إنتفاضة الريف 58/ 59، بين حقائق التاريخ وسؤال المصالحة - كاملا -

image
عمر لمعلم

في البداية لا بد أن نشير إلى أن انتفاضة الريف لم تكن حدثا فجائيا معزولا ، بل مثلت استمرارا للنهج الذي اختطاه الريفيون منذ أواخر القرن 19، من أجل التحرير والتحرر وإثبات الذات وفرض الحقوق، الانتفاضة كانت ثورة شارك فيها أهل الريف ومناصري قضاياهم.

 من أجل العزة والكرامة والجلاء الشامل للقوات الاستعمارية عن المغرب ومغادرة الميليشيات الحزبية لمنطقة الريف. ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارها تمردا، فالتمرد في القانون يعني: "فتنة ومقاومة بالسلاح تصدر عن المحكوم ضد الحاكم، أو تشنها جماعة من الشعب ضد السلطة..."، والريفيون عندما انتفضوا لم يستعملوا السلاح ولم يكونوا خاضعين في السابق لأية سلطة مركزية، وبعيد استقلال 56 رفضوا الحكم الذي فرض عليهم بالقوة.

إن اندلاع الانتفاضة كان أمرا حتميا، والسبب في ذلك كان هو الطريقة التي انتهجها المسيطرون على الحكم في إدارة شؤون البلاد والعباد بعيد استقلال 56، الذي كان استقلالا ناقصا تمخض عن المحادثات والمفاوضات الشكلية، التي جرت إليها فرنسا عددا من الزعامات السياسية والدينية والشخصيات الاقتصادية والعسكرية والعملاء...، بعد أن أدركت أن رحيلها عن المغرب أصبح مسألة وقت ليس إلا، خاصة بعد توالي الضربات الموجعة التي كانت توجهها المقاومة السرية وجيش التحرير للمصالح الفرنسية والمراكز العسكرية في مجموعة من المناطق خاصة بالريف. 

بعيد الاستقلال عملت السلطة الجديدة على حل فرق جيش التحرير وتصفية بعض كوادره، وعلى قمع واختطاف وتعذيب المعارضين خاصة المتعاطفين مع الأمير الخطابي والمرتبطين بأفكاره.

اقتحم حزب الاستقلال الريف عنوة وفرض نفسه على الريفيين، بالقوة أحيانا وبتقديم الإغراءات وشراء الذمم أحيانا أخرى، وتم تعيين موظفين من خارج الريف لتولي المهام الإدارية والأمنية والقضائية... استتبعه تهميش خطير للثقافة المحلية، واستهتار بعادات المنطقة وتقاليدها، وإقصاء للريفيين من المشاركة في تسيير شؤون منطقتهم، ومن المساهمة في حكم البلاد ( لم يشرك أي مواطن من الريف في مختلف الحكومات التي تشكلت خلال سنوات 55 و56 و57 و58...)، ناهيك عن شيوع عقلية التعصب الحزبي الأعمى وتفشي مظاهر الفساد والرشوة واستغلال الحكم لخدمة المصالح الشخصية، كما أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية كانت متردية، لحرمان المنطقة من الاستفادة من برامج التنمية الاقتصادية ومن بناء المراكز الاجتماعية (المستشفيات والمدارس) ومن توفير البنى التحتية (الطرق والسدود)، وستزداد  هذه الأوضاع تفاقما بعد إغلاق الحدود مع الجزائر ومنع الريفيين من التوجه للعمل داخل هذا القطر المغاربي، ونريد هنا ما ورد في قصاصة لإحدى الجرائد الفرنسية:

 "... إننا أمام أزمة خطيرة، الوضعية الاقتصادية للريفيين جد سيئة، والمنطقة الإسبانية سابقا تعاني من صعوبات اندماج لم تكن مهيأة له...".

على العموم حصل لدى السكان بالريف اقتناع بأن الحكام الجدد وقادة حزب الاستقلال مصرين على أن يذيقوا الريفيين كل أصناف الغبن والجور والظلم... كل ذلك لثني الريفيين عن الاستمرار في لعب دورهم الطلائعي والقضاء على مقوماتهم وإسكات صوتهم للأبد...   

أمام هذه الأوضاع المتردية على جميع المستويات كان لزاما على الريفيين أن يتحركوا لصون كرامتهم والدفاع عن أمجادهم، وأن يطالبوا بحقوقهم الثقافية والاقتصادية، وأن يتصدوا لكل مظاهر الظلم والطغيان...  

وفي هذا الصدد يقول القائد محمد الحاج سلام أمزيان:

" لقد وجدنا أن كل الملابسات تدعونا إلى القيام بهذه الحركة لإنقاذ الوطن من الانهيار، وإلا فلن يرحمنا التاريخ والأجيال الصاعدة "

اندلعت انتفاضة الريف يوم 07 أكتوبر 1958 وانتهت يوم 13 مارس 1959، حيث استمرت ما يقارب 157 يوما.

هناك بعض الكتابات تشير إلى الانتفاضة ابتدأت في بداية أكتوبر 58 مباشرة بعد إحياء الذكرى الثالثة لانطلاق عمليات جيش التحرير بالريف، حيث عرف إحياء هذه المناسبة أحداثا دموية واعتقالات رافقت عملية نقل قبر الشهيد عباس لمساعدي من فاس إلى قرية أجدير باكزناية. كما أن هناك كتابات أخرى تعتبر بداية شهر دجنبر 58 هو البداية الحقيقية للانتفاضة، وذلك بعد مرور ثلاثة أسابيع على تقديم الوفد المكون من " رشيد الخطابي ومحمد الحاج سلام أمزيان وعبد الصادق شراط"، للوثيقة الريفية التي تضمنت 18 مطلبا، إلى القصر يوم 11 نونبر 1958. 

