بحث:

ما هو رايك بتصميم الموقع الجديد

جيد جدا
جيد
لا باس به
ليس بالمستوى المطلوب
:: أرشيف الاستفتاءات ::

  • الدكتور رمضان عبدالله لـ الأهرام‏:‏ مصر مفتاح حل الأزمة

  • الدكتور رمضان عبدالله لـ"الجزيرة": على الجميع تحمل مسؤولية ما هو آت لان ما هو آت كبير

  • قائد السرايا رائد ابوالعدس ..لحن جديد يرتقي إلى العلى شهيدا

  • من هو "أبو عرفات الخطيب" رفيق درب القادة والمخطط لعملية كوسوفيم الأخيرة؟!

  • وصية منفذ عملية ايلات.. الاستشهادي البطل محمد السكسك

  • ترويج جديد لتحرك سياسي لا يحمل مضمونا

  • العودة إلى خيار الاجتياح والتمهيد له

  • قائمة تضم الأسرى القدامى من قادة حركة الجهاد الإسلامي في سجون الاحتلال

  •  
    استعراض موجز لتاريخ الصحافة الفلسطينية المكتوبة قبل النكبة

    التاريخ: 1421-10-6 هـ الموافق: 2001-01-01م الساعة: 00:00:00

    1 - صحيفة جراب الكردي للمفلس باسيلا الجدع والطفران خليل نصر

    لحظة يرتطم نظر القارئ بكلمتي المفلّس و الطفران المترادفتين، يتساءل عن الاسم الحقيقي لمالك الصحيفة التي يصرّ ناشرها علي وضع كلمة جدية بين كلمتي هزلية فكاهية في الشعار الذي يتوّج أعلي الصفحة الأولي للعدد الأول.
    ليس في ترويسة العدد اسم صريح، بل شعارات وعبارات ساخرة من مثل: تصدر في الاسكندرية في الدهر مرة وإن شئنا كل أسبوع ، وان قيمة الاشتراك في القطر المصري عشرة أرطال تمرية وفي الخارج ألف باقة ملوخية اسكندرانية خالصة اجرة الحمّال و ثمن النسخة لعنتين ونصف علي من رأي الحق ولم ينصره .
    ولكن مجموعة طرازي تحتضن، الي العدد الأول، العدد الأخير من جراب الكردي الصادرة في مدينة حيفا لصاحبيها باسيلا الجدع وخليل نصر. والطريف ان العدد الأخير الصادر في 8 تشرين الأول (اكتوبر) 1923 هو نفسه العدد الأول من صحيفة الأردن ، بحسب ما ورد في الصفحة الأولي: هذا هو آخر عدد يصدر باسم (جراب الكردي) وبما ان هذا الامتياز كان لدينا قبل الحرب، لذلك عملنا اليوم علي إبداله باسم (الأردن) راجين من قرائنا الكرام أن يأخذوا علماً بذلك، وانه سيتابع الخطة التي سار عليها الجراب في هذه المدة، آملين ان يروق هذا لأصدقائنا ومحبينا. واننا نعيد ما قلناه في العدد الأول ان هذه الجريدة وَقْف علي خدمة الوطن والأمة . ونقرأ تحت اسم الصحيفة الشعار الجاد أو بيت الشعر الآتي:
    الدين لله دينوا كيف شاء لكم
    اما بدين هوي الأوطان فاعتصموا.
    وفي أعلي الترويسة وضعت عبارة السنة الرابعة . وهذا يعني ان جراب نصر والجدع صدر في العام 1919.
    في المقابل، ورد في الصحافة العربية في فلسطين للدكتور يوسف ق. خوري ان متري حلاج أسس في حيفا صحيفة جراب الكردي سنة 1908. وكان قيدوم مؤرخي الصحافة العربية فيليب طرازي قد أرفق النسختين الأولي والأخيرة من الجريدة المحفوظتين ضمن ما سمّي بـ مجموعة طرازي بورقة صغيرة قال فيها: توقفت جريدة (جراب الكردي) لما اشترك متري حلاّج مع أبي حلقة في إصدار جريدة (المحبة) في حيفا بتاريخ 24 شباط/ فبراير 1912 . هنا يمكن القول ان متري حلاّج أصدر جريدته في الاسكندرية بسبب توافر الحرية، ثم نقلها الي حيفا إثر الانقلاب علي السلطان في صيف 1908 وتوافر الحرية للصحافيين في السنوات الثلاث التي تلت التغيير. ذلك ان النهج الاستبدادي للاتحاد والترقي لم يكتف بإغلاق الصحف في بلاد الشام، بل علّق الكثير من الصحافيين علي أعواد المشانق في ساحتي البرج (بيروت) والمرجة (دمشق) ممن أطلق عليهم اسم شهداء 6 أيار . توقفت الصحيفة عن الصدور في العام 1912. ثم باع الحلاّج الامتياز لخليل نصر وباسيلا الجدع اللذين أصدراها في مطلع الانتداب البريطاني ونهاية الحكم العثماني، لمدة أربع سنوات بالاسم الساخر، علي رغم انها أصبحت جادة في عهدتهما. وهذا يرجح الرأي بأن إطلاق اسم (الأردن) عليها لم يكن له علاقة بالنهج الجاد الذي اتبعاه، بل لسبب آخر أترك للقارئ استنتاجه من خلال عرض مقال خواطر المنشور في العدد الأخير من (جراب الكردي) أو العدد الأول من (الأردن). استهل صاحب الرد خواطره قائلاً: ان بيان الحزب الشيوعي في فلسطين يؤكد أنه صهيوني بدليل تهجمه علي الحكومة الانكليزية وعلي جلالة الملك حسين والملك فيصل والأمير عبدالله ، وغمز كاتب المقال من قناة أركان الحزب عندما لمّح الي قدومهم الي فلسطين من بولونيا، من غير أن يصرّح انهم يهود.
    أما افتتاحية العدد التي يردّ فيها رئيس التحرير علي صاحب صحيفة (مرآة الشرق) الفلسطينية بولس شحاده، فتؤكد أمرين: المطالبة بالحياة البرلمانية في فلسطين، والرفض القاطع للاستيطان الصهيوني. صحيح ان شحاده كان مع هذا الرفض وذاك المطلب، ولكنه كان من دعاة الحوار وأخذ ما يعرض، إذ نادي بـ أخذ العشرة والمطالبة بالباقي . والعشرة التي هي مقررات حكومة الانتداب ليست إلا صفراً مكعباً بنظر كاتب الافتتاحية، الذي لخّصها بالبنود الأربعة الآتية: أولاً، اتخاذها صلاحية سنّ القوانين لنفسها من دون مجلس تشريعي نيابي منتخب، وقبل صدور قرار جمعية الأمم النهائي. ثانياً، إعترافها بالجمعية الصهيونية كهيئة رسمية. ثالثاً، شروعها في تنفيذ المآرب الصهيونية بإدخالها مهاجري الصهيونيين واستعمالها العبرانية لغة رسمية وسكوتها عن وجود راية صهيونية. رابعاً، وجود زعماء صهيونيين في أعلي مراكزها، علي أن فلسطين هي البلاد المقدسة للعالمين الاسلامي والمسيحي، ولا يجوز وصولها الي أيدٍ غير الاسلامي والمسيحي.
    طبعاً، هناك فارق بين العدد الأخير من جراب الكردي والعدد الأول، ولكن في الأسلوب لا الهدف، إذ توسل متري الحلاج الأسلوب الساخر لتوعية الغافلين عن إصلاح وطنهم علي رغم ان صوت الأحرار ملأ الخافقين ونور الحرية سطع علي العالمين . واحتلت المحاورة بين عثماني ونمسوي الجزء الباقي من الصفحة الأولي وكامل الصفحة الثانية، وتمحورت علي البوسنة والهرسك:
    العثماني: أليس من العيب عليكم، وأنتم تدعون الحرية والاخاء والمساواة، ان تنتهزوا فرصة دخولنا في طور جديد سعيد وتسلبوا منا أرضاً مزجت بدماء آبائنا وأجدادنا؟
    النمسوي: ولكن ألم تكن بيدنا منذ ثلاثين سنة وحكومتكم السابقة لم تفاتحنا بها علي الاطلاق...
    العثماني: ان حكومتنتا السابقة كانت لا همّ لها إلا إملاء الجيوب من أموال الفقراء، ولا يعنيها لو ضاعت البلاد بأجمعها طالما رجالها يتمتعون بالثروة .
    يبقي ان العدد الأول لم يتضمن شيئاً عن الاستيطان اليهودي لفلسطين. ولكن، من المرجّح ان تكون الأعداد التالية، غير المتوافرة، احتضنت الكثير من الافتتاحيات والمقالات المندِّدة بالمشروع الصهيوني. فمن يرفض استيلاء النمسا علي البوسنة والهرسك، لا يعقل أن يقول لمستوطني وطنه فلسطين: يا ما أحلي الكحل في عيونكم!

    2- صحيفة بريد اليوم المقدسيّة لصاحبها أ. سفير راهنت علي الصهيونية

    اذا كان المكتوب - أي الرسالة - يُقرأ من عنوانه، علي حد تعبير العامة، فإن صحيفة بريد اليوم تُقرأ - والمقصود تُعرف - من اعلاناتها، اذ احتلت ثلثي الصفحة الأخيرة من العدد الأول الصادر في القدس بتاريخ 11 أيار (مايو) 1920 خمسة اعلانات، أولها لكرامر وشركاه، والثاني ليوسف كودرانسكي وماكس فودليشوق، والثالث لكولدشتين، والرابع لمتشي ابراهيم بطيش، والخامس والأخير لصاحب الجريدة أ. سفير، وجميعهم يهود.
    ذلك ان الافتتاحية المتوجة بكلمة مشروعنا صيغت بعبارات تمويهية من مثل القول ان أكبر رجال السياسة وأعظم ذوي الأقلام بأوروبا وأميركا علقوا ويعلقون الآمال الكبيرة علي امكان نهوض الشرق من خموله وانحطاطه اذا اشتبكت أيدي أمم الشرق، وعملوا متحدين قلباً وقالباً، فتنشأ من امتزاج الأقوام حياة جديدة شبيهة بحياة شجرة قديمة ذابلة ركب علي فرع من فروعها غصن من شجرة غضة حية، فتولد من هذا التركيب شجرة جديدة الماء والحياة ازدهرت وأثمرت وكان ثمرها بديع اللون زكي الرائحة لذيذ الطعم .
    وقبل ان يستنتج القارئ ان المقصود بغصن الشجرة الغضة الذي تُطعّم به الشجرة الذابلة هو الوطن القومي اليهودي، تنبري عبارة أخري في الافتتاحية لتستبعد مثل هذا الاستنتاج: ولما كانت غايتنا الوحيدة السعي والتفاني في خدمة هذا الوطن العزيز من دون تفريق بين ملله وعناصره، فسنمنح الكل فوائد جمّة وأخباراً مهمة تروي ظمأهم، خصوصاً والنغمة الصهيونية وقصها أصبحت خبزاً ناشفاً غصت به نفوسهم .
    ولكن، ما إن تقلب الصفحة الأولي وتبدأ بقراءة المقال المتمحور علي المسألة الأرمنية، حتي تتعزز شكوكك بصهيونية سفير وجريدته. في مستهل المقال يقول محرر بريد اليوم : في المؤتمر الذي عقد في برلين سنة 1878، جلس حول المائدة الخضراء بسمارك الجرماني والوزير غورشقوب الروسي واللورد بيترنسفيلد الإسرائيلي، فسأل بسمارك: ألم ننس شيئاً؟ نعم، أجابه اللورد بيترنسفيلد بلهجته اليهودية الصادقة، قد أهملنا أمراً لا يغفر لنا العالم المتمدن إهماله. فقد نسينا أرمينيا .
    ويختم المقال بالعبارة الشرطية الآتية: اذا تثبت العدل في العالم وحاز كل علي حقوقه، سنحظي برؤية اليوم الكبير الذي انتظرناه، اليوم العظيم الذي طالما ذكرناه. يوم يعقد فيه الاتفاق الثلاثي الجديد، الاتفاق الشرقي الحديث: عربستان، إسرائيل، وأرمينيا، رفقاء الشقاء، رفقاء الاستعباد .
    قبل الانتقال الي مؤشر آخر علي صهيونية بريد اليوم وصاحبها، لا بأس من ابداء الملاحظات الآتية: إن اللورد بيترنسفيلد سياسي بريطاني. ولكن القاموس الصهيوني لا يكتفي بتحديد طائفته اليهودية، بل يتخطي ذلك الي استبدال هويته البريطانية بالهوية الإسرائيلية.
    ثم ان مساواة المسألة الأرمنية بالمسألة الصهيونية، هي فعل تعسفي. فأرمينيا كانت حتي لحظة استقلالها مأهولة بشعبها الأرمني ومعروفة باسمها التاريخي. في حين ان إسرائيل دولة اقيمت علي أرض فلسطين، وان الإسرائيليين استوطنوا تلك الأرض بعد ان طردوا سكانها الأصليين، بقوة السلاح. والملاحظة الثالثة، انه اذا أردنا مقارنة عبارة اللهجة اليهودية الصادقة بمثلنا العامي الكذب ملح الرجال نخلص الي الاستنتاج بأن السياسيين الإسرائيليين جبال من الملح!
    في الصفحة الثالثة، نشر الجزء الأول من شهادة موسي كاظم الحسيني في الدعوي التي اتهم فيها بعض الخطباء الفلسطينيين بالتحريض ضد اليهود، ومنهم خليل بيدس - والد يوسف - وصاحب مجلة النفائس ، وقد وقعت معركة بين الطرفين استعمل فيها الفلسطينيون الحجارة، واليهود السلاح. قال الحسيني في سياق الاستجواب، وكان رئيساً لبلدية القدس: عند هدوء الحالة بشارع يافا، سرت لبيتي. وصلني تكليف من المستشار المحلّي بالذهاب مع سائر أعضاء البلدية لمواجهة الحاكم الذي بادرني لحظة دخولي عليه: حلّت الي اليوم الطهارة في القدس، أما اليوم فقد حلّت فيها النجاسة . ردّ الحسيني بأن الطهارة استمرت لدي الفلسطينيين بدليل انه لم يُعثر علي سلاح عندهم. أما اليهود فقد تسلّحوا بمسدسات . وسأل القاضي البريطاني المنحاز لليهود: من كان المسبب لهذه الحركة ؟ أجاب الحسيني: ان مدير البوليس كان عند الحاكم وشهد أمامه ان صبياً مسلماً تخاصم مع صبي يهودي، فتدخل جندي يهودي في الأمر وابتدأت الحركة . أضاف الحسيني ان اطلاق الرصاص صدر من جهة اليهود الذين تراكضوا نحو المستعمرة اليهودية القريبة لشيخ جراح .
    وما الذي أكد لك انهم من اليهود؟
    - يمكنني ان أفرق، بسهولة، اليهودي من العربي!
    ويذكر ان المحكمة اطلقت سراح كامل البديري والشيخ حسن ابو السعود وعبداللطيف الحسيني. وحكمت علي خليل بيدس وعبدالفتاح درويش بالسجن لمدة سنتين وعشرين جنيهاً غرامة نقدية.
    في ذلك العام (1920) استفتت مجلة الهلال الشهيرة عدداً من الكتاب حول مستقبل اللغة العربية ومنهم جبران. وكان بين المستفتين المستشرق اليهودي ريتشارد كوتهيل. ومما قاله المستشرق الأميركي الآتي: لست أري سبباً يمنع جعل العربية في الأنحاء العربية لغة التعليم في المدرسة وفي الكلية، بل يجب جعلها كذلك. علي أنني استثني فلسطين حين تصبح وطناً قومياً لليهود، اذ تكون العبرانية لغة التعليم فيها، ولكني اطلب جعل تدريس العربية اجبارياً، لأنها لغة مواطني اليهود في فلسطين . وذيّل سفير جواب اليهودي الأميركي بتعليق قال فيه: اننا نقرّ ونعترف بنظريات الكاتب العميقة وآرائه الصائبة. ولكننا لا نستصوب استثناءه فلسطين. كما اننا نري خلاف ما توقّعه من تلاشي اللغة العربية في هذا القطر حين يصبح وطناً قومياً لليهود. فاليهود، مهما اختلفت جنسياتهم وتغيّر لسانهم، يقدّرون اللغة العربية ويطنبون بمدح سحر بيانها. ولا بدع، فالعربية والعبرية موحدتا المصدر، متفقتا اللهجة ومتشابهتا المعني .
    اضاف جازماً ان تعميم درس العربية في الدولة العبرية العتيدة سيكون اجبارياً بعموم المدارس اليهودية. وستأتي النتائج مصداقاً لأقوالنا .
    وبصرف النظر عن التكتيك الذي اتبعه الاعلاميون الصهاينة في الدوريات العربية، والقاضي بتمويه المشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين، فإن اللغة العربية في اسرائيل بعد 81 عاماً، غابت تماماً من المدارس اليهودية، باستثناء تلك التي يوجد فها طلاب فلسطينيون حيث تدرّس العربية كلغة ثانية اختيارية، في حين يُجبر هؤلاء الطلاب علي درس العبرية.

