English

 

الخميس. يناير. 15, 2004

ثقافة وفن » نادي المبدعين » القصة القصيرة

 
   
روابط من إسلام أون لاين

إعصار في فنجان قهوة

Image

كان الجو باردا وقد بدأ المطر يهطل برذاذ خفيف منعش عندما دخلت سارة إلى محل القهوة الموجود على ناصية الشارع. كان هذا المقهى من أحد أماكنها المفضلة التي تحب أن تأتي إليه من أجل التمتع بخلوة هادئة وبفنجان شاي مثلج أو بقهوة عربية أو فرنسية أو إيطالية، حسب ما يرنو إليه المزاج في يومها.
اليوم قررت أن تجرب شيئا جديدا، فطلبت كاباتشينو بطعم الفانيلا، وقالت بينها
وبين نفسها: لم لا، أنا أحاول أن اعلم ولدي أن يجرب الجديد وأن لا يجعل الروتين يسيطر في جدوله، فمن الأدعى أن تطبق هذا الكلام على نفسها أولا، ومن ثم تطلبه من غيرها.
بعد أن اشترت القهوة وجلست في مكانها المفضل، تنهدت وقالت لنفسها: الحمد لله، دقائق من السكون والهدوء ولحظة إعادة شحن للطاقة قبل أن يأتي موعد عودتها لمنزل واستقبالها لباص المدرسة الذي سيرجع ابنها أنور ذا الأعوام السبعة من المدرسة...
لم يكن المحل قليل الزبائن كالمعتاد في هذا الوقت، و إنما كان على الطاولة المجاورة لها طاولة مستديرة تضم ثلاث نساء في الثلاثينات من عمرهن، وكن في حوار جذب انتباهها.
سمعت السيدة ذات الشعر العسلي وهي تقول: اتصلت بلينا هذا الصباح وعلمت أنها لن تستطيع أن تلتقي معنا هذا الأسبوع، كان الله في عونها، فان ابنها الصغير صارت عنده نوبة صرع مرة أخرى واضطروا أن ينقلوه إلى المستشفى في المساء بسيارة الإسعاف.

قالت المرأة الجالسة بجانبها: مسكينة لينا، لقد تعذبت مع هذا الطفل منذ اليوم الذي ولدته.. مريض دائما، وأدنى حمى ترسله إلى نوبة صرع.. وعذاب دائم.. أنا لا أعرف هل أشفق على الأم أكثر أم على الولد.

قالت المرأة الأخرى، وهي تعدل من وضع نظاراتها على أنفها الصغير، أنا أقول: إن كثير من مشاكل الولد سببها والديه، فهما يطوقانه بكثير من العناية الزائدة عن
اللزوم، فهم لا يجعلوه يختلط مع الأولاد الآخرين كما يجب، وكأن الأولاد سوف يأكلوه!
قالت الأولى: اعتقد يا زينة، أن الأمر يعود إلى كونها تحس بأن طفلها غريب وسطهم وكأنه لا ينتمي إليهم، إحساسها أن مشاكله الصحية وعدم قدرته على التواصل اللغوي رغم كونه ذا أعوام ثمانية، هو السبب في حمايتها الشديدة له...

لم تكن سارة من أولئك الذين يسترقون السمع، ولكن موضوع الحوار كأنما أشعل ضوءا أحمر أمام عينها، وكان قلبها سيقفز من مكانه من سرعة دقاته وهي تفكر بما يقولونه.

فكرت سارة إنها لا تلوم لينا لرغبتها عن الانعزال عن المجتمع وكأنها داخل شرنقة مطوقة من كافة الجهات.. فهي وطفلها أنور يعرفون معنى العزلة الاجتماعية...

منذ ثلاث أعوام ومن وقت ما تم تشخيصه بمرض التوحد وهي تخاف من المجتمع، بدأ الأمر بسيطا في البداية: أولا إحساس بالذنب، وبأنها وبشكل ما أو بآخر قد سببت تأخر ولدها عن أقرانه في كلامه وتصرفاته وعلاقاته الاجتماعية، وقدراته في اللعب والتخيل والابتكار. فكرت أنه ربما لأنها تحب العزلة فقد أخذ ابنها منها هذه الخصلة، ولأنها تحب النظام والجدول المنتظم فان ابنها قد تقيد بالجدول الروتيني لحياته اليومية بحيث أنه لو أكل طعام الغداء قبل أن يتفرج على برنامجه المفضل في التلفزيون وليس العكس كما هو المعتاد، لأرسل نوبة من العصبية والصراخ عنده، وما زاد إحساسها بالذنب قول أحد الزميلات لها مازحة، تظن أنها تخفف بذلك عن صاحبتها: قالت: ربما أنت عنك كثير من الذنوب وأراد الله تعالى أن يبتليك بهذا الامتحان من أجل أن تكفري عن ذنبك، وكثير من عيرها ممن قال لها: الأجر على قدر الابتلاء، وأن الله إذا أحب عبدا ابتلاه، كانت دائما تنتفض عندما تسمع هذا الحديث وتقول: كيف يا الهي! هل أنا إذا أحببت أحدا أريد واضربه وأقول له حتى أعرف أن كنت ستصبر على ألمي لك أم لا، هل ستبقى تحبني أم تنصرف عني؟
ومع الأيام تحول إحساسي بالذنب إلى إحساس أنه فعلا ربما تقصيري في ديني قد أدى بي إلى تلك البلية.. صرت انظر إلى كل ما يحدث حولي انه نتيجة لخلل في ديني أو سلوكي أو تفكري.

