|
|
* الإخلاص سر القبول والنجاح في كل عمل, وكل عمل مجرد من الإخلاص سرعان مايذبل ويفتضح أمر صاحبه, ومهما كان ظاهر العمل طيبا إلا انه مجرد من الإخلاص, فإنه يرد علي صاحبه, فلا يستفيد منه دنيا ولا آخره.. وأعتقد انهم عندما قالوا هذا المثل:) اتق شر من أحسنت إليه( كانوا يقصدون الذي أحسنت إليه وتنتظر منه المعاملة بالمثل, لكن الذين يبغون بإحسانهم وجه الله وحده, ولايطمعون في الناس, هؤلاء لا يأبهون ــ أصلا ــ بموقف الناس منهم, حتي وإن أحزنهم غدر الغادرين.. لأن ما عند الله سيعوضهم خيرا أعظم من كل جزاء دنيوي!! وقد قدم لنا تاريخ الإخلاص والزهد فيما عند الناس صفحة رائعة من حضارتنا تحتاج إلي تتبع وتأريخ..
ولاتخلو حياة عالم كبير ولامجاهد عظيم ولازاهد من الزهاد من صور كريمة تعكس إخلاصه وإنكار لذاته وتجرده لله.. وقد بلغ بعضهم في ذلك مبلغا عظيما.. لدرجة أن الإمام السجاد) الذي لقب بالسجاد لكثرة سجوده( علي بن الحسين الملقب بزين العابدين) رضي الله عنه( اكتشفوا بعد موته عشرات البيوت التي كان يحمل لها بنفسه الصدقات متنكرا في جوف الليل, وأصحاب هذه البيوت لايعرفون أن الذي يحمل لهم القوت بنفسه هو الإمام الكبير علي بن الحسين بن علي.. سبط رسول الله عليه الصلاة والسلام.. وفي التاريخ كله, عبر بلدان حضارة الإسلام الكثيرة تلمح في كل مدينة علما من الأعلام يعمل كثيرا من هذه الأعمال دون أن يشعر به أحد.. فهو لايريد إلا) وجه الله( ولايسعي لشهرة تحبط عمله, أو رياء قد يمنع قبول الطاعة..
ــ ومن أطرف ماورد في باب الإخلاص وإنكار الذات قصة ولي من الأولياء زهد في الدنيا كلها, حتي في أن يعرف الناس انه عالم فقيه من أكبر فقهاء عصره.. وكان اسم هذا الولي الأصلي) حامد آقصر ايلي( لكنه عرف بين أهل مدينة) بورصة ــ بتركيا( باسم) صمونجي بابا( لأنه كان يبيع نوعا من الخبز يخبزه بنفسه ويمتاز بنظافته ولذته يسمي خبز) الصمون(, وكان) حامد ــ صمونجي بابا( قد سافر في طلب العلم في الشام وتبريز وأردبيل بإيران وألتقي بالعالم الكبير الأردبيلي ولازمه وبقي في خدمته ينهل من علمه سنوات عديدة, وتعلم منه التدرج في مسالك التقوي والزهد, ثم عاد ليستقر في مدينة) بورصة( في عهد السلطان بايزيد الأول خلال النصف الثاني من القرن الثامن الهجري) الرابع عشر الميلادي(, وفيها صنع لنفسه فرنا في بيته يخبز فيه, ويبيع الخبز, ويعيش علي هذا, ويتفرغ بقية وقته للعبادة والعلم.. ومارغب قط أن تعرف حقيقة علمه أو ورعه أو زهده أو فضله.. * وقد أتت الرياح بما لاتشتهي السفن.. فعندما أتم السلطان) بايزيد الأول( بناء مسجده الجامع الكبير المعروف حتي اليوم بإسمه ــ قرر افتتاح المسجد بخطبة الجمعة فيه أثناء حضوره.. وعندما حان وقت الخطبة أشار السلطان إلي العالم الكبير) أمير سلطان( أن يلقي الخطبة, وكان) صمونجي بابا ــ بائع الخبز( حاضرا, وكان العالم) أمير سلطان( يعرف حقيقة علمه وفضله فاستحي أن يلقي الخطبة أمامه.. ولهذا وقف أمام المنبر, ثم أشار إلي) صمونجي بابا( وقال للسلطان وللحاضرين:) ليس في هذا الجامع من هو أحق من هذا الرجل) صمونجي بابا ــ البائع للخبز( بإلقاء الخطبة في هذه المناسبة العظيمة.. وكما يقول المؤرخ والباحث التركي المعاصر) أورخان محمد علي(, فقد أندهش الحاضرون من هذا الكلام, وأحس) صمونجي بابا( بحرج شديد, وشعر بأن أمره قد انكشف. لكنه لم يملك إلا أن يقوم من مكانه مضطرا ويتجه إلي المنبر, والأنظار مصوبة إليه, وقبل أن يصعد إلي المنبر مال علي أذن العالم الكبير) أمير سلطان( وهمس في أذنه معاتبا: لقد كشفتني أمام الناس جميعا.. ماذا فعلت يا أخي!
وقد ألقي) صمونجي بابا( خطبته في تفسير سورة الفاتحة من سبعة وجوه فكان تفسيره رائعا أخذ بمجامع القلوب.. لدرجة أن أحد العلماء الكبار الحاضرين قال: إن تفسيره الأول للفاتحة فهمه الجميع, والثاني فهمه البعض, والثالث فهمته القلة, والرابع إلي السابع كان فيضا إلهيا فوق طاقة إدراك الجميع, لكأنه كان يتكلم من أنوار سماوية علوية!! وانتشر خبر) صمونجي بابا( في أرجاء العاصمة التركية آنذاك) بورصة(.. وبعد يومين رحل الولي الصالح عن المدينة, إلي مدينة أخري يبيع فيها الخبز.. وينشر الخير بطريقته الخاصة.. بعيدا عن رائحة الشهرة والرياء.. رحمه الله..
وكم في حضارتنا من صور رائعة يرتفع فيها المخلصون المتواضعون إلي درجة ملائكية.. مع علمهم وفضلهم وقدرتهم علي أن يكونوا في أرغد عيش وأرفع مكانة.. |
|
|
|
|
|