ترجمة المصطلح بین إشكالیة التعریب والمثاقفة انطلاقا من عصر النھضة
د. عبد ﷲ تكرامت الكبایش
(اسبانيا)
الملخص
أولا: الحدود بین عملیتي الترجمة والتعریب
بادئ دي بدء لابد من الإشارة إلى أن التعریب والترجمة یعتبران بمثابة عملیتین مختلفتین في العمق والجوھر لأن كلتیھما تخضع لقواعد وضوابط تسیر وفق أھداف المشاریع الثقافیة والفكریة الكبرى لعصر النھضة برمتھ، وما بعد ھذا العصر لعدة عقود. أحیانا یعتقد المرء أن التعریب والترجمة مرادفان یسُتعملان كوجھین لعملة واحدة. وخیر دلیل على ذلك ما نقرأه على أغلفة العدید من الكتب المترجمة من اللغات الأجنبیة إلى اللغة العربیة، حیث نجد الناشرین، قصدا أو عن غیر قصد، یكتبون تحت اسم مؤلف كتاب من الكتب ترجمة أو تعریب فلان. بمعنى أن الكتاب ترُجم من طرف مترجِم ما، أو عُرب من طرف مع ِّ رب ما. لھذا سأحاول من خلال ھذه المداخلة أن أوضح ھذه المسألة بوضع الحدود الموضوعیة بین مصطلحي الترجمة والتعریب آخذا بعین الاعتبار قضیة المثاقفة التي لا مفر منھا لتتم عملیتي الترجمة والتعریب على حد سواء.
سأقف أولا عند المستوى الدلالي للمصطلحین، وفیما بعد سأحلل جوھر الإشكالیة التي تمیز عملیة التعریب على وجھ الخصوص والتي یتمخض عنھا بناء المصطلحات الجدیدة.
ثانیا: تعریف الترجمة والتعریب
في ھذه الفقرة، سیتم تعریف مصطلح الترجمة اعتمادا على القوامیس الكلاسیكیة المعروفة لمؤلفین أمثال الجوھري وابن الأثیر وابن منظور والفیروز آبادي والزبیدي، والبستاني إلخ. وكان الغرض من ذلك ھو الوقوف عند الأسباب التي جعلت كل ھؤلاء المتخصصین في وضع القوامیس الأولى للغة العربیة یركزون على تعریف فعل “ترجم” أو على تعریف اسم الفاعل “مترجم، ترجمان” ولا أحد منھم تحدث عن مصطلح الترجمة. إلا أن ھذا الأمر لا یعني أن ذات المصطلح كان منعدما في المصادر الكلاسیكیة بل لم تعُط لھ الأھمیة الكبرى في ظل غیاب الدراسات النظامیة والنظریة للترجمة في العصور الوسطى وفي بدایة العصر الحدیث. ومع ذلك فھذا الغیاب لم یؤثر على عملیة المثاقفة ولم یحد من التلاقح الثقافي الكبیر الذي شھده العالم العربي خلال تدشین الصرح الحضاري سواء في القرنین التاسع والعاشر للمیلاد أو في النصف الثاني من القرن التاسع وبدایة القرن العشرین. ومن المفارقات العجیبة التي میزت الحقبتین ھو كوننا أمام مشروعین حضاریین یعتمدان على الترجمة بالدرجة الأولى للنھوض بالثقافة والفكر العربیین كي یتبوآ المكانة التي تلیق بھما بین الحضارات القدیمة كالھندیة والفارسیة والإغریقیة والحضارات الحدیثة كالأوروبیة، وتحدیدا الفرنسیة التي تصدرت عصر الأنوار، وعبر لغتھا انتقلت معظم العلوم الحدیثة إلى اللغة العربیة.
