قلم حمرة .. مسلسل قائم على الحوار
هي أربعة مسلسلات إنتاج الكاتبة السورية يم مشهدي، وشاء الهوى، يوم ممطر آخر، تخت شرقي، وختامها كان قلم حمرا، المسلسل الذي كان حديث الشارع في رمضان المنصرم، رغم عرضه على قناة مغمورة وحيدة “السومرية”، ولكن اتجه السوريون إلى “اليوتيوب” لمتابعته.
رغم تعدد المسلسلات التي طرحت الوضع السوري خلال السنتين المنصرمتين، إلا أن مسلسل قلم حمرا كان مختلفاً في طرحه، فبدايةً تم طرح ما جرى في سوريا على أنه ثورة، ثورة كاملة تم التسلّق عليها، وعرضها من وجهة نظر معارضة، ليس كإبرة بنج مكتوبة على يديّ مؤيد للنظام يحاول ادعاء الحيادية في الطرح.
بدأت يم مشهدي طرحها من خلال عرض فترة ما قبل الثورات، أو الربيع العربي، حيث يسيطر اليأس على كافة الشخصيات والإحباط وإحساس اللا انتماء، وعرض جيلين يتقاسمون نفس الهموم بعدم الأمل في الغد داخل البلد، ضمن بلد يقوم على المحسوبيات والواسطات، وعدم تغيّر شيء خلال الفترة الفاصلة بين الجيلين، كتمهيد لأسباب اندلاع الثورة السورية، وشخصية الشاب التونسي، الذي يدرس في سوريا، لكنه يعاني اليأس نفسه مما يجعل هذا الأمر غير مقتصر على سوريا، وإنما على البلاد العربية. لتأتي الثورة التونسية، لتحمل لهم أملاً ممزوجاً بالخوف من تبعيات الثورة في بلاد يحكمها الاستبداد، وانكباب الجيل الشاب لمتابعتها خطوةً خطوة، بكل شغف وحب، رغم عدم اهتمامهم بالسياسة، لكنها لم تكن سياسة، بل كان شعباً يستيقظ من سبات. لكن ما وقعت فيه يم مشهدي، هو عدم طرح شرائح منوعة من الشعب، فاقتصرت الشخصيات على الطبقة المثقفة، بين كتّاب سيناريو، وأساتذة جامعيين، وطلاب فنون جميلة ومعاهد تمثيل ونقد مسرحي. فلا نجد الفئات الأخرى ضمن المسلسل كاملاً. وكان ذلك أيضاً ضمن طرحها لموضوع المعتقل، حيث نجد أن “صبا” شريكة المعتقل في الفرع الأول صيدلانية، بينما “نورا” شريكة المنفردة في الفرع الآخر فمهندسة، فهنا يتبادر للمشاهد سؤال، أين الشعب؟ أين الفئة غير المتعلمة أو ذويي الإمكانيات المادية والفكرية والثقافية المحدودة؟ كان من الممكن طرحها وطرح سبب عدم تمكنهم من تحصيل مستوى ثقافي بسبب انشغالهم بتأمين لقمة العيش.
الجديد في “قلم حمرا” هو طرح القضية الكردية من خلال شخصية “فراس”، الذي تم اعتقاله ضمن احتفالية النيروز، فتطرح قضيه عدم إمكانية الكورد من ممارسة طقس احتفالي بأمان وسلام دون مضايقات أمنية، واعتقالات ضمن صفوف المحتفلين، ومن ثم طرح عدم تمكنه من الزواج بحبيبته “ماجدة” لكونه كردي مكتوم. وهنا يقع الخطأ الثاني ليم مشهدي، ففراس بحسب المسلسل “مكتوم” فكيف تمكّن من دخول المدرسة ومن ثم التقدم لامتحاني التاسع والبكالوريا والتسجيل في المعهد؟ وهنا يتبيّن مدى جهلنا كـ”عرب” لحقيقة المعاناة الكردية، فهنالك فارق ما بين المكتوم والكوردي الأجنبي الذي بلا هوية، لكنه يستطيع التسجيل في الجامعات والزواج كأجنبي، على عكس المكتوم الذي لا وجود له إطلاقاً ضمن السجلات ولا يملك أي أوراق ثبوتية، مما يمنعه من الدراسة، في حين أن الزواج يكون زواجاً عند الشيخ فقط. وهنا يتبادر سؤال، هل حقاً نحن لا نهتم بمعرفة حقيقة القضية الكردية؟ أم أن الكرد لم يعرفوا كيف يسوّقون لقضيتهم من خلال تقوقعهم على نفسهم بشكل عام؟ أم السببين معاً؟
يتسم “قلم حمرا” على أنه مسلسل قائم على الحوار، يصلح لأن يكون مسلسلاً إذاعياً، فالمشاهد البصرية فيه محدودة، تكاد تقتصر على بعض المشاهد في المعتقل، مثل تفاجئ “ورد” بدورتها الشهرية، وموت “صبا”، وضرب “تيم” بعد اختطافه من “داعش”، عدا ذلك يمكنك أن تحضر المسلسل كاملاً دون أن تضطر للجلوس أمام الشاشة. لكن ذلك لا يعني أن الأمر سيء، فالحوارات قوية، وتطرح أفكاراً عدة، من قلب الشارع السوري.