ومع الشهور، ومع ازدياد وضوح أعراض التوحد عند أنور، وأنا صرت أكره مجرد فكرة التواجد مع الآخرين، وخاصة أولئك الذين هم جزء من عائلة سليمة وصحيحة ومعافاة، التواجد معهم مؤلم فهم قد أعطوا الطفولة، ومع الطفولة أعطوا فرحتها، أما هي فقد أعطيت الطفولة ولكن مع أخذ بهجتها وينعها ولمعانها وضحكاتها.
نعم هناك كثير من الأحيان التي يضحك فيها ولدها، ولكنها تكون ضحكة أو قهقهة
سخيفة تأتي إلى شفتيه الورديتين من دون سبب وفي أوقات محرجة كأن تكون في السوق أو وسط الأصحاب.. منذ ذلك الوقت وصار الاختلاط مع الأطفال السليمين مثار ألم وحزن وحسد، وإن كانت تؤكد لنفسها أنها امرأة طيبة ولا تتمنى الشر والألم للآخرين وأنها لا تتمنى زوال نعمتهم، ولكنها تريد من ذلك العسل الذي يرتشفون منه.. كانت تنادي ربها في نداء شاحب: أواه يا الهي أريد من تلك الفرحة والبهجة.

بعد فترة صرت أخاف أن أواجه الناس، لا أريد لأحد أن يقابل ولدي، صرت انظر إلى تأخره وعوقه إلى أنه أمر يجب أن اخجل منه.. عيب ووصمة عار!! وكأن الأمر بيدي!

كلما قابلت شخصا أحس أنني أريد أن اختبئ، لا أريد لأحد أن يرى ولدي وهو يحرك يديه أعلى وأسفل أو يرمي نفسه أرضا، أو يصرخ كلما مد أحدهم يده إلى رأسه من أجل السلام فهو لا يحب أن يلمسه أحد! صرت كلما رأيت أحدا أدعو الإله أن يشق الأرض ويبتلعني!

وأسوأ ما في الأمر هو أولئك الجهلة من الناس الذين ينظرون إلى الأمراض النفسية أو العصبية آو النفسية على أنها مس من الشيطان أو تلبس جن، وأن زيارة للشيخ الفلاني ستعمل بركاتها، أو نظرة البعض إلى ولدها على أنه مجنون أو معتوه أو سفيه، يقلبون أكفهم ويقولون: مسكين، أوه يا حبيبي. وكل نبرات الشفقة هذه تعمل كسكين في قلبها، كانت تريد أن تصرخ في وجوههم وتقول: ابني مريض وليس مجنون، لا أريد شفقتكم، اذهبوا بعيدا عنا ومنهم من ينظر إلى ضعف قوته البدنية ويقولون: لماذا يا سارة ابنك نحيف هكذا؟
اسمعي يا ابنتي اعصري له برتقالة كل يوم وسترين كيف يصير يركض كالمهر في السهل الأخضر... أخرجيه في الشمس ليجلس ساعة تحت شمس الصباح حتى تقوى عظامه، أعطيه فيتامينات وشروب مشهي، ومرقة لحم فهي تقوي البدن !
وعندما بدأت تأخذ أنور في جلسات العلاج الطبيعي، وإعطائه أدوية لمعالجة كثرة
الحركة التي يعاني منها، والوصفة أعطاها لها طبيب الأعصاب، قال لها بعضهم الآخر: ومن يمكنه الوثوق في هؤلاء الأطباء.. كيف أخذ علاج من طبيب يداوي الناس وهو عليل، ألا تعلمين أن معظم أطباء النفس ما دخلوا هذا الاختصاص إلا لأنهم كانوا في طفولتهم يعانون من أمراض نفسية!

عجبا لهؤلاء الناس لا يمكن إرضائهم! ولا إقناعهم!

