إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات وأحداث تاريخية / الدولة السعودية الأولى (1157 ـ 1233هـ) (1744 ـ 1818م)






مناطق ضرما والوشم والسر
منطقة الوشم
منطقة الأفلاج والدواسر والسليل
منطقة الحوطة
منطقة الخرج
منطقتا سدير و(الغاط والزلفي)
وادي حنيفة وروافده
الرياض وفروع وادي حنيفة
الشعيب والمحمل
حملة إبراهيم باشا
عالية نجد



الفصل الخامس

الفصل الخامس

مواجهة الدولة العثمانية للدولة السعودية الأولى وإسقاطها

 

كان التوسع السعودي في شبه الجزيرة العربية، مصدر تهديد للدولة العثمانية ومكانتها في العالم الإسلامي، وبخاصة بعد سيطرة السعوديين على الحرمَين الشريفَين. وحرصت الدولة العثمانية على استعادة تلك المكانة، والقضاء على الدولة السعودية. فكلفت والي بغداد، الذي أرسل حملة ثويني بن عبدالله، وحملة الكيخيا علي باشا. وقد باءتا بالفشل.

ثم كان والي الشام، هو مناط آمال الدولة، في تخليص الحجاز من الحكم السعودي. ولكن هذا الوالي، لم يحرك ساكناً في هذا السبيل.

وأخيراً، لم يكن أمام الدولة العثمانية من خيار، سوى تكليف والي مصر، محمد علي باشا، القيام بمهمة القضاء على الدولة السعودية.

إن أول تكليف لمحمد علي باشا، كان من قبل السلطان العثماني، مصطفى الرابع، عام 1222هـ/1807م.

وقد أرسل محمد علي باشا إلى السلطان، يعتذر عن القيام بهذه المهمة الصعبة، بسبب الظروف الاقتصادية السيئة في مصر، الناتجة من انخفاض فيضان النيل، واستيلاء المماليك على الصعيد، والخشية من أطماع الدول الأوروبية في مصر.

ولما كرر السلطان تكليفه محمد علي باشا، خشي أن يكون هناك شرك تنصبه له الدولة. وأبدى، هذه المرة، عذره بأن قوته العسكرية غير كافية للقضاء على السعوديين؛ ولا بد من حشد طاقات عسكرية كبيرة، من ولايات العراق والشام، إلى جانب قوة مصر. كما أنه، منذ عام 1223هـ/1808م، بدأ يثير مشكله تخوفه من والي الشام، سليمان باشا، الذي يتهمه بالتعاون مع خصومه، المماليك، وربط قبوله هذه المهمة، بعزل هذا الوالي، وإسنادها إلى صديقه، والي الشام السابق، يوسف كنج، الذي لجأ إلى مصر، فاراً من الدولة. وبعد ذلك، بدأ يقترح على الدولة وجوب تسيير الجيوش البرية من الشام، بقيادة سليمان باشا نفسه، ليأمن جانب غدره به، أثناء تغيبه في الحجاز. وفي الحقيقة، كان محمد علي باشا، يطمع في أن تسند إليه ولاية الشام، إضافة إلى ولاية مصر.

ولما وجد محمد علي باشا، أن محاولاته للتخلص من تلك المهمة العسيرة، لا تنجح ـ جنّد طاقاته، وأعد الجيوش، البرية والبحرية، وعاونه، مالياً، على ذلك، رئيس تجار مصر، السيد المحروقي. ودبّ النشاط في مرافق بناء السفن، في السويس والقاهرة، لتجهيز السفن اللازمة لإبحار الجنود.

وحانت لمحمد علي باشا الفرصة، للتخلص من خصومه، أمراء المماليك، في مذبحة القلعة، التي دبّرها، في الجمعة 6 صفر 1226هـ/1 مارس 1811م، في مأدبة، أقامها لهم هناك، وغدر بهم.

وأرسل يطلب من الباب العالي، أن يمده بلوازم للجيش، تكفي لستة أشهر. وطلب مدافع ومهمات للسفن، وهدايا وخلعاً، لتقديمها إلى مشايخ القبائل، لاستمالتهم إلى جانبه. ولكن الدولة، لم تسعفه بشيء من هذا، سوى عدد قليل من المدافع.

وبلغ عدد رجال الحملة ثمانية آلاف رجل. منهم خمسة آلاف من المشاة والمدفعية، أقلتهم ثلاث وستون سفينة. وثلاثة آلاف من الفرسان، انطلقوا، براً، بقيادة أحمد طوسون، ابن محمد علي، عبر العقبة، نحو ينبع، حيث ستلتقى القوات جميعها.

1. الحملة الأولى، بقيادة أحمد طوسون، واسترداد الحجاز

كان محمد علي باشا، قد راسل الشريف غالب بن مساعد، من طريق تجار جدة وينبع، ليتأكد أنه سيقف إلى جانبه. ولمس منه الدعم له، مما سهل مهمته في الحجاز. كما أن الصدر الأعظم، طمأن الشريف بثقة الدولة به. وطلب منه أن يساند القوات القادمة إلى الحجاز.

تهيأت في الحجاز عوامل نجاح الحملة؛ فالشريف غالب، يتطلع إلى الخلاص من الدولة السعودية، وانقطاع الحجاج من الولايات العثمانية، الغنية، أضر بالتجار الحجازيين، كما أضر بزعماء القبائل، الذين كانوا يتقاضون إتاوات على قوافل الحج. ولهذا، فإن الفئات ذات النفوذ في المجتمع، كانت متوافقة مع زعامتها السياسية التقليدية، في المشاعر غير الودية، تجاه الحكم السعودي.

وبدأت قوات محمد علي باشا سفرها إلى الحجاز في 19 رجب 1226هـ/8 أغسطس 1811م، ووصلت إلى ميناء ينبع، الواقع تحت حماية قبيلة جهينة، المؤيدة للدرعية. فأخذ طوسون يستميل القبائل، القاطنة قرب ميناءَي المويلح وينبع، لتكون سنداً لقواته، وذلك بإغرائها بالأموال والهدايا.

