ابحث عن
 
العضوية|من نحن|إلى الجزيرة|بيانات صحفية|خريطة الموقع|مركز المساعدة
الأحد 17/8/1425 هـ - الموافق3/10/2004 م (آخر تحديث) الساعة 13:29 (مكة المكرمة)، 10:29 (غرينتش)
طباعة الصفحة إرسال المقال
السياسات الأردنية..حتمية الجغرافيا وتحولات التاريخ

بقلم: إبراهيم غرايبة*

-الأردن يراجع سياساته
-"المكان" يرفض تغيير السياسات
-الأردن وفلسطين الصراع القطري والإقليمي
-الأردن والعراق.. التداخل والتصارع والتحالف
-الأردن ودور الدولة الوظيفية

يفترض أن تحدد كل دولة سياساتها ومواقفها وممارساتها السياسية وفق ما تقتضيه وتتيحه جغرافيتها ومواردها البشرية والطبيعية، وهي بالطبع ليست قدرا حتميا ولكنها خيارات معقدة لا تصلح المقولات الجاهزة لتفسيرها وتقييمها.

قد تكون هذه المقدمة هي المدخل المناسب لدراسة السياسات الأردنية تجاه العراق وفلسطين وهي القضية التي تثير جدلا واسعا إعلاميا وسياسيا، وبالرغم من أن السياسات العراقية والفلسطينية هي قضية موضع تساؤل وتفكير في كل الدول العربية وبخاصة مصر وسوريا ولبنان والسعودية وبقية دول الخليج، فقد كانت السياسات الأردنية هي الأكثر عرضة للنقاش والتقييم.

تناقش هذه المحاولة للدراسة والتحليل التحولات والمراجعات التي تجري في السياسات الأردنية وعلاقتها بتطور الأحداث في المنطقة والتحولات التاريخية في الأردن نفسه والأبعاد المكانية لهذه السياسات والمواقف.

الأردن يراجع سياساته

يبدو واضحا أن الأردن يراجع سياساته الإقليمية منذ عام 1999 فهو لا يريد دورا إقليميا في فلسطين ولا العراق، ولا يريد أيضا أن يغير مواقفه إلى العكس تماما، ولكنه يحاول أن يتخذ علاقات جوار وتضامن دون انخراط في السياسات والمواقف المحلية والإقليمية.

وهذا ما يفسر الموقف الأردني تجاه عمل وحضور حركة حماس والمعارضتين العراقية والسورية في عمان، إذ أوضح المسؤولون أثناء أزمة حماس أن الأردن يحترم حركة حماس ويقدرها، كما أعلنوا من قبل أن قرار فك الارتباط مع الضفة الغربية قرار سيادي ولا رجعة عنه، وأن الأردن ليس متمسكا بالولاية على الأماكن المقدسة في القدس وفلسطين ولا يمانع في نقلها إلى الدولة الفلسطينية.. وأعلن المسؤولون الأردنيون أكثر من مرة رفضهم لدور أمني أردني في فلسطين أو القيام بأي دور بديل للسلطة الوطنية الفلسطينية.

هذا التخلي عن الدور التاريخي للأردن الذي كان مشاركا رئيسيا في القضية الفلسطينية وفي الحرب العراقية الإيرانية وفي حرب الخليج الثانية وفي الصراع الكويتي العراقي عام 1961 (مع الكويت ضد العراق)، والبحث عن موقف وسطي لا يتخلى عن الدور القومي ولا يتورط في الصراعات المحلية والإقليمية، يبدو غير مستوعب أو يكاد ترفضه معظم الأطراف والجهات السياسية والشعبية والإعلامية التي ترى الأمور والمواقف في نمطين لا ثالث لهما.

لم يصف أحد من المسؤولين الأردنيين نفسه في سياق عدم تأييد الولايات المتحدة في حربها مع العراق أنه غيفارا ويخوض حربا مع الإمبريالية ولا يتخذ موقفا ثوريا معاديا لأميركا، وهو أيضا لا يصف نفسه بأنه يخوض معركة المصير للحفاظ على استقلال العراق ووحدته، ولكن الأردن يؤيد العراق ويرفض التدخل العسكري أو السياسي في الشأن العراقي وكفى، وهو موقف منسجم مع الموقف السعودي والمصري والسوري والروسي والصيني والألماني، فهو موقف ليس ثوريا أو مستحيلا ويمكن تحقيقه.