خلال الحقبتین المذكورتین یلُاحظ أن مشروعي الترجمة انطلقا من بیئتین مختلفتین، الأولى تمیزھا الصحوة خلال القرن التاسع والعاشر، أما الثانیة فیمیزھا الاضمحلال والإنكماش خلال القرن التاسع عشر حیث زادت الأطماع الاستعماریة تتربص باحتلال العالم العربي. أمام ھذه المفارقة، سلكت الترجمة دربھا وساھمت في التلاقح الحضاري بین الشعوب العربیة والحضارات الشرقیة والأوروبیة. لم تعمل فحسب على نقل أمھات الكتب إلى لغة الضاد، بل تعدى الأمر ذلك، وظھرت دعوات صریحة ألحّت على ضرورة تطویر اللغة العربیة، قدیما وحدیثا، لمسایرة الركب الحضاري، من جھة، ومن جھة أخرى لتوفر لقرائھا أدواتا مناسبة للتأقلم مع الجدید لاسیما على مستوى الاصطلاح، دون التخلي عن موروث السلف وعلى أسسھ المرتبطة بمنھجیة وضع المصطلحات. وبالتالي، فالترجمة كلما خطت خطوات نحو الأمام إلا وظھرت عراقیل أمامھا ، إذ أحیانا یصعب إیجاد المصطلحات المناسبة للتعبیر عن ظاھرة علمیة أو أدبیة أو سیاسیة أو اقتصادیة أو اجتماعیة… ولمعالجة الموقف وضمان تحقیق عملیة الترجمة یلجأ المترجمون إلى البحث في المصطلحات وإلى كل ما تتیحھ عملیة الاشتقاق من موارد لغویة لسد حاجیاتھم. فعلا یتحقق لھم المُ راد في العدید من المناسبات، إلا أن نظام الاشتقاق، رغم شساعتھ، أحیانا لا یتوفق في سد ثغرة من الثغرات، مما یؤدي إلى بلبلة لغویة في لغة الوصول، ونعني ھنا اللغة العربیة. ومع ذلك لا یقف المترجم مكتوف الأیدي، بل یلجأ إلى مورد آخر یكمن في التعریب علھ یجد فیھ ضالتھ. ھذا المورد یعتبر من أخطر الموارد على الإطلاق إن لم یكن المترجم متخصصا وذي درایة بقواعده المرصوصة من طرف الأكادیمیات الرسمیة التي تتولى الشأن اللغوي في البلدان العربیة.
إن مسألة التعریب، التي تعتبر جزءا من الترجمة أحیانا إن لم نقل الترجمة كلھا في أحیان أخرى، وأیضا علما مستقلا بذاتھ، كانت مصدر اختلاف بین المتخصصین في الترجمة والاصطلاح والتعریب حتى.
ثالثا: الحدود بین الترجمة والتعریب وبناء المصطلحات
إن التعریب عملیة متشعبة الأطراف، تخضع لعوامل لغویة وثقافیة ودینیة وسیاسیة ونفسیة ومصیریة، فضلا عن عوامل مرتبطة بھویة الشعوب العربیة. في ھذه الفقرة سأسلط الضوء على بعض من ھذه العوامل لأبین الحدود بین الترجمة والتعریب وكیف یتم بناء المصطلحات وفق القواعد المتحكمة في وضع ھذه الحدود.
انطلاقا من عصر النھضة، دخلت الشعوب العربیة في اتصال شامل مع أوروبا لأسباب استعماریة محضة یشوبھا التناقض كما وصف ذلك المفكر المغربي محمد عابد الجابري (١٠٤: ١٩٩١) : “لقد أیقض التحدي الاستعماري الغربي الأمة العربیة من غفوتھا، فرأت في علوم الغرب وتقنیاتھ ومؤسساتھ الاجتماعیة والسیاسیة مثال التقدم ونموذجھ. ولكنھا رأت في ذات الوقت أن حامل ھذا النموذج ھو المستعمر ذاتھ، المستعمر الذي سلبھا حریتھا وخیراتھا ویطعن في ھویتھا وأصالتھا ویھددھا في وحدتھا.”
وبالتالي فالمشروع النھضوي الحداثي الذي یندرج فیھ المشروع الترجمي كان من المفروض أن ینطلق من تساؤلات أمام ھذا المشھد الذي صوره الجابري. إن أغلب مفكري النھضة الذین مارسوا الترجمة في مناسبات عدیدة واعون كل الوعي بضخامة المسؤولیة الملقاة على عاتقھم للنھوض بالعالم العربي عن طریق عملیة المثاقفة الكبرى التي انطلقت في منتصف القرن التاسع عشر وألقت بظلالھا على العصر المعاصر، وطبعا كل جیل أدلى فیھا بدلوه.
ھذه ھي المحاور الأساسیة التي سأتناولھا بشكل مفصل في المحاضرة التي سأتقدم بھا في المؤتمر معتمدا على مراجع باللغة العربیة وباللغات الأجنبیة.