إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / منظمات وأحلاف وتكتلات / حلف بغداد (الحلف المركزي CENTO)









المبحث السادس

المبحث السادس

مواقف الدول وأثر ثورة يوليه 1958 على الحلف

    جسّدت مواقف السياسيين، المناصرين والمعارضين للحلف، حقيقة أهدافه؛ فرآه حكام الكتلة الغربية سداً منيعاً، يحول دون تدفّق الجيوش السوفيتية البرية إلى الشرق الأوسط، فيمحي مراكز نفوذهم فيه؛ ويمنع تقدّمها نحو أوروبا الغربية. كذلك، رجا ساسة دول الحلف الشرقية، أن يحمي بلادهم من خطر التوسع السوفيتي، وخطر النشاط الشيوعي الداخلي.

    وفي المقابل، رأى الاتحاد السوفيتي في الحلف خطراً على مراكزه الصناعية، في منطقة البحر الأسود؛ وحائلاً دون تغلغل نفوذه، في منطقة الشرق الأوسط، بإنشائه لجنة خاصة، لمكافحة الأحزاب الشيوعية، التي كان النفوذ السوفيتي، يتسرب عبْرها في المنطقة. أمّا الدول العربية المعارضة، فلم تر فيه إلاّ وجهاً جديداً للإمبريالية الغربية.

أولاً: مواقف الدول المؤيدة للحلف:

    طفقت الدول المؤيدة للحلف، على تباين مصالحها، تدافع دونه، وتبرز الميزات، التي ستنجم عنه.

1. العراق:

    تضمّن خطاب نوري السعيد، في الجلسة المشتركة لمجلسَي الأعيان والنواب العراقيَّين، في 30 مارس 1955، في خصوص عقد الاتفاق الخاص مع بريطانيا، الذي انضمت بموجبه إلى حلف بغداد ـ موقف العراق من الحلف؛ إذ قال:

    "إن في العراق، من الشمال إلى أقصى الجنوب، حقول نفط مهمة؛ لا يمكن، إذا وقعت الحرب ـ لا سمح الله ـ أن لا نتوقع غارات جوية على هذه المناطق، فضلاً عن العاصمة والمدن الكبيرة. وليس في الإمكان، أن نتصور أن العراق، بمفرده، يستطيع أن يدفع الغارات الجوية عنه؛ مهما عملنا في سبيل تقوية القوة الجوية العراقية. حتى ولا الحكومة البريطانية، لوحدها، قادرة على القيام بهذا العمل، لصد الغارات الجوية عن بلادها. لذلك، منحت الحكومة الأمريكية كل التسهيلات، وسمحت لها باستعمال مطاراتها العسكرية؛ وإن العراقيين، الذين زاروا بريطانيا، ربما شاهدوا المطارات الأمريكية، والقوات الأمريكية، في بريطانيا ... وعليه، فأول أمر، كان علينا أن نتباحث فيه، هو مدى التعاون، في الجو، لدفع الغارات الجوية،  التي قد لا تشبه الغارات الجوية القديمة، خصوصاً إذا استعملت القنابل الذرية. ولا يمكن أن نتصور، أن القوة العراقية، وحدها، تستطيع أن تدفع هذه الغارات، وتحمي العراق منها. يضاف إلى ذلك، تأمين التعاون السريع الفعال، مع القوة الجوية البريطانية، عند وقوع الاعتداء على العراق". ثم تعرض نوري السعيد لأهـمية الدفاع البري عن العراق. وأعلن تعهد بريطانيا تزويد الجيش العراقي بأحدث الأسلحة والأجهزة والمتخصصين.

    وزكَّى محمد فاضل الجمالي، رئيس وزراء العراق السابق، في الجلسة نفسها؛ موقف العراق هذا؛ إذ قال:

    "... علينا أن نزيد من علاقتنا مع العالم الخارجي؛ إنه عالم متشابك، ولا تستطيع أي دولة، مهما كبرت أو قويت، أن تقف لوحدها، وتدافع عن نفسها … وسلامة العراق، لا يمكن أن تؤمن إذا بقينا منعزلين .. وهذه السياسة، كفلت للعراق ضمان السلامة الجماعية، والدفاع عن كيانه. وهذا الميثاق نتاج لسياسة واضحة، إيجابية، سياسة واقعية، تجابه أخطار العالم … هناك خطر أكبر استعمار جديد، هو الاستعمار الشيوعي … لا يمكن أن تجابهه دوّله، لوحدها، مهما قويت وعظمت شوكتها". ثم قال: "... وفكرة الحياد، أو الوقوف على التل، من الخيالات الوهمية، التي لا تستند إلى الواقع ... إذن، فالتعاون مع الغرب، أمر لا بدّ منه؛ فإن الحياد ليس بالأمر الواقع، وإنما هو نسج الخيال".

