سـوريا وفرنسـا: التعليم الأساسي واقعاً وتطبيقاً- دراسة مقارنة

تقييم المستخدم:  / 2
سيئجيد 

بتاريخ 07-04-2002 صدر في سوريا القانون رقم 32 والذي تضمن ما سمي بـ "قانون التعليم الأساسي". بموجب هذا القانون فإن حق التعليم الإلزامي للطفل قد مدد حتى نهاية المرحلة الإعدادية، مما يعني أن التعليم أصبح مفروضاً على الطفل حتى نهاية المرحلة الإعدادية، فعلى الوالدين احترام هذا الالتزام من جهة وعلى الدولة تأمين مستلزمات التعليم مجاناً، والسهر على تطبيق هذا القانون من جهة أخرى..

للوهلة الأولى شعرت بالسرور -وقد كنت موفدة إلى الخارج لمتابعة تحصيلي العلمي في القانون. فمسيرة تطوير التشريع في سورية أخذت خطوة أخرى نحو الأمام: ها نحن نلزم الأطفال في سورية بالتعليم حتى نهاية المرحلة الإعدادية، ونطبق ما كنت قد قرأته عن التعليم الأساسي وفقاً للقوانين السارية في أكثر الدول تقدماً، فنهيئ للغد أجيالاً محصنة بحد أساسي من العلم والمعرفة.
ولدى عودتي إلى أرض الوطن عمدت إلى دراسة ظروف وشروط تطبيق هذا القانون، ومقارنتها مع مثيلاتها في الدول الأخرى ولا سيما فرنسا -البلد الذي درست قانونه- نظراً لتشابه قانون التعليم الأساسي في كلا البلدين (وهنا لا بد من الإشارة إلى العلاقة التاريخية بين التشريع الفرنسي والتشريع السوري). في ضوء هذه الدراسة أصبت بالخيبة..
للأسف، نحن لم نخلق قانوناً يتناسب مع واقع التعليم في سورية، بل ننسخ القانون الذي يطبق على التعليم الأساسي في الدول الأخرى، -ولا سيما القانون الفرنسي- وذلك دون دراسة كافية لظروف التحصيل العلمي في سورية، دون ضمان لتنفيذ أكيد للقانون، ودون تفهم لمواد القانون الفرنسي المماثل. وهنا لا بد من بعض الشرح والاستدلال المقارن:
إن أهم ما يستند إليه نقدنا للقانون رقم 32 لعام 2002، هو إهماله لتحديد دقيق لسن التعليم الإلزامي في سورية رغم أهمية هذا التحديد و خطورة عواقبه، وهذا ما أكد عليه القانون الفرنسي.
ففي فرنسا ومنذ صدور قوانين فيري لعام ) 1880les lois Ferry) أصبح التعليم إلزاميا، مجانياً وعلمانياً حيث تم تحديد سن هذه الإلزامية بموجب القانون المؤرخ بـ 28 آذار 1882 من سن 6 وحتى 13 سنة، ومن ثم مدد هذا السن حتى سن 16 سنة بموجب المرسوم التشريعي رقم 6 كانون الثاني 1959. هذا وإن القانون لم يشترط النجاح والحصول على شهادة في نهاية الدراسة وعليه فإن الدراسة في فرنسا إلزامية حتى سن 16 سنة حتى لو حصل الطالب على شهادة (البريفيه) قبل هذا السن أو حتى إذا وصل هذا السن ولم يحصل عليها.
أما في سورية فإن حق التعليم كان قد سمي "بالتعليم الإلزامي" وبمقتضى هذا الحق كان الأطفال السوريون ملزمين بالذهاب إلى المدرسة حتى نهاية المرحلة الابتدائية فقط وهذا ما ذكره الدستور في مادته 37، كما أكد عليه قانون التعليم الإلزامي رقم /35/ تاريخ 16/8/1986. وعليه فقد كانت وزارة التربية ملزمة باستمرار تعليم الأطفال الملتحقين لديها ممن هم في سن التعليم الإلزامي حتى إنهائهم المرحلة الابتدائية ولو تجاوزوا سن الثانية عشرة.