    السلام اليافاوية وصحيفة أبو شادوف

    3 - السلام اليافاوية لنسيم ملول ... أيدت الاستيطان

    حسناً فعل الدكتور (اليهودي) نسيم ملّول حين أصدر العدد الأول من صحيفته في الأول من نيسان (ابريل) 1910 في القاهرة، وهو اليوم الذي يباح فيه الكذب. ذلك ان الجريدة التي حملت اسم السلام جديرة بأن تُسمّي الحرب . إذ لم يمض علي صدورها في القاهرة ثلاثة أعوام حتي اندلعت نيران الحرب العالمية الأولي. وبعد سكوت المدافع ودخول الانكليز الي فلسطين، استأنف ملّول اصدار صحيفته في يافا بتاريخ 31 ايار (مايو) 1920، وان كان يفضل أن يستأنف اصدارها في الأول من نيسان أيضاً. أولم يسهم ملول وصحيفته والحركة الصهيونية، التي كان من أقطابها، في إشعال فتيل الحرب في الشرق الأدني منذ بدء الاستيطان، وخصوصاً عندما بدأت ورشة تحقيق الوطن القومي اليهودي في فلسطين في أيار 1920؟ والدكتور ملول، لم يكتف بجريدته منبراً لإيهام العالم العربي بأن الاستيطان اليهودي يستهدف المساهمة مع الفلسطينيين في النهوض بفلسطين، بل هو توسّل أهم منبرين صحافيين عربيين آنذاك، المقطم و الأهرام للتمويه والتضليل، اضافة الي تسلله داخل حزب اللامركزية الذي أنشأه الشوام في مصر عام 1912 وترأسه رفيق العظم، وأصبح هو من أفعل أعضائه ومسؤوليه. وكان من ثمرات الدور الذي لعبه في صحيفته وخارجها، إضعاف أصوات المعارضين للمشروع الصهيوني في مصر وبلاد الشام، خصوصاً عندما تمكن من إقناع بعض قادة الرأي بوجهة نظره، وفي طليعتهم الدكتور شبلي شميّل.
    عندما استأنف ملّول إصدار صحيفته في يافا، خصص كامل الصفحة الأولـــي لافتتاحـــيته التي نوّه في مستهلهـــا بالاحتفـــال الذي أقامه للعدد الأول في حديقة الأزبكية في القاهرة و حضره جمهور غفير مـــن الصحافيين والأدباء والكتّاب . وذكر ملـــول ثلاثة أسماء من أبرز الحضور: فيلسوف الشرق الدكتور شبلي شميّل الذي أبان ما للصحافة من اليد الطولي في تقدم الأمم ورقيّ الشعوب ، اضافة الي الكاتب اللوذعي المصري محمد صادق وصاحب صحيفة الممتاز الشيخ مصطفي الشاطر . والطريف ان العدد الأول من السلام القاهرية تضمن عبارات من عيار ان الصحافة منخل ينخل أعمال الأمة ورجالها، فيسقط الرديء منها ومنهم، ويبقي الجيد من كل منهما . وطرافة هذا القول تكمن في أن الذي بقي في السلام بعد النخل، هو الرديء المموّه الذي يعمل للحرب ويدعو للسلام.
    نبقي في افتتاحية العدد الأول لصحيفة السلام اليافاوية، إذ يقول ملول بعــد التنويـــه بالمرحلة القاهرية: كما ان السلام ملك مشاع بين الأمم والشعوب والأفراد وكل من تدب في جسمه روح الحياة، هكذا (السلام). فقد جعلناها مشاعاً بـــين أفراد الأمــة وبما يؤلفها من العناصــر والأديــــان مـــن دون تمييز بين المسلم والمسيحي وبينهـــما وبين اليهودي، والكل في نظرنا سواء ضمن دائرة المبادئ الانساـنية والقوانـــين الالهية والوضعية . وختم الصقر ملول الذي كان منتدباً بصورة سرية من الجمعية الصهيونية للظهور في شكل حمامة السلام: ان (السلام) لا ينتمي الي حزب من الأحزاب، ولا يميل الي أحد العناصر، وليس لواحد من هذه أو تلك سلطة عليه، لا بل انــه اذا كان هنا في البلاد حزب شعاره الاعتدال المطلق بلا قيد أو شرط، أو وجد حتي اليوم عنصر عجن أفراده بماء التساهل الجنسي والمعنوي، فإن (السلام) صحيفة هذا ولسان حال ذاك .
    علي رغم التمويه البارع في الافتتاحية، فإن بقية صفحات العدد الأول لم تخلُ من أسطر يمكن من يقرأ بينها اكتشاف الحقيقة.
    تحت عنوان رئيس أخبار شتي ، وعنوان فرعي حول فلسطين نقرأ الخبر الآتي: قال الدكتور فايسمن (وايزمن) في حديث له مع مكتب الصحافة الاسرائيلي في لندن، ان مسألة الانتداب لفلسطين قد تقررت نهائياً. ولكن تفاصيل هذا الانتداب لم تعين بعد. ومهما يكن من الأمر، فإن المسألة قد أصبحت بيد بريطانيا. وهي المنوط بها تنظيم الادارة والأحوال في فلسطين. وأما ما يتعلق بالمهاجرة (أي الاستيطان) فستؤلف لجنة خاصة للاشراف عليها برئاسة موظف بريطاني يعين خصيصاً لهذا الغرض .
    نبقي في حيّز الأخبار، لنقرأ في الصفحة الثالثة حول عيد الحرية في القاهرة. وقبل أن يتبادر الي ذهن القارئ ان المصريين يحتفلون بذكري حركة عرّابي باشا، يسارع قلم التحرير في القول ان الاسرائيليين احتفلوا في مشارق الأرض ومغاربها بعيد الحرية. فأقيمت الاحتفالات في كل صقع وناد، حيث اشترك فيها ممثلو الحلفاء . ومن الاحتفالات اللافتة الحفلة الثالثة التي أقيمت في الكورسال تحـت رعاية فخامة الجنرال اللنبي والحفلة الرابعة التي تقام في حديقة الأزبكية تحت رعاية اللادي اللنبي . والطريف ان اسم هذا الجنرال البريطاني أطلق علي أحد أهم شوارع بيروت.
    أما الصفحة الرابعة والأخيرة فقد نشر فيها ملّول ما حرص علي نفيه في الأهرام و المقطم وداخل حزب اللامركزية . فتحت عنوان فلسطين ، كتب قلم التحرير ان دول الحلفاء الكبري التي تدير كفة جمعية الأمم وافقت علي الوعد الذي صرحت به الحكومة البريطانية في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917، ثم وافقت عليه سائر حكومات الحلفاء، عن انشاء وطن قومي لليهود في فلسطين . ويذكر ان احدي أبرز الدول الموافِقة علي وعد اللورد بلفور، هي بريطانيا العظمي التي كان صاحب الوعد وزيراً لخارجيتها. ونجحت مع فرنسا، في فركشة لجنة كنغ - كراين الأميركية التي استفتت الفلسطينيين واللبنانيين والأردنيين والسوريين مقدمة لرسم شكل تقرير مصيرهم انطلاقاً من مبادئ الرئيس الأميركي ولسن التي نصّت علي حق الشعوب في تقرير مصيرها.

    4 - صحيفة أبو شادوف اليافاوية لوهبة تماري
    في 13 آذار (مارس) 1912 صدر العدد الأول من صحيفة أبو شادوف التي:
    تصدر كلما هبّ الهوا / أو كلما كلب عوي
    علي حد ما ورد في الترويسة التي ورد فيها ايضاً ان أبا شادوف لا يقبل الاشتراكات ولكنه يباع بالعدد وبمتليك . ولم تكن الافتتاحية أو مقدمة أبو شادوف أقل سخرية، حيث يتساءل وهبه تماري في مطلعها: أبو شادوف يريد ان يكون صحافياً ؟
    ويسارع الي الاجابة: نعم يريد أبو شادوف ان يكون صحافياً، والسبب في ذلك ما رآه من اقبال الناس، حتي المبعوثان انفسهم علي هذه المهنة بعد اغلاق المجلس . ويضرب صاحب الجريدة ورئيس تحريرها مثلاً النائب شكري بك العسلي مبعوث دمشق الذي رأي ان يكون صحافياً بعد ان وجد ان الأمل ضعيف في انتخابه لدورة ثانية فلو لم تكن الصحافة مهنة شريفة لما أقدم عليها مثل شكري العسلي. أفرأيت إذاً أيها القارئ الكريم لماذا يريد أبو شادوف ان يكون صحافياً دفعة واحدة ؟ طبعاً هناك سببان وراء عدم رغبة صاحبنا في التمهيد لممارسة السلطة الرابعة بدخول البرلمان أو مجلس المبعوثان: أولاً لأنه يحبّ الاختصار... وثانياً، لأنه لا يريد ان يدخل في سلك المأموريات الرسمية وينتظر الأفلاك وسعد الطالع ويستميل هذا ويتزلف الي ذاك، ويوسّط فلاناً ويبقي محسوباً علي فلان ليحافظ علي وظيفته أو ينال أرفع منها . ويذكر ان شكري العسلي الذي تولّي منصب قائمقام في فلسطين قبل ان يصبح نائباً، شاهد علي الأرض احدي مراحل الاستيطان اليهودي، مما دفعه الي شنّ حملات نيابية في اسطنبول ضد المشروع. ويرجح ان تكون السبب الرئيسي في شنقه من قِبل أحمد جمال باشا (الملقب بالسفاح) في السادس من أيار (مايو) عام 1914. ذلك ان الذين انقلبوا علي السلطان عبدالحميد في صيف 1908 كانوا أكثر منه تعاطفاً مع الاستيطان اليهودي، ولو كانوا أقل منه معارضة له ظاهرياً وبالقرارات المكتوبة فقط.
    غلاء المعيشة وخطاب أبو شادوف احتلاّ باقي الصفحة الأولي ونصف العمود الأول من الصفحة الثانية. وباعتبار ان جريدة تماري تختلف عن بقية الدوريات الفلسطينية بسبب أسلوبها الساخر، فإن خطابه مختلف أيضاً لأنه شعر من ألفه الي يائه، في حين تمحورت سائر الخطب علي النثر، وان تزيّن بعضها بأبيات قليلة من الشعر. يقول أبو شادوف في القسم الأول من خطابه :
    قد أصبح العيش صعباً في مدينتنا / والفقر يزداد بين اليوم والثاني
    حاجاتنا ارتفعت أسعارها فغدا / يئن كل فقير الحال غلبان
    وكيف يرجو لذيذ العيش صانعنا / وكسبه بِشْلك ان زاد فاثنان
    واللحم والسمن هذا عزّ مطلبه / وذاك لا يشتريه غير بطران
    أما الطحين فيكفي ان يكون له / منه الكفاء ليبقي غير جوعان
    ناهيك حاجاته الأخري إذا عرضت / من مثل لبس ومشروب ودخان.
    نشر وهبه تماري في الصفحة الثانية اعلاناً عن شركة الطباعة العربية ورد فيه ان الشركة مستعدة لطبع كل ما يطلب منها بأحرف جميلة، غاية في الاتقان، مما لا يمسّ الصوالح الصهيونية في فلسطين . ثم ذيّل الإعلان بالتعليق الساخر الآتي: نرجو للشركة نجاحاً عظيماً جداً قدر رأسمالها، وللمساهمين أرباحاً جسيمة قدر سذاجتهم، وتسليمهم عن طيب قلب، وللوطن والآداب رحمة واسعة . وبعنوان حقائق تاريخية قال أبو شادوف بمناسبة اعتداء ايطاليا علي ليبيا: يقولون ان الايطاليين قوم من اللصوص وقطّاع الطرق وانهم أولاد زني. ولا يثبتون هذا القول إلا باعتداء ايطاليا علي طرابلس الغرب. ولكن أبا شادوف يعزز ذلك ببراهين تاريخية تؤيد صحة هذه النسبة اليهم، فخذ منه ما أعطاك . ثم أعطي معلومة، هي أقرب الي الرواية التاريخية منها الي التاريخ الحقيقي، من أجل تقديم برهان آخر علي مثالب الطليان.
    أما تلغرافات العدد المنشورة في الصفحة الثالثة، فقد ورد في أحدها ان أبا شادوف ينوي ترشيح نفسه للنيابة عن ولاية هربيا في قضاء غزة، وأهم ما جاء في بروغرامه انه سيبذل جهده في تحسين زراعة البندورة . وورد في تلغراف آخر ان لجنة التفتيش اتخذت في يافا كل الاحتياطات الصحية لحصر الترشيح خوفاً من امتداده ، باعتبار ان الترشيح للنيابة مرض كالرشح، بنظر المحرر المصاب به.
    وخصص وهبه تماري الصفحة الرابعة للأخبار المحلية، وقد استهلها بمجلس بلدية يافا الذي أرسل وفداً الي اللد لمشتري ثلاثة حمير . وعلي ذكر الحمير، فإن الخبر التالي أفاد ان البلدية لا تجازي الحمير التي تسير عرض الشارع، لأن بين أعضائها من يدافع عنهم .
    صوت الصهيونية هو عنوان خبر ثالث تمحور علي الطبيب والكاتب اليهودي مويال الذي أسس لوجاً ماسونياً في يافا ويؤسس جريدة يدعوها صوت العثمانية حتي اذا رأي الإقبال عليها، أطلق عليها اسم صوت الصهيونية .
    أما صحيفة النفير التي أضأنا عليها في حلقة سابقة، فقد تضمن الخبر الخاص بها، ما يلي: نسمع من حين الي آخر ان جريدة النفير ستتوقف أسبوعاً أو أسبوعين عن صدورها لزيادة التحسين فيها تبعاً لناموس النشوء والارتقاء. فنراها بعد ذلك تصدر أسبوعاً بحجم كبير، وأسبوعاً بحجم صغير، ومرة ثلاث مرات في الأسبوع، ومراراً مرة واحدة، وأحياناً كثيرة لا تصدر. فلو صحّ ناموس النشوء والارتقاء وصدق ناموس بقاء الأنسب، لوجب علي جريدة النفير ان تموت . والطريف، ان السّحر قد انقلب علي السّاحر، إذ ان النفير استمرت بالصدور حتي الثلاثينات، ولو بشكل متقطع، في حين توقفت أبو شادوف نهائياً بعد وقت قصير من صدورها.
    يبقي ان وهبه تماري بعث برسالة الي مؤرخ الصحافة العربية فيليب طرازي حدّد فيها خطة جريدته بثلاثة مبادئ: أولاً، خدمة ما يعود بالنفع لأمتي المسكينة والضرب علي أيدي الذين أبي ابليس الا ان يظهر في قلوبهم... ثانياً، أبو شادوف يخدم الحق لأن الظلم ضعيف وان كثر أنصاره، والحق قوي وان قلّ رجاله... ثالثاً، خدمة أبناء ملتي الأرثوذكسية التي تطالب بحقوقها من الرهبنة اليونانية بالقدس .
    والواقع ان المبدأ الثالث تخطي الملة الأرثوذكسية في القدس وعموم فلسطين ليشمل كل الفلسطينيين علي اختلاف طوائفهم ومذاهبهم. ذلك ان هيمنة الإكليروس اليوناني علي الأديرة الأرثوذكسية، خصوصاً في القدس، أفاد المشروع الاستيطاني الصهيوني. لذلك، قاوم الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية مساعي الوطنيين الأرثوذكس لاستعادة نفوذهم علي تلك الأديرة. والصراع المرير الذي بدأ بين الاكليروس اليوناني والفلسطيني قبل صدور أبو شادوف ، كان له الكثير من الجولات، لعل آخرها تلك التي جرت منذ أشهر، وقد تمحورت علي دير وأرض في القدس اشتراهما الصهاينة من البطرك أو المطران اليوناني.


