توفي، السبت، الأمير محمد الفيصل. ويُعَدُّ الفقيد أحد أبرز أعلام الاقتصاد الإسلامي ورواده الأوائل، حيث تفرغ بعد مناصبه الرسمية لهذا النشاط.

أسس شركة دار المال الإسلامي (وهي الشركة الأم لقرابة 55 بنكا وشركة استثمار في مختلف أنحاء العالم)، وبنك فيصل الإسلامي المصري في القاهرة، ومصرف فيصل الإسلامي في البحرين، وبنك فيصل السودان، وبنك فيصل المحدود بباكستان والشركة الإسلامية للاستثمار الخليجي - وهي الذراع الاستثماري النشط للمجموعة - وشركة سوليديرتي للتكافل بالبحرين ولها فروع متعددة في جميع أنحاء العالم.

كما شغل أيضاً منصب رئيس الاتحاد العالمي للمدارس العربية الإسلامية الدولية منذ إنشائه عام 1976م إلى الآن. كما امتلك وشارك في العديد من الشركات المالية والاستثمارية والبنوك وهي على سبيل المثال لا الحصر: بنك إثمار بالبحرين، ومؤسسة فيصل المالية بسويسرا، ومؤسسة فيصل المالية بهولندا، ومؤسسة فيصل المالية لوكسمبورغ.

 

حلمه في عالم أجمل وأرقى

وذكر الدكتور خالد محمد باطرفي الأستاذ بجامعة الفيصل، أمين عام جائزة (الأمير محمد الفيصل لدراسات الاقتصاد الإسلامي) لـ"العربية.نت" أنه "قبل شهور من وفاته، زرت الأمير محمد الفيصل لأطلعه على "بروفة" كتابه "الأمير محمد الفيصل يتذكر"، بنسخته الإنجليزية. طلبت منه، بهذه المناسبة، تحديث بعض الفصول، فتجاوب معي فيما يتعلق بالاقتصاد الإسلامي، وطلب مني تعديل تاريخ ميلاده، بعد أن نبهه إلى ذلك الملك سلمان، واعتذر عن أي إضافة أخرى".

 

وقال: "نصحني بمراجعة النص الإنجليزي بعين القارئ الأجنبي، وأسعده أن أكثر المرشحين للجائزة من الطالبات، فقد كان ولا يزال نصير المرأة والداعي إلى تعليمها ومنحها فرصتها للمشاركة في مشروع التنمية".

لعل الأمير أراد لكتابه أن يبث لقارئه صورة عالم أجمل وأرقى مما انتهى إليه، رغم الحوادث العظام التي مرت بالأمتين العربية والإسلامية في تلك المرحلة، وخسارة قيادات تاريخية ساهمت في صناعة تلك الأحداث، كالملك عبدالعزيز والملك فيصل، وملك المغرب، حسن الثاني، ورئيسي مصر، جمال عبدالناصر وأنور السادات، ورئيس وزراء باكستان، علي بوتو، ورئيس وزراء ماليزيا، تنكو عبدالرحمن، والزعيم الإسلامي الأميركي، مالكوم أكس.

 

وأضاف: "كان وقتها لا زال يعاني من آثار العلاج والآلام التي تكاد لا تفارقه، بعد سلسلة من الابتلاءات الصحية استمرت سنوات. لكنه كعادته، كان يحسن إخفاء معاناته، ويحافظ على بسمته، ولا يغادر متابعته للحدث المحلي والعربي والإسلامي. تعودت على أسئلته، فكنت أحضر للقائه بعمل تغطية شاملة لكل وسائل الإعلام ومصادر الأخبار، لعلي أفاجئه بشيء لم يطلع عليه في جولته اليومية الطويلة بين القنوات الفضائية، أو تقرأه عليه ابنته الأميرة ريم من متابعاتها اليومية باللغات الثلاث التي يجيدها وتجيدها أسرته، العربية والإنجليزية والفرنسية".

كما أشار: "شعرت بتعبه وإرهاقه بعد ساعة من الحوار، فاستأذنت على أمل أن أراه قريباً. قال لي مودعاً: "ربما يتأخر لقاؤنا، فعندي مراجعات طبية روتينية في التخصصي، قد تشغلني بعض الوقت. واستباقاً لطلب عيادته في المستشفى، عاد ليؤكد بأن الأمور طيبة.. لا تخف"، لكنه فضل أن يتفرغ لها وأن يراني وهو في أحسن أحواله".

في سنواته الأخيرة، بدأ الأمير المتفائل دوماً، المناضل دائماً، يميل إلى الحزن والتشاؤم مع تراكم النكبات التي حلت بالأمة: "كنت ألجأ إليه لتفسير ما لا يفسر من تطورات المشهد العربي، فكان يسبغ تحليلاته السياسية والاقتصادية بجرعة من الأمل، سرعان ما تضاءلت من سنة إلى أخرى، حتى لم يبق منها إلا الدعاء".