لكن وبموجب القانون رقم 32 تاريخ 7/4/2002، إن مرحلتي التعليم الابتدائي والإعدادي أصبحتا تشكلان مرحلة واحدة وتسمى مرحلة التعليم الأساسي وهي مجانية وإلزامية ومدة الدراسة في هذه المرحلة تسع سنوات وتنتهي بامتحان عام يمنح الناجحون فيه شهادة التعليم الأساسي وعلى هذا فإن التعليم في سوريا قد أصبح إلزامياً حتى نهاية المرحلة الإعدادية. وليس كما هو الحال في فرنسا حتى سن الـ 16 سنة.
في الحقيقة إن الحصول على شهادة التعليم الأساسي في كلا البلدين يتم بشكل نظامي ودون الرسوب في سن الـ 15 سنة ولكن الطالب قد يرسب لأكثر من سنة لذلك ارتأى المشرع الفرنسي تحديد إلزامية التعليم بالنسبة إلى سن معينة وليس بالنسبة إلى إنهاء مرحلة معينة. فالمشرع السوري لم يحدد صراحة سن إلزامية التعليم، كل ما نص عليه هو أن الدراسة في مرحلة التعليم الأساسي تنتهي بامتحان عام حسب المادة /3/ من القانون /32/ لعام 2002 ولم يشترط صراحة النجاح أو الحصول على الشهادة. صحيح أن المادة /44/ من النظام الداخلي تنص على حق الطالب في الرسوب /3/ مرات خلال مرحلة التعليم الأساسي وأن المادة /46/ من نفس النظام تنص على فصل الطالب في حال رسوبه أكثر من ثلاث مرات في كامل المرحلة أو في حال تجاوزه سن الثامنة عشرة من عمره. لكن النص -بهذا الشكل- ليس بتحديد دقيق لسن إلزامية التعليم كما يفترض بقانون يخلق قاعدة آمرة أن يفعل. لذلك يثار التساؤل فيما إذا كانت إلزامية التعليم تتوقف على تجاوز الطالب سن الثامنة عشرة من العمر(سن خدمة العلم)؟ أو أن مجرد إنهاءه للمرحلة الإعدادية ودون الحصول على شهادة قبل هذا السن يكفي لإنهاء هذا الإلزام وبالتالي توقف الملاحقة القانونية بحقه؟
إذا كان سن الثامنة عشرة هي السن المعتمدة لإلزامية التعليم في سورية، هنا يجدر بنا التوقف قليلاً:
هذا يعني أن مدارس التعليم الأساسي -الحلقة الثانية- ستجمع الطلاب من صف الخامس الابتدائي وحتى التاسع الإعدادي، أي أن يختلط طلاب في عمر 11 أو 10 سنوات بآخرين ممن تجاوزوا الخامسة عشرة، لا بل والسادسة عشرة وحتى الثامنة عشرة، ولا يخفى على احد أن هذه الشرائح المتأخرة عن العمر الطبيعي تضم طلاباَ لديهم مشاكل في التحصيل العلمي، لا بل قد تكون هذه المشاكل اجتماعية أو حتى تربوية وهنا تكمن الخطورة . السؤال الذي يطرح نفسه: هل يستطيع التربويون الجزم على أن مثل هذا الاختلاط لطلاب من فئات عمر مختلفة، وذوي اهتمامات مختلفة لا يحمل أية خطورة اجتماعية؟!
إن اعتماد سن الثامنة عشرة يفرض تخصيص مدارس للطلاب ذوي المشاكل في التحصيل العلمي، بحيث تكون هذه المدارس مؤهلة لمنحهم تحصيلاً علمياً يتناسب مع الصعوبات القائمة لديهم والتي تمنع نجاحهم أو من أجل توجيههم وتعليمهم تعليماً فنياً أو حرفياً يتناسب مع ميولهم وقدراتهم. وبذلك لا يصبح موضوع الإلزام بالتعليم سبباً لهدر سنوات من عمر الطالب لا سيما وأن إلزام التعليم حتى سن 18 يفرض بنا أيضاً التوقف على الظروف الاجتماعية للطلبة. إن اعتماد هذا السن يعني أن الطالب السوري- أو بشكل أكثر دقة من فشل من الطلاب السوريين في التحصيل العلمي- ألزم بالالتحاق بالمدارس حتى سن 18 سنة ليبدأ بعدها خدمة العلم الإلزامية متجاوزا سن العشرين دون أن يكون في يده أي سلاح يواجه به الحياة. ومن المؤكد أن هذه ليست غاية إلزام التعليم الأساسي في سورية، مع أنها قد تكون نتيجة له..
