«ببغاء فلوبير»..سيرة أدبية أم مرافعة روائية؟
مهاب نصر -
لو تصورنا «الرواية» في هيئة حصان يجر مركبة، واحدة من هذا النوع التي احتضن صالونها مغامرة إيما بوفاري في رواية غوستاف فلوبير الشهيرة، فالبطبع سيكون الروائي على دكة الحوذي. هكذا يبدو جوليان بارنز، الروائي الإنكليزي، في روايته «ببغاء فلوبير». بارنز حوذي قاس، على مدار الرواية تسمع طرقعة سوطه، وخلال الطريق الوعر والمتشعب للرواية ستسمع آهات العاشقيَن في المركبة، لا بسبب تشنجات الغرام، بل بسبب آلام المفاصل.
تبدو الرواية كما لو كانت إعادة كتابة لسيرة الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير، ولكنها بطريقة ما تعد رواية عن «الرواية»، ليس عن الفن الروائي فقط، بل عن إمكانات القص والسرد في الحياة والفن على السواء. أهما منفصلان حقا؟
بدلا من التدخل المباشر لكتابة السيرة يختلق بارنز شخصية روائية، «بريثويت»، الطبيب الأرمل. يدخل بريثويت عالم الكتابة والتوثيق من باب الهواية. ولكن لماذا لا يكتب بارنز السيرة بنفسه؟ ولماذا يكون موضوعها فلوبير بالذات؟
يطرح بارنز سيرة الروائي الشخصية باعتبارها لا تقل شكوكية عن شخصية روائية مختلقة. «أسأل بعنف: كيف يمكننا أن نعرف أي شخص؟».

صوت آخر
لكن هذا عمل ذهني خالص. فرضية نظرية لا يكسرها إلا طبيب بارنز وبطل روايته «بريثويت». فـ«بريثويت» هو الذي يختار فلوبير، يختار أن يكون مدافعا عنه كصديق، تحقيقا للعبارة التي تتصدر الرواية نفسها «حينما تكتب سيرة صديق افعل ذلك وكأنك تثأر له». الثأر من أي شيء؟ من النقاد الذين يضاهون حياة الكاتب بما يدونه، يطالبونه بمطابقته مثلا؟ الثأر من مقدسي الكتاب الأغبياء الذين يتصورون أن إخلاصهم للكاتب يعني تنفيذ وصاياه الحرفية كما فعل أحد شخصيات الرواية «إد وينترتن»، مدرس الأدب، حين أحرق رسائل نادرة لفلوبير؟ تظهر لنا الرواية الجانب الشائه لهذا النوع من الحب، بزعم تحقيق نوايا شخص ما، أو إلصاقه بحرفية منطوقه وإلزامه به. ربما يكون الثأر من شيء أبعد من فلوبير، ثأر من الحرج الذي يضعنا فيه حب فاشل، أو تواجهنا به الخيانة. ليس فلوبير المعنيّ إذاً، بل إيما بوفاري التي يعادل بها بريثويت زوجته المنتحرة «إلين».
هل انتحرت إلين أم قتلها بريثويت، بطريقة «الموت الرحيم» بعد أن كانت حياتها قد انتهت فعليا؟ يضعنا موت أشخاص أو انتحارهم أمام معنى حياتنا، يضربنا بنوع من الإدانة الضمنية المربكة.
ثمة مرآة أخرى لإلين هي شخصية لويز كوليه وعلاقتها المتوترة بفلوبير. لا نسمع صوت إلين لكن لويز كوليه تكتب «إن غوستاف لا يثق بالمشاعر، فهو يخشى الحب، وارتقى بهذا العصاب النفسي حتى أصبح مذهبا فنيا... فهو لا يستطيع أن يرى موهبتي التي تقوم على لحظة سريعة، وشعور مفاجئ، ولقاء غير متوقع: في الحياة، هذا ما أقوله». يبدو أن هذا ليس صوت لويز كوليه وحدها، بل صوت إلين أيضا.