2. تركيا:

    لم يكن موقف تركيا بأقلّ تأييداً للحلف من موقف العراق. وليس أدلّ على ذلك من البرقية التي تلقاها الملك العراقي، فيصل، من جلال بايار، رئيس الجمهورية التركية، الذي كان يزور، آنئذ، باكستان، على أثر توقيع ميثاق بغداد، في 24 فبراير 1955: إن هذا الميثاق، لا يقتصر نفعه على شعبكم فقط؛ وإنما سيكون في مصلحة السلم العالمي.

    وازداد الموقف التركي انجلاءً، على أثر انضمام بريطانيا إلى ميثاق بغداد، حين أعلن عدنان مندريس، رئيس الحكومة التركية، أن "الشرق الأوسط ... سيتحرر من كابوس القلق والاستقرار، وسيصبح منطقة، تقوم سلامتها على أساس متين ... إن انضمام بريطانيا، صديقتنا الحميمة، والحليفة، هو أعز شيء إلى نفوسنا".

3. بريطانيا:

    رحّبت بريطانيا بتوقيع ميثاق بغداد. ورأى أنتوني إيدن، وزير خارجيتها: "أن من واجبنا، أن نؤيد هذه المبادرة تأييداً كاملاً ... ورأيت إمكانية نمو الميثاق، حتى يصبح "حلفاً أطلسياً" للشرق الأوسط كله؛ فهناك فرصة لانضمام باكستان إليه ... وكذلك إيران والأردن. وهناك سبب آخر، يدفعنا إلى تأييد هذا الميثاق، بل الاشتراك فيه؛ فالمعاهدة العراقية ـ الإنجليزية، التي وقعت في عام 1930، ينتهي أجلها في عام 1957 ... وأصبحت على ثقة من أن ترتيبات الدفاع، بيننا وبين العراقيين، وهي في مصلحتنا معاً ـ من الخير أن توضع في اتفاقية أعمّ، بين فرقاء متساوين ... إن الحكومة العراقية، قد أعربت عن أملها، أن ننضم إلى الميثاق ... إذ إن الشرق الأوسط كله، بما فيه الخليج الفارسي[1]، يتطلب أن يكون الدفاع عنه، عند حدود العراق، وهذا لا يتيسر إلاّ بالتعاون مع القوات المحلية ... قدمت تقريراً إلى زملائي، فوافقوا على وجوب التفاوض، لعقد معاهدة الدفاع مع العراق ... وأن ننضم إلى ميثاق بغداد. وأبلغت مجلس العموم، في الثلاثين من شهر مارس، قرارنا".

    وعقد مجلس العموم البريطاني، في 4 إبريل 1955، جلسة، لمناقشة انضمام بريطانيا إلى حلف بغداد. وكان أنتوني ناتنج، وزير الدولة للشؤون الخارجية، أول المتحدثين فيها. ومما قاله:

    "كانت السياسة البريطانية في الشرق الأوسط، تهدف، منذ أمد طويل، إلى تأسيس وسائل دفاعية فعالة لتلك المنطقة والمحافظة عليها. وكانت هذه الحاجة تقررها، في الماضي، الحقائق الجغرافية البسيطة والمعايير الإستراتيجية فقط. أمّا الآن، فإن استثمار منابع النفط، قد أضاف عاملاً مهماً إلى ضرورة تأمين وسائل دفاعية فعالة كافية، في هذه المنطقة ... وبناء عليه، فإن فرصة كهذه، ينبغي ألاّ تفلت من أيدينا".

    أمّا النائب العمالي، كروسمان، فقال: "يهمني أن أسمع رأي وزير الخارجية، في ما سيكون عليه مستقبل جامعة الدول العربية، التي هي أحد أعماله الأصلية، في حقل التنظيم الدولي؛ لقد اقترح تأسيسها، في آخر سنة من سنوات الحرب العالمية الثانية؛ وقد أنزل بها هذا الميثاق ضربة قاصمة".