إن موضوع السن يشكل ثغرة كبيرة في هذا القانون، ومن الغريب بأن المشرع السوري قد اتجه من الوضوح في القانون 35 لعام 1986 إلى اللا وضوح في القانون 32 لعام 2002!!! وهذا اللا وضوح يؤدي إلى ارتفاع نسبة التهرب من تطبيق القانون، فبدلاً من ضمان أجيال تدرس حتى نهاية المرحلة الابتدائية بموجب القانون القديم، نجد أنفسنا أمام قانون قد يمدد سن الدراسة لكنه لا يدعم تنفيذ نصه.. وهنا لا بد من العتب على السلطات المخولة حق الملاحقة القانونية لأولياء أمور الأطفال المتخلفين عن التعليم الأساسي، والتساؤل إلى أي مدى تبقى هذه السلطات كفئاً لمتابعة حالات التخلف المختلفة.. فطرق الاحتيال على هذا القانون تعددت، إذ يكفي أن يكون قيد نفوس عائلة الطفل المتخلف في محافظة مختلفة عن مكان الإقامة، أو أن يسحب ولي الأمر إضبارة الطفل من المدرسة مدعياَ أنه يريد نقله إلى أخرى، حتى تضيع الملاحقة القانونية بحقه.
إذاً.. في حقيقة الأمر، إن ضمان تطبيق هذا القانون يتوقف على رغبة الأهل وسعيهم لمنح أولادهم التحصيل العلمي، وليس على الجهود المبذولة من السلطات المخولة ضمان جدية تنفيذ هذا الإلزام بالتعليم الأساسي.
أما في فرنسا فإن النهج المتبع لضمان تنفيذ هذا الإلزام ولا سيما تعدد السلطات المعنية بهذا الأمر ابتداء من المدرسين ومدراء المدارس، الذين يقومون بالإبلاغ عن تغيب الطلاب وانتهاء بالقضاء، يدعم جدية تطبيق قانون التعليم الأساسي.
طالما أن الهدف من هذه الدراسة هو الوقوف على واقع وحقيقة التعليم الأساسي في سورية من خلال نقد بناء يهدف إلى تفادي النقص في النص القانوني وتطابق النص القانوني الآمر مع الواقع المطبق في المدارس دعماً للبنية التعليمية؛ لا بد من التوقف عند ظاهرة على قدر واسع من الانتشار في سورية، وبحث دورها في تسيير المرفق العام للتعليم، وهي ظاهرة المدارس الخاصة، خاصة وأن هذه المدارس الخاصة أصبحت في سورية آخر موضة لتحصيل الطفل العلمي لدى العائلات الثرية. ومع الارتفاع الباهظ لأقساط هذه المدارس مؤخراً، يطرح سؤال مهم نفسه: هل لهذه المدارس الخاصة دور خاص بها لا تستطيع المدارس العامة تأديته مما يبرر بالتالي قيمة الأقساط التي تتقاضاها؟
هنا أعود وأستشهد بالمدارس الفرنسية حيث كانت المدارس الخاصة الحل الذي أوجده القانون الفرنسي للخروج من الأزمة الناتجة عن إعطاء حق بتدريس الدين في بلد علماني: ففرنسا بلد علماني لا يتبنى مادة التعليم الديني في مناهجه التعليمية، وبالتالي فإن المدارس العامة في فرنسا علمانية تثقف أطفالها دون الولوج في تفاصيل الأديان. فتصبح المدارس الخاصة وسيلة لإدخال التعليم الديني ضمن مناهج الدراسة، وقد تكون حلاً للأهالي الذين يرفضون منح أولادهم تعليماً علمانياً صرفاً ويريدون تثقيفهم ثقافة دينية. حيث تستطيع هذه المدارس تدريس مواد دينية ضمن برامجها التعليمية وتحصل على مساعدة مالية من قبل الدولة شريطة أن تلتزم باستقبال جميع الطلبة الراغبين بالانتساب إليها وباحترام المنهج العام للتدريس المقرر من قبل الدولة في المدارس الحكومية.. وفقاً لقانون دوبريه Debré لعام 1959