1- جلاء جميع القوات الأجنبية عن المغرب.

2- تشكيل حكومة شعبية ذات قاعدة عريضة. 

3- حل الأحزاب السياسية وتكوين حكومة وحدة وطنية. 4

4- اختيار الموظفين المدنيين من السكان المحليين.

5- إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين. 

6- عودة محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى المغرب.

7- ضمان عدم الانتقام من المنتفضين. 

8- اختيار قضاة أكفاء.

9- إعادة هيكلة وزارة العدل. 

10- تقديم المجرمين للعدالة. 

11- إسناد وظيفة مهمة لريفي في الحكومة. 

12- توسيع برنامج عملية الحرث لتشمل الريف.

13- تخفيض الضرائب في المغرب كله وخاصة بالريف. 

14- خلق برنامج طموح ضد البطالة.

15- إحداث منح دراسية للطلبة الريفيين.

             16- تسريع تعريب التربية في كل المغرب.

17- بناء مزيد من المدارس في القرى.

18- فتح ثانوية أو مدرسة عليا في الحسيمة. 

وهنا يجب التمييز بين هذه الوثيقة المطلبية والميثاق الثوري الصادر عن حركة التحرير والإصلاح الريفية أو حركة النهضة المغربية أو الحركة الريفية يوم 07 أكتوبر 1958، تحت شعار الحرية – الوحدة – العدالة، والذي تضمن 17 بندا أهمها:

- جلاء القوات الأجنبية 

- عودة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي.

- حل الأحزاب وإنشاء اتحاد وطني.

- إطلاق سراح المعتقلين والكشف عن مصير المختطفين.

- إسقاط الحومة الحالية واستبدالها بحكومة شعبية.

في البداية صعد الناس إلى الجبل ورفضوا العمل والتعامل مع السلطة والإدارة، حصلت بعض الاشتباكات المتفرقة هنا وهناك بين المنتفضين وقوات المخازنية والميليشيات الحزبية، لكن نهج الانتفاضة ظل سلميا، وكان قادة الانتفاضة يطالبون السكان بعدم اللجوء إلى العنف وعدم استعمال السلاح إلا عند الضرورات القصوى.

 ورغم أن أهداف الانتفاضة كانت واضحة ومطالبها عادلة ومشروعة، وهذا ما أكدت عليه حتى اللجنة الملكية الموفدة إلى الريف تحت رئاسة عبد الرحمان أنكاي، التي طالبت الحكام بالتدخل السريع لإنقاذ المنطقة من الفقر والحيف (وبالفعل سيتدخل المسؤولون بسرعة لكن ليس لإنقاذ الريف بل لإغراقه في بحر من الدم)، فإن القصر والحكومة لم يستجيبا لهاته المطالب، بل عملا على تهديد المنتفضين وتخويفهم ، حيث طالب الملك محمد الخامس في خطاب له يوم 7 يناير 1959 من المنتفضين، بالنزول من الجبال ووضع السلاح فورا والعودة إلى العمل... وإلا... وبعد يومين سيصل إلى تطوان الحسن الثاني ولي العهد آنذاك رفقة الجنرال أوفقير وبمعيتهما أزيد من 20 ألف عسكري وعتاد حربي هائل، للتخطيط للهجوم على القبائل الريفية المنتفضة.

يوم 16 يناير 1959 ستقتحم القوات العسكرية مطار الحسيمة الذي كان في قبضة المنتفضين، وسيوجه هؤلاء  طلقات نارية صوب ولي العهد، الذي ثارت ثائرته ويصدر أوامره بالقضاء على المنتفضين وتحطيمهم... وحتى حكومة عبد الله ابراهيم التي حاولت في البداية أن تبدي نوعا من التفاهم لمطالب ساكنة الريف، فإنها وافقت على التدخل العسكري لسحق الريف.

خلال شهر فبراير 1959، وأمام المقاومة التي أبداها المنتفضون، ستشرع الطائرات التي كان يقودها طيارون فرنسيون في قنبلة قرى ومداشر الريف (أيث بوعياش، إمزورن، أيث حذيفة، إبقوين، رابع ن توراث، إكار أزروكاع...) لمدة 10 أيام ليلا ونهارا ودون توقف.

بعد ذلك ستتمكن القوات المسلحة من محاصرة المنطقة، وترتكب أبشع الجرائم في حق الريف والريفيين، عن هذه الجرائم تقول إحدى المنشورات التي صدرت عن جمعية ذاكرة الريف: 

"... لقد كان تدخل الجيش وحشيا وحدث ما لا يمكن تصوره من المآسي والفواجع والأهوال، قنبلت الطائرات التي كان يقودها طيارون فرنسيون الأسواق والتجمعات السكانية، وأحرق الجيش المحاصيل الفلاحية وخرب المنازل وغيرها من الممتلكات، اغتصب النساء وبقر بطون الحوامل وقتل المئات وخلف ألاف الجرحى والمعطوبين واعتقل الآلاف وأبعد المئات..."

 ويذكر الأمير الخطابي في إحدى رسائله أن:

 "عدد المعتقلين إبان انتفاضة الريف بلغ 8420 بينهم 110 امرأة، أطلق سراح 5431 بينهم 95 امرأة، وحكم على 323 فيما ظل الآخرون أي 2664 دون محاكمة ولا إطلاق سراح، وتم إبعاد 542 مواطنا إلى كل من إسبانيا وإيطاليا وألمانيا والجزائر..."

ويقول دايفيد مونتغمري هارت: 

"بعد القمع نزل المنتفضون مكرهين من الجبال وعادوا إلى منازلهم مستائين وغاضبين، وهو نفس الإحساس الذي شعر به آباؤهم وأجدادهم عندما استسلم عبد الكريم".

