القدّيسون في الكنيسة الأرثوذكسية: مقابلة
مع كلود لوبيز-جينيستي

إيقونسطاس كنيسة البروتاتون في كارييس - جبل آثوس

       من يدخل إلى الكنيسة الأرثوذكسية يجد نفسه محاطاً بإيقوناتٍ للرب يسوع ولعدد من القدّيسين. تكريم القدّيسين حيّ في العالم الأرثوذكسي. هناك عدد من هؤلاء القدّيسين مشترك مع الكنيسة الكاثوليكية (القدّيسون الذين يعودون إلى ما قبل الإنقسام في القرن 11)؛ زاد عليهم عدد كبير منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا- بخاصة الشهداء الجدد الذين يعودون إلى الكنيسة الروسية في حقبة الإضطهاد الشيوعي.

       كلود لوبيز-جنيستي (Claude Lopez-Ginisty) هو أرثوذكسي علماني يعيش في سويسرا، أصدر كتاباً ليس له معادل في اللغة الفرنسية هو "عون القدّيسين" - قاموس الشفاعات الأرثوذكسية –Le Secours des Saints. Dictionnaire des intercessions orthodoxes. في الحقيقة، منذ القرون الأولى للمسيحية والمؤمنون يلتجئون لا فقط إلى الرب يسوع بل إلى القدّيسين ليطلبوا العون الروحي والجسدي وحتى المادي منهم.

       في مقدّمته، يذكر الكاتب كيف أُوحي إليه كتابة هذا المؤلَّف، فهو منذ سنين طويلة يجمع المعلومات التي عرضها في كتابه. يقول أيضاً إنه بحسب التقليد الأرثوذكسي لا تعارض ولا منافسة ولا تناقض بين شفاعة القدّيسين في الأمراض الجسدية والالتجاء إلى الطب. كما يوضح أن عدداً من القدّيسين لهم طريقتهم بالتعاون مع الأطباء خاصة في الحالات التي تبدو مستعصية.

       المقابلة:

        سؤال: إذا كان الناس بعامة يألفون عملية تطويب القدّيسين في الكنيسة الكاثوليكية، بسبب الحملات الإعلامية، في بعض الحالات، فغير الأرثوذكسيين يجهلون الطريقة المتبعة لإعلان قدّاسة القدّيس في الكنيسة الأرثوذكسية. كيف تعلَن القدّاسة في الكنيسة الأرثوذكسية؟ هل هناك دعوى لإثبات القدّاسة؟ وما هي الشروط الموجبة؟

       جواب: في الكنيسة الأرثوذكسية لا سعي لإثبات القدّاسة كما هي الحال في الغرب. التكريم يأتي أولاً من شعب الله، أي المؤمنين. كل ما تفعله الكنيسة هو الإعتراف بالحاصل وإعطاء صفة رسمية لممارسة قائمة. والمستشهِدون في سبيل الإيمان، يأتي تكريمهم مباشرة بعد الشهادة.

القدّيسون روفائيل وإيريني ونيقولاوس (يعيّد لهم في 9 نيسان)

       أحياناً، يكون القدّيس معروفاً في حياته أنه صانع عجائب مثلاً فتستمرّ شفاعته بعد ولادته في السماء. هكذا كانت قدّاسة القدّيس سيرافيم ساروفسكي ظاهرة في حياته بحيث أوصى راهباته بأن يخاطبنه على "أنه حي" عندما يغادر الحياة الأرضية. في أحيان أخرى يكون القدّيس معروفاً فقط من الله فيُظهر نفسه للأحياء. ففي الستينات ظهر شهداء مجهولون من الكنيسة (روفائيل، إيريني ونيقولاوس) لعدد من سكان لسبوس في اليونان. وأمام تلكّؤ هؤلاء السكان، أخذ الشهداء يظهرون لعدد أكبر من الناس، إلى أن تمّ البحث عن رفاتهم والعثور عليها. هؤلاء الشهداء ظهروا حتى لراسم الإيقونات فوتيوس كونتوغلو ليتمكّن من التعرّف إلى ملامحهم ورسْم إيقونتهم. وقد حصلت معجزات كثيرة بشفاعة "الظاهرين الجدد" كما يسّميهم اليونانيون.

