نظريه الكسب عند أهل السنة الماتريدية والطحاوية

نظريه الكسب عند أهل السنة الماتريدية والطحاوية

الماتريدية هم أتباع أبى منصور الماتريدى السمرقندى المتوفى 333 هـ الّذى قام لإصلاح عقائد أهل السنّة حيث رأى إفراطا فى منهج المعتزلة أصحاب العقل وحرّية الرأى، وتفريطا فى منهج أهل الحديث والحنابلة المخالفين للبحث العقلي و الإحتجاج الكلامي فى مجال العقايد رأساً، فله بحث اضافي في مسألة خلق الأفعال والإختيار، و أبحاثه تدور حول الموضوعات التالية:

1 ـ إبطال القول بالجبر فى الأفعال.

2 ـ إبطال نظرية المعتزلة والقول بالتفويض.

3 ـ إثبات أنّ أفعال الإنسان مخلوق لله تعالى.

4 ـ إثبات أنّ الإنسان فاعل لأفعاله و مكتسب لها.

فاستدلّ بنصوص من الكتاب العزيز لإثبات أنّ أفعال الإنسان مخلوق لله تعالى، منها الآيات التالية:

«وأسروا قولكم أو اجهروا به انه عليم بذات الصدور، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير» (الملك / 13) فإنّ الظاهر من الآية أنّ قول الإنسان وكلامه مخلوق له تعالى.

«ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله». (الروم / 23) فالآية داّلة على أنّ ما يبتغيه الإنسان فى النهار من آياته تعالى، و هذا رهن كونه فعلا له سبحانه.

وقد استدلّ بنصوص اخر منه على كون الإنسان فاعلا لأفعاله و كاسبا لها، منها الآيات التالية: «وافعلو الخير» (الحج / 77) «اعملوا ما شئتم» (فصلت / 40) «يريهم الله اعمالهم حسرات «بقرة / 167) «جزاء بما كانوا يعلمون» (الواقعه / 24) «فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره» (الزلزله / 7) و آيات آخر من هذا القبيل.

هذا مضافاً الى أنّ الأوامر و النواهي الإلهية وكذلك الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب دليل واضح على أنّ الإنسان فاعل لأفعاله ومكتسب إيّاها.

أضف الى ذلك أنّ الإنسان يجد من صميم ذاته أنّ له اختيار الفعل وتركه، و هذا لا ينافى نسبتها الى الله تعالى، إذا نسبتها الى الله من جهة الخلق، و نسبتها إلى الإنسان من جهة الكسب، فالله خالق لأفعال الإنسان، و هو كاسب و فاعل لها، (كتاب التوحيد، ص 225).

لم يبيّن الماتريدي حقيقة الكسب، فهل هو يختار التفسير الأوّل من التفسيرين فى كلمات الأشاعرة، أو التفسير الثانى منهما، فعلى الأول لا يجدى الكسب فى حلّ مشكلة الجبر كما تقدّم، و على الثانى يكون لقدرة الإنسان دور فى فعله، و عندئذ يعود إشكال اجتماع القدرتين المؤثّرتين على مقدور واحد، و حلّه بما تقدّم فى نظرية إمام الحرمين من فرض القدرتين طوليتين، و أنّ قدرته تعالى مستقلّة فى التأثير، و قدرة الإنسان غير مستقلة فى ذلك.

ويبدو من كلام الماتريدي أنّه يختار القول الثانى، إذ جعل الإنسان فاعلاً لأفعاله حقيقة والإنتساب الحقيقي رهن القول بتأثير قدرة الإنسان فى فعله، وهذا إيضاً يستفاد من كلمات أتباعه، كما هو مصرح عند بعضهم.

وجدير بالذكر أنّ هذا ايضا ظاهر كلام الإمام أبي حنيفة فى الفقه الأكبر حيث قال:

وجميع أفعال العباد من الحركة والسكون كسبهم على الحقيقة والله تعالى خالقها. و قال القاري فى شرح كلامه: أي لا على طريق المجاز فى النسبة، و لا على سبيل الإكراه والغلبة، بل اختيارهم فى فعلهم بحسب اختلاف أهوائهم و ميل أنفسهم، فلها ما كسبت وعليها ما اكتسبت»، لا كما زعمت المعتزلة أنّ العبد خالق لأفعاله الإختيارية من الضرب والشتم و غير ذلك، ولا كما زعمت الجبرية القائلون بنفى الكسب والإختيار بالكلية، ففى قوله تعالى: «إيّاك نعبد وإيّاك نستعين» ردّ على الطّائفتين فى هذه القضية.