    واختتم إيدن مناقشات مجلس العموم، قائلاً: "إنني أوافق على أي تنظيم، يؤدي إلى زيادة نفوذ بلادي".

4. الولايات المتحدة الأمريكية:

    ما كان لحلف بغداد أن يرى النور، لولا جهد وزارة الخارجية الأمريكية ورغبتها فيه. ونظرت إليه "بعين الرضا"، لزيادة التعاون بين (دول الشرق الأوسط)، في مواجهة أي عدوان شيوعي ممكن وقوعه. ورأت حكومة واشنطن في الميثاق التركي ـ العراقي، خطوة بناءة نحو إنجاز تنظيمات دفاعية فعالة. عدّه وزير خارجيتها، تطوراً بناءًا جداً؛ إذ إنه تحرك نحو بناء ما يسمى "الحزام الشمالي"، الذي تشكل تركيا وباكستان رائَديه، بالفعل. وفيما بينهما، يقع العراق وإيران؛ ومع اتخاذ هذَين البلدَين موقعَيهما، لسد الفجوة بين تركيا وباكستان، فإننا نعتقد أن أمن المنطقة، سيتحسن تحسناً عظيماً.

    بيد أن الولايات المتحدة الأمريكية، آثرت الاكتفاء بدور المراقبة في اجتماعات الحلف، فلم تنضم إليه؛ إذ إن مكاسب دوله، كانت تنحصر في المساعدات الأمريكية ولاحظ لوي هندرسون، أن "انضمامنا إلى حلف بغداد، سيكون من شأنه، أن يزيد الضغوط علينا، من جانب دول الشرق الأوسط الأخرى، وربما من قبل البريطانيين … من أجل أن ننشئ، في الشرق الأوسط، جيشاً وهيئة أركان، على غرار حلف شمال الأطلسي". فضلاً عن أن مكتب الاستخبارات والأبحاث، في وزارة الخارجية الأمريكية، قد شكك في قيمة الحلف؛ إذ رأى أن القواعد، التي ستُمنحها الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال حلف بغداد، ربما لا تستخدم إلاّ في غياب الحالات الطارئة، التي ينبغي استخدامها خلالها. فإذا ما نشبت حرب عامة، فإنه من المستبعد، أن تسمح لها دول الشرق الأوسط، التي تواجه احتمال رد انتقامي سوفيتي، باستخدام قواعد داخل حدودها، لشن هجمات على الاتحاد السوفيتي، إن هي أتيحت لها فرصة للحيلولة دون ذلك. وستضطر الولايات المتحدة الأمريكية، على الأرجح، في حالة الحرب العامة، إلى أن تتحرك، بالقوة، إذا ما أرادت استخدام أي جزء من الشرق الأوسط منطقة قواعد؛ تماماً كما لو كانت لا تمتلك أي حقوق في استخدام قواعد في المنطقة.

5. إسرائيل:

    استغلت إسرائيل حلف بغداد، لاستدرار المزيد من السلاح الغربي؛ وكسب تأييد الدول الغربية؛ ودفع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا إلى الضغط على الدول العربية، وحمْلها على عقد صلح معها. فادّعى رئيس الوزراء الإسرائيلي، دافيد بن جوريون، أنه يشجع الدول العربية على أن ترفض رفضاً باتاً قبول الحقائق الواقعة، وعقد صلح مع إسرائيل ... إن الميثاق يجعل تحقيق السلم، في منطقة الشرق الأوسط، أكثر بعداً مما هو عليه الآن . إن مبادرة الغرب إلى عقد اتفاق المساعدات العسكرية، وتنظيمات الدفاع، مع الدول العربية، قد أخل بالتوازن السياسي، في منطقة الشرق الأوسط، في غير مصلحتنا، وأضر بمصالحنا، وزاد من الأخطار المحيقة بسلامتنا.

ثانياً: مواقف الدول المعارضة للحلف:

1. مصر:

    عارضت مصر حلف بغداد، منذ نُذُره الأولى. فرأت في زيارة العاهل العراقي، الملك فيصل، إلى باكستان، في مارس 1954 ـ بداية لتحركات، تهدف إلى عزل مصر؛ إلاّ أنها لم تكن معارضة لتعاون عربي مع الغرب؛ وإنما معارضة لتوقيته (قبل تعزيز سلطة عبدالناصر)؛ وإدانة للعراق.