       وغالباً ما يُعرف القدّيسون محليّاً من خلال مساعدتهم الروحية وأحياناً المادية وتالياً من حماسة الشعب الممتن لهم. ثم إن شهرتهم المتزايدة والتي تتجاوز مكان تكريمهم، تدفع الأسقف إلى إعطاء صفة رسمية لهذا التكريم. وفي بعض الحالات ينتقل هذا التكريم من الأبرشية إلى البلد ومنه إلى العالم أجمع. عندما تجعل الكنيسة هذا التكريم رسمياً، تقام خدمة لتمجيد القدّيس. تُعدّ عندها للقدّيس خدمة ليتورجية وتدخل هذه الخدمة في كتاب الميناون الذي هو الكتاب الرسمي للخدم الكنسية.

        سؤال: هل يميّز الأرثوذكسيون بين "مطوّب" و"قدّيس"، وعليه هل هناك مراحل لإعلان القدّاسة؟

       جواب: لا يوجد مراحل للقدّاسة. هناك تكريم محلّي يتوسّع ويجعل القدّيس معروفاً ومكرّماً في كل الكنائس الأرثوذكسية ولكن لا يوجد تدرّج. التسميات والكلمات المستعملة للقدّيسين في اللغة اليونانية والروسية مثلاً، تشير إلى نمط القدّاسة وليس إلى مرتبته في الكنيسة أو إلى مرحلة من المراحل نحو القدّاسة الكاملة. فكلمة "Aghios" في اللغة اليونانية تستعمل لكلّ القدّيسين، ولكن في بعض الأحيان تستعمل كلمة "Osios" للتشديد على أن القدّيس كان راهباً أو متوحداً. كلمة "Blajeniy" المستعملة في اللغة الروسية تعني المطوّب، ولكن لا علاقة لها بمرحلة من المراحل في إعلان القدّاسة، بل تشير بكل بساطة إلى صفة القدّيس "المتباله من أجل المسيح".

        سؤال: هل يوجد أنماط قدّاسة خاصة بالروحانية الأرثوذكسية؟

       جواب: يبدو أن "التباله من أجل المسيح" خاصية أرثوذكسية. الـ"يوروديفي" (Yourodiviy) في اللغة الروسية أو "سلوي" في اللغة اليونانية هو نمط قدّاسة خاص بالكنيسة الأرثوذكسية. تخلّي هذا النوع من القدّيسين عن هذا العالم هو تخلٍ جذريٍ. المتبالهون من أجل المسيح يتخلّون عن كل شيء، وتخلّيهم كبير لدرجة أنهم يدّعون الجنون ويٍُبدون ازدراء بالمظاهر واللياقات، وهم لا يهتمون بشيء إلا بملكوت الله. عزلتهم عن المنطق البشري و"جنونهم" ليس سوى تسبيح متواصل لله. يَظهرون بسيطي العقل، ولكن لهم بصيرة أقوى من حكماء العالم، وتحت قناع الجنون المؤلم، يفضحون عيوب المجتمع الذي يعيشون فيه، وفي بعض الأحيان يستردّون المتسلطين إلى الصواب. هناك قول للقدّيس بولس يصف فيه هذا النوع من النسك:"لا يخدعنَّ أحد نفسه. إن كان أحد يظنُّ أنّه حكيم بينكم في هذا الدهر فليصر جاهلاً لكي يصير حكيماً" (1 كور 18:3). لكنَّ التباله من أجل المسيح صليب ثقيل ولا يتّخذه إلا الأقوياء في الروح.