وجرى أول اشتباك بين فرقة من القوات السعودية، وقوات طوسون. وكانت الفرقة السعودية بقيادة جابر بن جبارة، وسعود بن مضيان، من قبيلة حرب. ونزلت الهزيمة بها، وسارع قائداها في الانضمام إلى القوات السعودية الرئيسية. وواصلت الحملة المصرية سيرها نحو المدينة المنورة، تعاونها جموع من القبائل، التي استمالها طوسون بالهدايا والأموال. وتمكنت، بعد اشتباكات يسيرة مع الفرق السعودية، من الاستيلاء على قريتَي السويقة وبدر.

وفي ممر وادي الصفراء، تواجهت القوات السعودية، بقيادة عبدالله بن سعود، وسعود بن مضيان، في قتال حقيقي، مع قوات طوسون. وكانت القوات السعودية، قد تمكنت من احتلال الروابي المرتفعة في الوادي. وأنزلت قوات السعوديين هزيمة قاسية بقوات محمد علي، التي استولى عليها الرعب، ولاذ أحمد طوسون باشا بالفرار إلى ينبع، مع من بقي حياً من قواته. وأحصى طوسون باشا الذين وصلوا سالمين إلى ينبع من قواته، فوجدهم ثلاثة آلاف جندي، فأسرع يطلب المدد من والده.

وبعد هذه الهزيمة، استغل محمد علي باشا هذا الموقف، وكتب إلى السلطان، يصور له شراسة القوات السعودية، ويرسم له صورة مبالغاً فيها، لينال المدد العسكري من الباب العالي، ويطلب منه أن يضم إليه ولاية الشام، لأنه بدون هذه الولاية، لا يمكن قواته، أن تحقق أمل السلطان، استخلاص الحرمَين. واهتم الباب العالي بطلب محمد علي باشا إسناد ولاية الشام إليه، وعقد مجلس الشورى عدة اجتماعات لدراسته. وأدرك والي مصر تخوف الباب العالي من طلبه. لذا، غض الطرف عنه إلى حين، ورمى بكل ثقله في حرب الحجاز، وبذل جهده في إرسال المدد لابنه، طوسون.

ووصلت الإمدادات، بقيادة أحمد بونابرت (الخازندار)، عام 1227هـ/1812م. فتمكن طوسون، بعد وصولها، من نقل مركز قيادته إلى بدر، حيث نظم قواته ورتبها ترتيباً عسكرياً جيداً. وزحف بها إلى وادي الصفراء، فتمكن من احتلاله.

وبعد رحلة مضنية، تقدمت قوات طوسون إلى المدينة المنورة، وحاصرتها، وتمكنت من فتح ثغرات في سورها، بالمتفجرات. وبسبب طول مدة الحصار، وقطع الماء والطعام عن المدينة، وانتشار الأمراض، استسلمت القوات السعودية المتحصنة بالمدينة. ودخلتها قوات طوسون، في ذي القعدة 1227هـ/نوفمبر1812م. وأرسل طوسون البشارة إلى والده مصحوبة بثلاثة آلاف من آذان القتلى، ومفاتيح الحرم النبوي الشريف.

وبدخول طوسون المدينة المنورة، صارت قواته مسيطرة على المنطقة الشمالية من الحجاز. وارتفعت معنويات طوسون وجيشه. وسرت فيهم الحماسة. وكثر عدد المنضمين إليهم، من رجال القبائل. وفي المقابل، أصبح جهد القوات السعودية منصباً على الاحتفاظ بمكة المكرمة وما جاورها.

ووجد طوسون الطريق مفتوحة أمامه، للتوغل في الحجاز. وظهرت حاجة قواته إلى مرفأ، ليكون مركز تموين للجيش، في زحفه إلى مكة. فكانت عينه على جدة. فراسل طوسون باشا الشريف غالباً، سراً، ليسمح لبعض قواته بدخول مرفأ جدة. ووافق الشريف غالب، وسمح لقوات طوسون بدخول جدة، على الرغم من العهد، الذي جدده مع السعوديين، وكان ذلك في 12محرم عام 1228هـ /15 يناير عام 1813م. وأخذت قوات طوسون طريقها، زاحفة نحو مكة المكرمة.

وبمساعدة الشريف غالب، وبعض البدو، تمكنت القوات المصرية من دخول مكة، من دون قتال، بعد أن كانت قوات عبدالله بن سعود، قد انسحبت إلى قرية العبيلاء، قرب الطائف، واتخذتها معسكراً عاماً لها. وعم مصر والآستانة السرور بهذا الحدث.

وبعد أن استتب الأمر لطوسون في مكة، زحفت قواته، التي انضم إليها الأشراف، إلى العبيلاء، حيث كانت تعسكر القوات السعودية. وعلى أثر مناوشات بسيطة، أخلت القوات السعودية العبيلاء، وانسحبت إلى الخرمة، في 25 محرم 1228هـ/28 يناير 1813م. وقد دب اليأس في نفوس بعض القادة السعوديين، إزاء الموقف في الحجاز. وكان عثمان المضايفي، أحد هؤلاء القادة. فلم يقر به المقام في الطائف، بعد انسحاب عبدالله بن سعود، فتوجه إلى رنية. وأصبح فتح الطائف أمراً سهلاً، فدخلها طوسون، يصحبه الشريف غالب.

وهكذا، دخلت المدن الحجازية الكبيرة تحت سيطرة طوسون. وحققت القوات المصرية الهدف الأساسي للدولة العثمانية، وهو استعادة الحرمَين الشريفَين، من السعوديين. وإن كانت الدولة السعودية، قد فقدت الحجاز، فهي لا تزال قوية، ومحتفظة بالمناطق الأخرى، التي تثق بولاء سكانها.

وأحدثت القوات السعودية تغييراً في خططها العسكرية، يقوم على إخلاء مواقعها، تدريجياً، وتركيز قواتها في الأراضي النجدية، ثم استدراج قوات طوسون إلى نجد، حيث الصحارى والوديان، التي تجهلها هذه القوات، ولم تعتد الحرب فيها. وتكون، بذلك، أبعدتها عن مراكز تموينها وخطوط مواصلاتها، وعن مراكز قيادتها الرئيسية، فيسهل الإيقاع بها وهزيمتها.