    سارعت مصر، حرصاً على وحدة العرب، إلى إيفاد وزير الإرشاد القومي، صلاح سالم، ليطوَّف على البلاد العربية، حيث يلتقي ساستها، ويشاورهم، ويؤكد أن مصلحة البلاد العربية، لا يحققها إلاّ:

أ. رفض الأحلاف العسكرية.

ب. توحيد السياسة العربية الخارجية.

ج. تحويل الضمان العربي الجماعي، إلى حقيقة واقعة، بتدعيمه بواسطة الدول العربية نفسها.

د. تدعيم الجامعة العربية، وتوفير جميع الإمكانات، التي تجعلها جديرة بمكانتها لدى الشعوب العربية، قادرة على جمع العرب وتوحيد كلمتهم.

    وقد أجمعت الدول العربية على هذه القواعد، عدا العراق، فإنه لم يحدد موقفه، خلال مباحثات الموفد المصري مع نوري السعيد، في سرسنك؛ فاقترح صلاح سالم، أن تستكمل المباحثات في القاهرة، إبّان زيارة رئيس الحكومة العراقية إليها. غير أن استئناف المباحثات، في أغسطس 1954، لم يسفر إلاّ عن اختلاف الرأي بين البلدَين.

    في إثر ذلك، وجهت مصر الدعوة إلى وزراء الخارجية العرب، للاجتماع في القاهرة، حيث عقدوا عدة اجتماعات للبحث في:

أ. توحيد السياسة الخارجية المستقلة للدول العربية.

ب. تقوية الجامعة العربية.

ج. تدعيم ميثاق الضمان الجماعي العربي.

    اتُّفق على أن يعود كل وزير إلى بلاده لاستشارة حكومته، ثم يعود إلى الاجتماع، في القاهرة، في منتصف يناير 1955. ولكن العراق استبق هذا الموعد، وأعلن الاتفاق العراقي ـ التركي. فعجلت القاهرة إلى دعوة رؤساء وزارات كافة الدول العربية، الموقعة ميثاق الضمان العربي الجماعي، لبحث الموقف. فاستجابوا لها، عدا نوري السعيد، الذي تعلّل بالمرض. وبعد عقدهم اثني عشر اجتماعاً، تناهى إليهم عزم نوري السعيد على توقيع الحلف التركي ـ العراقي، فبادروا إلى تأليف وفد رباعي، برئاسة رئيس وزراء لبنان، سافر إلى بغداد، في 31 يناير 1955، لإقناع مسؤوليها بالعزوف عن عزمهم؛ ولكنه أخفق في جهده.

    كذلك، خابت المساعي الإنجليزية، لحمل مصر على تغيير موقفها من الميثاق التركي ـ العراقي. إذ أخفق أنتوني إيدن، ورالف ستيفنسون، السفير البريطاني لدى القاهرة، والفيلد مارشال جون هاردنج، رئيس أركان حرب الإمبراطورية، أخفقوا في 20 فبراير 1955، في إقناع الرئيس المصري، جمال عبدالناصر، بالمشروع التركي ـ العراقي.

    ولم يكن سلوين لويد، وزير خارجية بريطانيا، أوفر حظاً من أنتوني إيدن؛ إذ لم يفلح، في الأول من مارس 1956، في إيقاف الهجوم المصري على حلف بغداد؛ لأن عبدالناصر، كان يرى فيه تهديداً لمصر، وعاملاً من عوامل الضغط المستمر، عليها وعلى الأمة العربية.

2. المملكة العربية السعودية:

    طالما توجست المملكة العربية السعودية من مشروعات العراق السياسية، أن تصبح أداة لانتزاع الأراضي الحجازية من سلطتها؛ وهو ما عبّر عنه الأمير فيصل، في 1 فبراير 1955، في قوله:

    "إن الضمان الجماعي العربي، يكفي لمواجهة إسرائيل؛ فإن كان هناك خطر أكبر، فلا يصح أن تنفرد دولة عربية بالرأي في وسائل دفعه. إن الحكومة السعودية، لن تختلف مع الحكومة المصرية؛ والحكومتان لن تختلفا مع الدول الشقيقة؛ ما دمنا نعمل كلنا لهدف واحد، هو توحيد كلمة العرب".

    وقد أعلن فيصل تأييد حكومته السياسي، لموقف الحكومة المصرية، في معارضة إنشاء حلف بغداد.

