عام 1965، توفي النائب الجبيليّ أنطوان سعيد. ستة أطفال تُركوا بين يدي والدتهم نهاد جرمانوس: جردية من العاقورة، فائقة الجمال، أشبه بفاتنات السينما الهوليودية. قررت حمل «الأمانة» التي أورثها إياها زوجها الطبيب، والمتمثلة في أولادهما الستة، وفي الزعامة. هكذا، قامت «الست»، كما كان يشير اليها أهل الجرد باحترام ومحبة، بمهمتيها على أكمل وجه؛ علّمت فارس وكريم وماري كلود ومايا وندى وأدلين أنّ الأرض المنخفضة تشرب ماءها وماء غيرها. حفظوا درس «التواضع» جيّداً، محاولين تطبيقه في حياتهم.
بين الواجب الإنساني في إدارة مستشفى، وإيجاد وسيلة لتسديد الديون وخوض المواجهات السياسية وما تكلفه، كانت الست نهاد تجالس زعماء العشائر، فكانوا يصغون إليها كزعيمة. يجلسون بكوفياتهم الجردية وشراويلهم السوداء في باحة منزلها الكبير، خلال الإعداد للانتخابات أو لحل نزاع ما، لا يخفف من خشونتهم إلا الاحترام العميق لهذه السيدة التي تتكلم لغتهم. لم تنسَ نهاد الأمّ أن تزرع في أبنائها الابتعاد عن الطائفية. هي ابنة المجتمع الجردي المختلط، التي يقدّرها أهله على اختلاف طوائفهم. هي التي أجبرت مجتمعها العشائري على السير على وقع خطواتها. سبقت الجميع إلى حيث لا يجرؤون بتبنّيها خطاباً وطنياً، فارضة احترامها بين أطياف المجتمع كافة. شاهد الأبناء كفاح الوالدة، فاتخذوها مثالاً: منهم من انتمى إلى منظمة العمل الشيوعي، ومنهم من شجّع القوات. ثلاثة من أبنائها تزوجوا من ديانة أخرى. ولكن منهم أيضاً من قرّر بعد أربعين عاماً أن يُخالف تعاليم والدته ويحاول ركوب الطائفية في مجتمع لا يحتمل الخطاب الطائفي الصريح، وإن كانت الحرب الاهلية ومقدماتها مهدت له كما في كل لبنان. خلافاً لسياسيين وأرامل زعماء، ووزراء ونواب ورؤساء جمهورية، لم ترفع شعارات زائفة عن محاربة «المحتلّ»، لتعود وتصافحه تحت جنح الظلام.
من النادر أن يحظى سياسي لبناني باحترام شريحة كبيرة من مجتمعه. نهاد جرمانوس سعيد كانت من تلك النوادر. «امرأة طرازها نادر، إن كان في تربيتها لعائلتها أو في العمل السياسي». هي السيّدة التي «خربت الدني بسبب توجهاتها». ومع أنها «وريثة زعامة سياسية، وبذلك لا تخرج عن «تقاليد» العمل السياسي البدائي اللبناني، إلا أنها على العكس من بعض الوريثات السياسيات الحاليات، عرفت كيف تلعب دورها كابنة جرد عشائري، وكسيدة مجتمع مديني في الوقت نفسه. لم تنسَ العاقورة وأهلها يوماً، رغم سنيّ دراستها في بيروت، فمزجت بين العلمانية التي اكتسبتها في العاصمة، والطباع العاقورية الصلبة الصريحة. على مدخل بيتها في منطقة المتحف في بيروت، لافت أنها كتبت اسمها على جرس الانترفون بخط عربي أنيق، في حين ان «الوجاهات» السخيفة لمحدثي النعمة سياسياً تحرص على الرطن بالأجنبية. الأخصام قبل الحلفاء، يبدأون الحديث عنها بالتأكيد على «محبّتها واحترامها… الستّ نهاد كانت جامعة». ظهر ذلك أمس في المحطات الكثيرة التي مرّ بها موكب الراحلة: نهر إبراهيم، فتري، علمات، إهمج، اللقلوق، العاقورة، المجدل، المغيري، مزرعة السياد، قبل أن يُسجّى الجثمان في كاتدرائية مار الياس في قرطبا، على أن تُقام الصلاة عن راحة نفسها بعد ظهر اليوم.