ولتنفيذ هذه الخطة القتالية، أعدت الدرعية جيشَين كبيرَين. قاد الأول الإمام سعود بن عبدالعزيز نفسه، وزحف به صوب الحناكية، إلى الشرق من المدينة المنورة، للسيطرة على الطريق الرئيسي بين المدينة والقصيم. ونجح هذا الجيش في أسر القوة، التي أرسلها طوسون، لتكون طليعة جيشه الزاحف صوب نجد. قوامها ثلاثمائة رجل، أرسلوا مخفورين إلى العراق، تحت حراسة أمير جبل شمر، محمد بن عبد المحسن بن علي . ثم قام جيش سعود بعدد من الحملات التأديبية ضد البدو، الذين وقفوا مع جيش طوسون، وعاد إلى الدرعية.

وانطلق الجيش السعودي الآخر، من نجد، بقيادة فيصل بن سعود، ليدعم الجبهة الجنوبية. واتخذ من بلدة تربة مركزاً له. وتمكن هذا الجيش، مع النجدات التي أتت إليه، من بيشة، من إنزال هزيمة ساحقة بقوة من طلائع جيش طوسون، كانت بقيادة رئيس الفرسان، مصطفى بك، والشريف راجح.

وبدأ عثمان المضايفي، بعد هذا الظفر، بمهاجمة الطائف. واتخذ من بسل مركزاً له. ولكنه انهزم أمام الشريف غالب، بقواته الكبيرة. وقبض على عثمان وأرسله إلى مصر التي ساقته إلى الآستانة، حيث أعدم.

وأرسل طوسون إلى والده، يخبره بأمر هزيمة قواته في تربة، وأنه يجهل مصير الحامية في الحناكية، ورئيسها عثمان الكاشف، لسيطرة الإمام سعود على الطرق الموصلة إليها، وأنه خشى أن تنكث العربان عهودها، وتتحالف مع السعوديين. وألح على والده في سرعة إرسال نجدة إليه.

وكان للخسائر الكبيرة، التي منيت بها قوات طوسون، والأمراض التي فتكت بجنوده، والإرهاق الذي أصابهم من البيئة الصحراوية، التي لم يعتادوها، أثر في قرار طوسون، إنقاذ ما بقي من قواته، والاكتفاء بالحاميات، في كلٍّ من الطائف وجدة ومكة وينبع، إلى حين وصول إمدادات من مصر. وبخاصة أن الهدف من حملة طوسون وهو تخليص الحجاز من الحكم السعودي، قد تحقق.

وفي هذه الأثناء، برزت فكرة عقد الصلح بين الطرفَين. ولكنهما لم يتوصلا إلى تفاهم حول شروط الصلح، نظراً إلى إصرار محمد علي باشا، على أن يدفع سعود كل ما صرف على حملة الحجاز، وردّ النفائس، التي كانت في الحجرة النبوية الشريفة، وحضور سعود بنفسه لمقابلة محمد علي. وعدّ سعود بن عبدالعزيز هذه الشروط إهانة له. وانقطعت المباحثات، وقرر الطرفان مواصلة القتال.

وصمم محمد علي باشا على خوض القتال بنفسه، لإنقاذ قواته، ورفع سمعته لدى الباب العالي، في العالم الإسلامي.

وبنزول محمد علي باشا إلى ميدان القتال، يبدأ دور جديد في حرب محمد علي مع السعوديين . وعهد والي مصر إلى ولدَيه، إسماعيل وإبراهيم، بمسؤولية الحكم في مصر، في 28 شعبان 1228هـ/ 25 أغسطس 1813م. وتحرك إلى السويس، ومنها إلى جدة.

أ. وصول محمد علي باشا إلى جدة

وصل محمد علي باشا جدة، في أول رمضان عام 1228 هـ /28 أغسطس 1813م. ووقف على حقيقة وضع قوات ابنه، طوسون. وبدأ بالتخطيط للمرحلة المقبلة من الحرب. فاتخذ عدداً من الإجراءات المهمة. فعمل على تخفيف الضرائب، المفروضة على العربان، ليقضي على أي تذمر بينهم، وصرف رواتب شهرية، لمن أسندت إليه منهم عمليات حفظ الأمن. وجعل ثغر جدة، هو المستودع الرئيسي للعتاد الحربي. ورتب وسائل نقل العتاد والمؤن، إلى الداخل. واتصل بسلطان مسقط، المعادي لآل سعود، واستأجر عشرين سفينة، لمدة سنة كاملة. وأقام مجموعة من الحاميات، في النقط المهمة، خشية عامل المفاجأة.

وبعد التخطيط للقتال، أرسل ابنه، طوسون، الذي اتخذ من الطائف مقراً لقيادته، على رأس جيش من المشاة والفرسان، ويصحبه الشريف راجح، أحد كبار الأشراف وشجعانهم. وتوجهوا نحو تربة، لملاقاة جيش الإمام سعود بن عبدالعزيز، الذي تحصن ببيشة ورنية. وتوجه محمد علي نفسه إلى مكة، لأداء فريضة الحج. وألقى القبض على الشريف غالب، لأنه ارتاب في مسلكه، ورأى أنه من أسباب تقدم السعوديين. وصادر أمواله، وبعث به إلى القاهرة، في ذي الحجة عام 1228هـ /ديسمبر 1813م. ومن القاهرة، نقل الشريف غالب إلى الآستانة، ثم نفي إلى سلانيك Salonika، وظل فيها حتى توفي عام 1232هـ/1816م. وعين مكانه ابن أخيه، يحيى بن سرور.

وعلى الرغم من التخطيط، الذي وضعه محمد علي، فإن قوات طوسون، فشلت في الاستيلاء على تربة. وانهزمت أمام الجيش السعودي، واضطرت إلى الانسحاب إلى الطائف، بعد أن تكبدت خسائر فادحة. ونتج ذلك الفشل من انشقاق الأشراف عن جانب محمد علي، بعد ما رأوا ما حل بالشريف غالب. وصاروا لا يثقون بمحمد علي، ولا يأمنون غدره. فانشق الشريف راجح، وانضم إلى القوات السعودية في تربة. ثم خرج الشريف يحيى بن سرور من مكة، مظهراً نيته غزو القبائل المعارضة له، وهرب إلى تهامة.

ولم تتمكن قوات محمد علي باشا، التي توجهت إلى القنفذة، من احتلالها، وهي مركز المقاومة السعودية في الجنوب، بسبب استبسال القائد السعودي، طامي بن شعيب، واستيلائه على آبار الماء، فاضطر قائد الحملة إلى إخلاء الثغر.