3. الأردن:

    على الرغم من إعلان الملك الأردني، حسين، في القاهرة، في 21 فبراير 1955، مؤازرة بلاده لمصر على موقفها، فإن حكومة نوري السعيد لم تَنِ في إرسال الدعاة والمبعوثين إلى دمشق وبيروت وعمّان، لإقناع حكوماتها بالانضمام إلى حلف بغداد، بل تألّفتها ببذل المال. وساندت تركيا العراق، بالضغط العسكري على سورية، لحمْل دمشق على التنكر للقاهرة.

    وبادرت الحكومة البريطانية، حليفة الأردن، إلى إقناع الأردن بالانضمام إلى الحلف. وانتدبت للمهمة الجنرال تمبلر، رئيس أركان حرب الإمبراطورية. فبلغ عمّان في 8 ديسمبر 1955، وتحدوه الثقة على انتصار، يعزز النفوذ البريطاني؛ إذ الأردن هو حليف إنجلترا، ويتلقى منها مساعدات عسكرية؛ كما أنه صديق لتركيا وإيران وباكستان، ونسيب لبغداد.

    وإزاء المقايضة، التي طرحها الموفد البريطاني، والتي تقدّم بريطانيا، بموجبها، 60 دبابة إلى الجيش الأردني؛ وتعد بتعديل معاهدتها مع الأردن تعديلاً، يوافق مصلحته؛ مقابل انضمامه إلى الحلف، إزاء ذلك، انقسم مجلس الوزراء الأردني بين معارض ومؤيد. وأخيراً، اتفق الفريقان على صيغة الرد الآتية:

    "إن حكومة الأردن، لا تستطيع البت في قبول المقترحات البريطانية، قبل استشارة الحكومات العربية المجاورة، والوقوف على رأيها".

    ولم يرضِ هذا الرد الإنجليز، فضغطوا، بواسطة الجيش، على الوزارة؛ ولكنها أبت الإذعان، فاستقالت. ومن الفور، عهد الملك برئاسة الوزارة الجديدة إلى هزاع المجالي، وزير الداخلية في الوزارة المستقيلة، وزعيم القائلين بقبول المقترحات البريطانية. فألّفها من المعتدلين، تمهيداً لقبول الأطروحة البريطانية؛ ما أثار حفيظة الشعب، فأعلن الإضراب العام، في 17 ديسمبر 1955، احتجاجاً على تأليف الحكومة الجديدة. ولم يعدل عنه، إلاّ بعد استقالتها، وإعلان الأردن، رسمياً، رفض الانضمام إلى حلف بغداد.

4. لبنان:

    تناقلت الجرائد البيروتية، في 27 مارس 1954، أن الولايات المتحدة الأمريكية، أقنعت حكومة لبنان بالانضمام إلى الحلف، فأضرب طلاب المدارس، احتجاجاً وانطلقوا في مظاهرات عنيفة، قمعها رجال الأمن بعنف؛ فاستشهد طالب، وجُرح 28 طالباً و51 عاملاً؛ وأغلقت الحكومة الجامعة الأمريكية، واعتقلت عدداً كبيراً من الطلاب.

وكما بيروت، كذلك صيدا وطرابلس، حيث أعلن الطلاب أنهم سيستمرون في إضرابهم، حتى تستقيل حكومة عبدالله اليافي. وانعقد مجلس النواب اللبناني، في 30 مارس، للنظر في حوادث الطلاب. وفي الجلسة، حمل النائب كمال جنبلاط حملة عنيفة على عبدالله اليافي وحكومته، انتهت بتضاربهما. وألف مجلس النواب لجنة برلمانية، للتحقيق في تلك الحوادث. وما لبثت الحكومة اللبنانية، أن أعلنت أنها لا تنوى الانضمام إلى الحلف.

5. الاتحاد السوفيتي:

    "إن حلف بغداد ... يهدف إلى الاحتفاظ بالاحتكارات، الأمريكية والبريطانية، في الشرق العربي. وهو سلاح عدواني، وتهديد مباشر للسلام والأمن في هذه المنطقة".

    تلك هي النظرة السوفيتية إلى حلف بغداد، أعلنها وزير خارجية الاتحاد السوفيتي، جروميكو، عام 1955، أمام لجنة نزع السلاح، في جنيف.

    وعجب الوزير السوفيتي من كون الحلف منظمة دفاع إقليمية؛ إذ هو يضم بريطانيا، التي تبعد عن منطقته الجغرافية آلاف الأميال!

