كتب وفنون

علم الحشرات: حيـاة قوامهـا الحشـرات والنزاعـات

تزخر سيرة حياة هاريسون داير بالنزاعات المهنية، وبغرابة الأطوار على المستوى الشخصي، حسب ما يورد ويليام فوستر.

ويليام فوستر
  • Published online:

الفراشات، والأساطير، والبعوض.. الحياة الغريبة لهاريسون داير

مارك إبستاين، دار نشر جامعة أكسفورد: 2016.

ISBN: 9780190215255


هاريسون داير (1866-1929) كان من علماء الأحياء الأمريكيين البارزين، بيد أنه اكتسب سمعة سيئة أثناء حياته. وكان لأعماله الرائدة الفضل في تغيير فهْمنا للنظام الحيوي والتصنيفي لمجموعتين مهمتين من الحشرات على مستوى العالم، وهما حرشفيات الأجنحة (الفراشات والعثة)، والبعوض، إلا أن تراثه العلمي غلبت عليه منازعاته العدوانية الطويلة والعلنية مع رفاقه من علماء الحشرات، إضافة إلى فضائح مشينة حول حياته الخاصة، حيث جمع بين زوجتين لمدة 14 عامًا، منشئًا أسرتين تضمان خمسة أطفال. وفي أواخر حياته، بنى نظامًا ممتدًّا من الأنفاق العميقة المبطنة بالطوب أسفل قلب العاصمة واشنطن، وعندما تم اكتشاف الأمر مصادفة في عام 1924؛ أثارت القصة جدلًا واسعًا، حتى إن رسومًا كرتونية تناولتها أثناء حملة الانتخابات الرئاسية في ذلك العام.

وعن هذا الكتاب الذي يتناول حياه داير؛ «الفراشات، والأساطير، والبعوض» Moths, Myths, and Mosquitoes، ارتبط مؤلفه ـ عالِم تصنيف الحشرات، مارك إبستاين ـ ارتباطًا طويلًا ووثيقًا بقِسْم علم الحشرات بمعهد سميثسونيان في واشنطن، وهو المكان الذي أمضى فيه داير الجانب الأكبر من حياته المهنية. ولكي يتمكن إبستاين من تأليف كتابه، أجرى تنقيبًا عميقًا في تراث المعهد من المطبوعات المنشورة، والمراسلات، واليوميات، والقصص القصيرة، والحكايات غير المنشورة، والمقالات الصحفية، ووثائق الزواج، وهو ما أضفى ثراء على عالم داير الفكري والعلمي، وكذلك أضفى روحًا وحيوية على وصف إبستاين للرحلات التي قام بها داير لجمع الحشرات، والمعارك التي خاضها مع زملائه.

<p>جمع هاريسون داير 500 ألف نوع من البعوض على مدار حياته المهنية.</p>

جمع هاريسون داير 500 ألف نوع من البعوض على مدار حياته المهنية.

Visual Studies Workshop/Getty


إن الإنجاز العلمي الأكبر لداير كان ترسيخه لاستخدام الأطوار غير اليافعة للحشرات في بناء مخططات تطوُّر سلالات الأشجار التطورية، معتمِدًا في ذلك على مبادئ داروين. وفي مواجهة اختبار الزمن، صمدت قائمته التي أعدها في عام 1902، متضمِّنة حرشفيات الأجنحة بأمريكا الشمالية، كما صمدت أغلب تصنيفاته لأنواع الحشرات حرشفيات الأجنحة، والدبابير المنشارية، والبعوض. ولعل أكثر ما يشتهر به داير في أوساط علماء الأحياء هو صياغته للقانون المعروف باسم «قانون داير»، الذي يقول بوجود نسبة ثابتة بين عرض محفظة الرأس لكل مرحلة تطور، أو طَوْر مرحلي في حياة يرقات حرشفيات الأجنحة، وعرض محفظة الرأس للطَّوْر المرحلي الذي يليه. وقد وفَّر هذا القانون طريقة تُستخدَم فيها القياسات الدقيقة، بدلًا من التخمين، وذلك عند فحص عينة من اليرقات؛ لمعرفة الطَّوْر المرحلي الذي تنتمي إليه، وذلك بغض النظر عن الأطوار المفقودة، أو عدد الأطوار المرحلية لدورة حياة أنواع معينة من الحشرات. ويشير إبستاين في كتابه إلى أن داير أجرى تلفيقًا بسيطًا في البيانات؛ لتتوافق مع النموذج الذي أعدَّه. وبرغم ذلك.. ظل النموذج صحيحًا ومفيدًا بشكل عام. يقول: «أثبت النموذج صلاحيته للاستخدام معي عندما أنجزتُ مشروعي الحيوي الأول حول «توضيح قانون داير»، وذلك عندما كنت تلميذًا بالمدرسة في منتصف الستينات».