تتباين القضايا المطروحة ضمن المسلسل، فكل شخصية تمثل قضية ما، فنجد طرح لقضية المرأة المطلقة وصعوبة حياتها، وإحساسها بالوحدة، إضافة لضغط المجتمع عليها الذي تمثل عند عودة “ورد” لبيت أمها وحديث الأم عن كلام الناس والخروج ليلاً. طرح قضية المثليين الجنسيين بشخصيتي “نورس” و”أنس” الذيَن يعانيان من كبت لرغبتهما أمام المجتمع والخجل من حقيقتهما، ونزوع “أنس” إلى الزواج كمحاولة لعيش حياة طبيعية حسب المفهوم المجتمعي للطبيعي. لكن الطروحات الأقوى التي لامست نبض الشارع كانت بقضية الثورة والحوارات التي كانت تجري ضمن المعتقل. فتعددت الحوارات بين العلمانية والمدنية من جهة والدولة الإسلامية والخلاف بينهما، حيث كانت أغلب الحوارات
بين “ورد” و”صبا” تدور على “إفحام” الآخر لا إقناعه، أو محاولة التوصل لصيغة ترضي الجانبين، الأمر الذي يعكس تماماً ما يجري حقيقة بين أفراد الشعب السوري، فالمهم هو “تسجيل الأهداف” في مرمى الطرف الآخر. والتخوين، الذي تعاني منه ثقافتنا الحوارية، فعند أدنى موقف لا نفهمه أو نؤيده يأتي التخوين سبيلاً لنا كمبرر لفعل لا نفهمه أو لا يشبهنا، خاصة ضمن نقاشات السلمية مقابل السلاح، أو الحل السياسي مقابل السلام. وضمن طرحها للهلاوس التي يعاني منها بعض المعتقلين، عرضت جدلية التعصب مقابل إسقاط النظام، بحوار “ورد” مع “تيم”، فيأتي موقف “تيم” أن خوفنا من داعش لا يجوز الآن فالدمار والموت أعظم من الإسلاميين وداعش، ولا بأس بالتحالف مع الشيطان لإسقاط النظام، هذه المعادلة التي طُرحت طويلاً في الساحة السورية المعارضة، وما زالت إلى اليوم مطروحة لدى البعض، وإن كانت هذه الشريحة تناقصت قليلاً.
لم تكن مشاهد المعتقل فقط لعرض حوارات، إنما قضية المعتقل كذلك، من خلال الهلاوس التي عانتها “ورد” مطولاً في الفرع الأول، والخوف من النسيان، نسيانها من أصدقائها خارجاً، ونسيانها في المعتقل من قِبل سجانيها، وحالة الرعب الذي شعرت به عند سماعهم لصوت تفجير من الموت تحت
الأنقاض في حالة قصة الأفرع الأمنية لتحريرها، على عكس “صبا” التي غمرها الفرح أنهم “أتوا” لإنقاذهم وتحريرهم. وفي الفرع الثاني فـ “نورا” التي تمكث في المعتقل منذ أكثر من عام، ونسيانها وعدم استدعائها للتحقيق، منسية تماماً ضمن منفردتها تحصي الأيام فقط، عند طريق رزنامة حفرها معتقل قديم من أيام التسعينات، في لمحة من يم أن قضية الاعتقال ليست وليدة الثورة السورية بل هي قديمة جدا من بداية عصر الأسد الأب، كسبب إضافي لاندلاع الثورة السورية.
لا يمكننا القول أنّ هنالك طرح أقوى أو أهم من آخر، فقضية الحقن والغضب من ممارسات المعارضة وسرقاتها للمعونات، وخروج الطبقة ذات المال عند احتدام الأوضاع، لتعيش في أمان وتمارس نشاطات معارضة على الشاشات، أو مواقع التواصل الاجتماعي، يمثل أيضا جزءاً كبيراً من حديث الداخل السوري، وملله منهم، حيث تقوم “أم ورد” بوضع التلفاز على “الميوت” عند ظهور “حازم” الذي خرج إلى لبنان، وبدأ يظهر على الشاشات كمعارض سوري، وعدم نزولهم إلى سوريا رغم وجود مناطق “محررة” للعيش فيها أو حتى النزول بين فترة وأخرى لإجراء مشاريع ونشاطات على أرض الواقع في خلاف بين “حازم” وزوجته “بسمة”، وفي المقابل هنالك أطباء وأساتذة جامعيين حاملي عقلية علمانية وثقافية عالية، نزلوا إلى المناطق المحررة للعمل فيها، ولم ينسلخوا عن الشارع السوري، لكنهم تعرضوا للاختطاف على أيدي مسلحي داعش.
أما عن رأي المشاهدين حول المسلسل، فكان الجميع يجاوبون إجابات متشابهة، كان التعليق الأكبر على المونولوجات التي تبتدئ وتنتهي بها كل حلقة، تلك المونولوجات التي لا بد أن كل أحد منّا قالها لذاته، ربما فكر بها ولم يجرؤ على التعبير عنها، أو عبّر بخجل ضمن صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي، أو اكتفى بطرد هذه الأفكار التي ترسخ إحساسه بالعزلة واللا انتماء واللا جدوى، ليكون عرضها على التلفزيون صفعة على خده، فكل من شاهد المسلسل، كان له تعليق “ورد بتشبهني”.
رغم الأخطاء القليلة الواردة في المسلسل، ورغم الأخطاء التقنية التي تتمثل بانخفاض الإضاءة في معظم المشاهد وهنا يقع الخطأ على المخرج “حاتم علي” فهذا النوع من الإضاءة تقارب الأعمال المسرحية لا التلفزيونية، والأخطاء الواردة في النص يتحملها كذلك المخرج لا الكاتب فقط، فالمخرج هو العين الأخرى للنص، لكن هذا لا يمنع أن مسلسل قلم حمرا من أقوى المسلسلات التي تنضم إلى أرشيف الكاتبة يم مشهدي، وإلى أرشيف الدراما السورية ككل، والدراما السورية التي طرحت الأزمة السورية بشكل خاص.
بقلم : لينا الحكيم