وفي تلك الأثناء، توفي الإمام سعود بن عبدالعزيز، في 11 جمادى الأولى عام 1229هـ/مايو 1814م. وقد خلفه في الحكم ابنه، الإمام عبدالله بن سعود، الذي لم تكن له صفات أبيه، الحربية أو الإدارية، ولم يكن مثله في سداد الرأي.

ورأى محمد علي خطر منطقة الجنوب على قواته في الحجاز، فأرسل قوة كبيرة، بقيادة عابدين بك، لإجلاء القوات السعودية المتحصنة بوادي زهران، ويقودها طامي بن شعيب. وضرب عابدين بك الحصار على تلك القوات، في حصن "بخروش علاش". لكنها تمكنت من فك الحصار، واتخذت موقف الهجوم. فانسحبت قوات عابدين بك، بسرعة، تاركة وراءها كثيراً من الخيام والذخائر. وتعقبت القوات السعودية قوات محمد علي باشا، إلى الطائف. وضربت حصارها على البلدة، التي يتمركز في داخلها طوسون باشا، بقواته. فأسرعت إلى نجدتهم قوات، يقودها محمد علي باشا بنفسه. ونجحت، بحيلة بارعة، في فك الحصار عن الطائف. وفي أعقاب هذه المعارك، اصطحب محمد علي باشا ابنه، طوسون، إلى مكة، في رجب عام 1229هـ/يونيه 1814م، ومنها إلى جدة، حيث أخذا يدربان الجيش تدريباً قاسياً، لمدة ثلاثة أشهر، استعداداً للمعارك القادمة.

وفي 28 محرم 1230هـ/11يناير 1815م، قامت بين قوات محمد علي باشا، الذي شارك في المعركة، وبين قوات السعوديين، بقيادة فيصل بن سعود، معركة حامية الوطيس، في بسل، الواقعة بين الطائف وتربة. وتمكنت قوات محمد علي باشا من احتلال هذا الموقع السعودي. وبعدها، زحفت هذه القوات المصرية، واحتلت تربة، التي أصبحت، فيما بعد، معسكراً عاماً لقوات محمد علي باشا.

وفي تلك الأثناء، صدرت الأوامر من الباب العالي إلى محمد علي باشا، تحثه على أن يتوجه إلى مقاتلة القبائل، الخاضعة لآل سعود، في عسير، ليسهل عليه مهاجمة الدرعية، وهو آمن الظهر. فزحفت قوات محمد علي باشا نحو الجنوب، فاحتلت بيشة، التي هي مفتاح الطريق إلى اليمن، من جهة الشمال الشرقي. وواصلت تقدمها في عسير، على الرغم من الصعوبات الجمة، التي واجهتها. وتمكنت من إلحاق الهزيمة بقوات سعودية، يقودها طامي بن شعيب، في وادي زهران، وأسرت قائدها، الذي أرسل إلى مصر، ومنها إلى الآستانة، حيث أعدم. ثم تقدمت القوات التابعة لمحمد علي في مناطق عسير وتهامة، فاحتلت ثغر القنفذة.

وبعد أن اطمأن محمد علي باشا إلى القضاء على القواعد السعودية، في الجنوب، عاد إلى مكة.

وجاءت الأنباء إلى محمد علي باشا عن حوادث عصيان، في مصر، من قبل المماليك. واضطربت الأحوال في أوروبا، بسبب إشاعة هروب نابليون من منفاه، في جزيرة هيلانة، واحتمال قيامه بحملة جديدة على مصر. وتحت ضغط هذه الظروف، الداخلية والخارجية، أسرع محمد علي باشا، في الرجوع إلى مصر. فأبحر من جدة في 5 جمادى الآخرة عام 1230هـ/16 مايو 1815م.

وفي تلك الأثناء، كان طوسون يتقدم في غربي نجد، ويحرز الانتصارات على القوات السعودية. ووصل بزحفه إلى بلدة الرس، في القصيم، وذلك قبل وصول قوات عبدالله بن سعود إليها، التي كانت متمركزة في بلدة الرويضة، بالقرب من الرس. وتمكن طوسون، بمساعدة بعض عشائر حرب ومطير، من الاستيلاء على عدد من بلدان منطقة القصيم، مثل الخبرا والشبيبة.

ب. الصلح بين عبدالله بن سعود وطوسون باشا

أدرك طوسون أنه أخطأ، حربياً، بتوغله في نجد، حيث تجهل قواته المنطقة، ولا تتقن حروب الصحراء، التي تتقنها القوات السعودية، وتعرف دروبها وبلدانها، ومناطق الماء فيها. وتشاور مع قواده، حول إمكانية الانسحاب إلى المدينة المنورة. وكان عبدالله بن سعود عاجزاً عن إدارة المعركة، لاسترداد القصيم، متردداً في الخروج إلى طوسون، على الرغم من كثرة قواته، وإلحاحها عليه.

فكر طوسون، أن يعقد صلحاً مع الإمام عبدالله بن سعود. وكانت شروط الصلح، التي جرى التباحث حولها، هي:

(1). احتلال جيش طوسون الدرعية.

(2). إعادة آل سعود كل ما أخذوه من الحجرة النبوية الشريفة.

(3). وضع عبدالله بن سعود نفسه تحت تصرف جيش طوسون، فيسافر إلى الجهة التي يحددها له، في الوقت المناسب.

(4). خضوع عبدالله بن سعود لحاكم المدينة من قبل محمد علي باشا، إلى حين الموافقة على الصلح.

(5). نفاذ هذه الشروط، لا يتم إلا بعد إقرارها من محمد علي باشا.

وعدّ عبدالله بن سعود هذه الشروط إهانة له. لذا، قرر إرسال وفد من قبله، للتفاوض مع محمد علي باشا مباشرة. فأرسل القاضي عبدالعزيز بن حمد بن إبراهيم، وعبدالله بن محمد بن بنيان. ووصل الوفد إلى القاهرة، في شوال عام 1230هـ/ سبتمبر 1815م. كما أرسل عبدالله بن سعود رسائل إلى السلطان محمود الثاني، في الآستانة، وإلى محمد علي باشا، ليوضح وجهة نظره في الصلح. وألقى في هذه الرسائل تبعة ما حدث على الشريف غالب، واتهمه بتزوير رسائل على لسان والده، الإمام سعود، إلى الباب العالي، بقصد إثارة الفتنة.

