سلفيت سلة عنب فلسطين تنام على سرير من الماء

عبد الحميد صيام

Aug 19, 2017

فلسطين ـ سلفيت ـ «القدس العربي»: أثناء زيارتي الصيفية لفلسطين، بوابة الأرض إلى السماء، والأرض التي وصفها الرب بأنها تفيض لبنا وعسلا، قمت بعدد من الزيارات لأستكشف ربوعها وأتعرف على وهادها وأسبر أغوارها وألتقي بنسائها ورجالاتها من حملة راية النضال والصمود والتمسك بالأرض والعض عليها بالنواجذ في تحد للذئاب الشرسة التي تحيط بها من كل جانب.
اتجهت على الطريق السريع 60 الذي يمر قرب مستوطنات عوفرا وإيلي وشيلو بالإضافة إلى القرى الفلسطينية العديدة مثل سلواد والساوية وسنجل وترمسعيا واللبن وصولا إلى حاجز أرئيل الذي يشير أيضا إلى مدينة سلفيت باتجاه الغرب. وعلى مدخل سلفيت هناك حاجز آخر قرب الجدار العازل وعلى بعد 5 كيلومترات من مدخل المدينة. وصلت مدينة سلفيت التي أتعرف عليها عن قرب لأول مرة في ساعات الصباح كي أقضي وقتا كافيا للتعرف على هذه المدينة الهاجعة بين الجبال.
سلفيت كلمة كنعانية تعني «سلة العنب». تتربع المدينة في وسط فلسطين وتنام على سرير من الماء حيث تتسابق الزهور البرية والأعشاب والأشجار المثمرة من تين وعنب وقراصيا وجوافة وصفرجل، لتنسج معا لوحة متعددة الألوان أبدعتها يد الطبيعة في منظر يخلب العين ويغري بالدحرجة واللعب والبرطعة على ربوعها والتمدد على عشبها والنوم في كرومها والقيلولة في فيئها على سجادة طبيعية لا أحلى ولا أجمل. لكنك عندما تستفيق من الحلم تصدمك الوقائع على الأرض وترى عملية النهب والسرقة للأرض والماء مــعــا مخلفة وراءها سجنا كبيرا يحيط به جدار فصل عنصري قبيح يكاد يدخل في حلوق الناس وينفذ إلى غرف نومهم، كما قال لي حاكم المحافظة، الشاعر والرسام والأسير المحرر اللواء عبد الرحمن البلوي.

المحافظة الجديدة في فلسطين المحتلة

تعاقبت على سلفيت حقب التاريخ كلها وظلت محافظة على طابعها الزراعي الممتد بين جبلين يطلان على وداي الشاعر ووادي عين المطوي. سلفيت تعوم على بحيرة ماء عذب حيث يصل عدد عيونها الطبيعية إلى 99 لم يبق منها تحت تصرف البلدية إلا اثنان وحولت مياه البحيرة الجوفية الكبيرة التي تغذيها تلك الينابيع لصالح المستوطنات. وما تبقى من مياه شحيحة تباع للسكان بأسعار باهظة تعادل ضعف سعرها للمستوطنين. بل إن هناك حدا أقصى للاستــــخدام إذا تجاوزته البلدية تدفع غرامات باهظة.
كانت سلفيت تابعة لمحافظة نابلس ثم رأت السلطة الفلسطينية عام 2006 أن تحولها إلى محافظة لحمايتها من الاستيطان كما أخبرني رئيس البلدية، عبد الكريم الزبيدي، في حديثة المفصل عن وضع المدينة. فقد تفوق عدد المستوطنات حول البلدة على عدد القرى الفلسطينية حيث توجد الآن 24 مستوطنة بينما عدد القرى العربية 18 قرية. وتكاد النسب السكانية تتساوى في المحافظة، فهناك 70 ألف عربي مقابل 60 ألف مستوطن. ويؤكد الزبيدي أن إسرائيل باستهدافها هذه المنطقة بالذات إنما تهدف إلى منع قيام دولة فلسطينية مستقلة ومترابطة في المستقبل. إنها تعمل على جعل خيار حل الدولتين أمرا مستحيلا وقد عبدت طريقا سريعا يسمى «عابر السامرة» يربط بين الأغوار والساحل الفلسطيني مرورا بسلفيت فاصلا بذلك شمال الضفة الغربية عن جنوبها من نقطة الخاصرة، وهو ما يجعل عملية ترابط الأراضي الفلسطينية بعضها ببعض أمرا شبه مستحيل.

