الخميس 22 جمادى الأولى 1431هـ - 06 مايو 2010م

البُرقع

 

أدونيس

قرأت، اليوم، بضغطٍ من وسائل الإعلام الأوروبي التي امتلأت بالكلام على الإسلام والبرقع، مادّة: برقع، في معجم «لسان العرب». جاء فيها:

«البُرقع والبَرقع (بفتح الباء) والبرقوع (بضم الباء) معروف، وهو لِلدّوابّ ونساء الأعراب، وفيه خَرْقان للعينين.

قال توبة بن الحُميِّر:

وكنتُ، إذا ما جئتُ ليلى تَبَرقَعَت

فقد رابني منها الغدَاةَ سُفورُها».

كلمة تتألّف من أربعة أحرف تشغل الآن أوروبّا بأبجديّتها القانونية والاجتماعيّة والثقافية كلّها، من الألف الى الياء.

*

بدلاً من أن تكون القضايا الكبرى، الإنسانية والحضاريّة، مادّةً للحوار أو الخصام أو الصّداقة بين الإسلام والغرب، تحلّ محلّها «مادّة البرقع».

«الثورة» في حربٍ مع «العَوْرة».

آهِ، أيّها الدّين كم من الأخطاء تُرتكب باسمك.

*

المؤنّث في الأديان الوحدانيّة مشتقٌ، وجوديّاً، من المذكّر (آدم). المؤنّث في اللّغة العربيّة مشتقٌّ هو كذلك من المذكّر: مصادفة، أم مطابقة بين اللّغة والوجود؟

*

كلّما تَأمّلتُ في ما آلت اليه الحركات الـسـيّاسـية التقـدمـيّة في المـجـتمع الـعـربـي، خصوصاً في كلّ ما يتعلّق بقضايا المرأة وأوضاعها، يتأكّد لي أكثر فأكثر أَنّنا كنّا ولا نزال في حاجةٍ الى فرويد وعلم النَفس أكثر منا إلى ماركس وصراع الطبقات.

*

هل يمكن إنتاج معرفة جديدة في مجتمع لا يُعاد النّظر جذريّاً في الأُسس التي نهضت عليها معرفته القديمة؟

* (12 نيسان، 2010):

دفعتني قراءة «لسان العرب» إلى أن أعيدَ قراءة ما تقوله التّوراةُ عن المرأة الأولى، حوّاء. فهذه تابعة للذكر - آدم، وخاضعةٌ له، بوصفها جزءاً منه. التَّفاوتُ بين آدم وحوّاء، بين الـذّكـورة والأنوثة، تَفاوتٌ وجوديُ - أصليّ. لم يُخلقا معاً، في اللّحظة ذاتِها. خُلق، أوّلاً، آدم. ثم خلقت، بعده حواء. ولم تخلق مثله على صورة الله، وإنما خلقت مِن «صورته» - من «ضلعه». الأُنثى «جُزَيءٌ» من جِسم «الذَّكر». العلاقة بـينهما، بـدئـيّـاً، ليست علاقة مساواة، بل علاقة تَراتُب وتفاضُل.

*

مريم (العَذْراء)، وإن كانت خلقت كمثل حوّاء، نقيضٌ لحوّاء: من الأنوثة وُلدت روح من الألوهة (الذّكورة). مريم نَقْضٌ للأصل التّوراتي.

*

مشكلة المرأة في المجتمع العربي دينية - ميتافيزيقيّة، قبل أن تكون سياسيّة - اجتماعية. أهناك حَلٌّ لهذه المشكلة، وللمشكلات المتعلقة بها، إلاّ بدءاً من إعادة النّظر، جذريًّ، في هذا الأصل الميتافيزيقيّ؟

* (15 نيسان 2010):

أعيش في مجتمع ينهض على أصولٍ دينيّة، وعلى مؤسّساتٍ بُنِيت للمحافظة على هذه الأصول، والعَمل والتفكير وفقاً لمقتضياتها. كيف يمكن الفَصل، إذاً، في هذا المجتمع بين ما هو خاصٌ بالفَرد، وما هو عامٌ يشملُ الحياةَ كلّها؟ إذ، دون ذلك، لا وجودَ للحريّة في هذا المجتمع، ولا مكانَ لها، بالنسبة الى الفَرد، ذكراً وأنثى، بعامّةٍ، وبالنسبة الى الفرد الأنثى، بخاصّة. ومثل هذا المجتمع لا يتألّف مِن أفراد، وإنما يتألفُ من أسماءٍ وأعدادٍ وأرقام.

هكذا، يمكن الكلام فيه على «تحسين» أوضاع المرأة، لكن لا يمكن الكلامُ على المساواة بينها وبين الرّجل، حقوقاً وواجباتٍ، إلاّ بشرطٍ واحد: الخروجُ على الأصل النّظريّ، تأسيساً لنظرة جديدة تقول: الدّين فرديٌ وليس اجتماعيّاً. أو: الدّين إيمانٌ خاصٌ لا يُلزم إلا صاحبه.