وأثناء المفاوضات، توقف القتال، وأخلى طوسون منطقة القصيم، من دون سبب. وعاد إلى المدينة المنورة، ثم أرسل إلى أبيه، يطلب منه السماح له بالعودة إلى مصر، لسوء حالته الصحية . فاستأذن محمد علي باشا الباب العالي في ذلك، فوافق في شوال عام 1231هـ/1816م[1]، بعد تعهد والي مصر بالقضاء على قوة السعوديين، في الوقت المناسب.

يقول ابن بشر، عن طلب الصلح: "أرسل الإمام عبدالله، عام 1231هـ/1816م، حسن بن مزورع، وعبدالله بن عون، إلى محمد علي، في مصر، بهدايا ومراسلات بتقرير الصلح. فلما قدما عليه (محمد علي) في مصر، وجدوه قد تغير". ولم يتوصل الطرفان إلى صلح بينهما، لأنه فرض على الوفد السعودي شروط قاسية، تعني استسلام آل سعود، نهائياً، وحضور عبدالله بن سعود نفسه إلى مصر، ليرسل إلى السلطان، الذي يحدد مصيره.

ولكن بعد فشل مهمة الوفد، جرت الاستعدادات، في مصر ونجد، لجولة أخرى من الحرب النهائية.

2. الحملة الثانية على نجد، بقيادة إبراهيم باشا

بعد انسحاب طوسون وقواته من القصيم، قاد الإمام عبدالله بن سعود عدة حملات تأديبية، ضد القبائل والجماعات، التي ساعدت وأيدت قوات طوسون. فأعد جيشاً، شاركت فيه جموع من البدو والحضر، من أهل الأحساء وعمان ووداي الدواسر وجبل شمر والجوف. واتجه نحو القصيم، واستولى على البكيرية وغيرها من بلدان المنطقة. وواصل عملياته التأديبية إلى قرب المدينة المنورة.

وفي هذا الوقت، كانت الاستعدادات تجري على قدم وساق، في مصر، للجولة التالية من الحرب، التي اختير لقيادتها ابن محمد علي، إبراهيم باشا. وشهدت الموانئ المصرية على البحر الأحمر، حركة متزايدة في نقل العساكر والمعدات والمؤن. وعمل محمد علي باشا على تلافي الأخطاء، التي وقعت في الجولة السابقة. فزود الحملة بمجموعة من الأطباء الإيطاليين، للإشراف الصحي على جنودها. وأرفقها بمجموعة من الخبراء العسكريين الأجانب، وعلى رأسهم المسيو فاسيير( Vassière )، الذي كان أركان حرب لإبراهيم باشا. وهو ضابط فرنسي، خدم في جيش نابليون.

وبعد أن استكملت الحملة جميع معداتها ولوازمها، اتجهت إلى ينبع، في الأول من ذي القعدة عام 1231هـ/23 سبتمبر 1816م. وفي ينبع بدأت قوات إبراهيم باشا تقوم بمناورات، لإرهاب من ينوي الخروج عن الطاعة، لإظهار الاستعداد الكبير، الذي أعد للقضاء على الدولة السعودية. وقد أدت هذه المناورات الهدف منها. فتسابقت الأخبار إلى القبائل، التي نزل بها الرعب، فجددت ولاءها لمحمد علي.

اتجه إبراهيم باشا بقوات إلى المدينة المنورة. وأخذ يضع خططه الحربية، متلافياً أخطاء الحملة السابقة. ثم بدأ زحفه نحو الأراضي النجدية. واستولى على بلدتَي الصويدرة والحناكية، إلى الشرق من المدينة المنورة. وجعل من الحناكية مقراً لمعسكره. ومنها بدأ بإرسال فرق استطلاعية، للتجسس.

وكانت القوات السعودية، قد بنت خطتها الحربية، على أساس استدراج قوات إبراهيم باشا إلى الصحراء، والقيام بعملية التفاف حولها، من الخلف، وقطع خطوط المواصلات بينها وبين مراكز تموينها، ومن ثم تطويقها والقضاء عليها. فقد انطلق الإمام عبدالله بن سعود، من الدرعية بجيشه، في 20 جمادى الأولى عام 1232هـ/أبريل 1817م، ونزل قرب بلدة الرس. ولحقت به قوات أهل القصيم، بقيادة حجيلان بن حمد. وسار الجيش إلى وادي الرُّمَة، حتى نزل بالماء، المعروف باسم "العلم"، ليهاجم البوادي المتعاونة مع إبراهيم باشا. فلما علموا بمقدم الإمام عبدالله بن سعود، رحلوا إلى بلدة الحناكية، والتحقوا بقوات إبراهيم باشا. ثم رجع الإمام عبدالله من "العلم"، ونزل قرية "مسكة"، في عالية نجد. وبعد أيام، ارتحل منها إلى نجخ القصر، المعروف في عالية نجد، وأقام به أياماً. وجاءته الأخبار، بأن علي أوزون، قائد القوات التركية، ومعه البوادي، نزل عند ماء "ماوية"، بالقرب من الحناكية.

وقام الجيش السعودي، المعد لعملية الاستدراج، بالاشتباك مع قوات إبراهيم باشا، عند ماء "ماوية"، في منتصف جمادى الآخرة عام 1232هـ/ أول مايو 1817م. ولكنه مني بخسارة فادحة، ووقع فيه القتل، وخسر كثيراً من السلاح، مما أدى إلى انهيار الخطة العسكرية السعودية. وزاد في تصدع الجبهة السعودية، انضمام فيصل الدويش، رئيس عربان مطير، إلى جانب إبراهيم باشا. وتراجعت القوات السعودية إلى بلدة الخبراء، ومنها إلى بلدة عنيزة، حيث تحصنت بها.

وانطلق إبراهيم باشا، بقواته، من ماوية، في طريقه إلى الرس. ونزلها في 5 شعبان1232هـ/ 21يونية 1817م. وحاصرها لمدة ثلاثة أشهر ونصف. وانتهى الحصار، في 12 ذي الحجة 1232هـ/24 أكتوبر 1817م. واستماتت الحامية السعودية في الدفاع عنها، على الرغم من طول مدة الحصار، وقوة وسائل الهجوم. وأرسل الإمام عبدالله بن سعود، الموجود في عنيزة، نجدات عسكرية إلى الرس، بقيادة حسن بن مزروع، والهزاني، صاحب "حريق نعام".