بعد إخماد الانتفاضة سيفرض على المنطقة طوقا عسكريا استمر عدة سنوات، وفرض عليها حصارا اقتصاديا ما يزال متواصلا إلى اليوم، رغم بعض المؤشرات الإيجابية الصادرة عن عاهل البلاد، المتمثلة في المحاولات الجارية لتصحيح أخطاء الماضي ورفع الحيف عن الريف وسكانه وإنصافهم.

واليوم بعد مرور أزيد من 52 سنة على الانتفاضة، يبدو من خلال ما كتب وقيل أن الفاعلين الأساسيين قبيل الانتفاضة وأثناءها وبعدها هم:

- الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي: الذي دعم الانتفاضة بتوجيهاته وبإصراره على مواجهة الطغيان ومطالبته بإنصاف الشعب بالريف والمغرب.

- أهل الريف وعلى رأسهم القائد محمد الحاج سلام أمزيان، وكل المرتبطين بفكر الأمير الخطابي وتجربته التحريرية، وبعض المنتسبين إلى جيش التحرير.

- حزب الشورى والاستقلال خاصة زعيمه محمد بن الحسن الوزاني، الذي تعاطف مع الريف واستنكر الحصار وطالب بالاستجابة لمطالب السكان.

- مغاربة أخيار ناصروا الريف وفضحوا التآمر ضده واستنكروا القمع والحصار والمجازر التي ارتكبت في حقه.

- الدولة الفرنسية: التي كانت ترى في ضرب الريف واجتثاث فكر الأمير، ضمانة في حماية مصالحها بالمغرب.

- القصر: الذي كان يتوجس من الريف ومن دوره الريادي في التحرير، والذي كان يصر على إخضاع الريف بالقوة، لتقديم البرهان للفرنسيين وغيرهم على قدرته في حكم البلاد، وكذلك للاستقواء على منافسيه الحزبيين.

- الجيش: الذي كان يقوده الحسن الثاني والجنرال أوفقير والمارشال مزيان، والذي ارتكب  أبشع الجرائم في حق الريف.

- حزب الاستقلال: المعروف بعدائه التاريخي للريف، ومحاولاته للسيطرة على مقاليد الحكم، ورغبته في القضاء على كل خصومه ومنافسيه السياسيين، فهذا الذي كان يتزعمه ساسة أكفاء درسوا التاريخ جيدا وعرفوا قدرات الريف، كان يرى في نجاح الريفيين في تحقيق مطالبهم تهديدا لمشروعه السياسي وتهديدا لمستقبله.

- الحركة الشعبية: في شخص أحرضان والخطيب اللذان لعبا دورا في تأجيج الأوضاع خاصة بمنطقة اكزناية، ودفعا الناس إلى استعمال العنف لتبرير تدخل الجيش، كما عملا على تفجير الانتفاضة قبل موعدها (الانتفاضة كانت ستقع لا محاله، لكن بعض الشخصيات من الريف كانت ترى ضرورة توفر الشروط أولا والقدرة على تنظيمها ثانيا)، كما أن الشخصين المذكورين مكنا القصر من معلومات عن حال المنتفضين وكمية السلاح المتوفرة لديهم.

وإليكم بعض ما قيل عنها:

الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي:              

 "... لقد اندلعت الآن مرة أخرى ثورة شعبية بزعامة القائد محمد أمزيان، ليست ضد الاستعمار فحسب، بل ضد عملائه أيضا في الدرجة الأولى، وأهداف هاته الثورة الحاضرة التي ستؤدي أغراضها بإذن الله إن نالت التأييد من قادة الحرية والقومية العربية هي: 

- إجلاء القوات الأجنبية عن القطر المغربي جلاء تاما وناجزا 

– إعادة تطبيق الاستراتيجية التحريرية بفتح جبهة القتال ضد قوات الاحتلال في المغرب إلى جوار الجزائر في سبيل تحرير تونس والجزائر

– القضاء على النظام المتعفن الذي مسخ التاريخ والوجود"

القائد محمد سلام أمزيان: 

"... هي انتفاضة شعبية معادية للاحتلال الأجنبي وحلفائه الحزبيين، تحولت إلى ثورة شعبية ضد قوات الاحتلال والحزبية الحاكمة لصالح هذا الاحتلال الأجنبي، انتفاضة وثورة نظمها وقادها مؤمنون بالعمل الوطني الميداني لا الحزبي العائلي ولا بالمراسلات والمنشورات، فتلك عملة الأجنبي تكرم بها على الحزبية المغربية ونحن نرفض التعامل بها لأنها زائفة، ثورة قام بها رجال وزملاء وإخوان وأحفاد وتلامذة الأمير عبد الكريم الخطابي في بني ورياغل مسقط رأسه ومقر عمليات حربه التحريرية التي قادها في العشرينات، هؤلاء هم مسؤولو هذه الحركة الثورية وكان لي شرف رئاستها برغبة من المجاهدين رغم اعتراضي وإصراري على أن أكون جنديا في الميدان"

ملك المغرب الراحل الحسن الثاني:

 "... عرفت بعض الجهات تمردا فكريا إضافة إلى قلاقل سياسية، فمثلا في الريف الذي كان خاضعا للحماية الإسبانية كان لدى السكان شعور بأنهم يعاملون كفئة مهمشة في المملكة ولم يقبلوا بهيمنة حزب الاستقلال الذي لم يتصرف كما يجب من الحنكة، لذلك عمد شخص إسمه الحاج أمزيان إلى استغلال النزعة القبلية، والقبلية هنا لا أستعملها باستخفاف بل بالعكس، ولم يهضم مساعدو فرانكو تصفية الاستعمار بالمغرب فكانوا يوفرون السلاح والزاد للسكان المعتصمين في الجبل، لقد كانت الوضعية قابلة للانزلاق في المتاهات".