إيقونة القدّيس يوحنا مكسيموفيتش
(يعيّد له في 2 تموز)
رفات القدّيس يوحنا مكسيموفيتش
الغير المنحلّة

       في القرن العشرين، أحد هؤلاء المتبالهين من أجل المسيح عاش بيننا في أوروبا وفي باريس بالأخص: رئيس الأساقفة يوحنا مكسيموفيتش (Saint John Maximovitch). غالباً ما كنت تراه وشعره كث. كان يثير استنكار الكهنة عندما يصل إلى الكنيسة عاري القدمَين إذ أعطى حذاءه لمن هو بحاجة له. كان الأطفال يحبّونه كثيراً. أما الكاثوليك فكانوا يتّخذونه مثالاً ويدعونه: القدّيس يوحنا حافي القدمين! لم يكن ينام سوى ساعات قليلة على مقعد. ويصلّى لألاف الأشخاص كل يوم. عندما رقد، قال أحدُ أبنائه الروحيين إنه لن يجد شخصاً ليحلّ محلّه إذ كان يتصل به القدّيس يوحنا في نصف الليل ليقول له أن يكفّ عن الدعاء لأن الله استجاب لصلاته! جسده الغير المنحلّ موضوع في كاتدرائية روسية في سان فرانسيسكو. ولقد صنع معجزات في كل القارّات.

       نوع ثان من القدّاسة خاص بالكنيسة الأرثوذكسية هو ما نسميه بالروسية ستراستوتيربيتس (Strastoterpiets) التي يترجمها بيار باسكال بشغف الآلام أي من كابد الآلام من دون مقاومة. القدّيسان الروسيان بوريس وغلب (يُعيّد لهما في 24 تموز) هما مثال لهؤلاء القدّيسين: فلقد تركا أخاهما سْفياتوبولك يقتلهما من دون أن يدافعا عن نفسيهما. وهما على غرار الخروف الذي سيق إلى الذبح، صورة مسيحانية.

        سؤال: تكريم الأشخاص المعتبرين قدّيسين، استثنائيين، موجود في عدد من التقاليد، وليس فقط في المسيحية. غير أنّ بعض المؤمنين ينظرون إلى هذا التكريم بحذر ويشبّهونه بالتعاطي بالخرافات، ربما لأن الذي يصلّي إلى قدّيس ينتظر منه شيئاً بالمقابل. كيف يفسّر التقليد الأرثوذكسي هذه الممارسة؟

       جواب: في الماضي، لم تكن اللغة الفرنسية تتكلّم على الموت عندما يترك أحدهم الحياة الأرضية، بل على الولادة، أي الولادة في السماء. الكثير من الناس فَقَد هذه النظرة في عصرنا عصر الـ"No God’s Land"، أي الأرض التي من دون الله. الموت هو الباب إلى الحياة الأبدية، وليس هو النهاية، بل هو البداية. الـ"موتى" لا ينامون كما يذعم بعض التقاليد، بل يعيشون في مكان آخر (وإلا كيف يكون الرب يسوع قد التقى بالنبيَين موسى وإيليا على جبل ثابور؟ ولماذا المسيحيون الأوائل كانوا يعتمدون لموتهم؟). رباطات الحب والصداقة المنسوجة على الأرض تتجاوز تجربة الموت وتتثبَّت. الصلاة ليست في زمن، هي في الأبدية. عندما نصلي، لا نعود في هذا العالم محدودين بالجسد والأمور المحسوسة. وبالأَولى من كانوا يعيشون حياة تقية على هذه الأرض يواصلونها في السماء. القدّيسون الذين عاشوا على الأرض في روح الملكوت يكونون، بطبيعة الحال، ميّالين وراغبين في استكمال مهمتهم بعد ولادتهم في السماء.

القدّيس أفرام (يُعيّد له في 5 أيار)

       لوحظت شفاعة القدّيسين منذ مطلع القرن الثاني. فبعد استشهاد القدّيس اغناطيوس المتوشح بالله، عاد الذين شهدوا استشهاده إلى بيوتهم. وقد رآه عدد منهم في نومه، فبارك عليهم وسمعوه يصلّي من أجلهم. شفاعة القدّيسين هي حقيقة. في التسعينات من القرن العشرين، في الولايات المتحدة الأميركية، كان هناك شاب يتعاطى المخدرات يحتضر بسبب جرعة مميتة تناولها. على طاولته  بجانب السرير كان يوجد كتاب الإنجيل. تناول الشاب الكتاب وناجى ربّه بصرخة يأس كبيرة، فظهر له شخص بحلّة سوداء ولحية طويلة. تكلّم معه هذا الرجل مطوّلاً وطمأنه وهدأه. لم يعرف الشاب سوى أن اسم هذا الشخص هو أفرام. وقد نجا الشاب من الموت وأخذ يبحث عن هذا الزائر السرّي الذي انتشله من الظلمات. فاستبان له أن القدّيس أفرام الظاهر حدّيثاً هو إياه الراهب الذي أتى لتعزيته. اهتدى الشاب وصار أرثوذكسياً. يُذكر أنّ القدّيس أفرام هو راهب شهيد من العام 1425 أظهر نفسه عام 1950 لراهبة وكشف لها من هو وأين استشهد. يستريح جسده في نيا ماكري في أتيكا.