والحاصل أنّ الفرق بين الكسب والخلق هو أنّ الكسب أمر لايستقلّ به الكاسب والخلق أمر يستقلّ به الخالق» ( شرح الفقه الأكبر، ص 59 ـ 60).

وقال البيّاضي الماتريدي: «وقال قوم من العلماء إنّ المؤثر مجموع القدرة وقدرة العبد، وهذا المذهب وسط بين الجبر والقدر، وهو أقرب الى الحقّ وإليه أشار (الامام أبو حنيفه) بقوله: كسبهم على الحقيقه والله خالقها» (إشارات المرام من عبارات الإمام، ص 256 ـ 257 نقلا عن بحوث فى الملل والنحل، ج 3، ص 48 والبيّاضى من أعلام الماتريديه فى القرن الحادي عشر).

وقال فى فصل الخلافيات بين جمهور الماتريدية والأشاعرة: واختيار العبد مؤثّر فى الإتّصاف دون الإيجاد، فالقدرتان مؤثّرتان فى محليّن و هو الكسب، لا مقارنة الإختيار بلا تأثير أصلاً، واختاره الباقلانى وهو مذهب السّلف كما فى الطريقة المحمدية للمحقق البركوي، واختاره الأستاذ أبو اسحاق الإسفرائني، وإمام الحرمين فى قوله الأخير، أنّ اختياره مؤثّر فى الإيجاد بمعاونة قدرة الله تعالى، فلا تجتمع القدرتان الموثّرتان بالإستقلال ولا يلزم تماثل القدرتين»،(اشارات المرام، ص 55).

فقد صرّح البيّاضي على أنّ الماتريدية قائلون بأنّ لقدرة الإنسان دوراً و تأثيراً فى أفعاله الإختيارية كما هو مختار جماعة من الأشاعرة كالباقلاني والأستاذ أبي أسحاق وإمام الحرمين، وقد صرّح به إيضا الإمام البزدوي حيث قال: «قال أهل السنّة والجماعة: أفعال العباد، مخلوقة لله تعالى ومفعوله، والله هو موجدها ومحدثها و منشئها، والعبد فاعل على الحقيقة، و هو ما يحصل منه باختيار وقدرة حادثين و هذا هو فعل العبد، وفعله غير فعل الله». ثمّ ذكر عقائد سائر الطوائف من المجبرة والجهمية والقدرية والأشعرية واستدلّ على مختاره بالنصوص القرآنية وقال:« فدلّتنا هذه النصوص على أنّ الأفعال منّا بقدرة حديثة منّا وهى مخلوقة الله تعالى، فكانت هذه النصوص حجّة على الخصوم أجمع» (اصول الدين، ص 99 و 104ـ 105 نقلا عن بحوث فى الملل والنحل، ج 3، ص 48، والبزدودى هو أبو اليسر محمدالبزدوي (421 ـ 493 هـ ق) من أعلام الماتريدية فى القرن الخامس، ومن تأليفاته كتاب “أصول الدين” طبع بقاهرة عام 1383 بتحقيق و تقديم الدكتور هانز بيترلنس).

 

ثمّ إنّ أبا حفص عمر النسفي (461 ـ 537) فى رسالة العقائد لم يذكر اصطلاح الكسب و إنّما قال: «وللعباد أفعال اختيارية يثابون بها و يعاقبون عليها والحسن منها برضاء الله تعالى والقبيح منها ليس برضاه». ولكن الشارح التفتازاني بسط الكلام فى مسألة الجبر والإختيار ونظرية الكسب وقد تقدم نقل كلامه عند تفسير الكسب عندالأشاعرة (راجع شرح العقايد النسفية، ص 64 ـ 67. و راجع ايضا النبراس لحافظ محمد عبد العزيز، و هو شرح على شرح العقايد النسفية، ص 272 ـ 279).