عبد الوهاب بن منصور مؤرخ المملكة: 

"... كانت منطقة الخطر تمتد من قبيلة بني ورياغل التي تزعم الحركة فيها شاب يسمى محمد سلام أمزيان إلى قبيلة بنيس وراين بوسط إقليم تازة التي تزعم حركتها قائد سابق يسمى محمد بن حدو، وأخذت حركة العصيان تمتد حتى شملت قبائل تاونات شمال فاس وقبائل بولمان القريبة من نهر ملوية وأصبحت المواصلات بين شرق المغرب وغربه مهددة بالانقطاع"

محمد حسن الوزاني الأمين العام لحزب الشورى والاستقلال في تقرير إلى الأمير مؤرخ في 02 فبراير 1959:

"...لقد تألمت أشد الألم بما علمته من رسالتكم حول "الوحشية" المرتكبة ضد الأحرار في الريف من طرف القوات المضادة، تحت قيادة الفرنسيين، ويجب أن نفضح تلك الوحشية بكل تفاصيلها وفضائعها في الداخل والخارج لأنها مجهولة لحد الآن. الصحف الفرنسية الباريزية في الأسبوع الأخير كتبت بصريح العبارة أن حكومة الرباط استخدمت رسميا قوات الاحتلال واستنجدت بالجيش الفرنسي وأن الطائرات التي دمرت ما دمرته في جهة الحسيمة كانت بقيادة الفرنسيين وتحت يدي القصاصات التي ذكرت ذلك مما يؤكد ما ورد في رسالتكم، وأسفاه"

الدكتور دافيد هارت:

 " انطلق النداء من أجل مقاومة الحكومة والتحق رجال القبائل بالجبال من جديد وأشعلوا النيران، فعاد التمرد في أشكال جد حديثة، ربما نزل رجال أيت عمارت وأيت توزين وتمسامان وإكزانين من الجبال من جديد بعد بضعة أيام على النداء الذي وجهته الرباط للثوار. غير أن أيت ورياغل رفضوا النزول واندلع العنف يوم الإثنين 27 أكتوبر 1958... واستمر الاضطراب في أشكاله القديمة وقاطع رجال أيت ورياغل الأسواق، ظل هؤلاء في جبل حمام وثارت ثائرتهم بعد مقتل شخص أو شخصين من أيت ورياغل في سوق إمزورن" 

جريدة العلم لسان حال حزب الاستقلال(العدد الصادر في 05 دجمبر 1958):

" لما أحس هؤلاء المحرضون بسنوح الفرصة دعوا الناس إلى الاعتصام بالجبال، واستعملوا شيعتهم في الضغط والوعيد فانتشروا يكسرون محاريث الفلاحين الذين لم يتبعوهم ويهلكون بهائمهم، فخاف الكثير على نفسه. ومما شجع اعتصام عدد كبير من السكان بالجبال إمساك السلطة عن القيام بعمل جدي حاسم"

جريدة الاكسبريس في عددها الصادر يوم 04 دجمبر 1958:

" إن القبائل الريفية التي لم تتنازل عن فردانيتها الصارمة إلا أمام السلطة الشخصية للملك محمد الخامس توجد في حالة غليان، إنها تشكو كونها لم تؤطر ما فيه الكفاية من طرف إداريين لا دراية لهم بمشاكلهم وكونها أيضا متخلى عنها اقتصاديا، لقد كانت لهؤلاء الجبليين دائما أهمية في المغرب ومن السهل تحريضهم لأنهم في نفس الوقت بؤساء سريعي الفعل وميالين إلى رؤية مصدر الشر والفساد في المدن"

جريدة المانشستر كرديان في عدديها الصادرين يومي 06 و07 يناير 1959:

"لقد أعطى الملك محمد الخامس لمتمردي الريف والشمال مهلة 48 ساعة للعودة إلى بيوتهم ويكفوا عن مقاومتهم للسلطة المركزية..وجه الملك نداءه للمتمردين ضد الحكومة في ثلاث مناطق مغربية: الريف الذي كان تحت الحماية الإسبانية، الأطلس والمناطق المحيطة بفاس ثم المناطق المجاورة للجزائر في ناحية وجدة...لقد تحرك اليوم عدد من فيالق الجيش المغربي في اتجاه بعض المواقع في الريف وجبال الأطلس المتوسط، وهي مستعدة لمواجهة القبائل التي تلقت يوم السبت مهلة إلى حدود الغد لكي تعود إلى بيوتها. لقد ألقت الطائرات أزيد من 100 ألف منشور يكرر التحذير الذي وجهه الملك محمد الخامس لرجال القبائل."

الصحفي مصطفى العلوي:

"وقف رجل خطيبا، وعلى الأسئلة رادا ومجيبا، فقال لو كانت الشمس لنا لمنعناها أن تضيء إلا جمعنا وحزبنا، ولو كانت الأمطار في قبضتنا لأمرناها أن تلزم عرصتنا، سدوا الطرق على المخالفين حتى يأتوا إلينا خائفين، لا إكرام  ولا تشريف ولا عمل ولا وظيف، ولا خبز ولا رغيف إلا لمن أتى بورقة التعريف وعليها الخاتم الظريف، هكذا علمنا مكيافيل، وهكذا أمرنا كوبلز وعبرائيل، فأقسموا الأيمان الغلاظ أنكم ستكونون الأشداء الفظاظ، وليتجرد كل واحد منكم من قلبه وروحه ولبه، اطردوا العامل من ورشه وأخرجوا الفقير من فرشه، ولا توظفوا المخالف المعاند، واطردوا كل حر محايد، وقربوا الأصدقاء الرائح والوارد، ووظفوا الولد والوالد، هذه وصيتي إليكم وتوجيهاتي المجانية لكم، قوموا وغلظوا الأوباش وسوقوهم كالأكباش..."