ضد دارسي الأدب
هذه هي بوابة جوليان بارنز الدوارة التي لا تفصل بين الحياة وسؤال الرواية، وتقيم الكتاب كمرافعة يقودها غضب غامض وعنيد.
لا نسيج قصصيا أو حكائيا فعليا، أعني ذلك الذي يبني الحدث صعودا إلى الشخصية، فهذه ليست رواية بناء، بل تحليل. وعبر هذا التحليل تختفي الحدود بين الأدب والتاريخ، وبينه وبين الحياة الخاصة، بين المعرفة والتنبؤ الحدسي.
في كل فصل يبدو وكأننا نفتح صفحة جديدة في المرافعة لتلقي بنا إلى الشكوكية نفسها. السيرة الشخصية في تخطيط كرونولوجي، أو في صورة نتف من مذكرات، أو عبر شهادات الأصدقاء والمحبين، أو عبر آثار الكاتب وتركته، أو من خلال روايته نفسها، وأخيرا من العتبة المهيبة التي لا تفرق بين الخيال والواقع. هل ثمة حد فاصل فعليا؟ ألم تصبح بعض أحداث الروايات وقائع حية؟ ليس باعتبارها تنبؤات صدقت، بل لأن الحياة نفسها لها طابع سردي مختلق.
تنتقد الرواية هذا الأمان الذي تصنعه حدود الكتابة الأدبية، يسخر من «الموضة» المعاصرة عن «موت الكاتب». يكتب بارنز (أو طبيبه لا يهم)، «الأصوات المنادية بتغييب المؤلف تتعمق أكثر فأكثر. فبعض الكتاب يتفق ظاهريا مع هذا المبدأ، ومع ذلك يتسلل من الباب الخلفي، ويضرب القارئ بهراوة أسلوبه المتناهي في الذاتية. ينفذ عملية القتل بدقة. إلا ان مضرب البيسبول المتروك في مكان الجريمة يحمل بصمات الأصابع».
يهزأ بارنز بتفاهات بعض دارسي الأدب المترصدين لتناقضات الكتاب، أو المصححين لمعلوماتهم، هكذا يكون «ببغاء فلوبير» مدخلا. هيكل محنط اقتناه الكاتب وأعاده إلى متحف.
ثمة فصل كامل في الرواية على هيئة أوراق الامتحانات المقدمة لطلاب الأدب. محاكاة تعجيزية بطريقة ما لتأكيد انحسار اليقين. ولكن ليس بالمعنى السلبي للكلمة. ينقذ الحب بمعناه العميق (باعتباره صدمة اللقاء بالآخر) الروح الشكاكة، ولكنه لا يطفئ الغضب. ما الذي نعرفه حقا عن الآخرين؟ وهل بإمكاننا أن نعرف فعلا بطريقة نهائية؟ يكتب بريثويت الطبيب عن زوجته إلين «لم نتحدث عن حياتها السرية، لذلك يجب أن أبتكر طريقي إلى الحقيقة».

فرصة ضائعة
ما الذي يعنيه الابتكار سوى أننا مطالبون دائما بفهم أنفسنا أو الآخرين ببناء سرد ما، رواية على الأقل؟ حياة كأننا في رواية. ثمة شيء رواقي خفي هنا. نوع من التلسيم، ولكن ثمة جهامة وثقل أيضا. تسير مركبة الرواية كما لو على حصى، مرتجة براكبيها، حوذيها هو الطبيب الهاوي، أو بارنز نفسه وقد تداخلت ظلالهما.
أحكام باتة وموضوعية «إن الكاتب يجب أن يدخل الحياة كما يدخل في البحر.. ولكن إلى السرة فقط». ليست هذه ضمانة من الغرق. فهناك من قضوا في حوض استحمام بسبب عثرة بسيطة.
هناك فرصة ضائعة في الراوية، وهي علاقة فلوبير بـ «كوتشوك هانم» الغانية التي التقاها في مصر وأقام علاقة بها. ببساطة «الشرق» كما يرد حرفيا في الرواية، هذا الشرق الذي أصاب لويز كوليه بالغيرة والذي لا نسمع صوته أبدا. ومع هذا فـ«كوتشوك هانم»، أو «محظية النيل» كما يرد ذكرها، هي الشخص الذي يشبه فلوبير نفسه به.
تمر ملاحظة بارنز العميقة «يُنظر إلى التشبه بالجنس الآخر» مرور الكرام، فالتعالي وتبني الموقف الرواقي تجاه لويز كوليه، وإيما بوفاري على السواء، وتجاه الفن أيضا، هو صورة مقلوبة عن التماهي بالآخر الملغز والذي لا سبيل إلى الوصول إليه.
الرواية صدرت أخيرا في طبعتها العربية عن دار «روايات» بترجمة بندر الحربي، بينما صدرت طبعتها الإنكليزية في عام 1984، وهو تاريخ يجب أن يوضع في الحسبان.

33947182

تعليقات

التعليقات:

اضف التعليق

الرجاء كتابة التعليق

شكرًا لتعليقك. سوف يتم نشر التعليق بعد مراجعتنا.

    إظهار جميع التعليقات