الطحاوية والكسب

الطحاوية هم اتباع الإمام أبى جعفر أحمد بن محمدبن سلامة الأزدى المصرى الطحاوى (229 ـ 321 هـ) وللطحاوي رسالة ذكر فيها عقائد أهل السنة والجماعة على مذهب أبى حنيفة و تلميذيه أبى يوسف البجلى وأبى عبد الله الشيبانى، و هى معروف «بالعقيدة الطحاوية» و تدرس فى بعض المدارس ومن هنا كتب عليها شروح كثيرة أشهرها شرح الإمام عبد الغني الغنيمي الميداني صاحب اللباب على القدوري الحنفي، قال الطحاوي:

«وأفعال العباد هى خلق الله وكسب من العباد لم يكلّفهم الله تعالى الاّ ما يطيقون».( العقيدة الطحاوية، تحقيق نجم الدين محمد الدركاني، ص 67).

وقال عبد الغني الغنيمي فى شرحه: «كلّ دليل صحيح يقيمه الجبرى، فإنّما يدلّ على أنّ الله خالق كلّ شىء و أنّه على كلّ شىء قدير، و أنّ أفعال العباد من جملة مخلوقاته، و أنّه ماشاء كان و ما لم يشأ لم يكن، و لا يدلّ على أنّ العبد ليس بفاعل فى الحقيقة ولا مريد ولا مختار، و أنّ حركاته الإختيارية بمنزلة حركة المرتعش و هبوب الرياح و حركات الأشعار، و كلّ دليل صحيح يقيمه القدرىّ فأنّما يدلّ على أنّ العبد فاعل لفعله حقيقة، و أنّه مريد له مختار له حقيقة، و أنّ اضافته و نسبته اليه إضافة حقّ، و لا يدلّ على أنّه غير مقدور لله تعالى و أنّه واقع بغير مشيتّة و قدرته.

فإذا ضممت ما مع كلّ طائفة منهما من الحقّ الى حقّ الاخرى، فإنّما يدلّ ذلك على ما دلّ عليه القرآن و سائر كتب الله المنزلة، من عموم قدرة الله و مشيئته لجميع ما فى الكون من الأعيان والأفعال، وأنّ العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة و أنّهم يستوجبون عليها المدح والذمّ.

وهذا هو الواقع فى نفس الأمر، فإنّ أدلّة الحقّ لا تتعارض، والحقّ يصدّق بعضه بعضاً الى أن قال:

وذكر أبو الحسين البصرى إمام المتأخرين من المعتزله: أنّ العلم بأنّ العبد يحدث فعله ضرورى، و ذكر الرازى أنّ افتقار الفعل المحدث الممكن الى مرجّح يجب وجوده عنده و يمتنع عنده عدمه، ضروري، و كلاهما صادقان فيما ذكره من العلم الضروري، ثمّ ادّعاء كلّ منهما أنّ هذا العلم الضروري يبطل ما ادّعاه الآخر من الضرورة غير مسلّم، بل كلاهما صادق فيما ادّعاه من العلم الضروري، و إنّما وقع غلطه فى إنكار ما مع الآخر من الحقّ، فإنهّ لا منافاة بين كون العبد محدثاً لفعله و كون هذا الإحداث وجب وجوده بمشيئة الله تعالى.

فالحاصل: أنّ فعل العبد فعل له حقيقة و لكنه مخلوق للّه تعالى و مفعول للّه تعالى، ليس هو نفس فعل الله، ففرق بين الفعل والمفعول، والخلق والمخلوق، و الى هذا المعنى أشار الشيخ رحمه الله بقوله: وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد، أثبت للعباد فعلاً وكسباً، وأضاف الخلق للّه تعالى، والكسب هو الفعل الّذى يعود على فاعله منه نفع أو ضرر كما قال تعالى: «لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت» (البقرة/ 285(شرح العقيدة الطحاوية، ص 437 ـ444).

تقييم هذا المقال
17out of 5
Visitors Vote
0out of 5

4.3

4.3 out of 5
Good

Tags assigned to this article:
عقائدماتريدية

Related Articles

No comments

Write a comment
No Comments Yet! You can be first to comment this post!

Write a Comment

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مسجد صلاح الدين

مسجد صلاح الدين