الحالة الدينية في عهد تراجع الدولة العثمانية

الحالة الدينية في عهد تراجع الدولة العثمانية  

الجزء الثاني

أ.د عبد العزيز بايندر

في بداية القرن العشرين حيث كانت الدولة العثمانية في أواخر عهدها الذي امتد أكثر من ستة قرون… لم تكن الحالة الدينية بأفضل من الحالة العامة للدولة. وإذا كان هناك من يريد دراسة الحالة الدينية في ذلك العهد، فعليه أن يطالع مذكرات أحد المثقفين العثمانيين الذي اشتغل مدرسا في تلك الفترة..

تلك الملاحظات تكشف عن الأزمة التي وقعت فيها الدولة آنذاك، وتشير بوضوح إلى الأسباب التي أدت إلى محوها عن مسرح التاريخ.

نعم، لم تستطع الدولة العثمانية مواكبة التطورات التكنولوجية والتطورات في المجالات العسكرية، وقد بدأت القوى المعادية لها تغزوها من كل جانب. وهذا صحيح.. ولكن كان شيئا آخر أكثر أهمية جعل الدولة ضعيفة ومتهالكة، لا حول ولا قوة لها في مواجهة الأعداء، أو مواكبة التطورات. وكان المفقود حقا في غاية الاهمية. ألا هو الإيمان بالله تعالى!.

 وقد ترتب على فقدانه ضياع البوصلة حيث مُحيت تلك الدولة الجبارة التي طالما ارتعد أعداؤها خوفا منها طوال عدة قرون.

إسماعيل حقي بلطاجي أوغلو كان عالما من علماء القرن التاسع عشر، اشتغل مدرسا في دار المعلمين في مدينة أسطنبول. وهو ينقل لنا أحداثا عاشها أثناء عمله في دار المعلمين المسماة بـ “خلقيدون” (قاديكوي) حيث تشير تلك الاحداث وغيرها إلى الحالة الدينية المزرية التي وصل إليها المسلمون في تلك الحقبة. نكتفي بذكر بعض من تلك الحوادث للمثال لا للحصر:

الحادثة الأولى: يقول؛ ذات يوم كنت أتحدث في حصة مادة الأخلاق، عن الدين والشعور الديني والتعاليم الدينية وعن النبي صلى الله عليه وسلم وعظمته. وبعد الدرس ذهبت إلى الحديقة وكنت اتنقل بين الطلاب أيضا. وقد اقترب إليّ أحد الطلاب الذين كانوا في الفصل – وكان طالبا ذكيا – وقال: يا أستاذي هل ما قلته أثناء الدرس قلته عن إعتقاد جازم؟ بمعنى هل أنت موقن بما تكلمت به، أم أنك تكلمت لأنه عملك ويجب عليك القيام به. وقد حيرني هذا السؤال الغريب! كان السؤال يعني أن هناك من يقول ما لا يؤمن به!. فقلت: سبحان الله!

ورأيت ذاك الشاب مرة أخرى بعد سنوات. رأيته وكأنّ شمعة الذكاء المتقدة التي كان يمتلكها قد انطفأت، وتقلص حتى كمريض لا يستطيع أن يتصرف في جسده. حقا أصبح مريض القلب والعقل. كأن شرخا كبيرا قد حدث في قلبه، يتسع بسرعة فلا يمكن إيقافه! .

الحادثة الثانية:

التدريس هو جزء من حياتي، وقد انتقلت إلى دار المعلمات في تشابا (حي في مدينة إسطنبول). وفي أثناء التدريس هناك، كنت أتحدث في الأفكار الإيجابية والمشاعر المقدسة. وكنت أحاول ترسيخ “الأفكار المتعلقة بالأحداث والقوانين”. وكنت لا أدري طريقا آخر في تغيير وتصحيح أدمغة الطلاب الذين تعودوا أن ينظروا إلى الأحداث أنها تقع بدون سبب ودافع ومقدمة. ولكن يبدو أن الهدف المنشود من التدريس لم يتحقق. لأنه ذات يوم قال لي أحد طلابي: يا أستاذي أنت هدمت علي ديني! وأخذت مني إلهي! وتركتني بدون معبود!.. لا أتصور أن هناك تهمة توجه إلى مدرس أشد منها!.. ولكن وهل لي ذنب في ذلك؟! لم يكن هناك سبب يجعل هذا الطالب يقوم بتوجيه مثل هذه التهمة إلى مدرسه، إلا ضعف الإيمان وفساد الإعتقاد. لأن العقائد الإيمانية إذا كانت ضعيفة لا تصمد أمام العلم والحقائق بل تنهار!..