       هناك أمثلة عديدة من هذا النوع تُظهر أنّ القدّيسين أحياء وهم يهتمّون بحياتنا، ويرأفون بنا. يحسن القول هنا أننا لا نعبد القدّيسين ولا نصلي لهم، بل نطلب صلاتهم  وشفاعتهم، وثمة فرق بين الأمرين. الكنيسة لا تعرف حواجز الزمان ولا المكان لأنها تقطُُن في الأزلية. نستطيع أن نطلب المساعدة الروحية من أشخاص يعيشون في أبدية هذه الكنيسة، مثلما نطلب، أحياناً، المساعدة المادية أو الروحية من المقربين منا على هذه الأرض. القدّيسون هم مقرّبون من الله، هم أصفياء المسيح، وأصدقاؤنا، بصداقة مثمرة بما لا يقاس لأنها في الله. ونحن لا نجعل منهم آلهة: القدّيس سمعان اللاهوتي الحديث يقول إننا نضع مصابيح لإنارة إيقونات القدّيسين للإشارة أنه من دون النور الذي هو المسيح، ليس القدّيسون بشيء. فقط نور المسيح الذي يضيئهم يجعلهم أحياء ونيِّرين!
"نحن نعيش سوية معهم (أي القدّيسين) في بيت الله السماوي، ولكن في أماكن مختلفة. نعيش على الأرض، وهم في المكان السماوي، ولكننا نتحدث معهم وهم معنا" (القدّيس يوحنا كرونشدات).

        سؤال: ما هي الأسباب التي تجعلنا نربط بين شفاعة قدّيس محدّد وعزاء في مشكلة معيّنة؟ هل نستطيع أن نفترض أن هذا بعامة مرتبط بظروف أو خبرات من حياة هذا القدّيس...؟

       جواب: يصعب الإجابة بطريقة جازمة على هذا السؤال. في بعض الأحيان يكون شيء ما في حياة القدّيس أو طريقة استشهاده هو الذي يحدد شفاعته، ولكننا لا نستدعي في حالات آلام الرأس كلّ الذين قطعت رؤوسهم. أحياناً هناك صلة بين معنى اسم القدّيس والشفاعة المختصّة به، لكن معنى الاسم لا يفترض نوع الشفاعة بالضرورة... القدّيس فلاسيوس الذي من سباسطيا، مثلاً، يستدعيه الناس، في التقليد، لأمراض الحنجرة، أما في ألمانيا فمعنى اسمه قريب من كلمة معناها "مبولة"، فيستدعيه الناس هناك من أجل الأمراض التي تخص الجهاز البولي. وفي التقليد الشعبي السلافي، يستدعون النبي ناحوم ليُنَبِّه الروح...لأن كلمة ناحوم (Na oum) تعني روحاً في هذه اللغات.

القدّيسة براسكيفي (يُعيّد لها في 26 تموز) وهي معروفة بشفاعتها لمرضى العيون

       في معظم الشفاعات المرجّح أنّ أحدهم قام بطلب مساعدة قدّيس لمشكلة معيّنة، وعندما استجيبت طلبته، ذاع الخبر، وشيئاً فشيئاً، أصبح القدّيس "متخصصاً"!!! ولكنّ رحمة الله كبيرة والصلة التي نقيمها مع القدّيسين ليست سطحية أو عقلانية، بل هي علاقة حقانية. صداقة القدّيسين قوية ووفية ومعاشرتهم تعلّمنا أنه يمكننا أن نطلب شفاعتهم من أجل كل آلامنا...عرف القدّيسون على الأرض أنّ المسيح حاضرٌ في كل واحد من إخوتهم، أحبوهم بالحب الذي أظهره لهم المسيح. وهم، قرب المسيح، يشهدون أيضاً لحبهم له ويكمّلون عملهم الذي هو على الأرض. "كل الآباء الذين رقدوا قبلنا يسندوننا بصلاتهم. همّهم خلاص الإنسان ويساعدوننا بشفاعتهم لدى الله" (أوريجنس).