وأنذر إبراهيم باشا أمير الرس، محمد بن مزروع، بأنه إن لم يسلم البلدة، فإن القتال سوف يستمر. وفعلاً استمر القتال والحصار، حتى طلب أمير الرس الصلح مع إبراهيم باشا، الذي وضع شرطَين لإتمامه:

  • أن يقدم أهل الرس ألفَي رأس من الخيل، وألفين من الجمال، ومؤونة، تكفي جيشه ستة أشهر.
  • أن يقدم له اثنان من أبناء عبدالله بن سعود، رهينة لديه.

ورفض الجانب السعودي هذَين الشرطَين. وتجدد القتال.

ويذكر ابن بشر، أن أهالي الرس، طلبوا من الإمام عبدالله بن سعود، أن يأتي لنصرتهم، ومحاربة القوات الغازية، وكان الإمام، وقتذاك، في عنيزة، وإلا فليسمح لهم بطلب الصلح من إبراهيم باشا. وزاد إبراهيم باشا من شدة حصاره ومضايقته للرس. ولكنه لمس سوء حالة جنوده، فاضطر إلى قبول عقد الصلح مع أمير الرس، على شروط، منها:

  • رفع الحصارعن الرس.
  • وضع أهل الرس السلاح، والبقاء على الحياد.
  • منع دخول جنود إبراهيم باشا وضباطه، إلى الرس.
  • عدم إجبار أهل الرس على تقديم شيء من المؤن والذخيرة للجيش، أو على دفع غرامة أو ضريبة.
  • تسليم الرس لإبراهيم باشا، إذا استولى جيشه على عنيزة دون قتال. أما إذا لم ينجح في ذلك، فيعد القتال متجدداً بين الطرفَين.

ولم يكن إبراهيم باشا ليقبل هذه الشروط، لو لم تمتنع عليه الرس والحامية السعودية فيها.

واتبعت القوات السعودية خطة تقوم على توزيع قوات إبراهيم باشا، وإرهاقها بعمليات الحصار، متبعة في ذلك أسلوب حرب العصابات، لأنها وجدت نفسها في وضع، لا يمكنها من المواجهة المباشرة مع قوات إبراهيم باشا. فوزعت قواتها على عدد من الحصون.

تقدم إبراهيم باشا إلى عنيزة، وركز هجومه. ونجح في الاستيلاء عليها. واستسلمت الحامية السعودية الموجودة فيها، بقيادة الأمير محمد بن حسن بن مشاري بن سعود، عدا الحامية المقيمة بقصر الصفا، داخل المدينة. وظلت هذه الحامية تقاوم الهجوم، الذي تعرضت له، حتى رماها إبراهيم باشا بالقبوس والقنابر (أي المدافع والقنابل) رمياً هائلاً، في يوم وليلة . فلما رأى أهل القصر، أن البلد أطاعت له، وأن سور القصر هدم، طلبوا المصالحة من الباشا، فصالحهم على دمائهم وأموالهم وسلاحهم، فخرجوا من القصر.

وكانت شروط استسلام عنيزة:

  • عدم أسر حاميتها.
  • السماح للحامية بالذهاب أنّى شاءت.
  • تسليم الحامية ما لديها من الأسلحة والذخائر والمؤن، لجيش إبراهيم باشا.

وطبقاً للشرط الأخير من شروط الصلح مع أمير الرس، أرسل إبراهيم باشا فرقة من جيشه، لاستلام المدينة. ثم دخل بريدة، من دون قتال، بعد أن أمن حاميتها وأهلها، على أساس تسليمهم أسلحتهم، وقبل أميرها حجيلان بن حمد شرط إبراهيم باشا، فسلمها إياها.

وقد أدى سقوط مدن القصيم الرئيسية، الرس وعنيزة وبريدة، في يد إبراهيم باشا، وضياعها من السعوديين، إلى إذعان القبائل هناك لقيادته.

وكان الإمام عبدالله بن سعود، قد انسحب بجيشه، إلى شقراء، في الوشم. وتحصن بها للدفاع عن الدرعية.

وبعد شهرَين، قضاهما إبراهيم باشا في بريدة، انطلق إلى المذنب، ثم زحف، بقواته، إلى الوشم. ونزل بلدتَي أشيقر والفرعة، واستأمنه أهلهما فأعطاهم الأمان، ودخلوا في طاعته. وتحرك الباشا من أشيقر في 16 ربيع الأول عام 1233هـ/ 25يناير 1818م، وقصد بلدة شقراء، التي استعدت للقائه، بقيادة أميرها حمد بن يحيي. وهاجمها ودار قتال عنيف، لمدة ثلاثة أيام متواصلة، تهدمت فيه أسوار البلدة، مما اضطر أهلها إلى طلب الأمان، فخرج إلى الباشا عبدالعزيز بن إبراهيم بن عيسى، وغيهب بن زيد، نيابة عن عنهم. وعقد الصلح بالشروط التالية:

  • أن يسلِّم أهل شقراء المدافع الخمسة، الموجودة في قلعتها.
  • أن يسلموا الأسلحة، التي يحملها أربعمائة مقاتل، من رفاق عبدالله بن سعود، كانوا جاءوا لنجدة المدينة.
  • أن يلتزم أهل شقراء ببيع ما عندهم من الميرة والمؤن للجنود.
  • يذهب أهل البلدة، في مقابل ذلك، حيث يشاءون، شريطة عدم حملهم السلاح، واللجوء إلى القتال، ثانية.
  • أن لا يخلوا بالشروط السابقة، وإذا أخلوا فستحل دماؤهم.

وكان سقوط شقراء تمهيداً لسقوط إقليم الوشم، وانحسار نفوذ آل سعود عنه. وقد نزل الرعب بأهل الأقاليم المجاورة. فتوافد على إبراهيم باشا شيوخ وادي الدواسر، يطلبون الأمان، مقابل خضوعها لطاعة محمد علي باشا، فأجابهم إلى طلبهم. وأرسل جنوده، بقيادة رشوان أغا، نحو إقليم سدير والمحمل ومنيخ، للسيطرة عليها. وأعلن أهلها طاعتهم.

