نقد سينمائي

السينما الروحية : من باريس إلى فاس

أحمد بوغابة
يشهد العالم طفرة في التظاهرات السينمائية بحيث تشمل جميع الأجناس والمواضيع إلى حد يعتقد المُتتبع أن منظمي المهرجانات واللقاءات قد استنفذوا كل ما يمكن مقاربته سينمائيا إلا أن الإنسان لا حدود لفكره وإبداعه فهو قادر على الابتكار. وبما أن السينما من الفنون الجماهيرية وأكثرها قربا إلى وجدان الناس (إضافة إلى الموسيقى والغناء) فهي قادرة على تمرير رسائل فكرية وتربوية وسياسية. كما أنها أصبحت في العصر الحديث من أسهل وسائل الوصول بسرعة إلى مختلف بقاع العالم مقارنة مع ما كانت عليه قبل عقدين أو ثلاثة.
من المهرجانات الجديدة التي ظهرت حديثا في العاصمة الفرنسية باريس مهرجان السينما الروحية الذي نظم إلى حد الآن أربع دورات فيما ستُعقد الدورة الخامسة في مطلع الربيع المقبل.
وهذا المهرجان الذي يحمل إسم المهرجان الأوروبي للسينما الروحية إلا أنه غير أوروبي محض بل مهرجان دولي بمعنى يُعنى بجميع الأفلام المُنتجة في العالم تمس موضوعه الروحي سواء كانت روائية أو وثائقية، طويلة أو قصيرة، بما فيها الأفلام المُنجزة بالرسوم المتحركة.  فهو مفتوح في وجه كل من يرغب في المشاركة. ويتميز المهرجان ببث الأفلام التي يتوصل بها على موقعه في الإنترنيت لمشاهدتها دون أن يتمكن أحد من تحميلها بسبب رمز خاص يمنع من ذلك. ويمتد ذلك طيلة شهر (في هذه السنة ستمتد مدة المشاهدة من 15 فبراير إلى غاية يوم 15 مارس 2012.
والأفلام المبثوثة على الموقع تدخل ضمن إطار المسابقة لكون المهرجان خصص جائزة للجمهور يشارك فيها جميع الأشخاص، من جميع الأقطار، بدون استثناء وبالتالي فهذه الجائزة ليست متوقفة على الجمهور الفرنسي أو الأوروبي فقط بل يمكن لسكان العالم التصويت على الأفلام التي يفضلها.
ولجنة التحكيم الرسمية نفسها تشاهد الأفلام في نفس الفترة المُشار إليها قبل قليل على موقع المهرجان أيضا وتناقشها في ما بينها بالمراسلة ثم بلقاءمباشر بينها لتختار الفائزة منها والإعلان عنها في حفل رسمي جماهيري بباريس وبحضور اللجنة والفائزين (هذه السنة سيتم الحفل خلال يومي 31  مارس و1 أبريل  2012.
يحصل المهرجان على دعم مؤسسات ثقافية وفنية وإعلامية من فرنسا وخارجها من بينها المعهد الثقافي الفرنسي بمدينة فاس المغربية (وسط المغرب). ومدينة فاس من أعرق المدن المغربية حيث كان يُطلق عليها سابقا العاصمة العلمية للمغرب.
واكب المعهد الفرنسي بفاس هذه التظاهرة ماديا ومعنويا وأدبيا وفنيا منذ دورتها الثانية، يمكن القول منذ بدايتها، حيث خلق معها جسورا مثينة بتنظيمه لقاء سنوي بالمدينة المغربية طيلة يومين باكتفائه بعرض الأفلام الفائزة فقط وبالتالي فالجمهور المغربي محظوظا بمشاهدة الأفلام المُتوجة ليُناقشها مع رئيس المهرجان السينمائي "ماركو لوفو" في الدورتين السابقتين فيما حضر هذه السنة مديره الفني السينمائي المخرج باسكال كويسو.