    صحيفة الصراط المستقيم وصحيفة بيت المقدس

    5 - صحيفة الصراط المستقيم للشيخ عبدالله القلقيلي

    لو لم تصدر الصراط في يافا، عام 1933 حيث قطع المشروع الوطن القومي اليهودي شوطاً بعيداً... لربما كانت تمحورت افتتاحياتها علي الشأن الديني كما كان حال مجلة المنار لمحمد رشيد رضا، التي صدرت في القاهرة. صحيح ان الشيخ القلقيلي ضمّن كل عدد من جريدته أبحاثاً ومقالات وأخباراً دينية إسلامية، ولكن معظم افتتاحياته تناولت الحركة الصهيونية وخطرها علي وطنه الصغير فلسطين... والأصغر يافا.
    تحت عنوان قحة قال صاحب الجريدة ورئيس تحريرها في افتتاحية العدد الصادر في 11 كانون الثاني (يناير) 1938 ان الصهيونيين، وهم حتي اليوم لا يملكون من فلسطين ملكاً عادياً غير القليل، ما يزالون في تخيلهم ان فلسطين جميعها في قبضة يدهم، وانها تراث انتقل اليهم من آبائهم، فهم يملكون تقرير مصيرها . لذلك كان حتمياً ان يبقي حقنا وباطلهم يتصارعان حتي يغلب أحدنا الآخر . لمن ستكون الغلبة في الجولة الأخيرة؟ الشيخ القلقيلي متفائل عبر قوله في الافتتاحية: اذا كنا علي يقين بأن الحق والحقيقة غالبان، والباطل والوهم مغلوبان، فإنا واثقون من ان فلسطين لن يسودها ويسيطر عليها غيرنا .
    ولكن تفاؤل عبدالله القلقيلي السياسي والوطني، لم يشمل العلم والأدب. بل انه كان في ذروة التشاؤم عبر مقالته فلسطين مقبرة العلم والأدب المنشورة في غزة شباط (فبراير) 1938. وكيف يمكن ان يتفاءل وقد رأي ان العلم والأدب لا يضيعا في بلد ضيعتهما في فلسطين، فهما فيها أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام . والكاتب يقرر ذلك ليس بالمقارنة مع البلدان الأوروبية التي كان أدباؤها وعلماؤها ملوكاً غير متوّجين، بل مع علماء مصر والشام والعراق وأدبائها. وبنتيجة المقارنة تتركز الصورة القاتمة علي الشكل الآتي: يعود الي فلسطين العالِم أو الأديب بعد ان كدّ في تحصيل العلم والأدب، فلا يمضي بضع سنين حتي يموت علمه في صدره ويجمد فكره في مقرّه، إذ لا يجد سبباً من أسباب حياة العلم فيها. ذلك ان أسباب حياة العلم. الدولة والسلطان. والدولة في فلسطين أعجمية من انكليزية ويهودية .
    طبعاً، لم تكن تلك المرة الوحيدة التي انتقد فيها القلقيلي الدولة المنتدبة بريطانيا العظمي. وندر ان خلا عدد من الصراط من النقد اللاذع باتجاه الإدارة الانكليزية في فلسطين والحكومة البريطانية. ولكن تنفيذ وعد اللورد الانكليزي بلفور من أجل إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، لم يقتصر علي جهود الانكليز، بل شمل البيت الأبيض الأميركي وسائر البيوت الأميركية الرسمية وبخاصة مجلس الشيوخ. قال القلقيلي في افتتاحية 5 نيسان (ابريل) 1938 ان أميركا تعني باليهود وتعطف عليهم. فهي إذا رأت دولة تضطدهم هاجت وماجت وبذلت نفوذها لتخفيف وكشف العذاب عنهم، وليس ما نراه في أميركا من كره لإلمانيا في الحقيقة، إلا من أجل اليهود . ويضرب مثلين علي التحيّز الأميركي، أولهما قدوم وفد مجلس الشيوخ الأميركي الي فلسطين بدافع من اليهود و... توسط الحكومة الأميركية لدي الحكومة البريطانية طبقاً لرغبات اليهود . ويختم الكاتب افتتاحيته بالاستدراك الآتي: ان عرب فلسطين وسورية حينما استُفتوا، اختاروا أميركا، إذا لم يكن بد من الانتداب عليهم . ويذكر ان الاستفتاء المذكور جري في مطلع العشرينات من القرن الماضي، وأجرته لجنة كنغ - كراين الأميركية، حيث شمل لبنان وفلسطين والأردن وسورية. وكان موضوعه استقلال الأقطار الأربعة ووحدتها. تعددت آراء النخب التي تم استفتاؤها حيث طالب بعضها بالاستقلال التام، فيما طالب البعض الآخر، وهو الغالب، بالانتداب البريطاني أو الفرنسي أو الأميركي. ولكن ضمن اطار محدود ولفترة قصيرة. لذلك بقيت توصيات لجنة كنغ كرايت حبراً علي ورق، لأن الدولتين المنتدبتين بريطانيا وفرنسا، قد بدأتا تمارسان نهجاً استعمارياً قبل الاستفتاء بعامين؛ من هنا سرّ رفضهما الاشتراك بالاستفتاء. وعلي الرغم من معركة ميسلون غير المتكافئة واستشهاد وزير الحربية في حكومة فيصل الأول يوسف العظمة، حيث ظهرت فرنسا خلالها وكأنها الأشرس في رفضها للاستفتاء الأميركي... فإن الرفض البريطاني كان الأعمق والأشمل، لأنه كان يستهدف توفير المناخ الملائم في فلسطين لتحقيق الوطن اليهودي. وبالمناسبة، فليس صحيحاً ما يقوله القلقيلي من ان عرب فلسطين قد اختاروا أميركا كدولة منتدبة. ذلك ان معظمهم اختار بريطانيا.
    شارك بعض الكتّاب المتطوعين في تحرير الصراط. لعل المشاركة الأطرف تمثلت في مداخلة السيدة فريدة يوسف قطان التي كانت احدي ضحايا داهش علي حد تعبير القلقيلي في العدد السابق نفسه إذ يقول صاحبه: كنا نشرنا كلمة لمُنا فيها الصحف التي تروّج لألاعيب الرجل المعروف بداهش، وأشرنا الي قصة سيدة كان لها ثروة قد توصل داهش اليها فتبددت . ومما قالته فريدة ان داهش ارسل الي ولدها نصري المقيم في السودان بكتاب يقول فيه انه ميت ولكنه حي بالروح، لذلك يستصرخه بالمروءة ان يترك أعماله التجارية في السودان، وان يأتي الي القدس ليقرأ له تعويذة فيرجع الي الحياة. وصدّق نصري هذا الدجّال الفظيع، فترك شغله وجاء الي فلسطين ليحيي هذا المشعوذ الميت. وكانت نتيجة ذلك ان يقع في الشرك ويفقد أمواله . وكشفت الكاتبة الاسم الحقيقي لداهش وهو سليم موسي الياس الغشي، السرياني، الذي يدعو نفسه الدكتور داهش وهو لقب انتحله اعتباطاً لتسهيل أسباب دجله . ويذكر ان الدكتور داهش استقر في لبنان، وأصبح له أتباع، منهم شقيقة زوجة رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري، وتوفي خلال السنوات الأولي للحرب الأهلية التي اندلعت في العام 1975. ويعود الفضل لفريد قطان حول تحديد هوية وطنه، اذ كان الاعتقاد السابق انه من اصل ايراني.

    6- صحيفة بيت المقدس ... لبندلي مشحور

    لولا فيليب طرازي بعد تجريده من لقب (الفيكونت) الفرنسي لأن ألقابه العلمية والثقافية هي الأبقي - لتوقفت سلسلة الدوريات الفلسطينية عند الحلقة الماضية... فمآثره أكثر من أن يستوعبها أحدث كومبيوتر. فهو الذي أسّس دار الكتب الوطنية ، ووضع تاريخ الصحافة العربية بأجزائه الأربعة مدشّناً به المؤلفات المماثلة، ولكن مأثرته في حفظ العدد الأول أو المتوافر من كل دوريةعربية، هي الأكثر طرافة... وفائدة. وبفضل المأثرة تلك، أُكمل هذه السلسلة، بادئاً بصحيفة بيت المقدس التي أصدرها بندلي الياس مشحور في القدس. صدر العدد الأول المتوافر في 26 كانون الأول (ديسمبر) 1919 تحت شعار جريدة عامة من الشعب وإلي الشعب ، وأعلن صاحب الجريدة ومديرها المسؤول فوق ترويستها، أنها تصدر كل يوم خلا يومي الجمعة والأحد . وهذا يعني ان بيت المقدس تعطّل يوم صلاة المسلمين والمسيحيين فقط، من غير أن يشمل التعطيل يوم السبت الخاص باليهود. والقرار اتخذ بدافع سياسي لا ديني كما سيجيء. تولّي إدارة الصحيفة حسن صدقي الدجاني. وحددت بدلات الاشتراك 150 غرشاً مصرياً عن سنة في سورية المتحدة... و165 غرشاً مصرياً عن سنة في الخارج . والمقصود بـ سورية المتحدة بلاد الشام حيث بويع فيصل ابن الشريف حسين ملكاً عليها، بُعيد صدور الصحيفة بثلاثة أشهر.
    قسمت الصفحة الأولي - وسائر الصفحات - إلي أربعة أعمدة، وتوجت بالمانشيتات الآتية: جريدة للشعب. أشياع الصهيونية وخصومها. أعضاء غرفة التجارة لدي الحاكم العسكري. أنباء البلاد العربية. الصواعق في بيروت. ماذا تقول الصحف. تركيا في المؤتمر. أقوال البرنس صباح الدين. وهندبرغ ينادي بالانتقام . ويُلاحظ، فإن قلم التحرير استعاض عن محتويات العدد بالمانشيتات، فأصاب عصفورين بحجر واحد، بمعني أنه أعلن عن محتويات الجريدة بأسلوب غير تقليدي.
    ولنتوقف في هذه العجالة عند الافتتاحية، والصهيونية، وأقوال الصحف. تحت عنوان إليك أيها الشعب قال بندلي الذي يفترض أنه رئيس التحرير والمحرر الأول: نزفّ هذه الجريدة التي هي منك وإليك لتقوم بخدمتك وخدمة مصالحك وتدافع عنك وعن حقوقك وكيانك. وتمحضك خالص النصح وتبحث عن أمراضك الاجتماعية وتصف لها أنجع الأدوية. وهي ستخوض غمار التدقيق في اقتصاديات بلادك وتسعي لتنشيط زراعتها وتجارتها وصناعتها وتحضّ أبناءها علي التعاضد والتعاون لخدمة هذا الوطن العزيز خدمة تنقذه مما هو فيه من الانحطاط وتسير به في معارج الرقي والفلاح . وأضاف أن بيت المقدس ليست إلا بدلاً من جريدة (الإنصاف) التي طالما ناضلت في سبيل الدفاع عنك دفاعاً يشهد به لها قراؤها الأقدمون . ويذكر ان بندلي مشحور أصدر الإنصاف في القدس في 23 كانون الأول 1908، أي بعد أشهر قليلة من إعادة الاعتبار للدستور العثماني ولحرية الصحافة. والملفت أن صحيفته الثانية صدرت في الشهر نفسه - اي كانون الأول - وفي 26 منه، أي بفارق ثلاثة أيام فقط.
    ولنقلب الصفحة علي أقوال الصحف أو بالأحري أقوال صحيفة واحدة بيروتية هي لسان الحال لآل سركيس. تحت عنوان الاتفاق الفرنساوي - الإنكليزي ، الذي يُعرف بـ اتفاقية سايكس بيكو ، القاضية بتقسيم بلاد الشلام، وصف محرر اللسان بأسلوب أدبي رمزي الاتفاق بأنه رسم فطري سوف تمزقه ريشة المصور بعدما يخرج من الغرفة السوداء، أي من السجلات السياسية السرية . وتساءل النائب عما إذا كان الرئيس الفرنسي كليمنصو ولويد جورج رئيس حكومة صاحبة الجلالة سيكلّفا مصوراً ماهراً من أجل إزالة المشحة السوداء عن الرسم السوري من جهة فلسطين . والكاتب ربما يلمح الي الحدود بين لبنان وفلسطين.
    الصهيونية: أشياعها وخصومها هو عنوان الحلقة الأولي أو بالأحري التوطئة لعدة أبحاث سنوالي نشرها في الأعداد القادمة .
    استهل الكاتب الذي هو رئيس التحرير- باعتبار ان المقال غير موقّع - التوطئة بالمقارنة بين المتدينين والملحدين اليهود، الذين اتفقوا علي استيطان فلسطين، علي رغم ان اعضاء الفريق الأول المتدين اكتفوا بالبكاء والعويل وضرب الصدور ومسح الوجوه بتلك الحجارة القديمة في جدار بقايا هيكل سليمان، مستصرخين ربّهم ان يعيد لهم عزهم الماضي وملكهم المنقرض. أما المفكرون ورجال الأموال منهم فقد حوّلوا الصلوات الرمزية الي فكرة سياسية، وقاموا يطالبون بإنشاء مملكة يهودية . وأصحاب مشروع المملكة اليهودية ينقسمون بدورهم الي فريقين أحدهما متطرف تنحصر غايته بقول الدكتور وايزمان أحد زعماء الصهيونية: إن فلسطين يجب ان تكون يهودية كما ان انكلترا انكليزية . والثاني معتدل يكتفي بالمطالبة بالسماح للإسرائيليين بالمهاجرة الي هذه البلاد وابتياع الأراضي . ويستدرك الكاتب للقول الحق إن هذا الفريق المعتدل يري أن الإسرائيليين متي حصلوا علي حق التساوي بسائر السكان، لا يطول بهم الأمر حتي يصيبوا المركز الأول بما لديهم من الوسائل الأدبية والمالية. حتي إذا تم لهم ذلك لا يلبثون ان يوسعوا دائرة أطماعهم وأعمالهم بحكم الضرورة .
    وختم بندلي مؤكداً ان من حسنات خطر الاستيطان الذي يدعو إليه، ويعمل علي تحقيقه، المعتدلون والمتطرفون اليهود، ولادة اتحاد متين بين المسلمين والمسيحيين في فلسطين .
    يبقي أن بيت المقدس التي ولدت في نهاية العام 1919، عاشت سبع سنوات، وهو عمر غير قصير قياساً للعديد من الدوريات التي تتمحور علي الأشخاص لا المؤسسات، ورحل معظمها قبل سبعة أشهر من تاريخ صدور العدد الأول منها.