مستوطنة أرئيل

وقدم الزبيدي شرحا وافيا حول عمليات الاستيلاء على أراضي المدينة والمحافظة مستشهدا بالخرائط والتقارير والوثائق قائلا إن موجات الاستيطان قد بدأت عام 1975 حيث أقام الاحتلال عددا من البؤر الاستيطانية سرعان ما تحولت إلى كتل استيطانية كبرى التهمت مساحات شاسعة من الأرض حتى أن سلفيت تعتبر المحافظة الثانية بعد القدس في حجم الاستيطان ومصادرة الأراضي. التهمت المستوطنات مئات الدونمات من الأراضي الزراعية الخصبة من سلفيت والقرى المجاورة مثل سرطة وبورقين ودير إستيا وصولا إلى كفر الديك ودير بلوط غربا. وتشكل المنطقة «جيم» الخاضعة تماما للسيطرة الإسرائيلية نحو 75 في المئة من أراضي المحافظة بينما يعيش 90 في المئة من السكان في مساحة لا تزيد عن 25 في المئة صنفت ضمن منطقتي «ألف» و»باء». وهناك 33 في المئة من أراضي المحافظة مصنفة «أراضي دولة»، تزيد مساحتها عن 68 ألف دونم من أغنى الأراضي الزراعية أصبحت خاضعة تماما لسلطات الاحتلال ومخصصة للتوسع الاستيطاني، كما شرح لنا الزبيدي.
لكن المصيبة الكبرى التي تعرضت لها المحافظة تمثلت في إنشاء مستوطنة «أرئيل» ثاني أكبر مستوطنات الضفة الغربية المحتلة بعد معاليه أدوميم، كما شرح محدثي رئيس البلدية. تخترق المستوطنة العمق الفلسطيني بطول 22 كلم شرقي الخط الأخضر، ويصل عدد سكانها إلى نحو 30 ألفا بالإضافة إلى 20 ألف طالب في الجامعة التي تحمل اسم المستوطنة. تقع أرئيل على مساحة تزيد عن 15 ألف دونم مقتطعة كلها من أراضي محافظة سلفيت. بنيت فيها كلية يهودا والسامرة عام 1982 ثم توسعت مع مرور الزمن لتصبح جامعة أرئيل والتي تحتوي الآن العديد من الكليات من بينها كلية طب تبرع ببنائها ملياردير صهيوني اسمه شيلدون أديلسون، ووضع حجر الأساس فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو نفسه. وهناك كلية يطلقون عليها «كلية التراث» يقومون فيها بترميم الخرب والضيع الفلسطينية المهجورة ويضيفون عليها لمسات من متخصصين لتبدو وكأنها تراث يهودي.
ودعنا رئيس البلدية ثم رافقني ياسر ماضي، المتطوع في البلدية كمرشد ومستشار للعلاقات العامة، في جولة واسعة في المدينة وضواحيها. وقفنا قرب الجدار الفاصل، رمز العنصرية والاغتصاب، وجلسنا مع أصحاب الأرض المصادرة واطلعنا على الينابيع المسروقة والخراب الذي تسببه المياه العادمة والحقول المهجورة بسبب قلة المياه وآثار انتشار الخنازير البرية في المنطقة. وقد أسهب في شرح عمق المأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في هذه المنطقة والتي قد لا تجذب عيون الصحافة لأنها مع الأيام تتحول إلى أمور عادية.
إضافة إلى رزمة الجرائم التي ارتكبها الاحتلال ضد محافظة سلفيت، فقد عزل جدار الفصل العنصري سبع قرى شمال المحافظة حيث أصبح الوصول إلى المدينة أمرا في غاية الصعوبة. بعض تلك القرى يحيط بها الجدار من كل جانب ولها بوابات خاصة تفتح وتغلق حسب إرادة المحتل. وقد يضطر بعض الفلاحين إلى أن يقضوا ليلتهم في العراء أو في مساجد القرى المجاورة إذا تأخروا ولو دقيقة عن موعد الإغلاق. ويلخص الزبيدي السياسة الإسرائيلية هنا بالنسبة للأرض والسكان بأنها «سياسة تطفيش» أي إتباع منهج مدروس يؤدي في النتيجة لشدة الضغط والمعاناة إلى الرحيل لأن جميع الخيارات الأخرى قد أغلقت تماما، فإما أن تموت جوعا وإما أن تحمل عصاك وترحل.
لكن أخطر ما تقدمه أرئيل إلى أهالي سلفيت هو المياه العادمة الملوثة والتي تمر من وسط البلد وتتجمع في غدران وبرك صغيرة ثم تتابع مسيرتها نحو الأراضي الواطئة فتنشر الروائح الكريهة وخاصة بين الحقول بحيث لا تستطيع أن تبقى مدة طويلة في أرض قريبة من مسيرة المياه الملوثة بالإضافة إلى الأمراض التي تنشرها هذه القاذورات كما شرح لي ياسر ماضي ونحن نقف قرب إحدى الترع ونكاد نختنق من الروائح. «كيف لفلاح أن يقضي هنا عدة ساعات للعناية بأرضه دون أن يتعرض للمرض؟» يسأل ماضي. لقد شوهوا المنطقة كلها بيئيا بعد أن تحولت إلى مكب للمياه الملوثة فهجر الفلاحون أراضيهم القريبة من المجرى. وقد أوقفت إسرائيل تنفيذ مشروع ألماني لمعالجة المياه العادمة بحجة وجوده في منطقة «جيم» الخاضعة لسيادة إسرائيل كما قالوا. والأدهى من ذلك كله قيام الاحتلال بإطلاق آلاف الخنازير البرية لتقضم ما تبقى من أعشاب وحشائش ومزروعات. انظر، قالت لنا الحاجة آمنة وهي تحمل عصاها في قطعة أرض مشجرة. «حتى أحمي شجراتي التي أعتاش منها لا بد من وضع سياج شائك طويل حول القطعة من الجهات الأربع لحمايتها من الخنازير البرية. كثير من الناس لا يملكون القدرة على التسييج وبعض القطع الوعرة لا يمكن تسييجها ولهذا هجر الكثير من أبناء البلدة أراضيهم القليلة المخصصة لزراعة الخضروات والفواكه والحبوب لأنهم غير قادرين على حمايتها من الخنازير».
غادرت مدينة سلفيت وأنا مصاب بنوع من القهر والوجع المستدام لما فعل الاستيطان بهذه الأرض الجميلة التي تتزين بكل أنواع الأعشاب والأشجار البرية والمثمرة. فقد أعطتها الطبيعة كل أنواع الجمال وما يحتاج الفلاح من نعم وخاصة الماء والأرض البراح الصالحة للزراعة الدائمة والموسمية. لكن ما يصدم الزائر أن أرض المدينة تنهب يوما بعد يوم وما تبقى منها لا يستطيع المزارعون أن يستفيدوا منه بعد أن سلب الاحتلال مياهها العذبة وأرضها الخصبة وأطلقوا بالمقابل قطعان الخنازير البرية تخرب ما تبقى من أرض نكاية في البلدة الصامدة التي قدمت وما زالت تقدم النموذج المشرق للتمسك بالأرض رغم كل تلك المعيقات.