ولا يريد المسؤولون الأردنيون أن يكونوا مثل أحمد ياسين ولا مروان البرغوثي، ولكنهم أيضا لا يرون في المعاهدة مع إسرائيل ما يمنع التضامن مع الفلسطينيين وتقديم العون والمساعدة لهم وتأييدهم في حقهم في تقرير مصيرهم وإقامة دولتهم المستقلة، والمعاهدات بين الدول والاعتراف المتبادل في ما بينها لا يمنع النزاعات والحروب كما في حالة الهند وباكستان على سبيل المثال، ولا يؤدي رفض الاعتراف بالدول ضرورة إلى الحروب كما في حالة الصين وتايوان.

"المكان" يرفض تغيير السياسات

ولكن لماذا تعرض الموقف الأردني لرفض واسع من جميع الاتجاهات والأطراف تقريبا؟.

ربما يكون المكان هو السبب وقد يكون التفسير في فقه المكان أو الجغرافيا السياسية، فالأردن في مواقفه الجديدة يبدو وكأنه يحاول الإفلات من التاريخ والجغرافيا، رغم معقولية فلسفته الجديدة في إدارة السياسة الخارجية والإقليمية وأنه يكرر نماذج أخرى في التاريخ والجغرافيا مثل سويسرا التي استطاعت أن ترسخ سياسة محايدة في أوروبا المتصارعة على مدى 200 عام ولبنان الذي استطاع أن يقتبس النموذج السويسري لأكثر من ثلاثين سنة، وقد يكون استخدام المثال اللبناني مغامرة سياسية ومنهجية.

وإذا كان الأردن قد تعامل في مرحلة زمانية سابقة مع المكان بتوظيفه في سياسة خارجية ودور إقليمي أكبر من الأردن بموقعه وموارده، فإنه في المرحلة الجديدة يتحايل على قسوة المكان وحتميته بتخفيف وطأته ومتطلباته والزهد في مكاسبه وتحييد الصراعات المحيطة أو على الأقل التعامل معها بحذر، والانكفاء على الداخل والتعامل مع الدول المحيطة على أساس التعاون الاقتصادي والتجاري والسياحي وعدم الاعتداء والتدخل في الشؤون الداخلية.

وهذه السياسة رغم أنها معقولة زاهية فإنها لا تخلو من المعوقات والمقالب، فالأردن مازال خجولا من فكرة الدولة التي تجمع المواطنين وتوحدهم، وهو منذ عام 1964 أي منذ قيام منظمة التحرير الفلسطينية يفقد الإجماع الوطني، واتضح هذا الصدع في الوحدة الوطنية عام 1967 حتى بدا وكأن قيام المنظمة كان تمهيدا لحرب يونيو/ حزيران أو تنبؤا بها، وتأكد بعد ذلك ثم أصبح حقيقة واقعة عام 1974 عندما أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا للفلسطينيين، وحظيت بغطاء سياسي وإداري عام 1988 عندما أعلن قرار فك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية.

الأردن وفلسطين صراع القطري والإقليمي

صار التعامل مع القضية الفلسطينية والوحدة الوطنية مأزقا سياسيا ودستوريا وأخلاقيا، فالدولة في تعاملها مع فلسطين كبلد مجاور مثل سوريا أو العراق إنما تطلب من مليوني فلسطيني يحملون الجنسية الأردنية أن يكونوا جزءا من مشروع وطني لا يتفق مع آمالهم وضمائرهم، وإن هي أخذت الوحدة التي تمت عام 1950 بالقوة الدستورية والمنطقية التي تقتضيها فهي أيضا تصطدم معهم، وإن هي اتخذت قرارا بنزع المواطنة والجنسية عنهم وتحويلهم إلى مقيمين عرب إن كان هذا ممكنا فستكون أيضا خطوة كبيرة جدا تؤدي إلى متوالية كبيرة جدا من التداعيات والآثار التي قد يكون معظمها غير محسوب أو متوقع.