الأستاذ زكي مبارك: 

"...هذه الأفكار والاستنتاجات والتطلعات التي ظلت تغلي في أعماق ووجدان الخطابي وفكره، سيعمل على تجسيدها وبلورتها من خلال دعمه للانتفاضة الشعبية التي اندلعت بالريف في أكتوبر 1958، انتفاضة اعتبرتها السلطات الحاكمة في المغرب "تمردا" بينما اعتبرتها قيادة هذه الانتفاضة  "ثورة الجلاء"".

الكاتب الأمريكي واتر بوري:

"شهدت عدة مناطق بالمغرب خاصة في الريف، حوادث ذات أهمية محدودة، إغلاق مكاتب حزب الاستقلالن بالإضافة إلى تعرض الموظفين المحليين للاعتداء، ودل كل هذا على التوتر السائد في البوادي ورغبة سكانها في المشاركة بقسط أوفر في تسيير شؤون البلاد".

كمال الدين مراد:

"قرر القصر استغلا السخط الريفي ورواغ بذلك، ثم عقد اتصالات مع نبلاء الريف عبر وساطة الحسن اليوسي وأحرضان والخطيب..."

فتحي الديب:

"كانت قد وصلتنا معومات في نفس السبوع من ملحقنا العسكري بالرياط، تؤكد سلامة اتجاهات ثورة الريفوتزايد شعبية الأمير عبد الكريم الخطابي وشقيققه امحمد في مراكش بصفة عامة ومنطقة الريف بصفة خاصة، وعن وجود ارتباط وثيق بين الأمير الخطابي وثوار الريف، وأن قيام الثورة راجع إلى فقدان السلطان لجزء كبير من هيبته ونفوذه، لتقاعسه في تحقيق أماني الشعب في الداخل والخارج، وأن حزب الاستقلال هو الآن في موقف مترد بعد تفككه إلى عدة جبهات تتصارع للاستئثار بالسلطة، الأمر الذي زاد من نقمة الشعب المراكشي كله".                                                        

من تداعيات الانتفاضة على الريف والريفيين يمكن أن نذكر:

- إسكات صوت الريف مدة من الزمن. 

- عدم استفادة الريفيين من ثمار الاستقلال. 

- إقصاء الريف من فرص التنمية. 

- تهجير السكان إلى أوروبا وإلى مناطق أخرى بالمغرب.

- استبعاد الريفيين من مناصب المسؤولية، المدنية والسياسية...

- تهميش الثقافة المحلية وعادات وأعراف المنطقة وضرب مقوماتها.

- انعدام ثقة الريفيين في الدولة وفي شعاراتها.

- تفقير المنطقة وحرمانها من البنى التحتية والمنشآت الاقتصادية.

- خدمات اجتماعية ضعيفة.

- سيادة المقاربة الأمنية.

- تحويل المواطن بالريف إلى المستهلك المتشكي غير القادر على الفعل والإبداع...

- تشجيع التهريب وتجارة المخدرات.

- مراكمة الأشكال النضالية بهدف تحقيق الأفضل للريف والريفيين.

- فضح حقيقة المسيطرين على الدولة بعد استقلال 56.

وقبل أن أتحدث عن موضوع المصالحة مع الريف، إليكم أربع لوحات، تكشف لنا مدى ابتعاد الرأي الرسمي والحقوقي ببلادنا عن المعالجة الحقيقية والشاملة لملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالريف، ومدى تردده في التعاطي الموضوعي مع حدث الانتفاضة ومقاربة ما وقع بشكل شمولي يخدم الحقيقة التاريخية وينصف الضحايا.

اللوحة الأولى:

عندما شرعت هيئة الإنصاف والمصالحة في إنجاز تقريرها وبدأت تتصل ببعض ضحايا سنوات الرصاص والاضطهاد وأفراد عائلاتهم، تباينت الرؤى والمواقف، لكن كان هناك شبه إجماع على أن ما تقوم به الهيئة قد يكون إيجابيا لكنه سيبقى ناقصا وجزئيا، وبعد أن نشرت الهيئة تقريرها تعالت الأصوات الرافضة لمضمون التقرير، واعتبر العديد من الفاعلين الحقوقيين والجمعويين أن الجرائم التي ارتكبتها الدولة والمليشيات الحزبية بالريف لم تحظى بالاهتمام الكافي من قبل الهيئة، انعقدت لقاءات ونظمت ندوات، وأصر الجميع على متابعة الملف والضغط في اتجاه تصحيح الاختلالات، لكن بعد أشهر قليلة من صدور التقرير سيخيم الصمت ويصبح تقرير الهيئة أمرا واقعا.

اللوحة الثانية:   

يوم الأحد 31 أكتوبر نظمت 5 جمعيات حقوقية مغربية، مسيرة بالرباط للمطالبة بتنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، وهذا أمر أجده غريبا، وأجده يشرعن طرح العديد من التساؤلات ووضع الكثير من علامات الاستفهام، فكيف يعقل أن تبادر هيئات حقوقية وفعاليات ثقافية واجتماعية إلى تنظيم مسيرة للمطالبة بتطبيق توصيات الهيئة، وقد سبق لها أن سجلت العديد من الملاحظات على تقرير الهيئة وتوصياتها واعتبرت عمل الهيئة ناقصا خاصة في طريقة تعاملها مع بعض الملفات الشائكة. فكما هو معلوم فإن الهيئة عندما أصدرت تقريرها في شهر يناير 2006، تعرض للكثير من الانتقادات واعتبر العديد من المتتبعين التوصيات التي ذيلت بها الهيئة هذا التقرير لا ترتقي إلى مستوى المعاناة التي قاساها ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان أفرادا وجماعات.