الانتخابات الفرعية في قضاء جبيل عام 1965، كانت مفصلاً أساسياً في تاريخ لبنان الحديث وبداية «تاريخ امرأة مناضلة». ترشّحت جرمانوس لتخلف زوجها النائب الراحل أنطوان سعيد، متحالفة مع الرئيس السابق فؤاد شهاب وفريق «النهج»، مع ما فيه من قوة للشعبة الثانية (استخبارات الجيش). أما خصمها النائب الراحل ريمون إده، فقد حظي بدعم ما سُمّي لاحقاً «الحلف الثلاثي». كانت سعيد من أوائل السيدات اللواتي عملن «في السياسة». ويمكن الجزم بأنها السياسية الاولى التي خاضت معركة انتخابية، وتحدّت البطريركية المارونية. ففي تلك السنة، كان البطريرك بولس المعوشي يعمل على صيغة توافقية تأتي بإده نائباً. حاول إقناعها بالتنحّي من أجل «مصلحة الطائفة»، فأتاه الردّ بلكنة وأسلوب عاقوريين: «جبت 6 ولاد للطايفة، فيك تخبرني إيش جبلها ريمون إده؟». غادرت بكركي من دون أن تتنازل عن «حقها» في خوض الانتخابات، ولكنها خسرت بفارق ضئيل من الأصوات بعد أن ظلمتها رغبات رئيس الجمهورية في حينه شارل حلو في ليّ ذراع المكتب الثاني. كانت سعيد تؤمن بأن «مارونية شهاب» هي الأساس، في حين أنّ «مارونية الحلف الثلاثي كانت مزوّرة»، وهي دفعت ثمن هذا الخيار في شارعها الذي أسقطها في دورتي 1968 و1972 الانتخابيتين، قبل أن تكسر المقاطعة المسيحية عام 1996 وتصبح ممثلة بلاد جبيل في البرلمان. قد يكون قرارها خوض الانتخابات وفق نظام غازي كنعان وفي ظلّ الوصاية السورية «هفوة» تُسجل ضدّها، ولو أن الوقت ليس للمحاسبة.
الصور القديمة المعلّقة على حائط منزل قرطبا كثيرة، يظهر في العديد منها صديق الراحلة كمال جنبلاط. جمعهما صديقهما المشترك اللواء جميل لحود، والد الرئيس السابق إميل لحود. في عام 2000، كان لحود يُصرّ على إعادة ترشيحها إلى النيابة. ولكن ضغوط النائب السابق منصور البون وأجهزة الدولة لاختيار نجلها فارس، على اعتبار أن المرحلة بحاجة إلى التغيير، دفعتها إلى «توريث» المقعد النيابي واعتزال العمل السياسي. لم يسمع «الدكتور» نصيحة والدته عام 2005 حين أخبرته أنّ العماد ميشال عون «سيفوز لأن المسيحيين بحاجة إلى زعيم». عتبها على عون أنه «لم يُحسن من نوعية اختيار نوابه». لم يسمع لها سعيد أيضاً حين نصحته بأن يبتعد عن العمل السياسي. قلب الأم لم يكن يتسع لكل هذا الخوف.
منذ سنتين تقريباً، قالت سعيد إنها حاربت ريمون إده 40 سنة ووجدته أخيراً في منزلها. كانت تقصد ابنها الذي تحالف بعد «ثورة الأرز» مع حفيد آل إده، كارلوس. المرأة التي رفضت أن تُسلّم بنهاية صراع «النهج» و«الحلف»، أحزنت الكثيرين برحيلها. من سخرية القدر أن يأخذ كارلوس إده، يوم الاثنين، «بخاطر» سعيد بعد 51 عاماً على معركة الـ1965 التي سالت دماء قبلها وبعدها. حارسة «النهج» رحلت أمس، ليُختتم بذلك آخر فصل من ذلك التاريخ.