أبعد اتفاق أوسلو الأردن من المعادلة الفلسطينية الإسرائيلية، وأظهر المشهد الجديد للخريطة السياسية والمكانية أن الأردن لم يعد له موقع في التسوية السياسية للصراع العربي الإسرائيلي

وفي مقابل منطق الانسحاب من القضية الفلسطينية ثمة حقيقة أن الضفة الغربية كانت جزءا من المملكة الأردنية الهاشمية منذ عام 1950 حتى عام 1967 ولم يغير الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية من حقيقة كونها جزءا من الدولة الأردنية حتى إعلان منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا للفلسطينيين عام 1974 وفك الارتباط القانوني والإداري بالضفة عام 1988 لم يغيرا كثيرا من علاقة الضفة الغربية بالدولة الأردنية، ومن المنطقي أن الترتيب النهائي لوضع الضفة الغربية لا بد أن يتم بمشاركة الأردن، باعتبار أن الضفة كانت جزءا منه، وباعتبار أن ما تبقى من الصراع العربي الإسرائيلي يقع معظمه إن لم يكن جميعه في الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والجولان عام 1967 وهو احتلال نشأ بعد حرب كان الأردن طرفا فيها، ولا يمكن تسوية تداعيات هذه الحرب وتحقيق الانسحاب المطلوب دون أن يكون الأردن طرفا أساسيا في التسوية.

ولكن اتفاق أوسلو أسقط جزءا كبيرا من مصداقية هذه المقولة إن لم يسقطها نهائيا، فقد أبعد الأردن من المعادلة الفلسطينية الإسرائيلية، وأظهر المشهد الجديد للخريطة السياسية والمكانية أن الأردن لم يعد له موقع في التسوية السياسية، وكان وقع الاتفاق على الأردنيين كما الصاعقة، فالمفاوضات مع إسرائيل التي أطلقت في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 والتي كان الفلسطينيون يفاوضون فيها تحت مظلة الوفد الأردني بدت موضع سخرية وعدم احترام من قبل الفلسطينيين والإسرائيليين.

وظهرت توجهات رسمية أردنية للانسحاب نهائيا من الشأن الفلسطيني، ومراجعة الموقف من مواطنة النازحين الفلسطينيين ومشاركتهم في الانتخابات النيابية التي أجريت بعد شهرين من توقيع اتفاق أوسلو، أو تطبيق "عودة سياسية" للنازحين بمعاملتهم سياسيا كمواطنين فلسطينيين مثل الفلسطينيين في سوريا على سبيل المثال مع الإبقاء على حق الإقامة والعمل والتملك، وقد حسم الملك الحسين هذا النقاش في حينه باعتبار الأمور كما هي قبل أوسلو دون تغيير، وانتظار قيام دولة فلسطينية مستقلة.

ولم يغير اتفاق أوسلو وتداعياته واتفاق وادي عربة من حتمية المكان وتداخلات التاريخ بالجغرافيا والأمر الواقع، فقد انتهى الأمر إلى انتفاضة شاملة غير مسبوقة وحرب جديدة تزيد من المهاجرين الفلسطينيين إلى الأردن بدلا من عودتهم المفترضة إلى بلادهم، فالاتفاق لم يحسم ابتداء عودتهم إلى وطنهم، وصار الخلاف حربا تزيد الخناق على الناس وتدفع بهم إلى موجة تهجير جديدة، حتى إذا لم يهجروا فإن حلم الدولة يبدو يتراجع والحكم الذاتي المفترض تطوره إلى مزيد من الاستقلال يتلاشى وينكمش، ويعود الأمر كما كان قبل 13/9/1993 حكما عسكريا إسرائيليا مباشرا.

المصير الواحد
أظهر مرور الزمن واقعا جديدا ووجهة نظر ثالثة، ودائما يوجد طريق ثالث بين كل مسارين أو وجهتين، وهو ما يمكن تسميته بالاتجاه الأردني الفلسطيني أو "الأردستيني" فقد نشأت مع الزمن مجموعة كبيرة من التجار والموظفين والسياسيين والناس العاديين لم تعد تعرف لها وطنا إلا الأردن وارتبطت به مصالحها ومصائرها، ولو لم تكن قضية الاحتلال الإسرائيلي لما كان في الأمر قضية وطنية أو أخلاقية وكانوا مثل المهاجرين على مدى التاريخ أفرادا وجماعات ممن استقر بهم المقام خارج أوطانهم، كاللبنانيين المهاجرين في جميع أنحاء العالم منذ أكثر من مائة سنة والذين يزيد عددهم عن اللبنانيين المقيمين في لبنان والذين فقد الكثير منهم صلتهم بوطنهم الأصلي.