اللوحة الثالثة:

تعامل الدولة والأحزاب والإعلام مع المخيم الاحتجاجي الذي أقامه الصحراويون قرب مدينة العيون، وتعاملها مع انتفاضة الريف.

اللوحة الرابعة:

في شهر أكتوبر 2010 استغربنا كذلك ما أضمرته اتفاقية التعاون والشراكة المبرمة بين المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ووزارة الثقافة، والتي تهم مجالات حفظ الذاكرة والأرشيف والتأهيل الثقافي للمناطق المشمولة بـبرنامج  "جبر الضرر الجماعي"، من إساءة للريف وللزعيم الوطني الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، حيث تناقلت بعض وسائل الإعلام ما يلي: " ستعمل وزارة الثقافة على ترتيب المباني ذات الحمولة الرمزية وتصنيفها كتراث وطني (مراكز الاعتقال أكدز وسكورة وقلعة مكونة ودرب مولاي الشريف ومنزل عبد الكريم الخطابي.. )"، لاحظوا معي كيف يحاول المجلس الاستشاري ومعه وزارة الثقافة تشويه سمعة مقر تاريخي احتضن قيادة المقاومة الريفية في العشرينيات من القرن المنصرم، بإدراجه ضمن المعتقلات السرية السيئة الذكر... ولاحظوا معي كذلك كيف يحاول المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان فرض أمر الواقع وتنفيذ برنامج ما يسمى بجبر الضرر الجماعي، عبر تسرعه في إبرام عدد من الاتفاقيات مع عدد من الهيئات المدنية والمؤسسات الوطنية والدولية...

وما يجب التأكيد عليه هو أن الدولة المغربية عندما تتحدث اليوم عن جبر الضرر الجماعي في منطقة ما من المغرب فهي تعترف ضمنيا بأنها انتهجت سياسة غير عادلة تجاه هذه المنطقة وأنها ارتكبت في حقها جرائم ضد الإنسان والحيوان والمجال، وهذا في حد ذاته يعتبر مكسبا تم انتزاعه من الدولة التي تتملص لحد الآن من الاعتراف الصريح والاعتذار، فاهتمام المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بهذا الموضوع لا ينطلق بالضرورة من قناعة الحاكمين بأهمية التعاطي الجاد والعادل مع ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ببلادنا وإنصاف الضحايا، وإنما يعكس رغبتهم في التعجيل بإغلاق هذا الملف الجاثم على صدورهم دون الاكتراث بالطريقة التي سيغلق بها، وذلك ليتمكنوا من الظهور في المشهد الحقوقي الدولي بمظهر المدافعين عن حقوق الإنسان والمستعدين للعمل من أجل إنصاف الضحايا وإرساء دعائم دولة الحق والقانون، فالذين تتبعوا حلقات مسلسل الإنصاف والمصالحة قد لاحظوا  أن ما يجري في الواقع مخالف لما يصرح به المسؤولون، فالمعطيات تؤكد على أن الدولة بعيدة كل البعد عن توفير الشروط الحقيقية لمصالحة تاريخية، وأنها تفتقر إلى الإرادة السياسية الضرورية لتجاوز مخلفات الماضي والتوجه نحو المستقبل الذي ينشده المغاربة والريفيون، وهو بناء دولة ديمقراطية حديثة وقوية، يكون فيها الشعب المتحكم الوحيد في السلطة والثروة، ويكون فيها الريف كيانا تاريخيا قائما بذاته يسهر فيه أبناءه على تسيير شؤونهم بأنفسهم.  

عندما أصدرت الهيئة تقريرها أوصت فيما يتعلق بالريف بما يلي:

- متابعة الاتصالات مع عائلة عبد الكريم الخطابي قصد دراسة شروط إعادة رفاته إلى المغرب حسب رغبة العائلة والأقارب.

- إنشاء مركز الأبحاث عبد الكريم الخطابي بالمقر السابق لباشوية الحسيمة.

- اعتبار منزل عبد الكريم الخطابي بأجدير معلمة تاريخية عبر ترميمه واستعماله كمركز تاريخي للتعريف بشخصية عبد الكريم الخطابي وكمركز سوسيو ثقافي.

- إنشاء مؤسسة جامعية بمدينة الحسيمة.

- خلق برامج لفائدة نساء المنطقة (سيذي بوعفيف، أيث بوخرف، دار السلوم، بني حذيفة، السواني، ضريح سيذي شعيب).

- توسيع وإعادة ترميم ضريح الشريف محمد أمزيان ببلدية أزغنغن.

- تنظيم معرض وطني متنقل حول عبد الكريم الخطابي.

وفي حينه اعتبر جل المتتبعين والمهتمين أن هذه التوصيات لا ترقى إلى مستوى الدمار الذي لحق بالريف، ولا ترقى إلى انتظارات الريفيين، وهي غير كافية لجبر الضرر الجماعي، فهل سنعتمدها مقابلا لتصفية المجاهدين وأنصار الخطابي، أم كمقابل عن مجازر 59، أم كمقابل عن مجازر 84، أم لحصار الشهيد امحمد الخطابي، أم "لقتل" إدريس الخطابي، أم لاعتقال المئات من الطلبة والمعطلين ونشطاء حقوق الإنسان والعمل النقابي وذوي الرأي المخالف، أم مقابلا لسنوات من الحصار والتهميش...

فما المقصود بجبر الضرر الجماعي؟ 

جبر الضرر الجماعي هو تعويض المناطق التي تعرضت بشكل متواتر لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، أو شهدت جرائم ضد الإنسانية  وأعمال وحشية مست قطاعا واسعا من المواطنين ترتب عنها أضرار مادية ومعنوية ونفسية، أو كانت ضحية لسياسة ممنهجة مؤسسة على الانتقام والتصفية واقتلاع الجذور. 