 الأفلام الفائزة بباريس تنتقل إلى فاس
فخلال يومين، الجمعة 25 والسبت 26 نوفمبر 2011، تم بفاس عرض مجموعة من الأفلام الفائزة في الدورة الأخيرة من المهرجان الأوروبي للسينما الروحية وهي:

• فيلم "مي لينغ" من إخراج فرنسوا لوروي  وستيفاني لانساك الحاصل على جائزة أفضل فيلم بالرسوم المتحركة
• فيلم "طفلة الياك" (الياك هو البقر  البري في المنطقة الأسيوية) من إخراج كريسطوف بولا والحاصل على جائزة أفضل فيلم قصير
• فيلم "معبر زانسكار" من إخراج فريديريك ماركس الحاصل على جائزة أفضل فيلم وثائقي
• فيلم "المشي على الصوت" من إخراج جاك ديبس الحاصل على جائزة أفضل فيلم أوروبي
• فيلم "روح الصبي" من إخراج هاوا لإيسومان الحاصل على جائزة أفضل فيلم روائي وكذا جائزة الإخراج التقني (الفيلم من جنسية إفريقية)
• فيلم "مشكلة" من إخراج رالف شرينبيرغ الحاصل على تنويه خاص من "بلانيت"
• فيلم "لولبي" من إخراج تايشي كيمورا الحاصل على جائزة الجمهور

قد تبدو للمشاهد/القارئ بأن بعض الأفلام تحمل بشكل واضح البعد الروحاني خاصة إذا ارتبط ذلك بالديانات المُنتشرة في كوكبنا.  لكن نفس المُشاهد قد لا يرى ذلك في أفلام أخرى المُبرمجة في التظاهرة فيتساءل عن المفهوم في ذاته وأين يتمثل؟ وهذه الأسئلة والتساؤلات والإشكاليات الفكرية والمنهجية المطروحة خلال المشاهدة هي التي تغني النقاش في علاقته بالسينما كفن شامل بكل حيثياته البصرية والسمعية.
عادة ما يكون البحث عن "الموضوع" في الفيلم بعزله عن محتواه الفني ما يطرح "مشاكل" استيعابية فيكون الحكم على المنتوج من خارج مكوناته الفيلمية.
إن مهرجان السينما الروحية الأوروبية ليس تظاهرة دينية كما قد يعتق البعض، أو يسعى إليها، بل هو مهرجان فكري ببعد فلسفي في علاقة الإنسان بمحيطه البيئي والإجتماعي والطبيعي والثقافي وطبعا معتقداته كجزء من الإنسان وإرثه التاريخي والوجداني.
طغت في هذه الدورة الثالثة المنعقدة في فاس، التي حملت الأفلام الفائزة في الدورة الرابعة بالنسبة للمهرجان الأم بباريس، جل الأفلام الفائزة من أقصى آسيا آ(تية من الصين - التيبيت – اليابان) دون أن يكون مخرجيها من تلك الأقطار نفسها وإنما من أقطار أوروبية وغيرها. تناولت جل الأفلام علاقة الإنسان بذاته أو بالعنف الذي يسكن جسده أو في علاقته مع الطبيعة ومع الأرض خاصة. وكذا العلاقة العائلية والروابط الدموية وكيف يمكن أن تمر هذه العلاقات المتعددة مع المعتقدات الدينية والروحية المختلفة بدورها من مجتمع إلى آخر وتتقاطع معها.
وعليه، فالأفلام التي يعتمد عليها المهرجان الأوروبي للسينما الروحية ليست بالضرورة لها علاقة بالدين أساسا أو مباشرة وهو بذلك يُغْني المُشاهدة والاستمتاع البصري والسمعي والوجداني.

دعوة سينمائية لمناقشة الإنسانية
أفلام تسافر بنا الكون وتعبره من الشمال إلى الجنوب ثم شرقا وغربا في لقاءات إنسانية حيث نجد من يرتبط بالأرض إرتباطا وثيقا إلى حد الموت إذا فرض عليه مغادرتها. وهو نفس الشيء الذي قد يحصل مع الحيوانات. كما هو في الفيلم الجميل جدا "طفلة اليارك" التي كانت تعيش في وئاموانسجام مع محيطها الطبيعي حيث تلعب مع جزئيات الأرض ومائه وحيوانته خاصة البقر البري الذي اتخدت واحدا منها صديقا وترضع الحليب مباشرة من ثدي بقرةتماما كما تفعل الحيوانات. فرضت السلطة على هذه الطفلة الذهاب إلى المدرسة في المدينة البعيدة عن فضائها فعاشت الاغتراب بين أطفالها إذ تحولت إلى موضوع للتهكم. ولا تستوعب ما يقولون ويفعلون. يبرز لنا الفيلم أيضا المنهج الديكتاتوري في التربية والتعليم في "الصين الشعبية" فلم تصمد الطفلة لهذا النظام لتطلب من والدها العودة إلى فضائها الحر. إلا أنها ستفاجأ بكون السلطة المحلية فرضت على والديها مغادرة الأرض لإنجاز مشروع طريق جديد يعبر الأرض التي هي في الواقع ليست ملكهم لأنهم بدو رحل. إضطر الأب لبيع القطيع الذي يملكه من بينها "الياك" صديق الطفلة فلم تتحمل الصدمة التي تسببت لها في المرض فتوفيت بعد هذيان تتساءل فيه عن الظلم الذي حل بهم دون أن تنبس بكلمة واحدة مكتفية بتعابير جسدية وإيماءات. فيلم"طفلة الياك" قصير في مدته لكنه غني بجماليته ومضمونه وأداء ممثليه خاصة الطفلة التي كانت جوهر الفيلم.
وفي نفس السياق يعرض فيلم "مَعْبر زانسكار" واقع العائلات الفقيرة المُهملة في أعالي جبال "إمالايا" التي لا تجد ما تقتات به إذ تعيش على الكفاف فيتصل بها بعض الرهبان البوديين لاقتراح عليهم تسليمهم أطفالهم الصغار (بعضهم لا يتجاوز أربع سنوات) لكي يتكفلوا بتعليمهم وتربيتهم ومعيشتهم وتلقينهم البودية. يمرون طبعا عبر معابر وعرة وصعبة خلال مدة طويلة تعترضهم جميع أنواع المشاكل كامتحان أولي لمن سيصمد وهي عملية تصفية غير معلنة من طرف الرهبان.

