16 ذي الحجة 1438 هـ   -  07 سبتمبر 2017 م
الرئيسة  >> كلمة المفتي  >> تجربة مصر في التعايش والمشاركة 

تجربة مصر في التعايش والمشاركة


الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعدَه سيدِنا محمدٍ وعلى آله وصحبِه، وبعدُ:
فإنَّ مصرَ المحروسةَ صاحبةُ أعمقِ تجربةٍ تاريخيةٍ ناجحةٍ في التعايشِ والمشاركةِ في الوطنِ الواحدِ بينَ أبنائها، فأهلُها على مدارِ تاريخهم لم يعرفوا أيَّ مظهرٍ مِن مظاهرِ النزاع الطائفي؛ لأنهم أهل اعتدال وسماحة واحترام للخصوصيات الثقافية والاجتماعية والحضارية.

وهي سمات نبيلة وقيم راقية تنطلق من أن اختلاف الناس في ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم وعقائدهم ما هو إلا آية من آيات باهرة للخالق سبحانه، ودلالة على اتساع مجال العمران في هذه الحياة بما تُمَثِّله هذه التعددية من سبب دافع للتعارف والتواصل لا للتصارع والتقاطع؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13].

ولا ريب أن مشاركتنا لشركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم وتبادل الفرحة معهم هي من قبيل السلام والتحية وحسن الجوار، وذلك مظهرٌ من مظاهر البر والرحمة والتعامل بالرقيِّ الإنساني الذي كان يفعله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع من جاوره أو تعامل معه منهم.

إن الإسلام لم يأمر أبدًا بالانسلال من شركاء المسلمين في أوطانهم ومجتمعاتهم وعدائهم وبغضهم، بل أمر ببذل البِرِّ والمعروف والإحسان، وحب الناس، وحسن المعاملة، ودماثة الخلق، والكلام الجميل، والابتسامة الودود، والعشرة الطيبة، وبهذا انتشر الإسلام شرقًا وغربًا، ودخل قلوب الناس بالحب قبل أن يدخل المسلمون بلدانهم.

وهذه لمسات إنسانية راقية ومعالم حضارية زاهية قد جرى على مراعاتها المسلمون تشريعًا وممارسة عبر تاريخهم المشرف وحضارتهم النقية وأخلاقهم النبيلة السمحة؛ فقد كان كبار الصحابة رضوان الله عليهم وأئمة المسلمين يشهدون أعياد غير المسلمين والأكل من الأطعمة التي تُعدُّ لتؤكل في أيام الاحتفال بأعيادهم، مستحسنين ذلك بلا أدنى حرج؛ كما ذكر جمعٌ من الأئمة والعلماء في كتبهم أن الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه كان يخطب أهلَ مصر في نهاية فصل الشتاء وأول فصل الربيع من كل عام حين يحتفل المصريون بما يُسَمَّى "شَمَّ النسيم" الموافق لأيام "حميم النصارى" أو "خميس العهد" عند المسيحيين؛ حيث كان يحض الناس على الخروج للربيع. "فتوح مصر والمغرب" لابن عبد الحكم (ص: 166-167، ط. مكتبة الثقافة الدينية).

فإذا أضيف إلى ذلك أن المسلمين يؤمنون بأنبياء الله تعالى ورسله كلهم، لا يفرقون بين أحد منهم، ويفرحون بأيام ولادتهم، وهم حين يحتفلون بها يفعلون ذلك شكرًا لله تعالى على نعمة إرسالهم هداية للبشرية ونورًا ورحمة، فإنها من أكبر نِعم الله تعالى على البشر، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك؛ فقال عن سيدنا يحيى: ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: 15]، وقال عن سيدنا عيسى: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: 33]، وقال تعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾[الصافات: 79]، وقال تعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الصافات: 109]، ثم قال تعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ﴾ [الصافات: 120]، إلى أن قال تعالى: ﴿وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ۝ وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات: 181-182].

وفي ذلك تأسٍّ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم واتباعٌ لسنته الشريفة وشرعته الطاهرة؛ حيث احتفل صلى الله عليه وسلم بيوم نجاة نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام من فرعون وجنوده مذكرًا المسلمين: «نحن أولى بموسى منهم» رواه البخاري، فصامه وأمر بصيامه، وبمثله قال صلى الله عليه وسلم عن السيد المسيح عليه السلام: «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» رواه البخاري.

ولذلك كله فإنه من اللائق بل من الواجب علينا في هذا العصر أن نظهر جمال الإسلام وقيمه الراقية، حتى نكون خير حملة لهذا الدين الحنيف بأخلاقنا وتعاملاتنا، وما جاء في نصوص الفقهاء من النهي هي أقوالٌ لها سياقاتها التاريخية وظروفها الاجتماعية المتعلقة بها.

أليس ما سقناه من أدلة شرعيَّة وشواهد تاريخية بكافٍ لأهل العقل والبصيرة على صحَّة دعوتنا للمسلمين في كل مكان أن يُشعِروا من حولهم بالسعادة والتفاؤل والأمل والبر، وأن يتعاملوا مع مجتمعاتهم بكل خُلُقٍ جميل، وأن يشاركوا أصدقاءهم وجيرانهم في فرحتهم واحتفالاتهم! وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
 

كلمات فضيلة المفتي السابقة
عن البوابة
الهجرة النبوية رسالة في التعايش الكريم
العيش الكريم
"الأسوة الحسنة"
Feedback