    لا شك، أن ما حمل السوفيت على ذلك الموقف، هو شعورهم بأن القوات الغربية، يمكنها أن توجّه، من طريق قواعدها العسكرية في منطقة حلف بغداد الإقليمية ـ ضربات مدمرة، إلى مراكز التصنيع السوفيتية، حول منطقة البحر الأسود ـ الأورال؛ فضلاً عن قدرتها على توجيه هجوم جوي مضاد لغارات سلاحهم الجوي، قبل وصوله إلى أهدافه، في غربي أوروبا؛ وذلك بكشف تلك الغارات، من طريق منظمة (رادار) للإنذار، التي أنشأها الاتفاق الخاص، المعقود بين العراق وبريطانيا.

ثالثاً: ثورة 14 يوليه 1958، في العراق:

    دفع تململ الجيش العراقي، بعض قادتِه، إلى تكوين خلايا سِرية، تتحيَّن الفرص، للقضاء على نظام الحكم في العراق. كانت إحداها بزعامة العقيد الركن رفعت الحاج سري، مدير الاستخبارات العسكرية. وأخرى بإمرة العميد الركن ناجي طالب. وثالثة برئاسة العميد الركن عبدالكريم قاسم. واتفق هؤلاء القادة على تأييد بعضهم بعضاً، إذا انبرى أحدهم لإشعال الثورة.

    وآتتهم الفرصة، حين أمر حكام بغداد اللواءَين: التاسع عشر، بقيادة عبدالكريم قاسم؛ والعشرين، بإمرة العقيد الركن عبدالسلام عارف ـ بمساندة حكم كميل شمعون على الثورة الشعبية في لبنان. فتحرك اللواء العشرون، في 13 يوليه 1958، نحو عمّان، حيث سينقل، جواً، إلى بيروت؛ وكان من الطبيعي أن يمر ببغداد. وليلة الرابع عشر من يوليه، توقف في معسكر "أبي غريب"، الذي يبعد نحو عشرة كيلومترات، عن بغداد، حيث قرر الضباط الأحرار الثورة، فاعتقلوا آمر الفوج، الذي رفض أن يؤيدهم، وتولوا قيادته، واتجهوا نحو بغداد. وفي الساعة السادسة، صباحاً، أحاطوا بقصر "الرحاب"[2]. حيث أبادوا الأسْرة المالكة على بكرة أبيها، وفي مقدَّمتها الملك فيصل، ووليّ العهد، عبدالإله. أمّا نوري السعيد، فقد هرب من قصره، في زي امرأة؛ ولكنه ما لبث أن اعتقل، وقتل. ومن دار الإذاعة، أعلن عبدالسلام عارف نبأ القضاء على النظام الملكي، وتأسيس الجمهورية العراقية.

    نجم عن مبادرة الجيش العراقي، نتائج شتّى، على مختلف الصعُد: الداخلي والعربي والدولي. وكان أبرز النتائج الداخلية: انهيار النظام الملكي، وتأسيس الجمهورية العراقية؛ وتناحر القوى السياسية وانقسامها بين تكتلات إسلامية وقومية، وأخرى يسارية وشيوعية.

    وبلغ صراعها ذروته، في أثر إخفاق ثورة عبدالوهاب الشواف، عام 1959، في الموصل؛ حيث عمد الشيوعيون، الذين تفاقم نشاطهم، وتغلغلوا في الجيش والأجهزة الحكومية الأخرى ـ إلى مطاردة المناوئين، وأودعوهم السجون؛ فضلاً عن عمليات القتل الوحشية؛ ما أضعف الموقف الشعبي العراقي من الاستعمار البريطاني ومكنّه من القضاء على مناوئيه، العسكريين والمدنيين، للسياسة البريطانية في العراق. كما أدت الثورة، على الرغم من بيانها الأول، الذي أكد الحياة السياسية الديموقراطية إلى القضاء على الحياة البرلمانية الصورية، التي شهدها العهد الملكي؛ وتسلط نظام الحكم، وإلغائه القانون الأساسي، ووضع الدستور المؤقت.

    وسمحت الثورة بعودة المنفيين. فعاد الشيوعيون من موسكو. وعاد الزعماء الأكراد، الذين نفاهم نوري السعيد، ليطالبوا بجعل الجمهورية العراقية دولة فيدرالية، قوامها العرب والأكراد؛ ما زاد أزمات العراق، وأدى إلى صراع مسلح، استمر نحو خمس سنوات.