فهذا الفيلم قد يبدو سينمائيا مُتقن في الإخراج الوثائقي لكنه يتضمن مشاهد درامية خطيرة بسبب نزع الأطفال الصغار جدا من أحضان أمهاتهم حيث استغل الرهبان فقر وضعف وتخلف الأسر وأميتهم ليقنعوهم بمستقبل أفضل لأبنائهم وبناتهم حتى يصبحوا هم أيضا رهبانا محترمين. لكن في الحقيقة هو استغال فض وبشع من لدن الرهبان للحفاظ على ثقافتهم بزرعها في أطفال فقراء إذ لم نشاهد ذلك في مشاهد لأبناء الأغنياء بالمدن. إن الفيلم يخرق قوانين الطبيعة وحقوق الإنسان بنزع الأطفال من ذويهم بسبب الفقر. تساءلت في النقاش مع بعض الحاضرين، خاصة الأجانب منهم، قائلا "ماذا لو مارس المسلمون هذا الفعل؟ ما ذا سيكون ردهم؟"  فلا شك سيصرخون عاليا معتبرين ذلك جريمة إلا أنهم صفقوا للرهبان بعملهم هذا الذي اعتبروه إنسانيا والتفكير في مستقبل الأطفال !؟.
فيلم "مشكلة" هو في الواقع ندوة عالمية جمعت مجموعة  من الأسماء المعروفة والمشهورة في العالم من جميع القارات (كتاب، فنانون ، رياضيون ، موسيقيون، سينمائيون إلى آخره، إذ أجاب الحضور على مائة أسئلة طرحها سكان الأرض تناولت مختلف الإشكاليات والمشاكل التي تشغل بال الناس كالبيئة والحروب والسلام والحدود والهجرة ومصير الأقليات والتربية واللغات وغيرها من المواضيع. بعض الأسئلة والأجوبة كانت قيمة وبعضها لم تف بالمُنتظر وقد يكون كل سؤال موضوع لفيلم مستقل.
أفضل الأفلام التي عرضها المعهد الثقافي الفرنسي في تظاهرته هاته، خلال اليومين المذكورين أعلاه، هو فيلم "المشي على الأصوات" فهو جمع بين البحث في فن الموسيقى والأداء الموسيقي والأصوات أيضا في علاقتها بمكونات الطبيعة (الحجر - الرياح - أصوات الحيوانات - إلى آخره) وذلك في انسجام فني جعل منه تحفة حقيقية تستحق تحليلا نقديا مستقلا وهو ما سنقوم به مستقبلا بالتأكيد لأن غنى الفيلم التقني والفني والروحي يدفعنا لكي نشرك في رأينا عنه الفعاليات السينمائية.
إنطلاقا مما سبق ومن المُشاهدة لبرنامج مهرجان السينما الروحية يتبن بالوضوح أن الفكر وعلاقة الإنسان بمحيطه ومستقبله وبحوثه في مكونات الحياة تشكل كلها روح المهرجان وخلق نقاش حولها لكون التعامل مع البيئة والمعتقد وتشكلات الطبيعة والأفكار والتربية والتعليم  والفنون هي الأرضية التي تنبني عليها الروح ببعدها الفلسفي خاصة عند تناولها الفني .    
  

قد ينال إعجابكم