والاتجاه وفق هذه الرؤية أن العلاقة الأردنية الفلسطينية لم يعد ممكنا التخلي عنها أو مراجعتها لأنها وصلت مرحلة من التعقيد والتشابك وصارت هوية سياسية للأردن، ولم يعد ثمة مجال للعمل إلا وفق هوية ثنائية أصبحت مفروضة ولا فكاك منها، وبخاصة أنه لا يبدو في الأفق حل نهائي ممكن لعودة اللاجئين، ويبدو الحل لدى قادة السلطة الفلسطينية في كونفدرالية أردنية فلسطينية هي أقرب إلى الفدرالية.

ولكن حتى تقوم الدولة الفلسطينية ويبدأ الطرفان الفلسطيني والأردني ترتيب أوضاعها النثائية تكون الأوضاع العامة والسياسية بطبيعتها التاريخية وبتلقائية تسير باتجاه ترسيخ الاندماج المختلف عن مقاسات السياسيين.

وبعد انتفاضة الأقصى التي اندلعت في أيلول/ سبتمبر 2000 وتطوراتها التي لم تتوقف بعد طرح مرة أخرى فكرة دور أردني في الضفة الغربية والاستغناء عن السلطة الوطنية الفلسطينية أو تهميشها، ولكن القيادة السياسية في الأردن رفضت الفكرة، وفضلت المضي في فك الارتباط بالضفة، بل إنها وضعت قيودا على تدفق الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الأردن وسعت في منع ما تراه تسربا للسكان من فلسطين إلى الأردن.

الأردن والعراق.. التداخل والتصارع والتحالف

مؤتمر المعارضة العراقية بحضور الأمير الحسن ولي عهد الأردن السابق وفي الإطار الرئيس صدام حسين
كان العراق تحكمه العائلة المالكة الهاشمية ما بين عامي 1925 و1958 فقد أقام الملك فيصل الأول بن الحسين بن علي مملكة في العراق في الوقت نفسه الذي أقام فيه أخوه الملك عبد الله الأول بن الحسين مملكة في الأردن، ونشأت علاقة خاصة وقوية بين البلدين تبعا للعلاقة الخاصة بين العائلتين تطورت إلى وحدة سياسية عام 1958، ولكنها انتهت نهاية دموية بعد شهور من قيامها عندما أطاح انقلاب عسكري بالحكم الملكي في العراق بقيادة عبد الكريم قاسم قتل فيه الملك فيصل الثاني بن غازي وخاله الوصي على العرش والرجل القوي في العراق عبد الإله بن علي بن الحسين الذي كان والده شقيق الملك عبد الله والملك فيصل وكان آخر ملوك الحجاز قبل أن يطيح بملكه الملك عبد العزيز في نهاية العشرينيات.

ودخلت العلاقات الأردنية العراقية في مرحلة من الجزر والقطيعة حتى أواخر السبعينيات، حتى إن الأردن أرسل قوة عسكرية عام 1961 لمساندة الكويت في مواجهة العراق عندما حاول الرئيس العراقي الأسبق عبد الكريم قاسم احتلالها.

ثم عادت مرحلة من التحالف السياسي والإستراتيجي والتعاون الشامل بين البلدين حتى ارتبط الاقتصاد الأردني بالسوق العراقية ونشأت مصانع كثيرة في الأردن قائمة كليا على تلبية حاجات السوق العراقية، وصارت مدينة العقبة الأردنية على البحر الأحمر الميناء الرئيسي للواردات العراقية، وقدم العراق معونات وتسهيلات كبيرة للأردن والأردنيين كالمنح التعليمية والنفط والمعونات المالية المباشرة والأفضلية في الاستيراد.


العلاقة الأردنية الفلسطينية لم يعد ممكنا التخلي عنها أو مراجعتها لأنها وصلت مرحلة من التعقيد والتشابك وصارت هوية سياسية للأردن، ولم يعد ثمة مجال للعمل إلا وفق هوية ثنائية أصبحت مفروضة ولا فكاك منها
وقد تضرر الأردن كثيرا بسبب الحصار الاقتصادي المفروض على العراق منذ عام 1990 ولعله المتضرر الثاني من هذا الحصار بعد العراق، ويعاني اليوم بسبب ذلك من ضائقة وركود وبطالة، كما أدى الموقف الرسمي والشعبي المؤيد للعراق إلى خسائر وحصار وضرر كبير بالاقتصاد والعمالة الأردنية والعلاقات الممتازة بدول الخليج قبل عام 1990، ولجأ إلى الأردن مئات الآلاف من الرعايا الأردنيين الذين كانوا يقيمون في الكويت ودول الخليج، وأدت هذه العودة إلى ضغط كبير على البنى التحتية والمرافق الرئيسية والخدمات العامة والأساسية في البلد.