    وكان أهم ما أسفرت عنه الثورة، على الصعيد العربي ـ انسحاب العراق من الاتحاد الهاشمي، في 18 يوليه 1958، وسحب القطاعات العسكرية العراقية المرابطة في الأردن؛ والاتفاق المعقود بين الجمهورية العربية المتحدة والجمهورية العراقية، في 19 يوليه 1958، في دمشق، على مساندة الجامعة العربية، والمساعدة العسكرية المتبادلة، في حالة وقوع عدوان خارجي على أيٍّ من الطرفَين. بيد أنه لم يدم سوى أيام قليلة؛ إذ عاد في إطار جديد، أشدّ عنفاً مما كان عليه في عهد نوري السعيد. فقد استعر الصراع بين جمال عبدالناصر وعبدالكريم قاسم. وتنكر الشيوعيون لتأييدهم الرئيس المصري، وآزروا الرئيس على إبعاد العراق عن الجمهورية العربية المتحدة ما ضعضع مركزها السياسي، وأضعف فكرة الوحدة العربية. وإمعاناً في الصراع، اجتمع عبدالكريم قاسم مع بعض زعماء حزب "البعث" السوري، في معسكر إيجثري، قرب الحدود السورية، قبيل انفصال الوحدة المصرية ـ السورية، عام 1961.

    وعلى الصعيد الدولي، أدت الثورة إلى توتر العلاقات العراقية ـ الإيرانية، في شأن الحدود المشتركة خارج منطقة عبادان[3]. وقررت، في 15 يوليه 1958، استئناف العلاقات الدبلوماسية بالاتحاد السوفيتي. وعزمت على البدء بعلاقات دبلوماسية بالصين الشيوعية. ورفضت الاشتراك في اجتماعات مجلس حلف بغداد، التي التأمت، في 28 يوليه 1958، في لندن. كما عقدت، في 16 مارس 1959، مع الاتحاد السوفيتي، اتفاقية تعاون، فني واقتصادي؛ وفي ديسمبر 1959، وقَّع اتفاق آخر بينهما، في خصوص التدريب الفني. ثم أعقب ذلك شراء الأسلحة السوفيتية. ولم تقبل، في يونيه 1959، المساعدات العسكرية الأمريكية. وانسحبت، في الشهر عينه، من منطقة الإسترليني. وحظيت بالمساندة السوفيتية، في مواجهة عبدالناصر. واستثارت القوات الأجنبية، لحماية النظامَين، الأردني واللبناني؛ فنزلت القوات البريطانية في الأردن، حيث تعسكر فرقة من الجيش العراقي؛  والأمريكية في لبنان، حيث الثورة الشعبية في ذروتها.

رابعاً: مصير حلف بغداد:

    شُغل قادة الثورة العراقية، عن حلف بغداد، بتحقيق المأرب، الذي جمعهم، وهو القضاء على نوري السعيد. ولذلك، لم يسارعوا إلى الانسحاب من الحلف، بل أعلنوا، في بيانهم الأول، أن الجمهورية العراقية، تلتزم العهود والمواثيق، وفق مصلحة الوطن؛ وميثاق بغداد واحد منها. وما حمل النظام الجديد على التريث عن الحلف، إلاّ رغبته في اعتراف أقطار ميثاق بغداد به؛ وسعيه إلى علاقات خارجية متوازنة، بين الشرق والغرب، تتيح له ترسيخ حكمه. فضلاً عن توجسّه هجوماً من قوات دول الحلف، بعد نزول البريطانيين في الأردن، والأمريكيين في لبنان. ناهيك بانهماكه في الصراع الداخلي، وعزمه على القضاء على مناوئيه من القوميين.

    وفي إثر ثورة الشواف وإخفاقها، في الموصل، في 8 مارس 1959، وإزاء الضغط الإعلامي المتزايد، عبْر إذاعات القاهرة، قرر عبدالكريم قاسم، في 24 مارس 1959، استجابة لنُصحائه، الانسحاب من ميثاق بغداد. فبادرت وزارة الخارجية البريطانية إلى الإعلان، "بأنه نتيجة لانسحاب العراق من ميثاق بغداد، فإن الاتفاق الخاص أصبح ساقطاً ". فسارع العراق، في 31 مارس 1959، إلى إلغائه.