مسألة المرأة هي، قبل كلّ شيء، كما أشرت، مسألة دينية - ميتافيزيقيّة. وقبل أن تُطرح، مِن أجل حرّياتها أو تحريرها، الأسئلة الاجتماعيّة الثقافية، يجب البدءُ بطرح الأسئلة الدينية - الميتافيزيقيّة.

دون ذلك ستظلّ «الحلقة المفرغة» سيدة التّاريخ. وسوف تظلّ المرأة «خاضعةً»، «تابعةً». ستظلّ مُجرَّد مُلْكٍ ومتعَة.

* (17 نيسان 2010):

«... أنت هنا تثيرين فيّ رغبةًَ لكي أكشف لكِ أنّني كتبتُ إليكِ بوصفكِ صديقةً رسالةً لم أرسلها، غير أَننّي احتفظتُ بها. أذكر أنني تحدّثت فيها عن الثقافة التي نشأنا فيها معاً، وتشرّبنا قيمَها. وعن المرحلة التاريخيّة التي نعيشها وكيف أنها استمرارٌ في تاريخٍ يتواصل مجروراً بحبال الغيب. رسالة بحتُ لكِ فيها بغضبي على هذا التّاريخ. بحت لكِ أيضاً بشعوري أنّ الأنثى عندنا لا تُولَدُ بالضرورة امرأة، وإنما تصير امرأة، ولا تصير امرأةً إلاّ بالحرّية. بسيادتها على نفسها وحياتها ومصيرها...».

*

* (20 نيسان، 2010):

قرأتُ أن الضَّوءَ وحداتٌ من الطّاقة تُسمّى «فوتونات». هكذا تَسخن بالضوء بَشرَة الإنسان. وربّما تَسخنُ كذلك أعماقه. تساءلَتُ فيما أقرأ: ألا نحتاج الى طاقة ضوئيّةٍِ من نوعٍ آخر تَزيد في قُدرات الإنسان، عقلاً وقلباً. أُتُراهُ اللّيل ينطوي على شيءٍ من تلك الطّاقة؟ وإلاّ، من أي يجيء ضوء الجسد، أو ضوء عميانٍ - عباقرة، وأخصّ هنا بالتحيّة عبقريّنا الكبيرَ المعرّي.

إذاً، أسألك أيّها الضّوء: أين أجد كلمة السرّ لكي أعبرَ فيك الى جهاتِكَ غير المرئيّة؟

*

* (21 نيسان 2010):

أحياناً، أقولُ متردّداً (لماذا أتردّد؟):

أمامَ أيّ طغيانٍ، من أيّة جهة جاءَ،

أفضّل أن أنكسِرَ على أن أَنْحني.

*

«الأمّة»: «النّحنُ»: لفظتان مُغلقتَانِ، بخيلتان.

«المرأة»، «الرّجل»: لفظتان مَفتوحتان، كريمتان.

*

كَلاّ، لا يقيم الإنسانُ، شعريّاً، على هذه الأرض،

كما يقول هوليد يرلن، إلاّ بِشرطٍ واحد:

أن يكونِ الحبُّ هذه الأَرض.

*

هَل يقدر أن يُحِبّ إنسانٌ

لا يقدر أن يَنسى؟

*

* (23 نيسان 2010):

لا نفهمُ الشيءً إلاّ إذا رأيناهُ

بطريقةٍ يبدو فيها كأنه هو نفسه يَرانا.

*

هل، حقّاً، خيرٌ لكِ، أيّتها العاشقة

أن تَفيئي الى الرّيح،

وأن تُملي جراحكِ عليها؟

هل البُرْقعُ هو هذه الرّيح؟

*

ظِلُّكِ، أيّتها العاشقة، يَجيئ مِن تَعب الضّوء

ضَوءُكَ، أيّها العاشِق، يجي مِن تَعب الظلّ.

هل البرقعُ هو هذا الظلّ؟

*

المرأة هي التي فتحت البابَ لهبوط آدم، كما تقول السّماء،

المرأة، إذاً، هي التي فتحت بابَ الأرضَ، وباب التّاريخ:

مُذَاك، تمزّقَت جميعُ البراقع.

*

* (25 نيسان 2010):

ما هذا العالم الذي أعيش فيه؟

أهو مجرَّدُ كُرةٍ تُدحرجها الذُّكورة؟

*

كنت في طفولتي، أتخيّل أبي،عندما ينامُ الى جوار أمّي،

أنّه يحوّل الحقولَ الى شبكةٍ ضوئيّة تتموّج في سريرها.

الآن، بعد موته، أشعرُ أنّه تركَ لي

أن أنسجَ بيديَّ شبكتي الخاصّة،

لكن لكي أقذفَ بها في بحيرة الفلَك.

*

أحبّ هذه الوردة التي تتفتّح في نافذةٍ

يتفتّح جسدي بين أحضانِها.

حبٌّ يُغويني لكي أعيدَ هذا الذي كتبته،

في صيغةٍ ثانية:

أحبّ هذه الوردة التي تذبلُ في نافذةٍ

يذبلُ جسدي بين أِحضانِها.

* نقلا عن "الحياة" اللندنية

عودة للأعلى