كانت منظمة الإيكواس(المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا) حازمة في مقاربتها لأزمة غامبيا الأخيرة؛ والتي انطلقت بعد رفض الرئيس المنتهية ولايته يحيى جامع التنازل عن السلطة بعد خساراته للاستحقاقات الانتخابية التي جرت 1 دجنبر 2016، لصالح آداما بارو مرشح تحالف المعارضة، وكانت هذه النتيجة إيذانا بنهاية عهد يحيى جامع، والذي عمّر في السلطة 22 سنة بعد نجاحه في الانقلاب على أول رئيس للجمهورية، ولقيت هذه النتائج ترحيبا عالميا وإقليميا، وفي مقدمتها منظمة الإيكواس والتي واكبت الاستحقاقات منذ إنطلاقتها، فاعترفت بنتيجتها وهنأت المرشح الفائز كما رحبت بالأجواء التي مرت فيها العملية وبالتزام جامع بالتنحي عن السلطة واحترام الإرادة الشعبية، ثم بعدها هددت باستخدام القوة المسلحة لإرغامه على التنازل عن السلطة.
بداية الأزمة السياسية:
تطلّع الشعب الغامبي لإنهاء حكم يحيى جامع المثير للجدل بتصريحاته وقراراته وسياساته، فشاركوا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة (دجنبر 2016) رغم الصعوبات التي واكبتها؛ كإغلاق السلطات لحدودها وقطع شبكة الانترنيت، كما منعت بعض وسائل الإعلام من تغطيتها، فيما كان أبرز معارضي النظام بالسجن، إلى ذلك، ظل هاجس تزويرها حاضرا، إذ استطاع جامع إكتساح كل الاستحقاقات السابقة – تنظم حسب الدستور كل خمس سنوات منذ 1996، ورغم ذلك، مرت العملية في ظروف عادية وأعلنت اللجنة المشرفة عن نتائجها المفاجئة؛ لقد توّجت الصناديق مرشح المعارضة رئيسا ثالثا لللبد، وانتهت أحلام يحيي بحكم البلاد لمليار سنة !، فرحبت الأوساط الدولية والإقليمية بهذه النتائج، دولا؛ كالولايات المتحدة والجارة السنغال وغيرها، ومنظمات؛ كالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي والإيكواس.
وفي السياق ذاته، أعلن يحيي جامع اعترافه بنتائج الانتخابات مؤكدا احترامه لإرادة الشعب الغامبي، وهنأ منافسه بفوزه المستحق، غير أنه عاد بعد أيام لينكث بوعوده بالتنازل عن السلطة، مبررا نكوصه، تارة بدعوته لإعادة الانتخابات، وتارة أخرى بإنتظارحسم المحكمة العليا في الطعون المقدمة لها من قبل حزبه، نتيجة شكوكه حول سلامة العملية الانتخابية وتخوفه من فتح ملفات الانتهاكات لحقوق الانسان خلال ولايته، فأعقبت تصريحاته تحركات ميدانية للجيش الغامبي لتطويق مناطق استراتيجية، لتنطلق أزمة التنازل عن السلطة بـغامبيا.
وهكذا، انطلقت أزمة تسليم السلطة للرئيس المُنتَخب بعد الإجراءات التي باشرها الرئيس المنتهية ولايته، برفضه التنازل عن الحكم وتراجعه عن الإعتراف بنتيجة الانتخابات، وأوامره للجيش بالسيطرة على مقرات حكومية حيوية في مقدمتها مقر اللجنة المشرفة على الانتخابات، مما اعتُبر خطوة لتمسكه بالسلطة.
وبعد هذه المناورات الأخيرة ليحيي جامع، عاد المجتمع الدولي لتأكيد مطلبه باحترام إرادة الشعب ودعوته بتسليم – الرئيس المنتهية ولايته – السلطة في موعدها الدستوري – المقرر 19 يناير 2017، فصدر بيان أممي يُلح عليه التنازل عن السلطة. وفي خطوة رمزية قرّر الاتحاد الافريقي توجيه الدعوة للرئيس المنتَخب لحضور أشغال القمة 28 للإتحاد، دلالة على نهاية عهد جامع، ومن جانبها، جددت الإيكواس دعمها للرئيس المنتحب بارو، كما تعهد زعماؤها بحضور حفل تنصيبه، وأعادوا تأكيدهم لمطلب تسليم يحي للسلطة دون تأخير، ولوّحت بالتدخل العسكري لإرغامه على تسليم السلطة في موعدها المقرر، ومن أجل ذلك، باشرت بإرسال وفد للوساطة والتفاوض برئاسة رئيسة ليبيريا للقيام بوساطة بين الفرقاء السياسيين الغامبيين، ولإقناع جامع بتسليم السلطة وإنهاء الأزمة السياسية بالبلد، غير ان جولتها انتهت بالفشل.