    بعد انسحاب العراق من حلف بغداد، عمد أعضاؤه، المجتمعون في أنقرة، أواخر مارس 1959، إلى عقد اتفاقات ثنائية مع الولايات المتحدة الأمريكية، تقضي بالتعاون، العسكري والاقتصادي. وفي أغسطس 1959، قرر أعضاء الحلف استبدال اسم السنتو باسم ميثاق بغداد؛ إلاّ أن التغيير اقتصر على الاسم فحسب؛ إذ كادت أهداف الحلف ومنظماته، تبقى هي نفسها، لولا التوسع في أقسام سكرتارية الحلف، لتشمل قسماً سياسياً، وآخر إدارياً، وثالثاً اقتصادياً، ومنظمة الأمن؛ وتفويض رئاستها إلى إيراني، على الرغم من أن مقرها في أنقرة؛ وكانت من قبل تقتصر على القسمَين الأولين. ناهيك باستحداث بعض اللجان والمعاهد، كمعهد العلوم الذرية، في طهران، في يونيه 1959، وتولي بريطاني إدارته؛ ومركز تدريب التصنيع الزراعي ووقاية التربة، في إيران وباكستان، عام 1961.

    خلّف انهيار الدولة العثمانية فراغاً، سياسياً وعسكرياً، أغرى الدول الكبرى بملئه، ولا سيما بعد الحرب العالمية الثانية، حين نشطت إلى تكوين الأحلاف، واتخاذها سلاحاً من أسلحة الحرب الباردة. وساعدها على ذلك عوامل عدة، لعلّ أبرزها حاجة الدول المختلفة إلى المساعدات، العسكرية والاقتصادية؛ وسعيها إلى حل مشاكلها. بيد أن الأحلاف، ما كانت إلاّ لتحقق مآربها، أولاً. واستطراداً، فإن حلف بغداد، أخفق في تسوية مشاكل دوله الإقليمية؛ إذ إن المشكلة الفلسطينية، ومشكلة كشمير، ومشكلة الحدود العراقية ـ الإيرانية، ما برحت عَصِيَّة على الحل؛ بل إن ذلك الحلف، أسهم، هو نفسه، في إيجاد مشاكل جديدة، عربياً ودولياً.

    كان أثر حلف بغداد في المنطقة العربية، أثراً وخيماً؛ إذ إنه أهزل الجامعة العربية، وأثبت إخفاقها، كمنظمة دفاعية، إخفاقاً ذريعاً؛ حتى إن الطائرات البريطانية، عام 1956، إبّان العدوان الثلاثي، كانت تنطلق، في إغارتها على مصر، من أحد المطارات العربية، مطار "الحَبّانية"، في العراق.

    ناهيك من أن الحلف، جعل البلاد العربية مسرحاً للحرب الباردة، بين الشرق والغرب. وإذا هي فريقان يصطرعان. أحدهما تقوده القاهرة، التي سارعت إلى تكوين تحالف، في أكتوبر 1955، شمل إلى جانبها سورية والمملكة العربية السعودية؛ وبعد عام واحد، انضم إليه الأردن. وازداد الصراع العربي استعاراً، في إثر إعلان الوحدة، عام 1958، بين مصر وسورية، في دولة واحدة: الجمهورية العربية المتحدة، التي كان لها أثر بالغ في ثورة الجيش العراقي، في 14 يوليه 1958، وفي الثورة الشعبية في لبنان.

    وثانيهما، تتزعمه بغداد، التي جهدت في حمل الدول العربية، ولا سيما سورية والأردن، على الانضمام إلى حلف بغداد. وقابلت إنشاء الجمهورية العربية المتحدة، بإنشاء الاتحاد العربي.

    أمّا أثر الحلف، على الصعيد الدولي، فقد كان أثراً عكسياً؛ إذ أدّى إلى عزل العراق، ثم القضاء على نظامه الملكي؛ وأتاح تسرب النفوذ السوفيتي في المنطقة العربية، وتطوير السياسة السوفيتية في الشرق الأوسط، من خلال مناصرتها الدول المتحررة، وبخاصة إمداد مصر وسورية بالأسلحة؛ وتوسيع دعمها ليشمل حركات الاستقلال، بعد اقتصاره على الحركات الشيوعية.



[1] يطلق أنتوني إيدن على الخليج العربي اسم الخليج الفارسي.

[2] هو القصر الذي كان يسكنه ولي العهد عبد الإله.

[3] عبادان: ميناء في إيران وفيها أكبر مصافي البترول في إيران.