الحادثة الثالثة:

وما رأيته في هذه الحادثة لا يصدر إلا من طاغية مسعور متطرف في سلوكه، لا يعرف مهنة إلا الجحود ولا مذهبا إلا الكفر. وكان ذلك قبل ثماني سنوات، حيث استمعت في إسطنبول إلى واعظ، خريج المدرسة، صاحب عمامة، محدود العلم وغالب الحماسة. تكلم عن الدين والحضارة مدة ليست بقليلة. وقد صادفت قبل سنة نفس الواعظ. قد خلع العمامة والرداء وحلق اللحية! وتحدث لي هذه المرة أيضا عن الدين…

ولكنه تحدث كالجاحد الذي استولى عليه الياس والقنوط قائلا: “المصائب الكبيرة التي وقعت على الأتراك كانت بسبب هذا الدين!” أراد أن ينخلع من الدين ويأخذ الحضارة (الغربية) من أجل بقاء العرق التركي.

وقد أذهلتني هذه الكلمات. تجمدت روحي تجاه هذا الإفلاس الديني والإعتقادي!  وفي نهاية المطاف قمت بدراسة مهمة في الدين والإيمان تعتمد على الاحصائيات..  في العام 1331 هـ / 1913 م أجريت دراسة استبيانية شملت تسعين طالبا من طلاب الفصل الثالث والرابع يتراوح أعمارهم من اثنتي عشرة إلى ثلاث وعشرين؛ وكان السؤال حول علاقة الطالب بالدين ونظرته إليه. وإليكم النتيجة:

قال ثلاثة طلاب: لا يوجد عندنا جواب.

قال طالب آخر: لا أميل إلى التدين، ويراودني الشك في مجال الدين.

قال آخر: أميل إلى التدين في الوقت الحالي.

قال آخر: أهتم بالدين ولكن ليس كثيرا.

قال آخر:  أفضل كلمة “الضمير” على كلمة “الدين”. حتى ولو كنت متدينا.

قال آخر: لو أن الشعب يتكون من عرق واحد متمسك بالقومية بحماسة شديدة لم يعد للشعب حاجة للدين.

قال آخر: لست ضد الدين وأرى أنه بمثابة القانون الإجتماعي.

قال آخر: لازم أن تكون وظيفة الدين تنظيم الحياة الاجتماعية إلى جانب توضيح الأمور الأخروية.

قال آخر: لا ارتبط بالدين كثيرا.

قال آخر: لا أرى حاجة إلى التدين.

قال آخر: القومية دين، لست أهتم أكثر من ذلك.

قال آخر: أحب أن أتبع تعاليم الدين حرفيا.

زعم خمسة وسبعون طالبا أنهم متدينون، ويريدون تصفية الدين عن الخرافات، وأن لا يكون الدين مانعا أمام التقدم، وكذلك يشترطون أن يقبل الدين الحضارة! وقسم منهم يريد أن يكون الدين بعيدا عن الأفكار المتعصبة والعداء والتطرف.

كما رأينا في الدراسة السابقة أن تسعة وثمانين من تسعين طالبا لا علاقة لهم بالدين أصلا أو لهم علاقة ضعيفة، أو له علاقة مع شروط معينة! وقد أقلقتني الفوضى الفكرية للمتعلمين الذين سيعملون غدا في تعليم الأمة وتربية أبنائها.[1]



[1]  Din ve Hayat, İsmail Hakkı Baltacıoğlu, Osmanlıca’dan çeviren ve sadeleştiren: Abdullah Özbek, İstanbul, 1996, s. 15-21

Facebook'ta PaylaşTwitter'da Paylaş


 تعليقات القراء:

  1. يقول:  عوني

    مقالة رائعة
    وصياغتها عالية الجودة
    جزاكم الله خيرا

تعليقك على الموضوع  
التعليق *
* ضرورة إدخال هذا الحقل باللغة العربية

شوهد 107.032 مرة/مرات
الموضوعات ذات الصلة بهذا الموضوع