وبعد توقيع معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية عام 1994 بدأ الأردن بمحاولة إصلاح علاقاته التي تدهورت مع الغرب وبخاصة الولايات المتحدة، ومع دول الخليج، وأجرى مراجعة كبيرة لمواقفه وعلاقاته العراقية.

وفي عام 1995 استضاف الأردن أحد أهم شخصيات النظام العراقي وهو حسين كامل الذي عمل وزيرا للدفاع العراقي وكان زوج ابنة الرئيس العراقي صدام حسين، ثم تغير موقفه وتحول إلى المعارضة، واستضاف الأردن عددا من قادة المعارضة العراقية، وشهدت العلاقات الداخلية الأردنية توترا بسبب هذه التحولات في السياسة الأردنية، فقد عارضت أحزاب المعارضة المواقف الجديدة، وقامت مظاهرات شعبية واحتجاجات واسعة في الأردن وبخاصة في مدينة معان جنوب الأردن، وفي المساجد والمناسبات السياسية والعامة في العاصمة الأردنية عمان.

وكان يقود هذه التحولات الكبيرة شخصيات سياسية نافذة في السياسة الأردنية أهمها مدير المخابرات العامة السابق سميح البطيخي، وعبد الكريم الكباريتي الذي كان وزيرا للخارجية في حكومة الأمير زيد بن شاكر عام 1995 عندما جرت في الأردن ترتيبات استقبال المعارضة العراقية والاتصال بها ثم عين رئيسا للوزراء، وقاد تحولات في السياسات الأردنية تجاه العراق اتسمت بالعداء والتوجه نحو السياسات الأميركية تجاه المنطقة وإعادة العلاقات والمواقف السابقة مع الكويت ودول الخليج.

وبعد وفاة الملك حسين وفي السنة الأولى من حكم الملك عبد الله الثاني كان البطيخي مدير المخابرات من أهم رجال الحكم والإدارة حول الملك، ويقال إنه تحرك قدما على نحو غير مسبوق في التنسيق مع الولايات المتحدة في العمل المضاد للعراق وأكثر بكثير من السياسات الأردنية السابقة، ويظن أن هذا الموقف كان من أهم أسباب إقالة البطيخي وتكليف رئيس الوزراء الحالي علي أبو الراغب بإصلاح هذه العلاقة وترميمها، وقد سافر أبو الراغب إلى العراق في أعلى مستوى للاتصال الرسمي مع العراق منذ عام 1990 وسافر بالطائرة تعبيرا عن التضامن مع العراق.

وأعيدت السياسة الأردنية إلى وضع جديد مختلف عما كان عليه الأمر قبل عام 1995 ولكنه أيضا مختلف عن الوضع بعد ذلك وبخاصة عام 1999 ولعله موقف أقرب إلى الموقف المصري والسعودي.


لا يبدو في الأفق حل نهائي ممكن لعودة اللاجئين، ويبدو الحل لدى قادة السلطة الفلسطينية في كونفدرالية أردنية فلسطينية هي أقرب إلى الفدرالية
ويلاحظ على السياسة الأردنية التوجه نحو التقارب والتنسيق مع مصر، حتى العلاقة الأردنية التي كانت مميزة مع دولة قطر لدرجة أنها استغنت عن الكوادر المصرية في الدولة وبخاصة في الداخلية والأمن والدفاع واعادت ترتيبها بكفاءات أردنية شهدت مرحلة سلبية وأزمات إعلامية، وهي أزمة وإن كانت تبدو بسبب قناة الجزيرة فإنها في سياق الموقف المصري والسعودي بعامة.

وباختصار فإن الأردن يسعى لأن تكون سياساته متفقة مع الموقف العام العربي وبخاصة الدولتان الرئيستان في النظام العربي وهما السعودية ومصر، ولا يريد أن يندفع إلى موقف متطرف يمينا أو يسارا، وهذا التعديل الإيجابي للسياسات تجاه العراق يشبة أيضا مراجعة العلاقة مع إسرائيل، فلم تعد في حميميتها ودفئها السابق، وتتجه أيضا إلى النموذج المصري في العلاقة مع إسرائيل.