       هم يتشفعون بما أضفى عليهم التقليد من صبغة معيّنة، ولكنهم يستجيبون لكلّ طلباتنا، مهما كانت: هم أمام عرش الله، ومن خلالهم، يستجيب لنا الله بالتأكيد ودائماً.

       في الواقع، نحن نفتكر بالأمراض المختلفة عندما نتكلّم على شفاعة القدّيسين، لكنّ المسيحيين الأرثوذكسيين يقيمون صداقات خاصة روحية خارج إطار المرض أو طلبات محدّدة. هناك قدّيسون نكرمهم بكل بساطة لحضورهم الروحي وعونهم لنا بصلاة صغيرة، قدّيسون تكون شفاعتهم رقيقة وثمينة. فنحن نصلّي في بعض الأحيان لا لنطلب شيئاً ما، بل لنكون معهم في فسحة لحظة أبدية، لنذوق الإتحاد الروحي النقي. هذه اللقاءات التي تحصل في الصلاة هي مفارق الأبدية، هي عربون الحياة المستقبلة التي نتوق إليها من كلّ قلبنا.

        سؤال: هل لك أن تعطي لائحة صغيرة بالقدّيسين الذين يتشفعون بكافة المصابين بالأمراض؟

القدّيس بنداليمون (يُعيّد له في 27 تموز) وحوله القدّيسون العاديمو الفضة

        جواب: هذه لائحة القدّيسين العادمي الفضة. هؤلاء القدّيسون كانوا أطباء يطببون الناس من دون مقابل. لائحتهم مأخوذة من إيقونة يونانية شعبية. الأكثر شهرة بينهم القدّيس بنداليمون (بنداليمون الذي من الشرق) والقدّيسان قزما وديميانوس. في هذه اللائحة يوجد أيضاً القدّيس أوبريبيوس (المعروف بأفتروبيوس- كما يسميه الأب القدّيس يوستينوس بوبوفيتش في كتابه عن حياة القدّيسين) وهو لم يكن قدّيساً عادم الفضة ولكنه تكبّد شهادتهم. العادمو الفضة كان لهم في الغرب مكانة القدّيسين الشافين في الشرق. من جهة أخرى بعضهم ينتمي لكلا الفئتَين.

 

 

 

        سؤال: هل أثار فضولك أو ارتباكك بعضُ الحالات التي صادفتها؟

       جواب: عندما كتبت أوّل نسخة من كتابي باللغة الإنكليزية، قرأت السنكسارات، ومجموعة كبيرة من حياة القدّيسين من كل الحقبات التاريخية ومن كل البلدان التي توصلت إليها، وحصلت على مساعدة رئيس دير في اليونان اسمه دوروثيوس من أندروس وأصدقاء من روسيا عملوا على مساعدتي في أبحاثي عن القدّيسين السلافيين. إنما الذي روّعني بالفعل هو بعض الكتب الحديثة الصادرة في فرنسا. لن أذكرها. هذه الكتيّبات دوّنت بسرعة، هدفها تغطية كلّ الطلبات الممكنة للـ"زبائن المحتملين". نجد فيها إلى جانب تدخلات أصيلة لقدّيسين، حماقات مخيفة فيها الكثير من الذوق الرديء والتجديف. لا يجوز التلاعب بالأمور المقدّسة.