سلفيت سلة عنب فلسطين تنام على سرير من الماء

عبد الحميد صيام

- -

3 تعليقات

  1. المقال صورة صادقة بثلاثة ابعاد لوضع مدن التماس في الضفة الغربية ولكنها سلفيت التي تتجسد فيها المعاناة اكثر من غيرها بعد مدينة القدس طبعا. موضوع المياه عامل أساسي في اختيار سلفيت لتكون منطقة استيطانية هامة جدا بالنسبة للاختلال فإلى جانب انها تقع فوق الخزان الغربي للمياه الجوفية فهي المكمل الجغرافي للخاصرة الضعيفة لدولة الاحتلال فعرض المسافة غرب سلفيت بين طولكرم ونتانيا لا يتجاوز ١٢كم فقط فتكون منطقة سلفيت منطقة تسمين لتلك المسافة اذا ما ضمت الى دولة الاحتلال كما يخططون كسياسة أمر واقع. أشكرك اخي ابو لافي فأنا زرت سلفيت قبل عشرات السنين اَي قبل كل تلك التغييرات التي قمت بتصويرها لنا اما الان فقد زرتها مع كأميرة ملونة من خلال مقالك. تحياتي لك.

  2. اولا كل الشكر والتقدير للدكتور عبد الحميد على وصفه ومقاله الذي يلامس الواقع المأساوي لمدينة ومحافظة سلفيت , واقدم شكري وتقديري لصحيفة القدس العربي على نشرها هذا المقال . فصحيفة اعلامية مثل القدس العربي تعد مفخرة لنا ان تكتب مقالا عن محافظة واهالي المحافظة وما يعانيه الاهالي من انتهاكات صهيونية.
    مع تمنياتي ان تكون هناك زيارات اعلامية من قبل صحيفة القدس العربي التي نفتخر بها
    اخوكم
    ياسر ماضي
    سلفيت

  3. الاخ أديب فلسطين لقد سبقتني في الكلام عن سلفيت , كأحد ابناء سلفيت اشكرك كل الشكر على ما كتبته بتعليقك اخي وفي اي وقت تكون هنا معنا في سلفيت اهلا وسهلا بك وممكن ان تتواصل معي اذا اردت وشكرا لكم القدس العربي ودكتور عبد الحميد والاخ أديب فلسطين

أترك تعليقاً

القدس العربي قد تستخدم بعض التعليقات في نسختها الورقية - لذا الرجاء كتابة الاسم الأول واسم العائلة واسم البلد ---- لن ينشرعنوان بريدك الالكتروني

characters left