الأردن ودور الدولة الوظيفية

تسود وجهة نظر لدى الاتجاه الأردستيني ن الأردن كان وفق اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور دولة عازلة لاستيعاب اللاجئين الفلسطينيين المتوقع إبعادهم من فلسطين عند إقامة دولة إسرائيل، وأن الأردن هو وطنهم البديل، وأن مبرر قيام الدولة الأردنية واستمرارها هو استيعاب الفلسطينيين، وأن الوحدة الأردنية الفلسطينية التي تمت عام 1950 إنما كانت في هذا السياق، ومن ثم فإنه لا مجال لفكرة وطنية تقوم عليها الدولة وستبقى دون هوية وطنية حقيقية حتى على الأقل بالقدر الذي يجمع مواطني دول صغيرة في مساحتها وسكانها مثل البحرين وقطر والكويت ولبنان أو غيرها من الدول في كل أنحاء العالم.

وهو تحليل لاحق لممارسات تاريخية وواقعية أو تفسير لما جرى على أرض الواقع، حيث كان الأردن منذ تأسيسه يقوم على فكرة عروبية سورية، وكان معظم كبار المسؤولين فيه وبخاصة في العقود الأولى منذ بداية تأسيسه من أصول غير أردنية من السوريين والعرب الذين هاجروا إليه بعد الثورة العربية الكبرى وسقوط الدولة العثمانية، فكان أول رئيس وزراء من أصل أردني هو هزاع المجالي الذي شكل حكومته عام 1955 وكانت المرات التي شكل فيها أردنيون الحكومة بعد المجالي قليلة ومحدودة مثل وصفي التل وأحمد عبيدات، وكانت رئاسة الحكومة معظم الوقت بأيدي مواطنين من أصل غير أردني، وربما لم تستقر رئاسة الحكومة للأردنيين إلا منذ عام 1993 وهي بالمناسبة فترة تميز فيها رؤساء الوزارات بضعف الإمكانيات والصلاحيات والأدوار، وينسحب هذا الأمر على كثير من المواقع القيادية المهمة الأخرى.


تكونت تركيبة جديدة للمجتمعات وامتدت الفرص في الإدارة والمال لكل فئات الناس ولم يعد الفقر أو الغنى والنفوذ والحرمان يتوزع بين أردني وغير أردني ولم يعد التقسيم مكانيا وإنما اجتماعيا وطبقيا
وتسجل محاضر المجلس التشريعي الأردني الذي كان ينتخب في العشرينيات والثلاثينيات في المراحل التأسيسية للدولة الأردنية نقاشات حادة وواسعة لأعضاء المجلس احتجاجا على توطيف غير الأردنيين، ويبدو من محاضر المجلس المسجلة في الجريدة الرسمية في أوائل الثلاثينيات أن الدوائر الحكومية كانت تناط إدارتها بموظفين غير أردنيين وكان يستقدم أعداد كبيرة وكانوا مسيطرين على الإدارة الرسمية، وعندما سن المجلس قانونا بمنع توظيف غير الأردنيين امتنع المسؤولون عن تنفيذ القانون، ومنحت الجنسية الأردنية للمئات من الموظفين ووصفت هذه الجنسيات بأنها مزيفة، وكان يجري استبعاد الأردنيين باعتساف واحتقار برغم أن الكثير منهم كان متخرجا من الجامعات وكانوا قادة وذوي هيئات بين قومهم وفي مناطقهم.

ولكن هذه المواقف وغيرها كثير سواء في المجلس التشريعي أو الشارع السياسي وفي المؤتمرات والمشروعات الوطنية المتعددة بل وفي الشعر كما هو واضح في أشعار مصطفى وهبي التل الذي قدم شعرا وطنيا أردنيا يدل بوضوح على تبلور الهوية الوطنية الأردنية، وأن المكان بالجغرافيا والسكان والتاريخ كان واضحا لدى الناس والنخب والقيادات العامة والسياسية.