جبر الضرر الجماعي يجب أن يرتبط بالمبادئ الأساسية للعدل والإنصاف وتطبيق مقتضيات العدالة الانتقالية، ويجب أن يرتكز على التمييز الإيجابي لصالح المناطق المتضررة، التميز المتمثل في مجموعة من التدابير التي يجب أن تتخذها الدولة أو الجهة المسؤولة عن الانتهاكات لفائدة هذه المناطق، وتشمل هذه التدابير رد الاعتبار للمناطق المتضررة وإعادة تأهيلها وإدماجها (عبر إنجاز مجموعة من المشاريع التنموية) ومحو آثار الانتهاكات وحفظ الذاكرة الجماعية.

يتم الحديث عن جبر الضرر الجماعي بعد الكشف عن الحقيقة واعتراف الجهة المرتكبة للجرائم بمسؤولياتها وتقديم ضمانات بعدم التكرار وبعدم خرق القوانين و الدوس عليها، ويجب أن يكون (أي جبر الضرر الجماعي) بعد التعويض المادي للضحايا المباشرين وعائلاتهم واسترداد حقوقهم ورد الاعتبار لهم ... 

ويجب أن يكون الهدف من جبر الضرر الجماعي، إنصاف المناطق المتضررة من الانتهاكات الجسيمة وتوفير الشروط لمصالحة حقيقية بين الدولة والمناطق المتضررة. 

كيف يتعامل المجلس الاستشاري مع موضوع جبر الضرر الجماعي؟

أشرنا فيما سلف إلى أن جبر الضرر الجماعي يجب أن يكون من الحلقات الأخيرة في مسلسل الإنصاف والمصالحة، فهناك تسلسل يجب إتباعه، هذا التسلسل يبتدئ بـ:   

أولا: الكشف عن الحقيقة كاملة دون زيادة ولا نقصان، ومهما كانت هذه الحقيقة ودون مراعاة لفلان أو علان أو علال...فالمقتنع بحقوق الإنسان والمدافع عنها لا يخشى الحقيقة ولا يخاف من تعكير مزاج هذا المجرم أو ذاك، بل يقر بالأشياء كما كانت في الواقع دون لف ولا دوران.

ثانيا: تحديد الضحايا وحجم الأضرار الناجمة عن الجرائم المرتكبة في حقهم.

ثالثا: الكشف عن المجرمين وتقديمهم إلى العدالة وإبعادهم عن مناصب المسؤولية السياسية والمدنية.

رابعا: اعتراف الدولة بالجرائم التي ارتكبتها وتقديم اعتذار رسمي عنها للضحايا والمناطق المتضررة.

خامسا: توفير الضمانات بعدم التكرار، بتغيير القوانين (بما فيه الدستور) وإعمال مبدأ عدم الإفلات من العقاب...

سادسا: جبر الضرر الفردي (ماديا ومعنويا)، وتعويض الضحايا وعائلاتهم والتعريف بهم، فالذين استشهدوا واختطفوا واعتقلوا وشردوا وعذبوا من أجل مصلحة الريف والوطن يجب أن نذكر بهم وندونهم في ذاكرتنا وأن لا نعتبرهم كأنهم لم يكونوا، فالذي ينسى الضحايا والشهداء فإنه يعذبهم ويقتلهم مرة أخرى.

سابعا: جبر الضرر الجماعي (كما تحدثنا عنه سلفا).

إن المتتبع لتعامل الدولة مع ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالريف سيلاحظ أن الدولة لم تقدم لحد الآن اعتذارا رسميا لأبناء الريف عموما وللضحايا خصوصا  وأن القوانين لا زالت هي هي، وحتى المسؤولين في مختلف الإدارات لا زالوا يتعاملون بعقلية الماضي، كما أن هيئة الإنصاف والمصالحة ومن بعدها المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان لم يلتزما بالتسلسل المذكور، وإن كانت الهيئة عند تأسيسها صرحت بأن عملها سيؤطر ضمن ثلاث أيقونات: الحقيقة – الإنصاف – المصالحة، وأنها ستحترم المنهجية التي تقول بها التنظيمات الحقوقية، فإن تعاملها مع ملف الريف أثبت أنها قامت بشيء أخر غير إبراز الحقيقة بشأن ما وقع بالريف، إن لم نقل أنها زادت في طمس الحقائق، والأمر نفسه ينسحب على التعويض الفردي (إقصاء عدد من الضحايا، غموض المعايير المعتمدة في تحديد قيمة التعويض، عدم نشر لوائح المستفيدين...) 

يقول المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان أن المناطق التي ستستفيد من برنامج جبر الضرر الجماعي هي المناطق التي عرفت مراكز للاعتقال السري وعانت من انتهاكات جسيمة لكونها كانت مسرحا لأحداث سياسية واجتماعية، وعددها ثمانية وهي: فكيك، الراشيدية، زاكورة، خنيفرة، ورزازات، الحسيمة، الناضور، الدار البيضاء (الحي المحمدي).

وينطلق المجلس من ثلاث مقاربات وهي: 

مقاربة حقوقية: ترتكز على احترام مبادئ حقوق الإنسان.

مقاربة تشاركية: تتمثل في إشراك الجمعيات والإدارة والمعنيين المحليين.

مقاربة النوع: وتعني تحديد الحاجيات الإستراتيجية لمختلف الفئات.