       في الأبحاث التي أجريتها، لم أصادف أي أمر مستغرب. لقد كنت محظوظاً عندما اهتديت إلى الأرثوذكسية منذ حوالي 35 عاماً حين استقبلوني في الكنيسة، في دير القدّيس نيقولاوس الدلماري في جنوب فرنسا. لم أكن قد حصلت على أي ثقافة دينية من قبل، لهذا كانت نظرتي جديدة في شأن الإيمان والقدّيسين. في قاعة إستقبال الكنيسة الصغيرة كان يوجد فسيفساء للقدّيس يوحنا ماكسيموفيتش رئيس الإساقفة الذي جسده الغير المنحل موضوع في سان فرانسيسكو. هذا هو أول قدّيس التقيته بالفعل و"درسته". وقد تعرفت على أناس عرفوه. رئيس الدير الذي عرّفني على الأرثوذكسية سيم على يده. في وقت لاحق إلتقيت عدداً من الأشخاص الذين عرفوه. عندما قرأت سيرة حياته والمعجزات التي أجراها، تحمست، بشكل من الأشكال، لمطالعة سير قدّيسين أُخر. إذا كان القدّيس يوحنا قد أجرى أموراً عجيبة ومذهلة، وإذا كانت السير التي قرأتها قد نقلتها الكنيسة، فإنه يمكنني أن أكون على ثقة...لقد عاينت ظهورات محسوسة لقدّيسين أثناء إقامتي في اليونان، هذا جعلني أنظر بترحيب إلى كل الظهورات الروحية ورغم ذلك أحتفظ بتمييزي في ما يخص الأشياء المصطنعة والمعجزات الكاذبة والإسراف والمبالغات وأتفاداها. وفي بعض الحالات يصعب التفسير...

القدّيس ميناس المصري
(يُعيّد له في 11 تشرين الثاني)

       لأصلَ إلى ما أثار حيرتي، أنه بالضبط أعجوبة شفاعة القدّيسين...هناك قدّيس شفاعته لي كانت ظاهرة بشكل خاص وهو القدّيس ميناس. كنت في دير القدّيس يوحنا المعمدان في ملدون في إنكليترا عندما سمعت عنه. كنت قد أضعت غرضاً ما وأفتش عليه بجِدّ...راهب في الدير قال لي أن أطلب شفاعة القدّيس ميناس، وأضاف أن الأب صفروني هو الذي لقّنه أن يلتجئ إليه...ولقد وجدت في كل مرة أستنجد بهذا القدّيس أن طلبتي قد استجيبت بشكل عجيب ولا يفسّر. عندما أستنجد به، أكرّم إيقونته، وأطلب مساعدته وبعدها أنسى كل شيء وأقوم بعمل آخر. فجأة أتوقف عن عملي الذي باشرته، وأتوجه إلى مكان ما كأنّ أحدهم يقودني بشكل خفي لأجد ما كنت قد فقدته أحياناً في أماكن لا يمكن تصديقها وأحياناً أخرى في مكان أكون قد فتشته بكل تدقيق مرات عديدة. حضور هذا القدّيس محسوس.

 

 

        سؤال: هل كل القدّيسين الشفعاء هم قدّيسون قدماء، أم يوجد شفاعات جديدة لقدّيسين جدد؟

القدّيس نكتاريوس
(يُعيّد له في 9 تشرين الثاني)

       جواب: من الجليّ أنّ القدّيسين القدماء هم الأكثر عدداً ولكن يوجد قدّيسون جدد نطلب شفاعاتهم لأمراض جديدة. القدّيس نكتاريوس الذي من أيينا، هو قدّيس من القرن العشرين، يطلب الناس شفاعته لمرض السرطان، وهو مرض هذا العصر، كحال الحمى (التي كانت تشمل أمراض كثيرة لم يكن العلم قد عرّف عنها بعد) في العصور الوسطى. في لائحة الشفاعات التي ذكرتها في كتابي، يوجد هذا القدّيس في لائحة الأمراض المستعصية.

       هناك شهيد روسي جديد، القدّيس ميخائيل الكييفي، تُطلب شفاعته في أمراض العين. وسيكون هناك شفاعات جديدة ستظهر لنا في المستقبل لقدّيسين وحده الله يعلم أمرهم الآن.