الأزمة الداخلية والتحرك الإقليمي:
سارع تحالف المعارضة للاحتفال بالانتصار الذي حققه مرشحها، ودعى لتسليم السلطة في موعدها، كما تمسك بارو بتنصيبه رئيسا للبلاد في موعده، وخرج بعض أنصاره للإحتفال بانتصاره بشوارع العاصمة، غير أن عسكرة العاصمة وتصريحات جامع برفضه المطلق تسليم السلطة، أزّمت الأوضاع بين الفرقاء وسط تنامي تخوفات من اضطرابات أمنية، فدفعت هذه الأزمة المئات لمغادرة البلاد باتجاه الجارة السنغال، فتحركت الألة الدبلوماسية الإقليمية لإقناع جامع بتسليم السلطة.
وعليه، أعلنت المنظمة مباشرتها للجهود السلمية منذ الخطاب المتلفز للرئيس المنتهية ولايته الذي أعلن فيه عن تمسّكه بالسلطة، فنددت الإيكواس بإخلاله بوعده بالتنحي، وجددت دعواته لذلك بدون شروط، ومن أجل إقناعه أرسلت وفدا للوساطة بقيادة رئيسة المنظمة -رئيسة جمهورية ليبيريا الين جونسون سيرليف، غير أن تعنته دفعها لإصدار قرار يدعوا لضمان انتقال سلمي وسلس للسلطة مع ضمان سلامة الرئيس المنتخب، أعقبتها جولة ثانية للوساطة من جانب الرئيس النيجيري محمد بخاري وفق نفس المطالب والمرجعية؛ ضمان انتقال سلمي للسلطة بالبلد، وتجنب دخولها في انقسام طائفي.
وأمام إصرار الرئيس جامع على تمسكه بالسلطة، لمّحت المنظمة الى إمكانية الانتقال لعمل عسكري بعد استيفاء فُرص المفاوضات السلمية لإجباره على التنحي، فانتقلت الأزمة من إطارها الداخلي للخارجي بعد إلحاح دولي على تسليمه للسلطة دون شروط مع ضمانه سلامة الرئيس المُنتخب، وتحميل نظام المنتهية ولايته كامل المسئولية عن تطور الأوضاع بالبلد.
كما كان قادة المجموعة صارمين في مطالبهم، وفي إرتباط بذلك، تطورت الأوضاع بالبلد، حيث سارع الرئيس المنتخب لمغادرة البلاد لتخوفه على سلامته الشخصية، وبعد وصوله للسنغال أدى في موعد تسليم السلطة 19 يناير اليمين الدستورية داخل سفارة بلاده بدكار. وبذلك، انتهت المهلة التي حددتها الايكواس للرئيس المنتهية ولايته، فانطلقت قوات عسكرية تابعة لها من السنغال لاستعادة الشرعية ساعات قليلة بعد أداء بارو لليمين الدستوري، وبعد إصدار مجلس الأمن قرارا بالإجماع نص على دعمه الكامل لجهود المنظمة في ضمانها الإلتزام باحترام ارادة الشعب الغامبي.