وسارت قوات إبراهيم باشا، من شقراء نحو منطقة العارض، فوصلت ضرما، في 14 ربيع الثاني 1233هـ/ 22 فبراير 1818م، ونزلت في المزاحميات شرقي البلدة. واعترضتها الحامية السعودية فيها، بقيادة سعود بن عبدالله بن محمد بن سعود، وأوقعت بعض الخسائر بها. ولم تصمد تلك الحامية طويلاً، فانسحبت منها، متوجهة إلى الدرعية. واستسلمت البلدة، بعد ثلاثة أيام، بعد أن قدمت تضحيات كبيرة.

وفي الوقت، الذي كانت تتقدم فيه قوات إبراهيم باشا نحو الدرعية، كان هناك قوات أخرى لمحمد علي، يقودها حسن باشا، تقوم بالقضاء على الجيوب السعودية، في عسير وتهامة ونجران. وتوطد حكم محمد علي في تلك الجهات بتعيين رؤساء جدد للقبائل، موالين له.

3. معارك الدرعية وسقوطها

غادرت قوات إبراهيم باشا ضرما، في طريقها إلى الدرعية، العاصمة السعودية. فاتبعت الطريق عبر الحيسية، ثم سلكت وادي حنيفة، ومرت بالعيينة والجبيلة.

وكان إبراهيم باشا، يدرك أن الدرعية محصنة، وقلاعها قوية، وهي المعقل الأخير للدولة السعودية. لذا، فإن مقاومتها ستكون قوية، وشديدة. فأرسل إلى والده، يطلب تزويده بالمال والمدافع والجنود.

كانت الدرعية تتألف من خمسة أحياء مستقلة، منها الطريف والبجيري والمغيصيبي والسهل. ولكل قسم منها أبواب، مثل باب سَمْحَان وباب الظَهَرَة. وتحيط بها أسوار، تتخللها الحصون والأبراج. وكان محيط البلدة حوالي اثني عشر كيلومتراً. وبنيت من الطين والآجرّ.

ولا مجال للمقارنة بين قوات الفريقَين. إذ كانت قوات إبراهيم باشا نحو 1950 فارساً و4300 جنـدي، من المشـاة الأرنـاؤوط (الألبان) والأتراك، و1300 جندي من الأفارقة (المغاربة)؛ ولا يدخل في هذا الإحصاء البدو والرجال غير النظاميين. وكان يصحب هذه القوات 400 من رجال المدفعية، وأربعة أطقم من المدفعية الثقيلة، وخمسة أطقم من المدفعية التركية. ويحمل مؤنهم عشرة آلاف بعير. وكانت تتّابع عليه القوافل، بالإمدادات والمؤن والعساكر والذخائر، بين وقت وآخر.

أما قوات عبدالله بن سعود، فكانت تنقصها المعدات، وفنية القتال. وكان عددها يقدر بثلاثة آلاف مقاتل في المتاريس الخارجية، خلاف المقاتلة، في داخل البلدة. وكان لديه عدد قليل من المدافع والمعدات الحربية.

اقتربت قوات إبراهيم من الدرعية، في غرة جمادى الأولى عام 1233هـ/9 مارس 1818م. ونزل إبراهيم باشا في "العِلْب"، حيث نخيل فيصل بن سعود. وتمكن، بمعونة من الضابط الفرنسي، فاسيير، من ترتيب عساكره، وإعداد خطة الهجوم، وبدأت قواته تحفر الخنادق، وتقيم المتاريس.

أما عبدالله بن سعود، فقد رتب قواته علىعدة جهات، في الدرعية. وجعل على رأس كل فرقة أحد أمراء آل سعود. ففي بطن الوادي، مقابل مقر الباشا وعساكره، يوجد فيصل بن سعود، وأخوه، فهد معهما رجال من أهل الدرعية. وعلى ميمنة الوادي، في الجانب الشمالي، فوق الجبال، سعد بن سعود، وأخوه، تركي بن سعود، على حافة الشعيب، المعروف بالمغيصيبي، ومعهما رجالهم من أهل الدرعية. ثم يليهم عبدالله بن مزروع، صاحب منفوحة، ورجاله. ويقف تركي الهزاني، صاحب حريق نعام، ومعه رجاله، بين القوات، التركية والسعودية. وعند باب البلدة، المسمى باب سمحان، تمركز الإمام عبدالله بن سعود، ومعه آل الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ورجال من كبار البلدة، وعنده مدافع كبيرة. ورابط في قرى عمران، عند النخل المسمى الرفيعة، فهد بن عبدالعزيز بن محمد، ومعه رجال من أهل الدرعية وأهل سدير، برئاسة عبدالله بن القاضي أحمد بن راشد العويني، وعندهم عدة مدافع.

وفي أسفل الدرعية، في بطن الوادي، قرب جبل القُرَيْن، تمركز سعود بن عبدالله بن عبدالعزيز، ومعه رجال من أهل النواحي.

وفي المتاريس، رابط عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد، عند نخيل "سمحة"، في البرج، فوق الجبل. ورابط عمر بن سعود بن عبدالعزيز، ورجاله، على حافة شعيب الحريقة. ورابط فهد بن تركي بن عبدالله بن محمد ومحمد بن حسن بن مشاري بن سعود، في شعيب غبيراء.

ووقع أول هجوم على الدرعية، من الشمال. فصبت مدافع إبراهيم باشا نيرانها على أحياء البلدة، خاصة على مدخل شعيب المغيصيبي، وذلك لمدة عشرة أيام متواصلة، ولكن دون جدوى. ثم جرى القتال في جنوبي الوادي، جهة الحريقة. وأوقف إبراهيم باشا القتال، لكي يتخذ مواقع جديدة لهجومه. ووقع اختياره على غبيراء، وفيها المتاريس في جنوبي الوادي. وبهجوم مباغت، تمكن القائد التركي، علي أوزون من زحزحة القوة السعودية إلى الوراء. وجرت عدة معارك، في كلٍّ من سمحة والسلماني والبليدة، في جنوبي البلدة. وبعد ذلك، جرى القتال في شعيب قليقل، في شماليها.

وظلت قوات إبراهيم باشا، مدة شهرَين، وهي على حالها، لم تحرز أي تقدم ملموس. وسار إبراهيم باشا بقوة من عنده، للاستيلاء على بلدة عرقة، جنوب الدرعية، في شعبان عام 1233هـ/يونيه 1818م. وتمكن من السيطرة عليها، بعد أن أعطى الأمان لأهلها، واستفادت قواته من ثمار نخيلها.

