص في بعض الأحيان. حتى من ناحية الموسيقى، وجدت أنني أترك للإيقاع النفسي للمَشاهِد ومحتواها أن يعوّض الإيقاع الموسيقى الذي يكاد لا يخلو منه فيلم درامي أو وثائقي.

إن هذا العمل هو نسيج لقصص وحكايات لأناسٍ عاشوا لحظات الموت وأصرّوا على الحياة، إن أبطال هذا العمل: معصب وحنين وشفاء وزايد ودينا، لم يعيشوا أصعب اللحظات في مستشفى الشفاء فحسب مصابين وجرحى أو معالجين وأطباء، لكن معاناتهم استمرت بعد ذلك بسبب ما شهدوه في ذلك العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. 

أتمنى أن أكون قد وُفّقت مع فريقي الميداني في قطاع غزة وفريق الإشراف في الدوحة في نقل الصورة الحقيقية لعذابات وهموم أهلنا في غزة من خلال أيقونة هذه المعاناة - مستشفى الشفاء -  وأن أكون قد تمكنت من إيصال بعض الرسائل التي حمّلنا إياها العديد من الفلسطينيين الذين عايشناهم أوتحدثنا إليهم وأثقلوا كاهلنا بأمانيهم وتطلعاتهم وأحلامهم البسيطة في حياة كريمة وآمنة.

المخرج: أحمد الوحيدي
غزة - فلسطين