من المعروف أن اتِّباع معايير موضوعية تضمن الدقة التامة في مجال علم التصنيف ودراسة تطور السلالات هو أمر صعب نسبيًّا، ولذلك يغلب أن يقع الباحثون في إغواء حسم الجدل العلمي بالاعتماد المطلق على قوة الشخصية. وقد اعتنق داير هذا الأسلوب بحماس أهوج، على الرغم من أن أبحاثه عزَّزت الموضوعية في مجاله، لكنه بدا وكأنه يستعذب المعارك العلمية طويلة الأمد. فمثلًا في عام 1905، اتَّهَم داير هنري سكينر محرِّر دورية «إنتومولوجيكال نيوز» Entomological News بأنه مصاب بنوبة «انفعال هستيري»، مضيفًا أنه «من الأفضل له أن يتناول دواءً مهدئًا». وفي المقابل، رد سكينر قائلًا إن داير «أفرط في شرب الماء المثلج»؛ حتى صار دمه «شديد البرودة» إلى الدرجة التي أعجزته عن فهم ما نشرته الدورية. وفي عام 1908، أقامت خبيرة البعوض «إيفيلين ميتشل» دعوى قضائية ضد داير، متهِمةً إيّاه بالقذف والتشهير. وعندما تم رفض الدعوى؛ انتقم داير منها عبر تأليف قصة قصيرة لم تُنشر، بعنوان «ترويض مناضلة»، وفيها أبرز شخصية ترمز إلى ميتشل في صورة مهلهلة وضعيفة. وبمواصلة قراءة كتاب «الفراشات، والأساطير، والبعوض»، يبدأ المرء في الشعور بأن المعارك والخروج على المألوف كانت الوقود المحرِّك لحياة داير، حيث كَتَب في عام 1925 في رسالة إلى ليلاند هوارد ـ رئيسه في ما يُعرف الآن باسم «متحف الولايات المتحدة الوطني للتاريخ الطبيعي» ـ قائلًا: «أشعر بأنني مضطر إلى إثارة الآخرين من حين إلى آخر، خشية أن أغرق في الملل والرتابة».

هناك جانب كبير من الكتاب، وتحديدًا في الجزء المخصص لحياة داير الخاصة، يمنح القارئ شعورًا بأنه إزاء مسودة مادة خام لسيرة ذاتية، أكثر من كونها كتابة منقَّحة. ومع أن إبستاين يتناول مجموعة رائعة من الشخصيات، إلا أنه يصارع من أجل إضفاء الحياة عليها، مما أدى إلى تشوُّش عديد من الفقرات تحت وطأة زحام التفاصيل. وإضافة إلى ذلك.. لا يتيسر للقارئ دومًا الإلمام بالتتابع الزمني الصحيح للأحداث، غير أن وفرة وتميُّز الرسوم التوضيحية والصور الفوتوغرافية ساعدت على ربط الموضوع، وإعطائه لونًا وسياقًا روائيًّا. وهناك صورة مؤثرة تجمع بين داير وابنه أوتيس ـ البالغ من العمر عامين ـ على أحد الشواطئ، وهما يحملقان في الكاميرا بقَدْر من العبوس، بينما يظهر بجوارهما تمثال رملي ضخم، يجسِّد إحدى اليرقات البزاقية الشوكية، فحتى على شاطئ البحر يجد العمل طريقه إلى الأب المشغول دومًا.

ويقدِّم إبستاين في خاتمة الكتاب دليلًا قطعيًّا على التوقيت الذي شهد بدء داير في الجمع بين زوجتين، فقد تزوج داير من زيلا بيبودي في عام 1889، وأنجب منها طفلين، قبل طلاقهما في عام 1920، ومع ذلك.. في عام 1906 تزوج سرًّا من ويليسكا بولوك، منتحلًا اسم ولفريد ألين، وأنجب منها ثلاثة أطفال. وفي موقف سريالي محض، حاولت بولوك الحصول على الطلاق من ذلك الشخص الوهمي المسمى ألين، لكنها فشلت. وفي عام 1917، انكشف خداع داير، وتم فصله من الخدمة الحكومية.

«شَيَّد داير متاهة من الأنفاق المبطَّنة بالطوب، وجَهَّزها بالأنوار الكهربائية».

على الرغم من سلوك داير المروِّع إزاء أقاربه وزملائه - حيث يذكر أنه وصف ماتيلدا كاربنتر أمينة مكتبة معهد سميثسونيان بأنها «وضيعة، ودائمة الصراخ» في رسالة بعث بها إلى رئيسها – إلا أن استغراقه الشديد في عمله كان مثيرًا للإعجاب، فبينما كان يحفر لتجهيز حديقة منزلية لزهور «الخطمية»، من أجل زوجته بيبودي، وجد نفسه على عمق مترين من سطح الأرض، فتَمَلَّكه الدافع إلى مواصلة الحفر. وكانت النتيجة أنه شَيَّد متاهة من الأنفاق المبطنة بالطوب، وجَهَّزها بالأنوار الكهربائية، وتماثيل رؤوس الحيوانات، ومقاطع من أشعار فيرجيل، وقد زعم داير أنه كان يَستخدم الأنفاق للتريُّض. ولا يملك أيُّ عالم أحياء إلا أن يُعجَب بما كان داير يوليه للحشرات ـ التي دَرَسَها ـ من احترام لا يفتر، فعندما شرعت الحكومة الأمريكية في إبادة البعوض في «حديقة يوسيميتي الوطنية» بولاية كاليفورنيا؛ احتج داير بقوله إن بضع لدغات ستكون «جيدة للمتنزهين، بل قد تضيف نكهة إلى أوقات انتظار الصيادين».