    7- صحيفة العالم الإسرائيلي البيروتية ومجلة فلسطين لغسان كنفاني


    صحيفة العالم الإسرائيلي البيروتية لسليم الياهو من لحظة يرتطم نظر القارئ بعنوان هذه الحلقة، لا بد من ان يطرح السؤال الآتي: صحيفة بيروتية... ومؤسسها يهودي بيروتي من حيّ وادي أبو جميل . فكيف تعتبر حلقة في سلسلة الدوريات الفلسطينية؟ صحيح ان احدي الحلقات تمحورت علي صحافي لبناني كأحمد عباس، ولكن صحيفته اليرموك صدرت في فلسطين، وكان جزء كبير من أخبارها ومقالاتها فلسطينياً، وان حلقة أخري تناولت جريدة الشوري التي صدرت في القاهرة. إلا ان صاحبها محمد علي الطاهر فلسطيني، وخصص للمسألة الفلسطينية حيّزاً في كل عدد من صحيفته.
    إذا كان مقياس ادراج الصحيفة في لائحة الدوريات الفلسطينية مضمونها، فإن العالم الإسرائيلي ، التي خصصت معظم صفحات اعدادها من أجل فلسطين اليهودية علي حدّ تعبير محررها الأول الياهو ساسون، فرضت نفسها علي هذه السلسلة. فالصحيفة التي أعلن صاحبها سليم إلياهو منّ انها علمية أدبية اخبارية تصدر موقتاً مرة في الأسبوع لم تتضمن أخباراً أو مقالات أدبية أو علمية... في حين لم يخلُ عدد واحد منها، بدءاً من عددها الأول الصادر في غرة أيلول (سبتمبر) 1921، من أخبار ومقالات تستهدف استيطان فلسطين. فقد احتلت المقالة المعنونة تيودور هرتزل صفحة كاملة من باكورة أعداد المجلة أو بالأحري الصحيفة، كل شيء فيها - ما عدا صاحبها - يؤكد انها صحيفة بدءاًَ من ترويستها ومروراً بأعمدة صفحاتـها، وانتهــاء بالوعد الذي تكرر بأنها أسبوعية موقتاً، إذ نقرأ الآتي الأمل في عــودة اسرائيــل الي فلسطين لم يأخذ شكله العلمي ثم العملي إلا بذلك المفكر العظيم تيودور هرتزل .
    ومن أخبار الصحيفة التي تبعد ملايين الكيلومترات عن الأدب والفن ما نشر في العدد الصادر بتاريخ 25 كانون الثاني (يناير) 1923 عن يهودي عراقي من آل قدوري الذي أوصي بمبلغ 120 ألفاً من الجنيهات السترلينية لبناء مدارس يهودية في فلسطين، ويعهد الي الحكومة الانكليزية القيام بهذا العمل... وقد تألفت لجنة من ستة أعضاء: ثلاثة من قِبل الحكومة وثلاثة من الهيئة الصهيونية . أما الافتتاحيات والمقالات المتمحورة علي تهويد فلسطين، فحدّث ولا حرج حول عددها الكبير وعيار صهيونيتها الرفيع.
    تحت عنوان فرنسا والصهيونية قال الكاتب الصهيوني بوزاكلو في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 1921 ان هرتزل والدكتور نورده وغيرهما من أقطاب الحركة الصهيونية يرسمون في باريس أدق الخطط وأبدعها لتنظيم التشكيلات والتدابير المؤيدة لليهود في صيانة حقوقهم.
    ولا جدال انه في أرض فرنسا، ولد فكر تحرير اسرائيل. ان تصريح بلفور قد خلّد لحكومة لويد جورج اسمها. وان مؤتمر سان ريمو قد أضاف الي بلاد ميرابو ودانتون مجداً جديداً وفخراً مأثوراً . وختم الكاتب افتتاحيته باللاءات الإيجابية: لا مجال للقول انه لا يمكن لكل يهودي يتباهي ويفتخر إلا ان يكون صهيونياً لا يرفض مبدأ العودة الي الأرض المقدسة .
    ومن الافتتاحيات اللافتة، تلك التي شُنّت فيها حملات ضارية ضد الصحافي الوطني الفلسطيني عيسي العيسي وصحيفته الشهيرة فلسطين . وأكد الياهو منّ في افتتاحية العدد 30 الصادر في 30 آذار (مارس) 1922 ان في فلسطين جريدة استعارت اسمها من البلاد التي تقيم فيها لتموه علي القراء وتظهر للناس انها صادقة في خدمة الوطن الذي اتخذت اسمه الجميل شعاراً لها.
    هذه الجريدة الرصيفة لا تترك فرصة إلا وتنتهزها في بث سمومها بالقضية الصهيونية. وآخر ما بلغ من براهينها السفسطية عن ضعف الصهيونيين انهم يولمون الولائم ولا تسفر النتيجة عن غير الأكل والشرب . أضاف صاحب العالم الإسرائيلي : نعم أكلنا مريئاً وشربنا هنيئاً وحسونا كأس وطننا القومي الذي جاهر الحلفاء وجاهرت بريطانيا بحفظ تعهداتها لتنفيذ وعد وزيرها بلفور .
    ومن الذين اشتركوا في الحملة، البيروتي الصهيوني ايلي الذي قال للعيسي في العدد 85 الصادر في 3 أيار (مايو) 1923: تسأل يا حضرة الكاتب لماذا لم نرَ بقعة أخري في العالم تصلح لإنشاء ذلك الوطن القومي سوي فلسطين؟ ولِمَ لا يقوم في شرق أفريقيا الذي منحتنا اياه بريطانيا مقام فلسطين ؟ وأجاب بالسؤال الآتي: هل إذا هاجر رجل من لبنان الي الولايات المتحدة وبقي فيها 20 سنة، يفقد حقه في الحصول علي مسكنه وأراضيه إذا عاد الي بلاده بعد ذلك الوقت ؟
    ولكن ماذا عن القدس في العالم الإسرائيلي البيروتية؟ في العددين 50 و51 الصادرين في 24 و31 آب (أغسطس) 1922، ظهرت افتتاحيتان حول عاصمة فلسطين، أولاهما معرّبة عن مجلة (رفيوف رفيوز) الانكليزية، إذ تساءل كاتبها هرلد شبستون: من يتسلم الأراضي المقدسة؟ العرب أم اليهود ؟ وأجاب: العرب يصرخون بأن فلسطين لها حكومة صهيونية، وهذا أبعد عن الحقيقة بكثير.
    نعم ان المندوب السامي اسرائيلي، وهو صرّح بشعوره الصهيوني، ولكنه في أشغــالـــه الإدارية مسؤول تجاه الحكومة الانكليزية رأساً. فالصهيونيون ليس لهم حصة في الحكومة وادارة البلاد . ولكن السؤال الذي أجاب عنه الصهيــوني الانكليــزي بالديبلوماسية الانكليزية المعــهودة، سدّده الصهيوني البيروتـي الياهــو منّ بعربيتـه الفصيحة: ان المركز الجديد الذي يجب أن نأخذه بديلاً هو القدس الشريف .
    يبقي ان العالم الإسرائيلي استمرت بالصدور في بيروت والتوزيع في مكتبات دمشق الي السنوات الخمس التي تلت نهاية الانتداب الفرنسي علي الجمهوريتين السورية واللبنانية، وتحديداً حتي العام 1948 تاريخ نهاية الانتداب البريطاني علي فلسطين وولادة دولة اسرائيل.

    8 - مجلة فلسطين لغسان كنفاني وهشام أبو ظهر

    بلا نواح، بلا خطابة، تقدم فلسطين نفسها للعرب، مجلة قضية لشعب القضية. شعارات؟ ليس لدينا شعارات! ولكننا نطمح في أن نعرف الفلسطيني والعربي الي القضية أكثر وأكثر، وأن نبني جسر اللحم والدم بين من لجأ ومن صمد، أن نذكر ماضي الكارثة، وأن نصور حاضرها، ونحاول استشفاف مستقبلها . 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 1964.
    بهذه الكلمات الأدبية والعقلانية، ومثيلاتها، رسم غسان كنفاني نهج المجلة في افتتاحية العدد الأول المنشورة في الصفحة الأخيرة.
    وكانت فلسطين البيروتية التي صدرت ملحقاً لصحيفة المحرر خلال عامي 1964و1965 خالية من الشعارات الرنانة الطنانة، ومليئة بالمقالات والدراسات العلمية والقصائد التي ساهم فيها الدكتور فايز صايغ وبرهان الدجاني ومعين بسيسو وبلال الحسن وغسّان كنفاني وغيرهم.
    الدور الصهيوني للأعضاء اليهود في الأحزاب الشيوعية هو عنوان أحد المقالات الكثيرة التي كتبها غسان كنفاني الذي استشهد في بيروت نتيجة عبوة زرعتهااستخبارات الموساد في سيارته. والدور المذكور الذي قام به مسؤولون في الأحزاب الشيوعية الغربية وموظفون كبار في الاتحاد السوفياتي، هو الذي قاد حملة الصهيونية العالمية علي الاتحاد السوفياتي، والتي تتهمه باللاسامية ، وذلك بسبب تأييده للقضية العربية واعتباره إسرائيل أحد جسور الاستعمار الكبري في العالم . وعلي سبيل المثال، فقد ألّف الأوكراني ث. كيشكو كتاباً بعنوان اليهودية بلا قناع . ردّت جريدة الـ ليونيتا الايطالية الشيوعية مطالبة بملاحقة الكاتب ودار النشر، ومقدرّة ان وراء الكتاب عناصر ستالينية لاسامية، ظن قراء الجريدة ان تولياتي هو صاحب الرد. والحقيقة ان المحرك وراء هذه الحملة التي تبناها الحزب الشيوعي الايطالي كان الرجل الثاني في الحزب: تيراسيني. والأخير، للمعلومات، يهودي ومتزوج من ابنة كاتب بولوني يهودي شهير . ولم يكن شيوعيو الولايات المتحدة أقل اتهاماً للاتحاد السوفياتي من الطليان بالنسبة لمعزوفة اللاسامية. فقد ظهر مقالان في مجلتهم شؤون سياسية حول الموضوع. واعترفت المصادر الأميركية ان هذين المقالين كتبا تحت ضغط العناصر اليهودية الأميركية وبصورة خاصة اليهود الذين يشغلون مناصب قيادية في الحزب الشيوعي الأميركي . 19 تشرين الثاني 1964 وفي المناسبة، فإن المجلة نشرت محاضرة مترجمة عن الانكليزية للدكتور فايز صايغ ألقاها في بيروت في جمهور غالبيته من الأجانب . كان عنوان المحاضرة الصهيونية في الولايات المتحدة . واستشهد المحاضر في سياق كلمته بالصحافي الأميركي جايمس رستن الذي عبّر عن واقع الدعاية العربية بالمقارنة مع الدعاية الصهيونية أصدق تعبير حين قال: ان الدعاية الصهيونية تسبق الأحداث بينما الدعاية العربية وراء الأحداث . وحول ما يردده اللوبي الصهيوني في أميركا عن طلب اسرائيل من الولايات المتحدة لمساعدتها في التفاوض مع العرب للوصول الي اتفاق سلام معهم عبّر صايغ منذ 36 سنة عن عدم قناعته بصدق المطالبة اذ قال: إنني مقتنع ان اسرائيل لا تريد السلام في الشرق الأوسط، وهي ترفضه علي أساس الوضع القائم في المنطقة. فالسلام بالنسبة لإسرائيل تخلٍّ عن طموحها القائم بالدولة الموعودة. لذلك فإن ما تردده الدعاية الصهيونية عن الرغبة في التفاوض مع العرب يخفي أهدافاً أخري كمحاولة قطع الطريق علي مقرري السياسة الأميركية من ان يفكروا في أي حل وسط يرغم اسرائيل علي التخلي عن مقاطعة معينة من الأراضي، أو الاعتراف بأي حق للاجئين العرب، أو التخلي عن مدينة القدس. ان الدعاية الصهيونية تحول بذلك دون مثل هذه الحلول الوسط، علي أساس ان المشكلة الأساسية تنحصر في نيات الحرب لدي العرب، وان الحل هو في الضغط علي العرب لقبول السلام . 25 آذار (مارس) 1965.
    وعلي ذكر الحلول الوسط، رفض قلم تحرير فلسطين أحدها الذي تقدم به الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة خلال زيارته للبنان في عهد الرئيس شارل حلو. والرئيس بورقيبة طالب وقتذاك الفلسطينيين بما يطلبونه اليوم، أي قبولهم لدولتهم الفلسطينية علي جزء من فلسطين، علي أن يكملوا سعيهم لتحقيق المزيد من حقوقهم وفقاً لمبدأ خذ وطالب الذي اتبعه في تونس مع المستعمرين الفرنسيين. ورداً علي حكاية المراحل والاعتماد علي المناورات البارعة لفت صاحب الرد - والمرجع انه غسان كنفاني نظر بورقيبة ان الصهيونية كانت تستغل كل المراحل السابقة، من ايام الانتداب الي الهدنة الأولي فالثانية، لكي تقوي نفسها وتجمع قوتها وتنقض علي العرب من جديد.25 آذار 1965.
    ونشرت المجلة نشيد فلسطين للشاعر الراحل معين بسيسو الذي قضي بالسكتة القلبية في احد فنادق لندن، وينص القسم الأول من النشيد علي الآتي:
    ستحترق
    ستحترق
    سلاسل الحدود من ورق
    لم تبق إلا هبة وتنطلق
    مشاعل الرايات في الأفق
    تصيح:
    شعبنا انطلق
    شعبنا انطلق
    ستحترق
    ستحترق
    سلاسل الحدود من ورق
    الي السلاح يا أخي
    تموت إن لم تصرخ
    الي السلاح للمتراس والخنادق
    وكانطلاقة البركان والصواعق
    فمن دمي نسجت يا اخي بيارقي
    ومن دمي حشوت يا أخي بنادقي
    إنْ ساعدٌ هوت فألف ساعد
    تمتد للسلاح ألف ساعد
    وإنْ سقطت قام الف مارد
    وألف راية تصيح في الأفق
    ستحترق
    ستحترق
    سلاسل الحدود من ورق
    يافا تلوح في الأفق 17 كانون الأول (ديسمبر) 1964.
    ولعل أهم ما نشر في المطبوعة المتواضعة الشكل، الرسالة التي وجهتها أسرة التحرير الي جان بول سارتر، واستهلتها بالقول انه ليس بالوسع ان ينسي الانسان الذي قرأك وتابعك، موقفك في الجزائر، ولا دورك في المقاومة، ولا صوتك في كوبا والفيتنام، ومعاركك من اجل اليسار . أضافت غامزة من عدم تأييده لفلسطين بسبب غياب ثورة أبنائها: نحن فلسطينيون يا سيدي. وقد يكون ذنبنا في البعد منك كوننا لم نبدأ الثورة بعد. وهو ذنب يجلدنا يومياً ولكننا سنسألك: هل يجب ان تبدأ الثورة كي نكسب تأييدك ؟ 13 أيلول (سبتمبر) 1965.
    يبقي باب يوميات الذي يكتبه صحافيون من خارج أسرة التحرير. ومن الذين طرقوا هذا الباب الزميل بلال الحسن حين اعتبر صوت ناحوم غولدمان في أكبر مؤتمر يهودي بأنه صوت مفرح الي أقصي حد .
    أما مبعث الفرح، فلأن أكبر زعيم يهودي في العالم والمنافس القوي لبن غوريون قد أعلن فشل كل المخططات التي عملوا لها عشرات السنين . وثمة عامل آخر يساهم أو يضاعف الفرح، وهو رسوخ ارادة الصمود والعمل من اجل العودة، والتي نمت في ظروف سيئة متعبة، لا يمكن ان تقارن بالأوضاع المعيشية المترفة التي يعيش فيها يهود المستعمرات في كل انحاء اسرائيل . 14 كانون الثاني (يناير) 1965.
    يبقي، أن حجم فلسطين وتبويبها يدلان علي انها جريدة لا مجلة كما ورد في افتتاحية كنفاني، وهي لم تعمّر أكثر من عامين ربما لأن رئيس تحريرها، وكدت أقول هيئة التحرير، غسان كنفاني، انتقل الي موقع نضالي جديد ودورية اكثر ثورية.