من هو؟

ولد الأمير محمد الفيصل عام 1936م، في مدينة الطائف، وهو الابن الثاني (بعد الأمير الشاعر عبدالله الفيصل) لنائب الملك على الحجاز، الأمير فيصل بن عبدالعزيز، الذي كان وقتها يقود حملة عسكرية في اليمن، والابن البكر للأميرة عفت الثنيان آل سعود، التي قادت مشروع تعليم الفتاة السعودية، وأنشأت أول مدارس للبنات، دار الحنان، في الخمسينات الميلادية، ثم حرصت أن تختم حياتها بأول جامعة أهلية للبنات (جامعة عفت).

فقد الأمير محمد ذاكرته قبل العاشرة نتيجة لإصابته بمرض التيفوئيد، وكان شفاؤه منه معجزة لضعف الإمكانات الطبية في ذلك الحين، ثم استعاد قدرته على الكلام والمشي، وعاد إلى مدرسة الطائف النموذجية التي أنشأتها والدته، وانتقل بعدها ليواصل دراسته الثانوية والجامعية في الولايات المتحدة، ويتخرج من كلية مانيلو، سان فرانسيسكو، بشهادة بكالوريوس في الاقتصاد والإدارة عام 1963. ثم يلتحق بالبعثة الدبلوماسية السعودية في الأمم المتحدة، إضافة إلى دوره في التواصل مع إدارة الرئيس جون كنيدي.

 

عاد الأمير الشاب إلى بلاده مع زوجته الأميرة منى، ابنة أول أمين عام لجامعة الدول العربية، عبدالرحمن باشا عزام، وابنه البكر (المهندس) عمرو، وبناته (الروائية) مها و(الفوتوغرافية) ريم، في نهاية الستينات الميلادية ليعمل في مؤسسة النقد، ثم ينتقل للعمل مع وزارة الزراعة، لتنفيذ مشروعه الرائد "تحلية مياه البحر"، بدأ بأول محطة في جدة، في أوائل السبعينات ثم بشبكة محطات على شواطئ البحر الأحمر والخليج العربي. ولكنه لم ينجح في تمرير مشروعه الرائد لتوفير المياه والكهرباء وتحسين البيئة عن طريق نقل قطع من جبال الجليد من القطب الجنوبي إلى شواطئ البحر الأحمر، رغم دراسات الجدوى التي شارك فيها علماء مشاهير في كافة التخصصات ذات الصلة، وتوصيات مؤتمرات دولية متعددة، تكفل وحده بمصاريفها.

استقال الأمير في نهاية السبعينات من وظيفته كأول محافظ للمؤسسة العامة لتحلية مياه البحر ليعمل على تحقيق حلم آخر، هو البنوك الإسلامية التجارية، بعد مشاركته في إنشاء البنك الإسلامي للتنمية. واستطاع رائد الاقتصاد الإسلامي أن ينشأ شبكة فروع "بنك فيصل الإسلامي" في مصر والسودان والإمارات والبحرين وجنيف وباكستان وتركيا. وأسس وقاد أول اتحاد للبنوك الإسلامية.

ولتشجيع البحث العلمي والدراسات التي تؤصل لنظرية الاقتصاد الإسلامي، أنشأ الأمير "جائزة محمد الفيصل لدراسات الاقتصاد الإسلامي" برئاسة ابنه الأمير عمرو، في كلية الأمير سلطان للإدارة، التابعة لجامعة الفيصل، ونائبه عميد الكلية الدكتور شكيل حبيب. وخصصت الجائزة للطلاب في مراحل ما قبل الدكتوراه. كما رعى في نفس الكلية نادي الفيصل الثقافي، الذي دشن منذ أسابيع، برئاسة ابنه الأمير عمرو، ونيابة عميد الكلية.

وعلى خطى والدته، أنشأ الأمير محمد الفيصل مدارس المنارات، التي تميزت بالجمع بين التعليم والتربية على أسس حديثة مع المحافظة على الأصالة. وانتشرت المدارس في نسختيها العربية والأجنبية في مختلف أنحاء السعودية حتى بلغ عدد طلابها 18 ألف طالب وطالبة.

 

وبعد وفاة والده الملك فيصل بن عبدالعزيز عام 1975، شارك الأمير محمد مع إخوانه في تكريم والدهم بإقامة مؤسسة الملك فيصل الخيرية، الذي يتبعها مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، وجامعة الفيصل، وجامعة عفت، وجائزة الملك فيصل. وللمؤسسة التي وضع لها عند تأسيسها رأس مال يقدر بمليار ريال، العديد من المشاريع الخيرية والعلمية والتعليمية داخل وخارج البلاد.