تنبهت سارة لما يجري من حولها بعد أن سرحت بها الذكريات والآلام عما حولها، سمعت المرأة المدعوة زينة على المائدة المجاورة وهي تقول: اعتقد أن طفلها يسبب لها كثير من الإحراج، فهو كبير جسما ولكنه صغير العقل، وهو يتصرف بطريقة غير مؤدبة، آخر مرة جاء في زيارة لنا مع والدته، كان يجر تنورتها ويلعب بشعرها وكأنه طفل صغير لا يتجاوز العام. وهل تذكرين يا سمية ماذا فعل في حفلة عيد ميلاد ولدك هاشم ؟ أخذ يرمي كل الهدايا بالغرض ويحاول نزعها ضنا منه أنها له، ولم ينفع الإقناع إلى أن أعطيته واحدة من الهدايا حتى هدأ واستقر.

ردت سمية بلهجة هادئة: اعتقد أنه من غير العدل أن نلوم والدته في تصرفاته هذه.
أنت تعرفين كم هي تصرف من الوقت في محاولة تأهيله، وما يجب علينا أن نفعله إن كنا فعلا مخلصات في صداقتنا، هو إعطائها التأييد العاطفي والتشجيع الدائم، وهذا أقل ما نستطيع أن نؤديه.
نظرت زينة إليها بنظرة تنم عن الخجل والاعتذار، ثم قالت: أنا طبعا لا أقول أنها مقصرة مع ولدها.. بالعكس اعتقد إنها أم رائعة، ألا يكفي أنها تركت عملها من أجل الجلوس في البيت والعناية بولدها ومشاكله.. والتضحيات الشديدة التي قدمتها من أجله....
سمعت سارة هذا الحوار، ومع الكلمات مر إحساس بارد في داخلها، نعم تضحيات.. فهي تعرف معنى هذه الكلمة...

فلقد كانت السنوات الأربع السابقة من حياتها سلسلة من التضحيات واحدة أثر الأخرى.. بدأت منذ اليوم الأول للتشخيص، وإحساس فظيع بالمسؤولية، عمق مرض التوحد وكونه يمس كل جزئية من جزئيات تطور الطفل، و أنه لا يوجد حبة سحرية لعلاجه، وأن المرض ملازم للشخص حتى يكبر...

كانت البداية صعبة جدا، من إحساس بالصدمة وعدم التصديق، إلى إحساس بالذنب والغضب والتمرد على هذه المصيبة التي ابتلى الله تعالى عائلتها الصغيرة.. وسؤال محير مؤلم: لماذا أنا؟ وماذا جنيت؟ وما ذنب ولدي أن يكبر ويكون عالٍ على الناس؟
بعد الفترة الأولى من الصدمة، وعندما بدأ يزول اثر التخدير من أحاسيسها بدأ الإعصار والصراع من اجل الاستمرار والمقاومة. قالت لنفسها حينها: ثم ماذا إذا لم يكن هناك علاج، ولكن هناك أمور يمكن أن تخفف من أثر المرض وتعود الطفل بالتدريج على التطور وتحسن وسائل الاتصال اللغوي والاجتماعي.
ثم بدأت بعدها تسجل في العديد من الكورسات التي تعلم الأهل كيفية التعامل مع الأطفال ذوي الحاجات الخاصة.. تركت عملها كمترجمة لغات، وصار كل همها وكل ما حولها هو: التوحد.. هذا الإعصار وهذا الوحش الكاسر الذي يريد أن يأخذ ولدها وفلذة كبدها منها، ويلفه بين طيات رياحه القوية.

وفجأة انتفضت وقالت، نعم سأواجه القدر بما خبأت لي الأيام، نعم سأعلم طفلي كيف يختلط مع الآخرين وكيف يتقبل التحية والسلام بطرقة متحضرة، نعم ستعلمه كيف يمشي وقد نجحت، وإن مشى في عمر سنتان وشهرين ولكنه مشى وهذا هو المهم. نعم ستعلمه أن يتكلم ويشرب ويأكل، ستعلمه كيف يستخدم الحمام ويغسل يديه وينشف وجهه . نعم، ستعلمه كيف يضحك ومتى، نعم ستعلمه كيف يطلب المساعدة بأدب ومن دون رمي نوبات عصبية تنتهي به أرضا وبها محرجة من عرض مسرحي في وسط الشارع!

نعم ستعلمه كيف ينام وكيف يصارع كوابيس وأشباح النوم التي يبدو أنها تطارد الأطفال المعاقين...