    مجلة النفير الحيفاوية والنفائس العصرية لخليل بيدس

    9 - صحيفة / مجلة النفير الحيفاوية ... تأسست في الاسكندرية

    لو أردت اختصار دورية النفير في ضوء مقولة الثابت والمتحول الأدونيسية، لقلت إنها كانت دائمة التحول منذ صدورها في الاسكندرية عام 1904 حتي أفول نجمها في حيفا عام 1945. أما الثابت الوحيد فيها فهو نهجها الوطني الفلسطيني الرافض للاستعمار البريطاني والاستيطان اليهودي.
    أسسها ابراهيم زكا في الاسكندرية بعنوان النفير العثماني في عهد النظام الحميدي في اسطنبول الذي كان يحطم الصحافيين وأقلامهم في طول السلطنة وعرضها. وعندما أعيد الاعتبار للدستور العثماني - الذي اشترك في رسم مواده اللبناني خليل غانم ونفّذه شهيد السلطنة الأكبر الصدر الأعظم مدحت باشا في السبعينات من القرن التاسع عشر - في صيف 1908، استأنفت الصدور في مدينة القدس أولاً وحيفا تالياً، ولكن بإدارة شقيق مؤسسها، إيليا زكا الذي حذف صفة العثماني من عنوانها. خلال الحرب العالمية الأولي توقفت عن الصدور، نتيجة بطش حكام السلطنة الجدد بالوطنيين والصحافيين في بلاد الشام بدليل ان معظم الذين شنقهم جمال باشا الملقب بالسفاح في ساحتي البرج (بيروت) والمرجة (دمشق)، كانوا صحافيين. إثر هزيمة الأتراك وحلول الإنكليز مكانهم في فلسطين، أكمل ايلي زكا إصدار النفير بدءاً من 23 أيلول (سبتمبر) 1919. ولم يكن الانتداب البريطاني أقل قساوة من المكتوبجي العثماني خصوصاً بالنسبة للصحافة الوطنية في فلسطين التي كانت تناوئ وعد بلفور الذي بدأ الإنكليز بتحقيقه منذ اليوم الأول لدخولهم فلسطين. وفي العام 1933 نال الإخوان سهيل وزكي زكا ترخيصاً لصحيفة نسيبهم إيليا، وبدأ بإصدارها، ولكن كمجلة اسبوعية جامعة .
    تلك أبرز التغييرات التي تعرّضت لها مطبوعة النفير . أما ثباتها علي موقفها الوطني، فإنني أورد في ما تبقي من مساحة هذه العجالة، نماذج عنه، يوم كانت النفير صحيفة تصدر مرة كل أسبوع ويوم أصبحت مجلة.
    في العدد الصادر بتاريخ أول تشرين الأول (اكتوبر) 1919، وتحت عنوان جولة في فلسطين ، لاحظ إيليا زكا في سياق الافتتاحية غلاء أسعار الحاجيات، وارتفاع اجارات البيوت والمخازن، والاستخفاف بالوطني وتفضيل الأجنبي، وإعطاء المناصب لغير أربابها، وفساد أخلاق المأمورين الذين يفسدوا أخلاق رؤسائهم . والكاتب هنا ينتقد السلطة الإنكليزية الجديدة في بداية الانتداب.
    وفي 20 أيلول (سبتمبر) 1931، تمحورت افتتاحية سهيل زكا علي الوطني النابلسي أكرم زعيتر بمناسبة اعتقاله من قبل السلطة البريطانية بسبب مقاومته الاستيطان اليهودي. وأكد الكاتب في المقطع الأخير من الافتتاحية ان كل شاب في فلسطين يعتقد ما يعتقده أكرم، فإذا كانت السياسة ترمي الي قتل هذه الروح الوطنية الثائرة، فما عليها إلا أن تفتح أبواب السجون وتزج فيها الشباب الفلسطيني. وأما أكرم الذي غضب للكرامة الممتهنة والحق السليب، فهو رمز الشباب الناهض، وما هذا الحكم الذي مُني به أخيراً إلا جوهرة تلمع في تاج اخلاصه ووفائه . ويذكر أن زعيتر الذي رحل منذ سنوات قليلة، كان وزيراً في الأردن، ولعب دوراً ثقافياً ووطنياً ملحوظاً في بيروت.
    وتحت عنوان فلسطين أرض الآباء والأجداد كتب أيوب حنا أيوب في 8 تشرين الأول 1934 استهلها بالقول إن مزاحمة اليهود قائمة علي قدم وساق، والعمران المندثر يعود الي سابق عهده رويداً رويداً، وأقدام أبناء عمنا ترسخ في أرضنا المحبوبة مسوقة إليها من جهات العالم الأربع. نري أن فلسطين في رخاء وحركة مباركة يحسدها عليها العالم بأسره بفضل النشاط اليهودي والعدالة الإنكليزية . واستدرك الكاتب ليقول، قبل ان يظن قراء النفير إنه مؤيـد للاستيطان اليهودي، إنه تجاه الحقائق المؤلمة يجدر بنا ان نجيل النظر في الوطنية العربية، فيتبين أن البون شاسع بين العربي واليهودي . وتساءل: متي ننهض ونولد قوة تكون سداً منيعاً في وجه كل من سوّلت له نفسه اغتصاب أرضنا المقدسة الممزوج ترابها بدماء أجدادنا الأقدمين .
    أما الطبيب سليم سلامة، فكتب في مقالته المنشورة بتاريخ 29 تشرين الأول 1934 حول الفم وأمراضه مؤكداً ان الفم يشبه فلسطين في كونه تحت استعمارين: الأول استعمار الجراثيم، والثاني استعمار المنتدبين. ويتعاون الاثنان معاً. فبينما الأول ينشئ المستعمرات لبنيه من شذاذ الآفاق المتباعدة فيحدث الالتهابات الحادة والمزمنة، إذا بالثاني يكمّ الأفواه ويخرس الألسنة بالطرق القانونية من مثل قانون جرائم الفساد والتشديد علي الصحافة .
    ويوالي أبو فؤاد نشر زجلياته الوطنية بصورة دورية. فنقرأ الأبيات الآتية في القصيدة المنشورة في 17 كانون الأول (ديسمبر) 1934:
    جابو لنا وعدهم المشؤوم
    وجلّ بلادنا سكنوها
    يا عربي إصحي صحّ النوم
    بلاد جدودك أخدوها
    رفقة وسيرينا ويا شلوم
    وربيكا من وارسو جابوها
    لتمام وعدهم المشؤوم
    زاطو وزقططوا حسادي
    ملكو بلادنا وخدوها
    وصبحنا فيها م الأغراب
    أموال كثيرة دفعوها
    والسمسرة جت عالطبطاب
    والندل سمسر علي بيته
    باعه وصبحت عيشته هباب
    وأهل الزعامة ضحوها
    بالمال وهاصو حسّادي.
    وخلال ثورة الفلسطينيين في العام 1936، كانت النفير في طليعة الدوريات الفلسطينية الوطنية، إذ كرّست كل صفحاتها دفاعاً عن الثوار وضد المستعمرين والمستوطنين. لعلّ الصفحة الأولي من العدد الصادر في 3 أيار (مايو) 1936 تعزز نظرية القائلين إن التاريخ يعيد نفسه. فقد احتلت تلك الصفحة المانشيتات الآتية: شهداء فلسطين يستقبلون الطفل يوسف فتح الله ستيتيه وله من العمر اثني عشر عاماً فقط... اشهد ايها العالم... اشهدي يا أوروبا... واشهدوا أيها المتمدنون . وكما أن يوسف ستيتيه لم يكن الشهيد الأول في قافلة الشهداء الأطفال، فإن محمد الدرة لن يكون الأخير.

    10 - النفائس العصرية لخليل بيدس

    درجت العادة في عالمنا العربي أن يرث الأبناء عن الآباء كل شيء بدءاً بالمهنة. وكان أهل القلم في طليعة المورثين والوارثين. لذلك، تابع الشيخ ابراهيم اليازجي صناعة اللغة والأدب التي كان والده ناصيف من روادها. وعاون سليم البستاني أباه المعلّم بطرس في تحرير مجلة الجنان واعداد دائرة المعارف . وكان سليم فارس (الشدياق) السّاعد الأيمن لوالده أحمد فارس (الشدياق) في ورشة اصدار جريدة الجوائب . ولم يكن إميل وشكري زيدان أقل موهبة من أبيهما جرجي زيدان في ميدان الصحافة، بدليل أن مجلّة الهلال ، بعد رحيل مؤسسّها في العشرينات، أصبح لها شقيقات وأشقّاء كثيرون من مثل المصوّر و الفكاهة و اللّطائف المصورة .
    وباعتبار ان لكل قاعدة شذوذها، فإن خليل بيدس الذي احترف الأدب والصحافة في النصف الأول من القرن العشرين، وجّه إبنه يوسف في الخط المعاكس، فدرس الاقتصاد والمال، وكان من انجازاته بنك انترا الشهير. وبيدس الأب، الذي أسّس في غرّة 1909 مجلة النفائس العصرية في عاصمة فلسطين، كان القدوة في عدم توريث الأبناء مهنة الأدب والصحافة، بسبب المتاعب المالية التي واجهته من المشتركين والمعلنين، خصوصاً ان مجلته كانت أدبية في الدرجة الأولي.
    ولكن الاستيطان اليهودي قد تضاعف في مدينة القدس وعموم فلسطين منذ اعادة الاعتبار للدستور العثماني في صيف 1908، أي قبل أشهر من ولادة النفائس العصرية . فهل تبقي مجلة خليل بيدس مجموعة لطائف وفكاهات تصدر مرة في الأسبوع في حيفا علي حد وصف مجلة المشرق البيروتية الجزويتية؟ كلا. ولكن التغيير الذي طرأ عليها في بداية حياتها لم يتعدَّ الحجم وعدد الاصدارات، حيث غدت مجلة فكاهيّة أدبية تاريخية تصدر في حيفا مرة في الشهر بنحو تسعين صفحة كما ورد في مجلة الحسناء لمنشئها جرجي نقولا باز المعروف بـ نصير المرأة ! إلا ان التغيير في أواخر العام الأول، تخطي مضاعفة الصفحات وتقليل الاصدارات، فأصبح للاستيطان اليهودي والمسألة الفلسطينية، حضور ملحوظ في المجلة الأدبية. بل ان الباب قد فتح في عدد تشرين الأول (اكتوبر) 1910 بقصيدة لإسعاف النشاشيبي قال فيها تحت عنوان فلسطين والاستعمار الأجنبي :
    يا فتاة الحيّ جودي بالدماء
    بدل الدمع إذا رمت البكاء
    فلقد ولّت فلسطين ولم
    يبقَ يا أخت العلي غير ذماء
    ان الاستعمار قد جاء المدي
    دون ان يعدوه عن سير عداء
    انها أوطانكم فاستيقظوا
    لا تبيعوها لقوم دخلاء
    ولكن، اذا كانت القصيدة قد خاطبت العاطفة الوطنية لأبناء فلسطين، فإن التحقيق الموثّق المعنون بعض مزارع يهود فلسطين من سنة 1860 الي سنة 1900 كان بمثابة رسالة عقلانية تتضمن صورة دقيقة حول الاستيطان اليهودي الذي بدأ في فلسطين قبل 37 سنة من مؤتمر بال الصهيوني. استهل قلم تحرير المجلة التحقيق الإحصائي بمقدمة مستفيضة قال فيها ان فلسطين كانت وما زالت محط رحال الاسرائيليين يصعدونها زرافات ووحدانا، أفراداً وأزواجاً، فراراً من مقاومات الغرب والشمال لهم. فهذه الحركة طالما استوقفت أنظار القوم وغدت بحكم الضرورة من المسائل الشاغلة لأفكار أولي الأمر والنهي، ولا غرو إذا شغلت كثيراً من الصحف العربية وغيرها وشحذت قرائح كتبتها. فالأمر جلل، والتقاعد علي استقرائه يحملنا علي الندم، ولات ساعة مندم . لماذا؟ لأن الإسرائيلي أينما حلّ ونزل وأيان سار وقصد، لم يزل طامح البصر الي أراضي الميعاد منازل يعقوب وابراهيم واسحق، فينفق الابريز الخالص في سبيل امتلاكها . تلت المقدمة قائمة بمزارع القدس وضواحيها وحيفا وملحقاتها وصفد وبلاد بشارة، وفي طليعتها مزرعة زمار الواقعة بين القيسارية والكرمل التي أنشأها الثري روتشيلد في العام 1862، وقد بلغت مساحتها 1300 هكتار. وإذا كانت هذه المزرعة أو المستوطنة قد رأت النور قبل عهد السلطان عبدالحميد الذي يحلو لبعض المؤرخين التغني بمقاومته لاستيطان فلسطين، فإن القائمة قد احتوت عشرات المستوطنات التي ولدت في العهد الحميدي ومنها: منزل إسرائيل... ملبّس... عيون قارة... محطة عاقر... قطرا... قسطينة... خربة ديران... ملك راوبين... خضيرة... أبو شوشة... بوش فنا... خربة زيد... جسر الأردن... عين الزيتون... محناييم... وشمر هبردن. وروتشيلد الذي أسّس باكورة المستوطنات زمار ، كان ألحقها بسبع مستوطنات من التي ورد اسمها سابقاً.
    وكان خليل بيدس حراً في الوعد الذي قطعه في افتتاحية عدد تشرين الثاني (نوفمبر) 1909 عندما تعهد بالعمل علي خدمة الأمة والوطن الي كل عمل مفيد وقول سديد . فهو كتب في المجلد الخامس عن بيت روتشيلد ص182، وحول أصل الفلسطينيين ص241. وأعلن في المجلد السابع ص192 عن مسابقة بعنوان فلسطين والمهاجرة .
    وحين أعلنت الحكومة العثمانية عن المباشرة بمشروع إنارة القدس، نشر تحقيقاً بعنوان الكهربائية في القدس، في المجلد السّادس، 1914، ص202، تناول فيه تفاصيل المشروع ومراحله التاريخية أو التمهيدية. في العام 1911 تقدمت شركة المانية لنيل الامتياز. غير انه لم يحصل اتفاق بينها وبين الحكومة . وبعد عامين تألفت شركة وطنية من بعض المتمولين في القدس وبيت لحم لهذا الغرض فلم يتيسر لها . وأخيراً، جاء الخواجة مفروماتي مندوباً عن أصحاب بنك بيريه في باريس، فنال الامتياز الذي يشمل تنوير القدس بالكهربائية ومدّ الترامواي فيها وجرّ الماء اليها . أما لماذا وافقت الحكومة العثمانية علي منح الامتياز لمفروماتي ورفضت طلب الشركة الوطنية، فلأن البنك الذي يمثّله الخواجة مفروماتي كان أسلف حكومة الاستانة المبلغ الذي كان باقياً عليها من ثم الدارعة السلطان عثمان الأول . ويذكر ان مفروماتي يوناني الأصل، استوطن القدس، وقد تولّي ابنه، في ما بعد، منصباً رفيعاً في البوليس البريطاني في فلسطين علي حد تأكيد المؤرخ الدكتور نقولا زياده.




