ينفرد موقع "دي برس" بنشر ملف يتنقل ما بين النزل التي قطنها رؤساء الجمهورية العربية السورية، ملف يوثق حياة بيوت كانت شاهدا على أحداث ومجريات سياسية، أنصتت إلى ما دار في أذهان الرؤساء وعرفتهم عن كثب، غير أن هذا الشاهد لم يجد من يوثق تاريخه حيث غاب عن سجلات دار الوثائق الوطنية وسطور المؤرخين والباحثين.
"دي برس" وقفت على تاريخ البيوت والحال الذي آلت إليه بعد رحيل ساكنيها، جالت بين جدرانها، وبحثت عن قيدها، والبداية كانت ممن يشغلها اليوم وصولاً إلى ذوي الرؤساء والمقربين منهم، ودعم الملف بشهادات خبراء وباحثين مختصين تحدثوا عن الإهمال الذي تعيشه، وعقدوا مقارنة بينها وبين نظيراتها في الدول الأخرى حيث تحولت هناك إلى متاحف تحوي أغراض الرؤساء الشخصية، وخص الملف جانباً للرأي الرسمي المسؤول عن الواقع المعاصر للبيوت.
تاج الدين الحسيني 1941 - 1943م (في ذاكرة الأهالي) |
مثابرة تاج الدين الحسيني على صلات حسنة مع فرنسا كانت السمة الأبرز في فترة حكمه لرئاسة الجمهورية العربية السورية، وذلك منذ أن عهدت إليه الرئاسة في 12 أيلول 1941 من قبل المندوب العام لفرنسا في الشرق، غير أن توجهه هذا قوبل بمعارضة حادة من قبل رئيسي وزرائه حسن الحكيم وحسني البرازي المواليين لبريطانيا، الأمر الذي أشعل فتيل الخلاف بين الحسيني وبينهم، إلى أن قام بتشكيل حكومة ثالثة في نهاية عهده.
|
لم تمح من ذاكرة أهالي الحلبوني تفاصيل سكن الحسيني في حيهم، فبمجرد سؤال أي شخص كبيراً كان أم صغير من سكان المنطقة عن البيت الذي أقام فيه الشيخ تاج الدين الحسيني، يشير إليه بالبنان "هنا كان يسكن رئيس الجمهورية".فالقصر السابق يعد وفقاً لـ"ديب الملط" صاحب أقدم مكتب عقاري في المنطقة من أهم البيوت العربية والتاريخية التي ارتبطت بالذاكرة الوطنية، وحافظ منذ تأسيسه على قيمته الفنية والأثرية رغم الترميمات الكثيرة التي أجرتها الحكومة عليه دون أن تغير من معالمه شيء، محدثة فقط تجدداً في معظم جدرانه وأركانه على حد قوله.
وسكن القصر من بعد وفاة الحسيني وفقاً للملط كل من شكري القوتلي وجميل الألشي وسعيد الغزي وآخرون من رؤساء الحكومة والمسؤولين الكبار فيها، ويشغل القصر اليوم إحدى الجهات المختصة، باستثناء جزئاً جديداً شيد في الجهة الشرقية منه ويقيم فيه القاضي أحمد يونس وزير العدل السوري، فيما شغله بالماضي السجل العام للموظفين بحسب مروان الطيب الباحث في تاريخ سوريا المعاصر.
شكري القوتلي (1943- 1949م) (بيوت بالأجرة) |
شهدت سورية حقبة من الازدهار في عهد شكري القوتلي منذ 17 آب 1943 وفقاً لبعض المؤرخين المعاصرين، حيث تميزت تلك الحقبة بالنشاط السياسي السوري في الحقل العربي إلى أن ثار عليه حسني الزعيم وأكرهه على الاستقالة 11 نيسان 1949، ليستقر بعدها في الإسكندرية ثم يعود إلى دمشق، ويتم انتخابه رئيساً للجمهورية السورية للمرة الثانية ويتولى الرئاسة في 6 تموز 1955 حتى تنازل عنها في 22 شباط 1958 لصالح رئيس الجمهورية المصرية جمال عبد الناصر الذي أصبح رئيساً للإقليمين بعد توحيد سوريا ومصر، وتسميتهما الجمهورية العربية المتحدة.
|
ولد القوتلي وترعرع في منزل جده عبد الغني القوتلي ضمن القسم الشرقي من البيت العربي الكبير الذي كان ماثلاً في منطقة سيدي عامود -الحريقة حالياً- وكان يجمع في قسمه الغربي بيت مراد القوتلي شقيق عبد الغني، إلا أن القصف الفرنسي للمنطقة في 18 تشرين الأول 1925م حول المنزلين إلى خراب، ما دعا العائلتين لمغادرة المنطقة والسكن في بيت آخر يقع في شارع مسلم البارودي بالقرب من حديقة النعناع في منطقة الحلبوني، ويسجل التاريخ أنه عندما قابل القوتلي رئيس الوزراء ونستون تشرتشل عام 1945 قال له الأخير: "إن لفرنسا حقوق وأملاك في سورية"، ولكن القوتلي أجاب: "ليس لها أملاك سوى دار واحدة في الصالحية بمنطقة الجسر الأبيض وأنا مستعد أن أشتريها منها بعد أن أحرقت فرنسا داري ودار أجدادي بمنطقة سيدي عامود، ودمرت الحي الدمشقي الرائع الذي ولدت فيه".