ويلاحظ أن بعض القادة الوطنيين كانوا من أصل شركسي وشيشاني ممن هاجر إلى الأردن وتوطن فيها في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وقد هاجروا في عشائر ومجموعات كبيرة استقرت في أماكن معينة بالتنسيق مع الدولة العثمانية، هذا بالإضافة إلى مجموعة من الشخصيات الذين كانوا بمثابة حكام محليين وقادة سياسيين وتكنوقراط وضباط عسكريين خدموا في سلك الدولة العثمانية وتدل مواقفهم وسيرهم على شعور واضح بالحدود الجغرافية للمكان وتبلورها في أذهانهم واستقرارها منذ عهود بعيدة تعاملت معها التقسيمات الإدراية للمناطق في كل العهود السياسية المتعاقبة.

وما كان يجري وفق وجهة النظر هذه مزيج من الاتجاه الوحدوي الذي كان الملك المؤسس عبد الله الأول بن الحسين مؤمنا به ويسعى إليه والمظاهر الجانبية التي رافقت المشروع من تفاعل المعارضة السياسية مع الاختلاف بين الناس حسب أصولهم، ورغبة مصحوبة بالنفوذ لدى النخب الغريبة جغرافيا والمتغربة ثقافيا وانتماء في طمس الهوية الوطنية والانتماء إلى المكان الذي ساد ومازال كذلك في كل البلاد والدول والأقاليم ولدى كل الأمم والشعوب، ولم تكن بتخطيط مسبق للدولة الأردنية جرى على الورق والخرائط دون اعتبار للجغرافيا السياسية والتاريخية ولأغراض وظيفية بحتة، وإن كان هذا لا يمنع القول بأن الأنظمة السياسية والدول العربية معظمها إن لم تكن جميعها ساهمت بفرقتها واختلاف أهواء ونزعات الطبقات الحاكمة والمتنفذه فيها في تحقيق غلبة وظيقية للدول والحكومات ربما تفوقت على الاعتبارات الوطنية والإقليمية التاريخية والإستراتيجية.


الأردن مازال خجولا من فكرة الدولة التي تجمع المواطنين وهو منذ قيام منظمة التحرير الفلسطينية يفقد الإجماع الوطني، واتضح هذا الصدع عام 1967 ثم أصبح حقيقة واقعة عام 1974 عندما أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا للفلسطينيين
وعلى أية حال فقد ترسخت علاقة الناس بالمكان بعد مرور أكثر من ثمانين سنة على قيام الدولة الأردنية وإذا كان القادة التكنوقراط والإداريون في مرحلة التأسيس غير أردنيين فقد توقفت هذه الظاهرة أو انحسرت كثيرا، ولم يكن الجيل الثاني ثم الثالث والرابع من أبناء هؤلاء الوافدين سوى أردنيين مكانا ومصيرا وشعورا، ولم تعد آثار حقيقية وواقعية لتلك الظاهرة، فقد تكونت تركييبة جديدة للمجتمعات وامتدت الفرص في الإدارة والمال لكل فئات الناس ولم يعد الفقر أو الغنى والنفوذ والحرمان يتوزع بين أردني وغير أردني ولم يعد التقسيم مكانيا وإنما اجتماعي وطبقي، فيتحالف في المال والنفوذ اعضاء من كل أصل ويلتقي في الفقر والحرمان جماعات من كل مكان أيضا، وتجمع الطبقة الوسطى المهنيين والنشطاء في العمل السياسي والعام من كل مكان.

ثم جعلت النسبة الكبيرة للمواطنين من أصل فلسطيني قضية الهوية الوطنية الأردنية أمرا يفرق الناس ولا يجمعهم، ثم صار هذا السلوك يفسر بأنه لا يوجد في الحقيقة بلد اسمه الأردن وأنه اقتطع بلا سكان تقريبا ليكون وطنا للفلسطينيين وأن هويته الحقيقية فلسطينية، وليس سرا أن هذه المقولة تحظى بأعلى نسبة قبول بين الفلسطينيين وتقترب من الإجماع الفلسطيني، وربما تكون أكثر فكرة تلاقي اتفاقا وتجمعا بين كل التيارات والاتجاهات والطبقات والمصالح المختلفة، حتى يمكن اعتبارها فكرة توحيدية للفلسطينيين أكثر من غيرها من الأفكار والمقولات.