    صحيفة الاتحاد الحيفاوية وصحيفة لسان العرب المقدسية

    11 - صحيفة الاتحاد الحيفاوية الاسبوعية الجامعة لصاحبها اميل توما

    تفيد ترويسة العدد الأول من صحيفة الاتحاد الاسبوعية الصادرة صباح كل أحد انها لسان حال العمال العرب في فلسطين . ولكن الاطار المجاور للعنوان يتضمن العبارة الآتية: صاحبها ومحررها المسؤول إميل توما . وإذا كانت العبارة تلك توحي وكأن اميل توما أصدر الاتحاد كرمي عيون العمال وحقوقهم، ربما لأنه كان مسؤولاً نقابياً، فإن افتتاحية العدد الأول الصادر في 14 أيار (مايو) 1944 الموقعة باسم الاتحاد تصرّح بأن اتحاد العمال هو الذي أصدر الدورية لتكون أول جريدة تنطق بلسان العمال العرب في فلسطين . ويعود سر اعلان ملكيتها لشخص معين، الي القوانين التي لا تسمح بتسجيلها باسم النقابة، وهو أمر ينطبق علي كل الدوريات التابعة للنقابات والأحزاب. كذلك تدعو الافتتاحية الي الاستنتاج أن الاتحاد العمالي في فلسطين قد يكون احدي مؤسسات الحزب الشيوعي أو النقابة التي يقودها شيوعيون وتلقي تأييداً من حزب الطبقة العاملة . ومن الأدلة علي ذلك العبارة الآتية التي كانت تعجّ بمثلها مطبوعات الحزب الشيوعي في لبنان خلال الحرب العالمية الثانية: إن لظهور جريدتنا في مرحلة نضال الشعوب المحبة للحرية ضد الاستعمار النازي، أثراً قوياً علي طبقتنا العاملة وعلي حركتنا القومية العربية، فسوف تحمل رسالة الروح الجديدة، روح الحرية الشاملة التي تعمّ العالم بأسره نتيجة لنضال الشعوب المظفر ضد أعداء الحرية . وفي الوقت الذي لم تأت الافتتاحية علي ذكر الحركة الصهيونية التي كانت قاب قوسين من إعلان دولتها في فلسطين، يؤكد كاتبها ان الصحيفة خير ردّ علي اقتراحات اللجنة التنفيذية لحزب العمال البريطاني، وستسهم حركتنا العمالية العربية بواسطة هذه الجريدة وبواسطة الوفد المزمع ارساله الي لندن في تفسير ما خفي علي اخواننا عمال بريطانيا. وفي هذا ما فيه من خدمة لوطننا العربي فلسطين ولقضيتنا الوطنية عامة . يلمّح الكاتب هنا الي موقف حزب العمال البريطاني المؤيد للاستيطان اليهودي في فلسطين، وما سيقوم به حزب العمال الفلسطيني من تعديل في ذلك الموقف.
    ان افتتاحية العدد الثاني المعنونة مؤتمر البلديات وموقف الأعضاء اليهود تعزز القول إن خلو العدد الأول من ذكر الاستيطان اليهودي بقيادة الحركة الصهيونية كان نهجاً تكتيكياً، كي لا يبادر المفوض السامي البريطاني الي سحب رخصة الجريدة. فقد ردّ توما علي الأعضاء اليهود في بلدية القدس الذين احتجوا علي اشتراك رئيس البلدية الخالدي في المؤتمر، فأكد أن منطقهم ليس سوي منطق الصهيونية في فلسطين التي تحاول ان توهم الجماهير اليهودية ان صالحهم في عداء الحركة الوطنية العربية التحريرية، وتظهر لهم ان سعي العرب في سبيل حكم ديموقراطي مستقل يضرّ بمصالحهم . وأضاف في افتتاحية العدد الصادر في 21 أيار 1944 ان الذي بيننا وبين اليهود في فلسطين هو الصهيونية، والذي بين اليهود ومصالحهم الحقيقية هو الصهيونية . وختم أن سعي الحركة الوطنية في سبيل ايقاف الهجرة ومنع انتقال الأراضي هو في مصلحة العرب واليهود معاً .
    شارك عدد من النقابيين والكتّاب اميل توما في تحرير الاتحاد ، فاحتل رأس اللائحة الأديب اليساري المعروف اميل حبيبي الذي اتخذ لزاويته الدائمة عنوان يسألونك عن . في العدد الصادر بتاريخ أول تشرين الأول (اكتوبر) 1944 كتب حبيبي عن موقف الاتحاد السوفياتي من الصهيونية ، متناولاً الموضوع بمناسبة سعي عصبة النصر اليهودية في فلسطين لإقناع الاتحاد السوفياتي بأن ينظر بعين العطف الي انشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين. وختم الكاتب، بأسلوبه الساخر، ان الاتحاد السوفياتي لم ينظر بعين العطف الي انشاء الوطن إياه، وقد يكون ينظر اليه بالعين الأخري. وعلي ما يظهر أيضاً، ان الاتحاد السوفياتي لن يقتنع . وحبيبي هنا كان يجهل أو يتجاهل العين الثالثة ذات العلاقة بالمصلحة لا العقيدة، وهي التي دفعت الاتحاد السوفياتي، بعد ثلاث سنوات من ظهور المقال، الي التسابق مع الولايات المتحدة، للاعتراف بالدولة الصهيونية.
    في ذلك العام (1944) زارت هدي شعراوي لبنان بدعوة من اتحاد الأحزاب اللبنانية . وخلال الزيارة، أقيمت للضيفة المصرية ندوة في دار الكتب الوطنية، خطب فيها الأديب اليساري رئيف خوري باسم عصبة مكافحة النازية والفاشستية . والخطيب هنا كرّر ما سبق وشدّد عليه رفيقه حبيبي وهو ان الاتحاد السوفياتي يستنكر الصهيونية استنكاراً صريحاً لا ملاينة فيه . ومما ورد في سياق الخطاب ان انهيار النازية في الحرب يعني انقطاع شريان من الشرايين الغزيرة الخبيثة المغذية للصهيونية . ( الاتحاد 15 تشرين الأول 1944) ولكن السنوات التي تلت سقوط النازية، وهي تربو علي نصف قرن، أكدت عكس الاستشراف إذ ان انهيار الحكم النازي كان ولا يزال أبرز الشرايين التي تتغذي منها الحركة الصهيونية مالياً واعلامياً وسياسياً.
    يبقي ان السلطة البريطانية في فلسطين عطّلت الاتحاد في أواسط شباط (فبراير) 1948 لأنها أعلنت بكل صراحة ان الاستعمار البريطاني بجيوشه وبوليسه وأجهزته لم يقف علي الحياد أبداً، ولكنه لم يكن مع العرب ولم يكن مع اليهود، بل كان ضد الجماهير العربية وضد الجماهير اليهودية . والطريف ان الكلمات الآنفة وردت في افتتاحية العدد الأول لمرحلة ما بعد التعطيل الصادر في 18 تشرين الأول 1948، أي في ظلّ السلطة الاسرائيلية.
    ولم يقتصر الكلام الايجابي الموجه لليهود، علي الافتتاحية. بل هو شمل معظم أخبار الصفحة الأولي وخصوصاً الخبر الرئيس المتوج بالمانشيتات الثلاث الآتية: نصر كبير تحققه الطبقة العاملة العربية واليهودية وضربة تنزلها بمشاريع الاستعمار في الشرق الأوسط... إعادة تأليف حزب شيوعي أممي موحد في كل من الدولتين... نص القرارين اللذين اتخذتهما اللجنتان المركزيتان لعصبة التحرر الوطني والحزب الشيوعي . ولكن تفصيل الخبر الذي يعزز صحة العنوانين الأول والثالث، يدعو الي تعديل العنوان الثاني ليصبح هكذا: إعادة تأليف حزب شيوعي أممي موحد في كل من الدولة الاسرائيلية الراهنة والدولة الفلسطينية العتيدة! فقد ورد في مقدمة الخبر ان اللجنة المركزية لعصبة التحرر الوطني في فلسطين اتخذت قراراً تاريخياً اقترحت فيه علي الحزب الشيوعي الاسرائيلي العمل المشترك علي إعادة انشاء حزب شيوعي أممي واحد في دولة اسرائيل وحزب شيوعي أممي واحد في الدولة العربية الفلسطينية المزمع انشاؤها . تري هل كانت اللجنة المركزية لعصبة التحرر الوطني قدّمت اقتراحها الغريب لو علمت ان الدولة الفلسطينية لم ترَ النور علي رغم مرور 52 سنة علي تاريخ الاقتراح؟

    12 - صحيفة لسان العرب المقدسية للنجار

    تحت عنوان أقلام وضمائر للبيع استهل ابراهيم سليم النجار افتتاحيـة العدد 61 الــصادر في 8 ايلول (سبتمبر) 1921 بالقول إن في فلسطين حركة إفساد حديثة العهد يبرأ منها العقلاء الي ربهم، يجب أن تقطع عروقها، يقوم بها أناس استأجرهم الطامع الغاضب لإضرام نار الفتنة بين أبناء الوطن الواحد واللغة الواحـدة وخــدمة لأغراض أجنبية ومطامع ذاتية، نود اليوم أن توجه اليها الأنظار، وان نكـشف الســتر عن خــفاياها لــيقف العقلاء علي سرّها ويعلم أهل هذه البلاد الي أين يُساقون . من هو الطامع؟ وما هي الأغراض الأجنبية؟ أجاب الكابت في سياق الافتتاحية ان الأمة العربية كانت تؤلف كتلة واحدة في عهد الدولـة العثمانية تمتد من خليج العجم الي عريش مصر، وان فلسطين كانت وما برحت قطعة من سـورية تربطها بها روابط لا تتجزأ. فلما وضعت الحرب أوزارها وعلمت الحكومة الفرنسية ان لا سبيل لتأييد نفوذها في سورية إلا بتجزئة البلاد السورية، قسمتها الي الأقسام التي يــعرفــها الـــقراء، ثم وضعت الكمامة علي أفواه الصحف السورية الحرة إسكاتاً لها. غير ان هذا العمل الذي يراد به محاربة الحركة العربية والسـياسة الانكــليزية بصــفة خاصة، يحتاج الي لباقة كبيرة ومهارة في ادخاله علي عقول البسطاء من الناس. فبأي ستر يتسترون وبأي صورة يظهرون للــبلوغ من الســـياسة الانكــليزية أولاً وبالتالي من أصــدقائها؟ لا يحتاج المرء الي ذكاء نادر للجواب عن هذا الـسؤال. فقد وجدوا القضية الصهيونية حـاضرة فتستروا بسترها ليرموا من ورائـها خــصوم مستأجريهم بكل فرية وكل تهــمة . وبالــطبع لم تنج لسان العرب من الاتهام. فاتـهموها بأنها لسـان حـال الحــكومة، وانها أنشئت بأموالها. فضاقت حليتهم في مقاتلة جريدة عربية وطنية مقاوِمة للصهيونية ولكنها غير سبّابة وغير نهّاشة للأعراض. وكل ذلك لأننا أنــشأنا في هذه المدينة جريدة يومية وطنية النزعة جميلة الأحرف نظيفة الطبع حسنة الورق صادقة المبدأ عربــية الروح جــيدة اللغة تحسن اختيار مواضيعها. وقد كانوا يودون، بل يدفعون، علي فقرهم، مئة ليرة لو أصدرناها صهيونية رديئة الطبع سيئة اللغة .
    قبل الانتقال الي افتتاحية أخري في صحيفة لسان العرب التي صدر عددها الأول في مدينة القدس في 24 حزيران (يونيو) 1921، لا بأس من مناقشة صاحبها اللبناني ابراهيم النجار الذي أصدر صحف عدة في القاهرة منذ مطلع القرن العشرين، اضافة الي اللواء البيروتية و لسان العرب المقدسية.
    قبيل انتقاله من القاهرة الي القدس، كتب النجار مقالاً في المقطّم بتاريخ 28 حزيران 1919 تبنّي فيه ما ردده دعاة الصهيونية بالحرف وهو ان الاسرائيليين مثل السوريين والأرمن والتشيكوسلوفاك وغيرهم من الشعوب، يلزمهم أيضاً أن يرجع اليهم وطنهم فلسطين القديم الذي له تـاريخ خصوصي منفصل عن سورية، كما ان لـسورية تاريخاً خصوصياً منفصلاً عن فلسطين . صحيح انه لم ينشر في صحيفته المقدسية كلاماً مباشراً يؤيد فيه المشروع الصهيوني كالذي نشره في المقــطم قبل عامين، ولكن متهميه الذين لم ينسوا كتاباته في الجريدة القاهرية الشهيرة الواسعة الانتشار، انطلقوا في اتهامهم من معطي آخر وهو موالاته للانكليز الذين وعدوا اليهود بوطن قومي لهم في فلسطين خلال الحرب العالمية الأولي، وبدأوا يساعدونهم في تنفيذ ذلك الوعد منذ اليوم الأول الذي احتلت جيوشهم فلسطين في نهاية الحرب.
    ولعل أغرب ما ورد في دفاع النجار اتهامه الفرنسيين وحدهم في تجزئة سورية أو بلاد الشام واحتلالها. والحقيقة ان قرار التجزئة السرّي اتخذ من قبل باريس ولندن وموسكو قبيل الثورة البلشفية. وفي حين انسحبت روسيا الشيوعية من الاتفاق الثلاثي، استمرت فرنسا وبريطانــيا العــظمي تتشبثان به علي رغم معارضة الولايات المتحدة في عهد الرئيس ولسن. وهو ما أصـبح يُعرف بـ اتفاقية سايكس بيكو .
    لم يتراجع النجاح عن نهجه التطبيعي في صحيفته علي رغم ضراوة حملات خصومه الذين رفضوا الاستيطان اليهودي برمته. وها هو في افتتاحية 11 آذار (مارس) 1922 يثني علي المشروع التطبيعي المتمثل في مسودة الدستور الذي وضعه المنتدِب البريطاني ووافق عليه الوفد الفلسطيني . يقول النجار في القسم الأول من الافتتاحية التي احتلت كامل الصفحة الأولي: يذكر قراء اللسان ان هذه الجريدة (الصهيونية) تفردت دون أخـواتها كلها، من الساعة الأولي، بتأييد الوفد وتحبيذ صنعه . يضيف ان الدفاع عن الحقوق لا يقوم بالشغب أو بإحداث المشاغب والتشويق عليها، بل بمثل عمل أعضائنا في لندن. فلقد أحـسنوا الي اليـوم الصنع في بيان خطتهم السلمية الودية ورغبتهم في التوفيق بين أبناء جميع العناصر في فلسطين . والطريف ان النجار، وهو الصحافي البارع، لا يتردد في تبني صفة الصهيونية لجريدته التي أطلقها خصومه، ولكنه يضعها بين هلالين، مما يعني أنها ليست بريئة وحسب، بل هي وطــنية، ولكن بعيداً من التطرف.
    وإذا كان صاحب لسان العرب ورئيـس تحـريرها حذرا في التعبير عن نهجه التطبيعي كأن يستعمل عبارة جميع العناصر في فلــسطين بدلاً من تسمية تلك العناصر ومنها بيت القصيد أي اليهود، فإنه غير متحفظ أبداً في موالاته للانكليز. ولنأخذ عدد 4 شباط (فبراير) 1922 علي سبيل المثال. احتل مكان الافتتاحية التي تستــغرق الصـفحة الأولي خبران انكليزيان تُوّجا بالعنوانين الآتيين: اللورد نورثكليف ضيف القدس و زيارة جريدة الدايلي مايل في لندن . ولنختم هذه العجالة بما ورد في الخبر الأول أو بالأحري التعليق عليه: الأمم الضعيفة تحيا بقوة معنوياتها فوق حياتها بقوتها المادية الضئيلة التي لا تملكها حرّة مطلقة. وهذه القوة المعنوية انما تتم بمصادقة دولة كبيرة كإنكـلترا والإخلاص لها. فالأمة الانكليزية هي صديقة العرب، والصحافة الانكليزية هي مرشدة شقيقتها العبرية، عنها تأخذ وفي سبيلها تسير. فالبلاد العربية التي اشتركت مع الحلفاء في هذه الحرب لبلوغ استقلالها وحريتها، تأمل بمساعدة إنكلترا أخيراً .
    يبقي أن النجار الذي رحل قــبل أن يشــهد كيف ان الصهاينة الذين ظهروا في العشرينات دعاة تطبيع وسلام في فلسطين رفضوا السلام والتطبيع في ما بعد... وشهد قبل عشر سنوات من رحــيله كيف ان انكلترا صديقة العرب حــرصــت عــلي توفير كل الشروط التي تحقق وعد وزير خارجيتها اللورد بلفور، قبل ان تطوي صفحة الانتداب في فلسطين.