 

 

        سؤال: قراءة كتابك تدفع المرء إلى التساءل على العلاقة القائمة بين المسيحية والصحة، الإيمان والشفاء. قدّيسون يتمتعون بتقنيات في مقدمة ما يعرفه الطب... هذا يصعب تصديقه للإنسان المعاصر! في نظر الكنيسة الأرثوذكسية والقدّيسين، هل كل الممارسات العلاجية مشروعة، أم هل يوجد تعارض أو حدود في بعض الحالات؟

       جواب: لقد أسّس القدّيسون المستشفيات كما ذكرت في مقدمة كتابي. القدّيس نكتاريوس الذي من أيينا، المذكور آنفاً، كان صانع معجزات قوي، رغم ذلك كان يرسل راهباته إلى الطبيب ولم يكن يستعمل علاجاته الروحية إلا عندما يكون الطب عاجزاً. ليس سخيفاً أن يعمل طب الله وطب الأنسان معاً. صديقٌ راهب لي في اليونان أخبرني أن جدّته كانت في المستشفى تتحضّر لتَخضع لعملية جراحية في عينيها. عشية العملية، أتى الطبيب لزيارتها وكان يكلّم زميلاً له قائلاً له إنه لا يعرف تماماً كيف يقوم بهذه العملية الدقيقة. في الليلة عينها ظهر لها القدّيسان قوزما وديميانوس ومعهما علبة المراهم المرسومة في إيقونتهما وأرشداها إلى كيفية المباشرة بالعملية بوضوح. في الصباح، نقلت الجدة الرؤية للطبيب. كان هذا الأخير رجلاً تقياً فسمع بانتباه واتبع نصائح زميليه الماقتَي الفضة فنجحت العملية.

       أما في ما يخص حدود الكنيسة في مجال الطب، لست أخصائياً في المبادئ التي تطال هذا المضمار. الإنسان المعاصر يبحث عن الخلود ولا يبحث عن الحياة الأبدية لأنه لا يؤمن بالقيامة. لذلك يلتجئ إلى العلم والطب منتظراً منهما الحل بأي ثمن للحصول على الخلود أو الموت السريع ومن دون ألم.

القدّيس لوقا
(يٌعيّد له في 11 حزيران)

       البحث الطبي ليس ممنوعاً، ولكن هل كل بحث مرغوب به؟ الأسقف لوقا كان جرّاحاً أعلنت قداسته البطريركية الروسية حديثاً وعاش في القرن الماضي، هو كان أول جرّاح في العالم يمارس عملية الزرع. ولكن يجب أن يكون هناك حدود للمسيحيين الذين يؤمنون أني "عليك استندت من الحشا، من بطن أمي أنت مجيري" كما يقول كتاب المزامير؛ والله هو الذي يقرّر رجوعنا إليه. الأب ستانلي هاراكاس في كتابه عن مبادئ الأخلاق المسيحية الأرثوذكسية (Orthodox Christian Ethics) يطرح أسئلة تبدو لي أساسية: ما هو الطب الأفضل لشعب يرفض الموت؟ ربما طب يقتل. طبيب يساعد مرضاه على الموت، ألا يكون في الطب مثل المعرّف الذي يخون سر الإعتراف في الكنيسة؟

       في حالات الزرع، أعرف أن القدّيسين يستطيعون أن يكونوا مفيدين...أحد معارفي المقرّبين كانت عنده عملية زرع بسيطة تُمارس منذ عقود. هذه العملية كانت تُسبَّب له نخساً مؤلم لضميره. وقد ذكر تردُّده أمام رئيس دير، فأخبره هذا الأخير عن عجيبة قام بها القدّيسان قوزما وديميانوس الروميّان. في القصة، أن القدّيسَين ظهرا وأوصيا أن يُزرَع عضو لشخص متوفٍ لشخص بحاجة ماسة له. عندها فقط تقبّل صديقي العملية بشكل هادئ ونشأت علاقة روحية بين المعطي المجهول والذي تلّقى الزرع إذ إن هذا الأخير يصلّي له منذ العملية.

 

المرجع:

Relioscope (2007), Christianisme: Les Saints dans la vie de l’Église orthodoxe – Entretien avec Claude Lopez-Ginisty
http://religion.info/french/entretiens/article_316.shtml