وثمة إجماع على أن أقصى ما يقدمه المستقبل من آفاق وحلول هو قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة أي الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967 وهو حل لن يقدم للفلسطينين في الأردن وفي الشتات في أحسن الأحوال سوى هوية سياسية لن تغير من حقيقة معاشهم وإقامتهم ومواطنتهم في الخارج، ولن تكون العودة حتى إن أتيحت سوى موقف رمزي لن يغير من خريطة الهجرة والشتات الفلسطيني، وستبقى المواطنة الأردنية هي مطلب الفلسطينيين المتوطنين في الأردن، فقد وطنوا وانتهى الأمر، ولم يعد ثمة مجال للتراجع، وبخاصة أن نصفهم على الأقل من أبناء فلسطين المحتلة عام 1948 فعودتهم المفترضة يجب أن تكون إلى ما صار دولة إسرائيل وليس إلى فلسطين المفترض أو المتوقع قيامها (الجزء المحتل عام 1967) حتى أولئك أبناء منطقة عام 1967 لا يتوقع عودة معظمهم، وإذا خيروا بين المواطنة الأردنية أو الفلسطينية فسيختارون المواطنة الأردنية سواء المعارضون لنظام الحكم أو التوطين أو دعاة المقاومة والكفاح أو المؤيدون للدولة ونظام الحكم في الأردن، وكل ما في الأمر أنهم بقيام الدولة سيتحررون من العبء الأخلاقي، ويصبحون مثل كل المهاجرين المتوطنين من كل بلاد العالم.


ويرى دعاة الاتجاه الأردستيني أن قيام الدولة الفلسطينية سيحل إشكالية الهوية والانتماء في الأردن لأن سبب الأزمة هو الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وليس السياسات الأردنية تجاه المواطنين من أصل فلسطيني
ويرى دعاة الاتجاه الأردستيني أن قيام الدولة الفلسطينية سيحل إشكالية الهوية والانتماء في الأردن، لأن سبب الأزمة هو الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وليس السياسات الأردنية تجاه المواطنين من أصل فلسطيني.

وربما تعود هوية المكان لتحيا من جديد وتكون موضع إجماع وقبول وفكرة تجمع المواطنين من شتى الأصول والمنابت، وسيجد دعاة غياب الهوية الوطنية هم أنفسهم حينئذ تاريخا اجتماعيا وحضاريا حافلا مرتبطا تحديدا بالمكان المسمى الآن الأردن، ويكتشفوا أن دولا وحضارات قامت في الأردن تماما كما هو اليوم مثل الأنباط والغساسنة والعمونيين والأدوميين والمؤابيين ومملكة جلعاد، التقسيم الإقليمي لشرق الأردن في الدول الإسلامية المتعاقبة والقائم على ثلاث أقاليم محددة جغرافيا كما الدول الطبيعية وهي عجلون والبلقاء والكرك، ويكون التنافس الجغرافي والمكاني داخل الدولة أمرا طبيعيا محتملا كما هو موجود في جميع دول العالم دون استثناء، فإيران وتركيا وماليزيا على سبيل المثال لا يشكل الإيرانيون والأتراك والمالاويون فيها أكثر من النصف.

لقد جهد الإعلام الأردني في نفي تهمة التآمر والتخاذل والخطأ، لكن أحدا لم يقدم أو يعرض الإستراتيجيات السياسية وفسلفتها بوضوح وصراحة وهذا جعله غير مصدق أو موضع اتهام لأنه جعل سقف طموحه وهدف معركته هو نفي تهمة وضع نفسه فيها بنفسه ولم يضعه فيها أحد، وتلك أزمة الدبلوماسية والإعلام والعلاقات العامة في الأردن، فإذا عجز المسؤولون والمنظرون والإعلاميون عن تقديم أو استيعاب السياسة الأردنية وخياراتها فلا حق لهم أن يلوموا قناة الجزيرة أو سواها.

_______________
*باحث وكاتب أردني

المصدر: الجزيرة
طباعة الصفحة إرسال المقال
الدور الأردني في المخططات الأميركية
على أبو الراغب .. السياسة الأردنية الخارجية
مستقبل الأزمة بين حماس والأردن
صالح يمنح الحوثيين فرصة جديدة
أوباما متمسك بالعلاقة مع المسلمين
غرق 75 مهاجرا أفريقياً بالمتوسط
الموساد مشتبه بخطفه السفينة الروسية
سلالة جديدة لإنفلونزا الخنازير باليابان

تحليلات|التقرير العربي السنوي|كتب|أحداث و مناسبات|وجهات نظر|أزمات وحروب|أحداث العام|تغطيات 2009|ملفات خاصة 2009

جميع حقوق النشر محفوظة2000-2009م(انظر اتفاقية استخدام الموقع)