    صحيفة الكرمل الحيفاوية و صحيفة الحياة المقدسية

    13 ـ صحيفة الكرمل الحيفاوية لصاحبها اللبناني نجيب نصار

    كان بإمكان اللبناني نجيب نصار أن يصدر في بيروت جريدة باسم بلدته عين عنوب أو باسم أية مدينة أو دسكرة لبنانية، فقد ذاق طعم السلطة الرابعة، يوم كان طالباً في الجامعة الأميركية البيروتية في مطلع القرن العشرين، وهو طعم حلو مهما بلغت درجة مرارته.
    ولكن نصّار الذي وعي مخاطر الحركة الصهيونية باكراً، صمّم علي محاربتها في عقر الدار التي قطعت شوطاً في استيطانها. وهكذا، ما إن تخرّج من الجامعة حتي ودّع الأهل في لبنان، لينتقل الي فلسطين، ويصدر باكورة دوريات مدينة حيفا في غرة العام 1909. وإذا كانت الكرمل أولي الدوريات الحيفاوية في القياس الزمني، فهي أيضاً وأولاً باكورة جرائد ومجلات فلسطين التي التزمت الدفاع عن عروبة فلسطين عبر فضح خطة الاستيطان اليهودي ومحاربته.
    لم تتوافر أعداد السنوات الأولي من الكرمل في مركز الدراسات الفلسطينية ولا في أي مكتبة عامة أخري كالجامعة الأميركية. ولكن الكراس المعنون الصهيونية والمطبوع في مطبعة الكرمل بشارع دير الروم، حيفا، سنة 1911 يؤكد أن نجيب الخوري نصّار قد ركب ذلك المركب الخشن منذ العدد الأول من صحيفته، بدليل ما ورد في مستهل الكراس. قال الكاتب في الأسطر الأولي من كراسته: دلتنا الأبحاث التي دارت في مجلس الأمة حول المسألة الصهيونية ان حقيقتها ما زالت مجهولة. وأن الذين يديرون دفّة السياسة في الآستانة ليس لهم وقوف تام علي أهمية حركة الصهيونيين رغم كل ما كتبناه نحن وغيرنا عنها. فبينما نحن نتوقع من مجلس الأمة أن يعيّن لجنة خصوصية يكل إليها درس تاريخ الصهيونيين والبحث عن غرضهم وسبر غور أهمية حركتهم وعلاقتها بحياة الدولة والأمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إذا بالصدر الأعظم حقي باشا يقول علي منبر الأمة: ليست الصهيونية سوي رواية، وما القائمون بها إلا أفراد متهوسون. فراعنا هذا الاقتناع .
    طبعاً، لم يؤثر رأي رئيس وزراء السلطنة العثمانية التي كانت فلسطين تابعة لها، برأي نصّار، بدليل متابعته في الكرمل الرد علي الصهاينة والمتعاونين معهم أو الذين لم يعوا خطرهم.
    في العدد 422 الصادر في 17 نيسان (ابريل) 1914، يؤكّد صاحب الكرمل ومحررها ومديرها المسؤول في مستهلّ الافتتاحية ان الصهيونية خطر عظيم علي فلسطين وأهلها، بل علي الأمة العربية والدولة العثمانية، إذا بقي الفلسطينيون خصوصاً والعرب عموماً جامدين نائمين لا يعملون علي حفظ كيانهم ودفع الخطر الذي ينازعهم بقاءهم في سلب وطنهم، لأن الصهيونية تبقي تمتد وتنتشر بلا ممانع، وكلما كثر عدد المستعمرات الصهيونية قلّ عدد الأهلين في الداخلية، فلا يبقي وطن ولا رزق للأهلين فيغادرون . يضيف في العمود الرابع من الافتتاحية التي احتلت الصفحة الأولي كاملة: بهذه المناسبة أقول للكتبة المموّهين الذين يكذبون علي الحقيقة ويقولون إن الصهيونيين قرروا ان يتفقوا مع العرب ليعيشوا معهم باتفاق، كيف توفقون بين أقوالكم التمويهية وأعمالكم؟ أي مزرعة اشتريتم وأبقيتم علي واحد من أهلها العرب فيها؟ وهل تدلّونا علي قومكم الذين يدخلون مخازن الوطنيين ويشترون منها كما نفعل نحن مع تجاركم؟ إني أعتب علي جريدة كبيرة معتبرة كالمقطم كيف تقبل علي نفسها نشر هذه التمويهات التي لا نشك أنها لا تنطلي علي العالمين الكبيرين والوطنيين العظيمين نمر وصروف . ويذكر ان الدكتورين فارس نمر ويعقوب صروف وشريكهما شاهين مكاريوس وافقوا علي نشر مقالات نسيم ملّول وغيره من الكتّاب الصهاينة. ولكن اللّوم يقع في الدرجة الأولي علي فارس نمر الذي كان رئيس تحرير المقطم ففي حين تفرّغ صروف لمجلة المقتطف ومكاريوس للمجلة الماسونية اللطائف المصورة إضافة الي مشاركته في تحرير الجريدة.
    كان نصّار معجباً بالفيلسوف الاجتماعي الدكتور شبلي شميّل. ومع ذلك، فهو لم يتردد في توجيه نقد لاذع له بسبب مقال نشره في الأهرام وندد فيه بخصوم الصهيونية الذين اتهمهم بالرومنسية، وبرّر استيطان اليهود لفلسطين انطلاقاً من نظرية الأرض ميراث المجتهد . قال نصار لشميّل في سياق ردّه: قلت إنك تكتب ما تكتبه انتصاراً للأرض. فإن كنت أيها الفيلسوف شغوفاً بهذا المقدار علي الجماد، أليس الأحري بك أن تشفق علي أخيك وابن أمتك وتسعي بنفسك لعمران وطنه . أضاف متوقفاً أمام المنحي الاشتراكي الإنساني الذي كان شميّل من دعاته إذ اتهم في ضوئه خصوم الصهيونية بالقومية الشوفينية: متي رفعت الفوارق من بين البشر وأبطلت القوميات والعصبيات وجمعت الناس تحت راية واحدة، يمكنك حينئذ ان تلوم خصوم الصهيونية إذا انتصروا لقومهم ووطنهم. ولكن ما دام العصر عصر قوميات فمن الخطل لوم عنصر مدافع خدمة لآخر مهاجم .
    ولم يكن رد نصّار علي نجيب سرسق أقل ضراوة من الرد علي شميّل، بسبب بيعه 11 قرية في مرج ابن عامر للصهيونيين. قال الناقد: كنا نتوقع من بعد الاحتلال أن يتمثل سرسق وغيره من اغنيائنا المحترمين بأغنياء اليهود ويناصروا الوطنية والوطنيين كما يناصر زعماء اليهود الصهيونية. كنا نتوقع أن يشرع سرسق من بعد الاحتلال بعمليات زراعية فنية في مزارعه، وأن يفتح لها مدرسة زراعية ليرقي الفلاح فناً ومادة ويستفيد هو فوائد كبري من زراعته، وإذا به يهتم بكل قواه ليبيع هذه القرايا للذين ينازعون قومه البقاء في وطنهم سياسياً واجتماعياً واقتصادياً .
    وانتقد نصار في العدد نفسه الصادر في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1920 صحيفة التايمز البريطانية بسبب مطالبتها فرنسا تعديل الحدود بين لبنان وفلسطين لأن الحد الذي يلائم الفرنساويين يحرم فلسطين من الوصول الي مياه الليطاني ويجعل شواطئ بحيرة طبريا الشرقية تابعة لسوريا . ولم يخل الرد من السخرية حيث استدل الناقد من لهجة الصحيفة البريطانية أنها مخلصة كل الإخلاص للقضية الصهيونية، وأنها تتطلب كل شيء صالح لها بقطع النظر عن مصالح الغير .
    يبقي نجيب عازوري الذي كان يقيم في القاهرة ويترأس تحرير جورنال دي كير الفرنسية اللغة. فقد أعاد نصّار في 6 حزيران (يونيو) 1914 نشر رد عازوري علي رفيق العظم الذي دعا الي عقد مؤتمر سلام بين العرب والصهيونيين، وتساءل في سياقه: كيف نتفق مع قوم يقررون في مؤتمراتهم أنهم يعملون لإيجاد وطن يهودي في فلسطين؟ وكيف يمكن الاتفاق معهم وهم لا يريدون ان يتحولوا عن امتلاك فلسطين؟ إن اتفاق العرب والصهيونيين مستحيل .
    وكان عازوري الذي كشف الخطر الصهيوني عام 1905، احتل افتتاحية الكرمل في 10 نيسان 1914، رد فيها مداورة علي الباب العالي لمؤازرته الاستيطان اليهودي لفلسطين، حيث قال: يا قومي: الجامعة الصهيونية هي التي رفعت شأن العلم الصهيوني من العدم. فلماذا قومية العرب لا تعلي العلم الوطني العثماني في وطنها، ولماذا يترك العرب مجالاً لقومية غريبة في بلادهم؟ لا أقول هذا لاعتقادي أن قومي مجردون من كل مزية. حاشا. فإني أعترف بوجود قوات عظيمة كامنة في أمتي ولكنها محتاجة الي تكوين وتنظيم. وأنا لا أطلب إلا إيقاظ هذه القوي... لذلك اقترحت مراراً عقد مؤتمر لا صهيوني في مدينة نابلس يبحث أولاً في إيجاد الجامعة العربية علي العموم والفلسطينية علي الخصوص . وكان عازوري قد نوّه في مستهل الافتتاحية بمرضه الذي منعه الأطباء بسببه عن المطالعة والكتابة . والظاهر أنه كان مصاباً بمرض خطير، بدليل أنه توفي بعد أقل من عامين وهو في عنفوان شبابه.