وزاد الأمر سوءاً اندلاع النار في مستودع ذخيرتها، في 16 شعبان 1233هـ/21 يونيه 1818م. حاول السعوديون استغلال هذا الموقف، ولكن دون جدوى، وبخاصة بعد أن وصلت إمدادات عسكرية لقوات إبراهيم باشا، من مصر، كما وصلت إمدادات، من الأرز والحنطة والمؤن والتبغ لحاجات العسكر، من البصرة والزبير والقرى المجاورة، من أهل نجد، الذين أجلاهم آل سعود في السابق.

وطال حصار الدرعية مدة خمسة أشهر، مما أدى إلى قلة المؤن فيها، وجلب اليأس والسأم لنفوس الأهالي. فخرج بعضهم، وانضموا إلى جيش الباشا، ودلوه على الطرق والمسالك، وأفضوا إليه بمعلومات عن مواطن الضعف في متاريس الدرعية. وبناء على هذه المعلومات، دكت المدفعية حصون الدرعية ومتاريسها. وعلى الرغم من ذلك، فقد أبدى آل سعود، وسكان الدرعية، من البسالة في الدفاع، عنها ما يسجل لهم به الفخر.

وضعفت الجبهة الداخلية في الدرعية، بعد خروج أهلها منها، وتناقص عددهم، وطول الحصار، وارتفاع الأسعار، لقلة الوارد إليهم. وازداد الضعف بعد خروج رئيس الخيالة، غصاب العتيبي، وانضمامه إلى جيش إبراهيم باشا.

وتهيأت الظروف للهجوم الشامل من كل الجهات، بما لدى إبراهيم باشا من المعلومات والأعوان الفارين إليه. فكان الهجوم في معركة البجيري (حي من أحياء الدرعية، يسكنه آل الشيخ). نتج من هذا الهجوم الاستيلاء على السهل، واستسلام أهله، واضطر الإمام عبدالله بن سعود إلى نقل معسكره، من باب سمحان إلى الطريف (من أحياء الدرعية). ودكت مدفعية إبراهيم باشا مباني الطريف، لمدة يومين. وتفرق عن الإمام عبدالله أكثر من كان عنده. وتمكن بعض رجاله من الفرار، ومنهم ابن عمه، تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود.

فلما رأى عبدالله بن سعود ما وصل إليه القتال، بذل نفسه وفدى بها النساء والأطفال والأموال . فأرسل إلى إبراهيم باشا، يطلب الصلح، وخرج إلى معسكره، في 8 ذي القعدة 1233هـ/9 سبتمبر 1818م.

واستقبل إبراهيم باشا الإمام عبدالله بن سعود، بالحفاوة. واتفقا على الشروط التالية:

  • أن تُسلَّم الدرعية لجيش إبراهيم باشا.
  • أن يتعهد إبراهيم باشا بأن يبقي على البلدة وأن لا يوقع بأحد من سكانها.
  • أن يسافر عبدالله بن سعود إلى مصر، ومنها إلى الآستانة عملاً برغبة السلطان.

ووقع الاتفاق بين الطرفَين. وبه انتهى الدور الأول من حكم آل سعود.

ولم يكتف محمد علي باشا بهذا الانهيار، بل رفض الشرط الثاني من الاتفاق. وأمر ابنه إبراهيم، بأن يهدم الدرعية وحصونها وأسوارها، ويخرب منازلها. وقد نفذ إبراهيم باشا هذه الأوامر، وخرب الدرعية، وأشعل فيها النيران. فأصبحت أثراً بعد عين.

ووصل الإمام عبدالله بن سعود إلى مصر، في 17 محرم 1234هـ/16 نوفمبر 1818م. واستقبله محمد علي باشا في قصره، في شبرا بالبشاشة. وقال له: "ما هذه المطاولة؟ فرد الإمام: الحرب سجال. فقال الباشا: وكيف رأيت إبراهيم؟ فرد الإمام: ما قصّر. وبذل همته. ونحن كذلك. حتى كان ما قدره المولى". فقال محمد علي: "أنا ـ إن شاء الله ـ أترجى فيك عند مولانا السلطان". فقال الإمام: "المقدر يكون". فألبسه محمد علي خلعة. وقدم عبدالله بن سعود ما كان في حوزة أبيه، من نفائس الحجرة النبوية، وكان قد جلبها معه، في صندوق صغير. وفي 19 محرم 1234هـ/18 نوفمبر 1818م، سافر عبدالله بن سعود إلى الآستانة، حيث أعدم في صفر 1234هـ/نوفمبر 1818م، بعد محاكمة صورية (انظر ملحق وثيقة محضر التحقيق مع الإمام عبدالله بن سعود).

وفي أثناء حصار الدرعية، وبعد سقوطها، أرسل إبراهيم باشا فرقاً من جيشه، إلى نواحي نجد، ليستكمل إخضاعها. فأرسل حسين جوخدار إلى حوطة الجنوب والدلم. وقتل آل عفيصان، من قادة آل سعود. وأرسل أغا آخر، مع العسكر، إلى جبل شمر، حيث قتل أمير المنطقة، محمد بن عبد المحسن بن علي.

أما إبراهيم باشا، فقد مكث بالدرعية، بقواته، أكثر من تسعة أشهر. ثم ارتحل عنها إلى عدة مواضع. وغزا بعض المناطق، وتابع سيره، عائداً، حتى وصل القصيم، وأخذ معه أميرها، حجيلان بن حمد، قاصداً المدينة المنورة. وعاد إلى القاهرة، في 22 صفر 1235هـ/11 ديسمبر 1819م، بعد أن استكمل إخضاع المدن النجدية. (انظر خريطة حملة إبراهيم باشا)

وترتب على سقوط الدرعية عدة نتائج:

  • انتهاء الدور السعودي السياسي، لفترة مؤقتة، وإنْ بقيت مبادىء الدعوة السلفية راسخة في نفوس أتباعها.
  • ازدياد نفوذ محمد علي، وامتداد سيطرته حتى شبه الجزيرة العربية، وإعلاء مكانته لدى الدولة العثمانية.
  • ازدياد الأطماع الاستعمارية في الخليج العربي، وسعي بريطانيا إلى توطيد نفوذها في السواحل العربية.

 



[1] توفي طوسون بعدها بقليل في 7 ذي القعدة 1231هـ/29 سبتمبر 1816م.