أما في سورية فإن مادة الدين هي من مقررات مناهج الدراسة في المدارس العامة والخاصة على السواء لذلك فإن المدارس الخاصة قد تكون وسيلة لتعزيز تعليم اللغات الأجنبية حيث أن هذه المدارس تركز على تعليم اللغات وعلى تدريس المناهج العامة المقررة من قبل الدولة باللغات العربية والأجنبية.
هذا وإن اللغات الأجنبية المعتمدة للتدريس في المدارس السورية العامة هي الإنكليزية والفرنسية. لا بد من التركيز على أنه حتى في المدارس الحكومية في سورية، يتم في الوقت الحاضر تدريس أول مادة أجنبية -الانكليزية- من الصف الأول الابتدائي، في حين أن تدريس أول مادة لغة أجنبية في فرنسا يتأخر حتى الصف الرابع. إن هذه البداية المبكرة لتعليم اللغات في سورية خطوة ايجابية تحمل كل الأمل في خلق أجيال تتحدث -مع اختلاف مستوياتها المادية- اللغات الأجنبية.
إذاً قد تستطيع المدارس العامة أن تؤدي الدور التعليمي الذي تقوم به المدارس الخاصة ولا نستطيع أن نجزم بتميز المدارس الخاصة في نوعية التحصيل العلمي مع تميز أقساطها!!! في جميع الأحوال يبقى لكل عائلة أن تقيم موضوعياً تجربتها مع المدارس الخاصة، وأهمية هذه المدارس بالنسبة للتحصيل العلمي لأبنائها..
وكما في سورية فإن المناهج الدراسية الفرنسية تقدم لغتين أجنبيتين لطلابها خلال مرحلة التعليم الأساسي الممتدة حتى نهاية المرحلة الإعدادية، مع خلاف أن الطالب الفرنسي يستطيع اختيار هاتين اللغتين من بين أربع وأربعين لغة أجنبية معتمدة للتدريس في المدارس الفرنسية.
وبما أن هذه الدراسة هي دراسة مقارنة، فلا بد من الإشادة بالمكانة المميزة التي يحتلها حق التعليم الأساسي في سورية نسبة إلى نظيره الفرنسي، حيث أن حق التعليم في سورية قد سما إلى مرتبة الحق الدستوري: لقد نصت على ذلك المادة /37/ من الدستور السوري الدائم لعام 1973 في حين أن الدستور الفرنسي الأخير لعام 1958 قد خلا من نص مشابه لذلك فإن التعليم في فرنسا يقتصر على مرتبة الحق القانوني والذي يفرض بموجب نصوص القانون المدني.
إن هذه الدراسة المقارنة إنما تهدف إلى إجراء تفاعل متبادل بين النظامين السوري والفرنسي حيث نستطيع أن نقترح في نهايتها على النظام الفرنسي إدخال دراسة أول لغة أجنبية في مرحلة سابقة كما هو عليه الحال في سورية.. أما فيما يتعلق بالنظام السوري فالاقتراحات كثيرة:
أولاً وقبل كل شيء يجب أن تحدد سن التعليم الإلزامي ولكن بعد دراسة وافية جدية لظروف التحصيل العلمي الاجتماعية والاقتصادية والتربوية في سوريا، وإجراء رقابة على عمل ونشاط المدارس والعمل على رفع مستوى المدارس المهنية، وإحداث مدارس مهنية حلقة ثانية...
أعتقد أن كل هذه الأمور كان من الأولى أن تكون مدروسة قبل رفع سن إلزامية التعليم حتى نهاية المرحلة الإعدادية وهذا ما يسمى بـ"أضعف الإيمان".

د. عبير سيف عسكر دكتوراه في الحقوق جامعة مونبلييه I، عضو في مركز الدراسات والأبحاث الإدارية (CREAM) في جامعة مونبلييه I،
عن الجانب الفرنسي: د. إيريك دوبيان دكتوراه في التاريخ جامعة مونبيليه III
- (سـوريا وفرنسـا: التعليم الأساسي واقعاً وتطبيقاً- دراسة مقارنة)

تنشر بالتعاون مع كلنا شركاء (10/10/2007)

أضف تعليق


كود امني
تحديث

معلومات إضافية