    14- صحيفة الحياة المقدسية لجبر والزركلي وخالد الدزدار

    حكم الارهاب في نابلس، الاعتقالات مستمرة، الأحكام الصارمة ... تظاهرة السيدات في نابلس، اصطدام الجمهور بالجند، اطلاق الرصاص، جرحي عديدون، اعتقال الشبان ... المتظاهرون يرشقون البوليس بالحجارة، الدبابات والجند في نابلس . فلو وضعت العام 2000 مكان العام 1931، لظلت مانشيتات الحياة المقدسية لشهري آب (أغسطس) وأيلول (يوليو)، مستوحاة من انتفاضة الألفية الثالثة.
    ردّ الوطني النابلسي أكرم زعيتر علي القمع بسلسلة افتتاحيات في الحياة . قال في افتتاحية 22 آب 1931 ان 25 ألفاً من اليهود قد دخلوا البلاد خلسة وبصورة غير مشروعة، قد أبقت عليهم السلطة واعتبرتهم غير مجترحين إثماً.... بينما هي تنشط في مطاردة العربي الدمشقي إذا وجدته خلواً من جواز سفر . وأضاف: الحق والقوة تيصارعان، سلاح الحق إيمان به، وسلاح القوة دبابات وبنادق. والإيمان هو الظافر في النهاية . وختم واصفاً الاضراب بأنه يوم السخط والنقمة والاستنكار، يوم تجديد العهد علي البذل .
    وبعنوان الكرامة الغاضبة قال زعيتر في افتتاحية 25 آب 1931: جريح في طريقه الي المستشفي يهتف: عاش الوطن. وشيوخ - شباب القلوب - يسيرون متزني الخطي الي حيث يقولون لمن ضامهم: لا لا، يصرخون في وجه قائد الكتيبة المسلّحة حين أراد إرجاعهم وصدّهم: اطلق رصاصك أو اقبض علينا فلسنا راجعين .
    وختم مخاطباً المدينة ومجاهديها: أيها الجرحي الذين فاضت دماؤهم، اصبروا فالله الذي خلقكم وخلق التضحية عليم عادل، والأمة التي أنتم منها تقدّر لكم صنيعكم، ويا اخواني السجناء أنتم أحرار ولو كنتم في السجون أقوياء ولو قيدتكم الأصفاد. وأنت يا نابلس، يا مدينة الإباء والشرف حيّاك الله حيّاك .
    وأكد زعيتر في افتتاحية اليوم التالي ان الأمم لا تساس بالبطش والارهاب وان البطش في غير موضعه والصرامة في غير محلها دليلان علي افلاسها في سياسته . وختم مخاطباً الحكومة: أنت عنيفة ولكنك ضعيفة. وسياسة البطش لا تجدي، وسلام علي من عرف حوادث التاريخ فاستنبط منها العبر .
    وتحت عنوان شاي ودم رد زعيتر في افتتاحية 27 آب 1931 علي المتزعمين الذين استمروا علي علاقتهم الايجابية بالسلطة: دم يجري في نابلس ومتزعمون يهرولون لتكريم من يمثل سلطة لولاها ما جرت الدماء، أيها الوجهاء الحكوميون: اشربوا الشاي ولكن اذكروا انه شاي ممزوج بدم. ويا أيتها الأمة: اذكري ان هؤلاء الحكوميين هم خصوم البلاد وأعداؤها . وأكمل عزة دروزة في افتتاحية 31 آب 1931 ما انتهي اليه زعيتر، محاولاً تفسير ظاهرة ان يكون الواحد منا وطنياً وحكومياً معاً . فرأي السرّ في السياسة المتبعة أي كفاح للصهيونية فقط وتحت راية الاستعمار. وكان من نتـيجة هذا انه أصبح يكفي للإنــسان ان يشترك مع الناس في كره الصهيونية ليكون وطنياً وليتزعم فيها مهما كان ذا ضلع قوي مع السلطات الاستعمارية . رفض دروزة المعادلة تلك، لأن دعوي الوطنية لا تتفق مع موالاة الاستعمار والاتصال بسلطاته. وإذا كنا الي الآن جرينا علي مبدأ احتقار كل من يتصل باليهود بأي أس لوب من أساليب الاتصال واتهامه بالخيانة وجعله موضع الغمز واللمز وابعاده عن الحركة الوطنية وصفوفها، فينبغي ان يكون مثل هذا علي الأقل ان لم يكن أشدّ مع كل من يكون علي صلة بالسلطات الاستعمارية وموالاتها، لأن كثيراً ما يكون هؤلاء أبواق تلك السلطات تنشر بها صوتها .
    في 3 أيلول 1931، نشرت الحياة تحت عنوان السم في الدســم، مسألة التفاهم بين العرب واليهود مقاطع من خطاب الدكتور أرلو زروف مدير القسم السياسي في اللجنة التنفيذية الصهيونية، وورد في السياق ان اللجنة ستعمل جميع ما بوسعها في الميدان الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لإنشاء علاقات ودّ وسلام وتقرب بين اليهود والعرب في فلسطين علي أساس المبدأ القائل بعدم سيطرة أحد الشعبين علي الآخر مهما كان عدد أحد الشعبين .
    ثمة علامات كثيرة تعزز رأي الكاتب بأن دعوة ارلو زروف الي التفاهم بين العرب واليهود في فلسطين ترادف الـسم في الدسم، إحداها الخطب التي ألقاها أعضاء جمعيات ترمبلدور العسكرية التي يرأسها جابوتسكي في المؤتمر المنعقد في احدي المدن البولونية قبل أيام من خطاب أرلو زروف. ونشرت الحياة في مطلع أيلوب 1931 نماذج من أقوال المؤتمرين حيث قال كلارمان: إذا أحببنا اجتناب تكرر الاضطرابات المعيقة لتعمير فلسطين، فعلي أعضاء جمعية ترمبلدور ان يكونوا دائماً علي استعدادا تام لمجابهة الطوارئ . وقال خطـيب آخـر ان الوطنـي ينـتظر مـن أعـضاء الجـمعية مواجهة مدنـسي حرمته، لقد حان وقت تحقيق الآمال وأزفت ساعة العمل . وختم قلم التحرير بالسـؤال الآتي: ما قول السـلطة في فلسطين بهذا الجيش الترمبلدوري الموجود في البـلاد؟ أيـسعها أن تكـابر بـعد الآن وأن تـقول لا خــطر علي العرب من تسـليح المسـتعمرات اليهودية ؟لم يبق انتقاد السلطة البريطانية التي تسلّح اليهود، في نطاق الأفراد وضمن اطار المقال المنشور في الحياة أو غيرها من الصحف الفلسطينية الوطنية، فقد عقد في نابلس مؤتمر وطني حضرته وفود من مختلف أنحاء فلسطين ترأس المؤتمر فهمي العبوشي وتولّي أعمال السكرتارية كامل الدجاني وأكرم زعيتر.
    ومن الذين شاركوا في المؤتمر علي الدباغ، أحمد الكيالي، فريد ارشيد، الشيخ عبدالله القلقيلي، الدكتور سليم سلامه، عزة دروزة، الدكتور صدقي ملحس، أحمد الشكعة، قدري طوقان، طاهر المصري، الشيخ يونس الخطيب، عبدالله السمارة، عبدالرحمن الفرا، جمال القاسم، الشيخ صبري عابدين، وعثمان عبدالله. اعتبر الخطيب الدكتور سلامة تسليح الحكومة للمستعمرات اليـهودية تحريضاً علي الثورة وايهاماً بأن العرب دعاة قلاقل وفتن، ونعي علي فكرة الاحتجاجات التي ملّتها الأمة وقال: لنترك الدموع والنواح ولنجعل من تضحيتنا قنبلة تدكّ حصون الظلم والاستعمار . أما الشـيخ صبري عابدين فاقترح علي المؤتمر مشروعاً يقضي بتأليف جيش مقاتل من الضباط والجنود الذين تدربوا في الجيش التركي إذ لا يفلّ الحديد إلا الحديد . وحمل عثمان عبدالله علي السماسرة وباعة الأراضي واعتبرهم أخطر سلاح في أيدي اليهود.
    بعد المناقشات، أصدر المؤتمرون عدة مقررات منها قيام كل مديـنة فلســطينية بتـظاهرات استنكاراً واحتجاجاً علي تسليح المستعمرات يوم 15 آب . ومن المقررات أن تتولي اللجنة التنفيذية التي ستنتخب لهذا المؤتمر بما تراه نافعاً في دفع الخطر عن الأمة، إذا أصرّت الحكومة علي تسليح اليهود . وقرر المؤتمر أيضاً نشر بيان علي العالم الإسلامي بملوكه وأمرائه، تبين فيه الأخطاء المحدقة بالبلاد المقدسة من جراء تسليح المستعمرات اليهودية . ومن أطرف ما جري في المؤتمر حضور شاب أصفر الوجه مترهل الجسم اسمه شحادة عناني بصفة مراسل الحياة حيث سجّل كل ما قيل. وسرعان ما افتضح أمر الصحافي المزيف والمخبر الحقيقي، باعتبار ان مندوب الحياة كان حاضراً في المؤتمر، وبالطبع، لم يتغزل المؤتمرون بكحل عيني صاحبنا، بل أخرجوه من الاجتماع وصادروا الدفتر الذي كان يسجل فيه الخطب والمناقـشات ثم أوسعوه ضرباً ولكماً وصفعاً حتي خلّصه أفراد البوليس . وأثمر المؤتمر تظاهرات تحوّلت الي انتفاضة محدودة. فبادرت السلطة البريطانية الي اعتقال بعض المؤتمرين ومحاكمـتهم ومنهم عزة دروزة. وكان الشاهد الرئيسي في المحاكم المخبر شحادة عناني وسأله رئيس المحكمة عن كيفية حضوره المؤتمر فأجاب: دخلته بصفتي موظفاً في دائرة المباحث الجنائية . القاضي: إذاً دخلت بصفتك جاسوساً لا مدعواً . ثم سأله عما اذا كان دوّن الخطب. ولما أجاب بالإيجاب، قدّم له مسودة خطاب جمال القاسم فاعترف بأنها خطّه، ثم قرأ نص الخطاب الذي استهله القاسم بالقول: أيها العرب، يظهر انكم لا تزالون تجهلون ما يحدق بكم من الأخطار، ولا تزالون تغطون في نومكم العميق! ألم تسمعوا بأن الحكومة الانكليزية الظالمة تريد بلا حياء ولا خجل أن تسلّم أوطانكم لليهود؟ ها هي الحكومة علي مرأي منكم تسلّح المستعمرات اليهودية وتمرّنها علي اصابة الهدف واطلاق الرصـاص علي أيدي ضــباط انكليز !
    وخـتم مؤكداً ان كل فلسطيني يجب أن يكون مسلّحاً رضـيت الحكومة أم غضبت، وأنا شخصياً لا أقبل ان نقدم احتــجاجات ولا تظاهرات، لأنه طالما تـظاهرنا واحتججنا، فلم يجدِ ذلك نفعاً.
    القاضي: وبماذا قوبل الخطيب؟
    الجاسوس: بالتصفيق!


    صحيفة الدفاع اليافاوية لابراهيم الشنطي

    15 - صحيفة الدفاع اليافاوية لابراهيم الشنطي

    إن لم تشن الغارة الشعواء مقتحماً، فدافع . ومنذ العدد الأول لصحيفة الدفاع الصادر في 20 نيسان (ابريل) 1934، حاول صاحب الامتياز ومدير التحرير ، ابراهيم الشنطي، ورئيس التحرير سامي السراج، ان يشنا الغارة تلو الأخري، ضد الاحتلال البريطاني لفلسطين والاستيطان اليهودي، وعندما اضطرا الي اتباع النهج الدفاعي، حاولا ان يكون نهجهما هجومياً. ولكن افتتاحية العدد الأول خلت من أية عبارة مخصصة لمشروع الوطن القومي اليهودي، في الوقت الذي نوهت بالمستعمر الانكليزي واعدة بمناهضته بلا هوادة: أما بإزاء الغاصب المحتل فكفاح معه بعيد المدي، صحيح الحجة ناصع البرهان بيّن المنطق، حتي يجلو عن بلادنا هو ومن تبعه. فنحن راغبون في حرية هي حق لأمتنا مشروع، وطالبوا استقلال لا شوب فيه ولا لبس. لسنا نكافح دولة من أجل اخري، وانما نقارع لبناء الدولة العربية المتحدة التي هي مثل العرب وطموحهم المقدس. فـ الدفاع اذن خصم كل انتداب مهما تنوعت أصباغه، يجاهد من اجل الحرية الغالية كل طارق وعاد .
    لعل عبارة ومن معه هي الإشارة الوحيدة التي غمز فيها كاتب الافتتاحية من قناة الحركة الصهيونية التي قطعت شوطاً بعيداً في تهويد فلسطين بمساعدة الانتداب البريطاني.
    ولكن الأعداد التالية حفلت بالغارات الهجومية وفقاً لشعار الصحيفة الذي رسمه الأديب والسياسي السوري خيرالدين الزركلي. وها هو ابراهيم الشنطي يعدد مكاسب فلسطين من الانتداب في العدد الصادر في 1 ايار (مايو) 1934، اذ تحتل رأس لائحتها هجرة تأتي كالسيل العرم، تقوم الاحتجاجات والاضرابات والمظاهرات في سبيلها، ولكنها تتخطي كل عقبة، وتسحق كل معترض، وتظل علي تدفقها الي اليوم والي الغد .
    ويشيد سامي السراج في الصفحة الأولي من العدد نفسه بوطنية الدماشقة الذين هبوا لتقليم أظافر الصهيونية، اذ تحاول ان تكتسح مزارع في سوريا الشمالية اضافة الي ما اكتسحته في سوريا الجنوبية أي فلسطين.
    ووصل هجوم الدفاع ذروته خلال انتفاضة 1936. في 8 كانون الثاني (يناير) 1936 غطت الدفاع الحفل التأبيني الذي أقيم للشهيد الشيخ عزالدين القسام، اذ أكد أول المؤبنين رشيد الحاج ابراهيم ان حادثة استشهاد القسام لم تكن الا نتيجة طبيعية لسياسة تهويد فلسطين التي تتمشي عليها بريطانيا . اما أحمد الشقيري الذي ترأس لاحقاً منظمة التحرير الفلسطينية، رد علي الإعلام البريطاني والصهيوني، قائلاً: لم يكن الشهيد وصحابته قتلة فيجند لهم مئتا جندي إدعاء بأنه - أي القسام - أخلّ بالأمن العام. بل كان رحمه الله شهيد أمة وبطل شعب، حاول المستعمرون ان يصموه باشاعات كثيرة فقالوا ان الشيوعيين هم الذين استخدموه. كذبوا، بل ان القسام اشرف هدفاً وأسمي نزعة . وفي مكان آخر من الصفحة نفسها نقل قلم التحرير تعليق جريدة هآرتس الصهيونية حول تكريم الشهيد، وورد فيه: يوجد في كل مملكة متمدنة قانون يعتبر تمجيد أعمال البطش والإجرام جريمة يعاقب عليها عقاباً شديداً. وها نحن في فلسطين نشهد كل يوم ان الصحف والزعماء السياسيين يمجدون المجرمين وأعمالهم . وعلقت الدفاع مبدية العجب من حثالات الامم ونفايات الشعوب جاءت من أطراف المعمورة لتهديد أمة بأجمعها بالتشرد أو الفناء بعد نزع أراضيها منها، وبعد سلب جميع مرافقها الطبيعية .
    وفي العدد الصادر في 2 آذار (مارس) 1936 رد سامي السراج في الافتتاحية علي جريدة دافار الصهيونية التي قالت ان الحاميات اليهودية هي حاميات حق وعدل، والحاميات العربية حاميات غصب واستغلال ، مؤكداً ان الصهيونية هي فكرة غصب وغزو واستغلال، وكل ما نشأ وينشأ عنها هو تابع للأصل . فاليهود حينما يؤلفون الحاميات أو المستوطنات انما يؤلفونها لحماية الغصب أصلاً وفرعاً، لأن الصهيونية دخيلة، ومنبتها مدينة (بال) لا فلسطين، وواضعو بذرتها أغراب عن فلسطين ذوو جنسيات أجنبية .
    وكان لأمين الريحاني قرص في عرس انتفاضة 1936. فنشرت الدفاع النص الكامل لكتابه المرفوع الي ملوك العرب والاسلام ، في عددها الصادر في 19 حزيران (يونيو) 1936، واستهله باسترعاء النظر الي المأساة العربية الصهيونية الانكليزية التي تمثل اليوم في فلسطين تمثيلاً فظيعاً مفجعاً، فتهرق الدماء وتحرق البيوت والمصانع ويتلف الزرع والضرع من أجل وعد اليهودية في الحرب العظمي . وأضاف ان وعد بلفور أحدث في مدة ثماني عشرة سنة خمس ثورات عربية في فلسطين. وكانت كل ثورة أشد ويلاً وهولاً مما تقدمها . وختم مناشداً باسم عرب فلسطين، بل باسم العرب في كل مكان، بل باسم العدل الانساني والسلام والوئام التدخل حقناً للدماء العربية، و دفع، الظلم الأكبر والشر الأنكر عن اخواننا عرب فلسطين . ومما ورد في الكتاب حول كيفية الدفاع عن الشعب الفلسطيني قول الريحاني: انكم يا مولاي سيف العرب البتار وحصن العرب الحصين... وانكم من أصدقاء الانكليز المقربين، وعلي ولاء وطنيتكم صوتكم مسموع هنا وبلندن في القصر الملكي وفي دونن ستريت، بل ان لكم هناك خاطراً يرعي ومنزلة تكرم .
    وفي حيز افتتاحية العدد 625، نشرت الدفاع مقابلة مع عوني عبدالهادي قبيل نفيه الي بلدة الصرفند اللبنانية، استهلها بالقول: ان سياسة بريطانيا في فلسطين ستؤدي حتماً، وبعد سنوات، الي تقويض الكيان العربي وانشاء المملكة اليهودية . ولم يتمكن القائد الفلسطيني من الإجابة عن كل الأسئلة لأن الضابط الانكليزي أبي إمهاله، وفي اللحظة التي كان يستقل سيارة النفي صاحت عقيلته: إنا نفتخر بهذا الوسام، واذا أبعدت السلطة عن الميدان جميع رجال الأمة فلدي نسائها ايمان يكمل دوام العمل .
    وإذا أصبح عقاب الطلاب المنتفضين اليوم اطلاق الرصاص، فإنه كان خلال انتفاضة 1936، الجلد. ومع ذلك، فإن الكرباج كان اكثر ايلاماً من المدفع، لأن الجلْد كان يتم بأيدٍ عربية، وان الوطني المعروف أحمد سامح الخالدي كان أحد الجلادين علي حد تأكيد محمد نمر عودة في مقاله المنشور بتاريخ 9 شباط (فبراير) 1936. وحين وقف الخالدي يجلد أحد الطلاب في المدرسة الرشيدية لاشتراكه بالمظاهرة تذكر عودة، وهو من تلامذته القدامي، معارضة الخالدي للضرب لأن المعلم كالموسيقي لا يضرب آلته بالجدار، بل لا يسلط الضربات عليها أو يلطمها، لأنه لو فعل ذلك، لما استطاع ان يخرج منها انغاماً .


    المصدر: عروضا تأريخية أعدها الكاتب والباحث اللبناني جان داية عن بواكير العمل الصحفي في فلسطين ابان نكبته بالاحتلال ، لتكون في متناول الباحثين والإعلاميين والقراء المعنيين بمعرفة البدايات الاولى

      أضف تعليق  أرسل لصديق   نسخة للطباعة