واليوم يقوم على أنقاض البيت المنكوب في سيدي عامود بناء تجاري ذو طراز حديث يتسم وفقاً لـ"محمد نبيل القوتلي" ابن عم شكري القوتلي بإطلالة بارزة على ساحة الحريقة، وتعود ملكية البناء اليوم إلى أحد أحفاد عبد الغني القوتلي بحسب المصدر ذاته.
وأبرز ما أقترن باسم شكري القوتلي هو البيت الذي استأجره في منطقة بستان الرئيس في الجسر الأبيض، ويطلق على هذا الشارع "جادة الرئيس"، إشارة إلى سكن القوتلي فيه أثناء توليه الحكم عام 1943، اضطر القوتلي بعدها لمغادرة سورية باتجاه الإسكندرية حيث أطيح بحكمه وأجبر على تقديم استقالته في 6 نيسان 1949 إثر انقلاب حسني الزعيم العسكري، ليعود القوتلي إلى سورية عام 1954.
قطن القوتلي بعد عودته بحسب نبيل القوتلي البيت الواقع قي منطقة العفيف والعائد إلى عائلة الأرمنازي، واستأجره وقتها من صديقه (الدكتور نجيب الأرمنازي) الموفد إلى جمهورية مصر العربية كسفير للدولة هناك، وبقي بيت الأرمنازي سكناً للقوتلي في فترة حكمه الثانية للجمهورية العربية السورية حتى عام 1956، وبحسب الدكتور عمر الأرمنازي المقيم حالياً في المنزل فإن البيت حافظ على حاله ومعالمه الرئيسية منذ أن تركه القوتلي، ولا يزال يحوي بعضاً من المفروشات التي استعملها الرئيس القوتلي الذي خصص الطابق الأعلى لغرف النوم والجلوس، بينما كانت الصالة في الطابق الأسفل مكاناً للاستقبالات والاجتماعات وفقاً للأرمنازي، بعدها انتقل القوتلي أثناء حكمه لسورية من منزل الأرمنازي إلى قصر الجمهورية في خورشيد، وبعد تنازله عن السلطة لصالح إعلان الجمهورية العربية المتحدة برئاسة جمال عبد الناصر، انتقل القوتلي بشكل مؤقت إلى البيت الواقع في شارع نورا والمعروف عنه ببناء السفارة الأردنية، إلى أن استوطن أخيراً في بيت والدته في ساحة المالكي والذي كان سابقاً بناء السفارة الكويتية كما يروي ابن عمه.
حسني الزعيم 1949م (حديقة مقتطعة) |
في ليلة 30 آذار 1949 اتفق حسني الزعيم مع بعض الضباط للقيام بانقلاب يعتقل فيه رئيس الجمهورية شكري القوتلي، ورئيس وزرائه وبعض رجاله، حل البرلمان، ولقب بعدها بالمشير، ألّف وزارة، ودعا إلى انتخابه رئيساً للجمهورية، فانتخبه الناس خوفاً في 26 حزيران 1949.
ودفع حسني الزعيم ثمن الاعتراف به من قبل الدول الكبرى غالياً، فوقع مع بعضها اتفاقياتٍ تخولها من إقامة نفوذ ومصالح في سورية، كان أبرزها تمرير مشروع مد أنابيب التابلاين، إضافة لقيامه بتوقيع اتفاقية الهدنة مع إسرائيل، فكانت النتيجة أن لقي نفس المصير وأطيح بانقلاب عسكري قاده سامي الحناوي، لتتم محاكمته سريعاً وتنفيذ حكم الإعدام بحقه في 14 آب رمياً بالرصاص، إلى جانب رئيس وزرائه محسن البرازي.
|
يعتبر القصر الذي حوصر فيه الرئيس حسني الزعيم قبيل الإطاحة بحكمه في منطقة أبو رمانة من أقرب البيوت إلى قلبه وفقاً لـ"نيفين الزعيم" ابنته، حيث يتميز بطابعٍ معماري حديث إلا أن جزءً كبيراً من مساحة حديقته فصلت عنه اليوم لتكون مركزاً تابعاً للمؤسسة العامة للاتصالات في المنطقة، فيما يشغل البناء (دار للمطبوعات الرسمية).
نيفين أفادت بأن والدها الزعيم تنقل ما بين العديد من البيوت في حلب ودمشق خاصة في فترة خدمته العسكرية، وكان أخر ما استقر به وسكنه قبل توليه الحكم هو بيت يقع في شارع نوري باشا وسط دمشق.