كبتت سارة صرخة ألم قبل أن تخرج من فمها. ..معاق.. لكم تمقت هذه الكلمة البائسة، لكم تتمنى أن تخنقها وتلغيها من قاموس كل اللغات..تضحيات.. نعم، فهي تعلم معنى هذه الكلمة..
سمعت سارة سمية وهي تقول: أنا اقترح أن نذهب لزيارة لينا في المستشفى، و أن نأخذ لها باقة زهر أحمر و أبيض فأنا اعرف أنها المفضلة عندها .
قالت زميلتها: نستطيع أن نأخذ علبة شوكلاته أو ملبس معنا .
قالت سمية: يمكن الاثنان، لكن أنا اعلم أنها تفضل الزهور. كنا مرة نزور صديقة لنا بعد ولادتها ولينا اشترت زهور، قالت لي: أنا لو كنت مكانها لفرحت بباقة الزهر والورد أكثر من أي شيء آخر.
قال زينة: ممتاز، إذن لنذهب إذا كنتما قد أنهيتما مشروباتكما..
نهضت النساء الثلاث ومن ثم خرجن من المحل..
لم تتحرك سارة من مكانها.. كان ذهنها في دوامة من التفكير.. فكرت كم هو جميل أن تحسي أنه عندك صديقات لا يهتمون إن كان طفلك عنه مشاكل صحية أم لا..
فكرت سارة: الاختلاط مع العوائل ذوي الأطفال السليمين ما يزال يشكل نقطة حساسة عنها. ما زالت تخاف من المجتمع ومن تصوراتهم ونظراتهم إلى الطفل المعاق على أنه شخص قادم من كوكب ثاني، أو كطفل يجب الشفقة عليه ومعاملته كأوراق الزهر البري برقة وحذر خوفا من أشواكه.. كثير منهم نسوا أنه طفل قبل أن يكون طفلا ذا مشاكل خاصة..
نظرت سارة في ساعتها، فإذا بها قد قاربت على موعد باص المدرسة، جمعت حقيبتها ومجلتها التي لم يسنح الوقت لها أن تتصفحها، ونظرت إلى فنجان الكباتشينو بطعم الفانيلا وقالت لنفسها ساخرة: فعلا الأحلام و الأعاصير قد تدور حول فنجان قهوة!

ثم خرجت من محل القهوة لتمتزج مع أفواج الناس السائرين في الشوارع في ذلك اليوم الخريفي الممطر...

النقد والتعليق:-

الناقد والسيناريست عماد مطاوع:

التعرض لمشكلة صحية (عضوية، نفسية) كان نقطة التقاء للكثير منذ فجر الكتابة، لكن الأمر يتوقف على الطريقة التي يتناول بها الكاتب قضيته تلك، وكيف يتعامل معها، ويجعلها بؤرة ضوء يعري بها مجتمعا كاملا بعاداته ومنهجه، لهذا توحدت الكاتبة مع قضيتها وتغاضت عن الكثير من الأدوات الفنية عند كتابتها لهذا القصة.

"كان الجو باردا وقد بدا المطر يهطل (برذاذ) خفيف منعش عندما دخلت سارة إلى محل القهوة الموجود على ناصية الشارع".

بداية قصصية جيدة لنص يشكل عالما متفردا، وإن تقاعست الأدوات الفنية عن أن تتم تشكيل اللوحة؛ فالكاتبة اضطربت كثيرا في قصها/ الروي.

واستخدامها للأصوات المتعددة كي تصل للفكرة أو الهدف من كتابتها، فما سيدات المقهى إلا صوتها الداخلي المتضارب والمتشظي معا، وهي قد استخدمت هذه الشخصيات لعمل ثراء في القصة، ولكي تستخدم المناقشة التي دارت بينهن في تعرية سلوك لمجتمع يتعامل مع أصحاب الحالات الخاصة بفوقية واستعلاء شديد، لهذا نجدها تستخدم لغة خطابية وعظية في مناطق كثيرة من عملها مثل:

"وأسوأ ما في الأمر هو أولئك الجهلة من الناس الذين ينظرون إلى الأمراض النفسية أو العصبية على أنها مس من الشيطان أو تلبس جن".

وهذا النص يعد طويلا إلى درجة ما، لكنه لو كثف -وليتها تفعل- فسنجده جيدا متكاملا، وأهم ما في هذا العمل هو قدرة الكاتبة على استخدام لغة السينما "السيناريو"، ورسمها لمشاهد كاملة، ووصفها وصفا دقيقا جعلنا نحس بالأشياء، ونشم رائحتها.

إنها ترسم صورة، وتدير حوارا بذكاء شديد، وعليها أن تجود في هذه الأدوات التي تمتلكها بالفعل، كما يؤكد النص امتلاكها لأدوات الكتابة، ولا ينقصها سوى التركيز الشديد، وكتابة نص مكثف محدد المعالم ودونما ثرثرة أو استطراد.

 
أرسل لصديق أرسل لصديق

« 

ابحث

«

بحث متقدم