اقرأ: أيضا: ما هي التحديات التي تواجه حكومة غامبيا الجديدة
وهكذا، انتقلت المنظمة من التهديد إلى التدخل العسكري المباشر من أجل إجبار جامع على التنحي، فاختيرت السنغال لقيادة هذه القوات، وردّ يحيى جامع على التهديد بالإستهزاء مؤكدا انه باق في السلطة وأنه سيتصدى للعدوان ضد بلاده، فحُشدت القوات على الحدود السنغالية، وانطلقت العمليات بمشاركة قوات سنغالية وغانية وبدعم وإسناد جوي نيجيري، فقد جهزت خطة لانتشار قوة قدرت بـ7000 عسكري من أجل الضغط على نظام جامع وبهدف التسريع بتسليمه للسلطة، ثم أعلنت المجموعة (ايكواس) انطلاق عملية الصفر بدخول القوات بإتجاه العاصمة بانجول وسط تحليق للطائرات حول البلد بالتوازي مع حصار بحري، غير أنها عادت لتُعلن تعليق هذه العمليات لإتاحة فرصة للوساطة الموريتانية الغينية، والتي تكللت بالنجاح، ومساء السبت غادر جامع بلاده بشكل نهائي لمنفاه بغينيا الاستوائية مع ثلة من المقربين له.
عوامل نجاح “ايكواس” :
انتهت الأزمة السياسية الغامبية بعد أن وُفّقت الوساطة المشتركة الموريتانية- الغينية في إقناع جامع بالتنحي مع توفير ملاذ آمن له وضمان مغادرته البلاد للمنفى، وتابعت المجموعة بترحيب هذه الجهود، وكان دور المنظمة محوريا في الإسراع بتنازله عن السلطة، وارتبط ذلك بعوامل ساهمت في تحركاتها، ارتبطت بالسياق العام لنشأتها ونطاق عملها وتحركاتها؛ فقد أعلن عن ميلادها – سبعينيات القرن الماضي – كمحاولة لتجاوز المشاكل الإقتصادية البنيوية بالمنطقة وبهدف الوصول لتكامل اقتصادي بين دولها الخمسة عشر وتعزيز التنمية بالمنطقة، غير أن قاداتها أدركوا منذ البداية الحاجة لاستقرار المنطقة كضمانة لازدهارها.
وعليه، كانت بداية الوعي بأهمية أمن واستقرار المنطقة بالتوقيع على بروتكول عدم الاعتداء، ثم طُور في إطار ميثاق الدفاع المشترك، بتنصيصه على الأمن الجماعي للمنطقة، فاستدرك في 1999 عبر ألية لمنع وإدارة وحلّ النزاعات بالإقليم. ولتجاوز إشكالية عدم تسليم السلطة وظاهرة الانقلابات العسكرية، أقرت المنظمة بروتكول الديمقراطية والحكم الجيّد، يُخول للمنظمة خيارات قانونية للتصرف مع النظام القائم وتدابير اقتصادية وعسكرية تكفل احترام إرادة الشعوب.
ولعل المتتبع لأزمة غامبيا سيستغرب للسرعة والحرفية التي أدارت بها الإيكواس الأزمة، ويعود ذلك لتجربتها الرائدة للتدخل في الأزمات السياسية بالمنطقة، وللإشارة، فقد إنطلقت أولى عملياتها العسكرية بليبيريا بعد حرب أهلية بين المعارضة والنظام الحاكم، تدخلت للبحث عن تسوية سلمية، أعقبتها إرسال قوات حفظ سلام إقليمية برعاية نيجيرية لوضع حد للحرب ورعاية انتخابات, وانتهت مهامها بانسحاب قواتها. كما في غينيا بيساو، إذ شهدت البلاد أزمة بين الرئيس ووزير دفاعه ونزاعهما على السلطة، فطلب الرئيس تدخل المجموعة، وبعد المشاورات السياسية تدخلت قواتها للحسم بين أطراف النزاع ورعاية نزع أسلحة المتمردين وحظيت بتقدير كل الفرقاء، كما حظيت جمهورية ساحل العاج أيضا بتدخل المجموعة، وانتهى بعودة السلام والاستقرار للبلد.
وهكذا، شكلت هذه التجارب فرصة للمجموعة لإرساء دعائم لحفظ الاستقرار وبنائه وفق قواعد محلية، ولأهميتها المحورية، رحبت الأمم المتحدة بعملياتها وألياتها، كما شكّلت عملياتها العسكرية بليبيريا أولى العمليات المختلطة بين الأمم المتحدة ومنظمة إقليمية في العالم، كما التزمت المنظمة بمراعات الإجراءات القانونية في تدخلاتها واحترام لمواثيقها وبالتعاون مع الأمم المتحدة وبالتنسيق مع باقي الفرقاء خلال عملياتها.