برنامج جبر الضرر الجماعي بالحسيمة مثلا حدده المجلس الاستشاري في النقط التالية:

إنشاء مركز الريف للأبحاث والتربية على المواطنة والديمقراطية 

اعتبار منزل عبد الكريم الخطابي كمعلمة تاريخية 

معرض متنقل يعرف بتاريخ عبد الكريم الخطابي 

إصلاح قبر المجاهد محمد امزيان بأيث بوخرف 

محاربة الأمية 

أنشاء مركز للتوجيه القضائي ولاقتصادي والسياسي للنساء 

ونحن نتساءل هل هذه الإجراءات في حالة ما تم تنفيذها ستكون كافية لجبر الأضرار التي لحقت بالريف على امتداد أزيد من 50 سنة من القمع والتهميش والحصار والتهجير والتفقير؟

بمعنى آخر هل برنامج جبر الضرر الجماعي يتناسب مع طبيعة الجرائم التي ارتكبت في الماضي ولا زالت ترتكب في الحاضر؟

ما العمل مستقبلا؟

الريفيون كباقي الشعوب يريدون العيش في سلام في ظل أجواء تسودها الديمقراطية ويريدون أن يتمتعوا بحقوقهم كاملة، وأن يكونوا متضامنين مع المغاربة في باقي الجهات، وهم بذلك في حاجة إلى مصالحة حقيقية.

المصالحة تعني وضع حد للخصام وتوقيف للصراع أو النزاع أو التوتر الذي يكون بين طرفين أو عدة أطراف، بين طرفين قام كل واحد منهما بطريقة ما بالاعتداء على الأخر، أي اعتداء متبادل، أو بين طرف معتدي وطرف معتدى عليه (وقد يكون الطرف المعتدي هو الدولة أو إحدى أجهزتها أو جماعة سياسية أو دينية...وقد يكون الطرف المعتدى عليه هو أحد الأفراد أو مجموعة من المواطنين أو سكان بلد أو منطقة...). المصالحة تعني كذلك وضع حد للجرائم والانتهاكات التي ارتكبت بالأمس مع العمل على إصلاحها وجبر الضرر المترتب عنها. المصالحة تتم بعد إقرار الطرف المعتدي لمسؤولياته واعترافه بأخطائه، وإنصاف المعتدى عليه بالاعتذار والتعويض... وضمان عدم تكرار الاعتداء مستقبلا. وعندما يتعلق الأمر بانتهاكات تتحمل الدولة مسؤولياتها، فإن المصالحة يجب أن تعقبها أجواء من الثقة المتبادلة وأن تساهم في توفير الشروط الضرورية لصنع مستقبل أفضل وبناء مجتمع تسوده الديمقراطية وتحترم فيه حقوق الإنسان. والمصالحة لا يجب أن تكون مطلبا للضحية أو الضحايا إلى الطرف المعتدي، بل هي مبادرة يقدم عليها الطرف المعتدي.

إنصاف الريف يقتضي التنمية الحقيقية وإقرار الحقائق والاعتراف بالجرائم والاعتذار رسميا...وتمكين الريفيين من حقوقهم الاقتصادية والتاريخية والاجتماعية والسياسية

عند معالجة ملف الريف يجب التمييز بين ملفين:

الملف الأول: يتعلق بماضي الريف وتاريخه والتكالب الذي وقع عليه من قبل الأوروبيين والسلطان والأعيان والزوايا وحزب الاستقلال من اجل تطويعه وتحديد مسارات تطوره والتحكم في مستقبله ونهب خيراته واستغلال ثرواته الطبيعية ولابشرية، ويدخل ضمن هذا الملف اللجرائم التي ارتكبت منذ القرن 15 وحتى انتفاضة الريف سنتي 58 و59 (طرد المسلمين من الأندلس، الهجوم على سواحل الريف، حملة بوشتى البغدادي، احتلال الريف، استعمال الغازات السامة، الحرب الأهلية الإسبانية، عام الجوع، تصفية جيش التحرير ومناصري الأمير ، قمع الانتفاضة..) ومعالجة هذا الملف تقتضي مقاربة سياسية تاريخية، يجب أن تنطلق من الإقرار بحقائق التاريخ وأن تتغيى الاعتراف يكيان الريفيين...

الملف الثاني: يتعلق بالجرائم التي ارتكبتها الدولة في حق الريف والريفيين أفرادا وجماعات منذ 1959، ومعالجة هذا الملف يتطلب مقاربة حقوقية تحتكم إلى المنهجية المعتمدة دوليا في معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، والتي ترتكز على التسلسل المذكور سلفا.  

من إعداد: عمر لمعلم

فاعل مدني مهتم بالريف 

الإشتراك في تعليقات نظام RSS التعليقات (2 منشور):
Azougagh في 22/02/2013 09:04:25
تحية للأستاذ عمر لمعلم على هذا المقال القيم الذي يسعى إلى التذكير بجرائم كل من المخزن وأعوانه من الخونة المرتزقة، وفي مقدمتهم حزب العار الأوليغارشي، حزب الإستقلال، بين آلاف الأقواس على، مجهود لا يسعنا إلا ان نشيد به ونثمنه، لما يحتويه من معلومات ومعطيات مهمة حول مرحلة طبعة ذاكرة كل الريفيين بكثير من الحقد والغضب، فشكرا لك أستاذ عمر ومزيدا من البحث النظالي خدمتا لريفنا الأبي ayouz i chak tawmat.
مقبول مرفوض
2
ACHA7CHA7 في 23/12/2012 13:57:38
أشكرك على هذا المجهود.لكن لإكسابه صفة العلمية ينبغي تثبيت المراجع المعتمدة عند ذكر كلام أي شخص آخر,أو الإشارة إلى أي وثيقة.حتى التصريح الشفوي لاقيمة له إن لم يوثق.وإلا سيفتح الباب لأي كان ليقول الأشخاص مايريد أو يتحدث عن وثائق لاتوجد إلا في مخيلته.
مقبول مرفوض
-5
إضافة تعليق
لن يتم نشر أي تعليق مكرر أو يتضمن قذفا و مسا بالحياة الشخصية للأشخاص، أو نقاشا خارج الأفكار الواردة في النص.