إلى ذلك، وخلال مقاربتها للأزمة ببانجول، ساهم إصرارها في التسريع بتسليم الرئيس للسلطة دون شروط – رغم أن تنازل يحي جامع من السلطة تم وفق شروط؛ خروجه من البلاد وعدم متابعته ونقل ثرواته للخارج، كما تعهدت باتخاذ كافة الإجراءات من أجل ذلك – تسليم السلطة – بما فيها الخيار العسكري، كما ساهمت عوامل أخرى في نجاح مقاربتها للأزمة؛
أولا: التدخل الفوري والحاسم للمجموعة؛ حيث تابعت نتائج الانتخابات واعترفت بنتائجها وزكت إرادة الشعب الغامبي، كما ساهم رفض الداخل والخارج لاستمرارية نظام جامع في إنجاح هذه المقاربة، وعملت على استثمار عامل الضغط العسكري على نظام جامع.
وثانيا: المزاوجة بين التدخل العسكري والمقاربة السياسية للأزمة؛ حيث يظهر أن المجموعة اكتسبت تجربة من تدخلاتها السابقة، فقد أتاحت فرصة للفعل الدبلوماسي، وباشرت عملها الدبلوماسي في بداية الأزمة بإرسال بعثة المفاوضين للتشاور مع الفرقاء، وبعد إصرار يحيى بالتمسك بالسلطة، وعدم تقييده بالمهلة الممنوحة له للتنحي، أرسلت المجموعة عملية عسكرية لإجباره على ذلك، غير أنها عادت لتعلن تعليق العملية العسكرية ساعات بعد إعلان انطلاقها، لإتاحة الفرصة للمفاوضات بقيادة موريتانيا وغينيا، والتي تكللت بالنجاح.
ومن ناحية أخرى، لا يمكن فهم نجاح عملية تدخل الإيكواس دون استحضار تجربتها وفلسفتها لتعزيز الأمن الإقليمي؛ فلقد تحولت من التكامل الاقتصادي إلى التدخل في النزاعات المسلحة الداخلية بعد أزمة الأمم المتحدة في تسعينيات القرن الماضي، إذ ظهر عجز المنظمة الأممية على وضع حد للحروب الأهلية بالمنطقة، فكان لزاما على هذه المنظمة أن تساهم في محاولة لتعزيز لاستقرار بمنطقة غرب افريقيا، وحاولت مقاربة لأمن إقليمي لدولها عبر التصدي للتحديات الأمنية والتعاون من أجل ذات الهدف.
وعليه، ارتبطت إدارتها للأزمة ببانجول بفلسفة عامة عمادها استقرار الإقليم، وبالمخاوف الإقليمية – خصوصا الجارة السنغالية – من استغلال جامع لولاء الجيش له وطبيعته الإثنية لإقحام البلاد في حرب أهلية، كما ان تهديده بإذكاء النعرة الانفصالية بإقليم كازامانس السنغالي من العوامل التي حتمت على الأخيرة استثمار دبلوماسيتها من أجل إنهاء حكمه، يضاف إلى ذلك تخوف السنغال والمجموعة من ردود فعله الغير المتوقعة – كانسحابه المفاجئ من منظمة الكومنولث وإعلانه غامبيا جمهورية إسلامية، كما أن هناك معلومات تفيد بأنه يقوم بإعداد مليشيا تابعة له لإثارة النعرات الداخلية بالبلد وخارجه.
وأخيرا، دخلت قوات الجماعة للعاصمة بعد يومين من خروج يحيى جامع، فعملت على تأمين المنشآت الحكومية ومقر الرئاسة، بهدف تسهيل تسليم السلطة، وعاد الرئيس للعاصمة يوم 26 يناير وسط استقبال حافل من مناصريه وتحت حماية مشددة من قوات المجموعة، إذ تتخوف سلطات بانجول من انتقامات أو اغتيالات قد ينفذها أنصار الرئيس السابق، ولذلك قررت الجماعة الاحتفاظ بقواتها بالبلد من أجل تأمين، وحدد الرئيس بارو مدة البقاء في ثلاثة إلى ستة أشهر على أن تقوم الإيكواس بخفض تدريجي لقواتها.