عندما تحكي العيون


11329818_10153090845342928_1171408931490954238_n
تركتهم وهم يلعبون السيجة تحتها 

تركتهم مُسافراً إلى خارج الوطن عندما كنت صغيراً في السن، وهم يأكلون ويشربون ويدخنون وينسجون سِلالهم ويلعبون الورق والمنقلة والسيجة والمدفونة تحتها، بل وحتى يلاعبون أطفالهم داخل ساقها، ويقطفون من ثمارها قبيل أن تنضج فيصنعون منها زيتوناً أخضر، وزيتوناً أسود عندما تنضج تلك الثمار. أما عندما تفرغ جرارهم من الزيت، فيجمعون الناضج من ثمارها وتقوم النساء بهرسه بـالمدرس اليدوي ثم يضعون الثمار المهروسة في الماء المغلي فيطفوا الزيت على سطح الماء، بعدها تقوم النساء بجمعه بأيديهن ويسمونه (زيت الطفاح) وعندما يأكلونه يشعرون بحرقة مُحببة على اللسان.

20131004_165031
زيت البدودية 

ومن منهم لا يعجبه حرقة زيت الطفاح يقوم بقطف الثمار الناضجة والتي بدأت تلون نفسها بنفسها، ثم يضعها في نار تعد خصيصاً لذلك باستخدام (النتش) في إشعالها، ثم يقوم بدقها وتنعيمها ثم يعصرها بيديه، وهذه العملية تتطلب قوة ومهارة وخبرة فليس كل رجل يستطيع أن يعصر هذا المزيج ويخرج منه زيت (البدودية) الذي عندما يأكلونه يتذوقون فيه رائحة الشواء اللذيذة. 

BenQ Corporation
على أطراف الكانون يشوون البطاطا والعجرم والبلوط

أما إذا احتاجوا إلى الدفء في شتائهم البارد فهم يقطعون من ساقها قطعاً تناسب مدافئهم، ومن أغصانها قطعاً أصغر، ومن أوراقها يُشعلون النار فيما يقطعون. وبعد أن تشتعل النار في كوانينهم يضيفون إليها من جِفتها المخزون عندهم لتبقى النار دائمة الاشتعال، فتنبعث الحرارة للجميع وتخلصهم من برد الشتاء القارص، وعلى أطراف هذه النار يشوون البطاطا والعجرم والبلوط والباقوس ومنها يأكلون في سهراتهم.

Picture2650
المضافة

وتقوم الجدة بسرد القصص والحكايات والأساطير القديمة لأحفادها، وفي حالة غيابها تقوم الأم بدورها في انتظار قدوم زوجها بعد أن تنتهي سهرة الرجال في مضافتهم، أما إذا تملك الأولاد شيءٌ من النعاس، فتقوم الأم بقلي البقوليات لأولادها، وبهذا كانوا يتغلبون على ليالي الشتاء الطويلة، فلا يخافون الرعد الذي يتلو البرق بعد أن يضيئ عليهم ليلهم ويخيف صغارهم.

images7f2d7qb1
الباطية

أما إذا احتاجوا إلى وعاء للعجين، فمن جذورها يصنعون الباطية، وإذا احتاجوا إلى أوعية منها يأكلون فمن أغصانها يصنعون الكرمية. أما إذا أرادوا تسريح شعورهم فمن خشب جذورها يصنعون أمشاطاً فيها يتباهون ويفتخرون. وإذا أرادوا تجميل عيون نسائهم ويناتهم فمن خشبها يصنعون المرواد لإخراج الكحل من المكحلة ثم وضعه في العيون. وإذا بدأ الملل يتسرب إلى حياتهم فمن جذورها يصنعون الغليون ليُدخنون ما كانوا قد زرعوا من الدخان.

934_457x400
امرأة تصنع من خرصان الزيتون قرطلة 

ومن جذورها أيضاً يصنعون أداة للعزف اسمها الشِّبابة، ومن خشبها أيضاً يصنعون الهاون ليدقون به قهوتهم التي يشربون، ومن خشب ساقها يصنعون لعبة المنقلة التي بها يتسلون، ومن عجم ثمارها يصنعون مسابحهم. أما إذا احتاجوا إلى أوعية يحملون بها حاجاتهم فمن خرصانها ينسجون السلة والقرطلة والسل والملقطة، أما إذا احتاجوا إلى ملاعبة أطفالهم فيصنعون لهم من أغصانها الصقير والمرتى والكورة ليلعبون. 

images7
المذراة

ومن ثمارها يخترعون لعبتهم المفضلة ألا وهي المدفونة، فيقومون بدفن ثمارها قبل أن تنضج في التراب ويحصل كل منهم على شوكة سويد طويلة ويقوم بغرسها في التراب فتخرج ومعها حب الزيتون المدفون، وتنتهي هذه اللعبة بعد إخراج كل الحب المدفون ومعرفة الفائز فيها. 

وعندما يحتاجون إلى أداة لفصل قمحهم عن القش يصنعون المذراة وإذا احتاجوا إلى تحميل زرعهم وإحضاره من الحقل إلى البيدر فيصنعون الحمالة لدوابهم فتنقلهم إلى حيث يشاؤون.  

KUAW2
الدوكان

أما إذا احتاجوا إلى عصا ليتكئوا عليها في مشيتهم حيناً أو لحملها والتشبب والتفاخر بها أحياناً أخرى، فقد كان المرء في الماضي يُعرف من عصاه التي يحملها لا من سيارته كما هو الحال في هذه الأيام، فمن أغصانها يقطعون ويتفننون في صناعة عصيهم. أما عندما تعلو ثمار أشجارهم ولا تطولها أيديهم فمن أغصانها يقطعون ويصنعون العبّية، وهي عصا طويلة تُستعمل لقطف الثمار البعيدة. وإذا علت الثمار أكثر فيصنعون من أغصانها الـذيّال وهي الأخت الكبرى للعبّية، لإسقاطها على الأرض ثم تناولها.

10012484_1485656561652922_651325665903169712_n
النحل يضع عسله وشمعه ومملكته أمانة عندها

حتى النحل يضع ملكته وعسله وشمعه أمانة عندها، فبعُلوّها وتمنع الأعداء من الوصول إليه أو التمكن منه، وتلجأ لها بقية الحيوانات صيفاً وتحت ظلالها يقيلون ويربطون في ساقها دوابهم فتحافظ لهم عليها من الهروب أما أوراقها عندما تسقط على الأرض فتكون سماداً عضوياً لأرضهم التي بها يزرعون وعندما يجمعونها يستخدمونها زبلاً لطوابينهم التي بها يخبزون ومن سكنها يسمّدون أرضهم وفيها بالشتاء يجلسون. 

ط§ظ„طµط§ط¨ظˆظ† ط§ظ„ظ†ط§ط¨ظ„ط³ظٹ
الصابون

وعندما تنضج ثمارها يعصرونها ويستخرجون منها زيتاً فيه شفاء للناس، ويضعونه بقناديلهم لإزالة الظلام من حولهم، أو من حول قبور أولياء الله الصالحين التي يضيئونها في بعض المناسبات الخاصة أو العامة ومن زيتها يصنعون الصابون. أما إذا احتاجوا المال فيبيعون خشبها وثمارها وزيتها وزيتونها وجفتها وأرضها ويحققون ما يطلبون فهل عرفتم من تكون هذه الشجرة العظيمة؟ إنها شجرة الزيتون المباركة.

untitled31
العرقوب 

عدتُ بعد غياب دام ثلاثين عاماً ونيف فوجدتها في حالة يرثى لها، وجدتها تبكي على حالها فشفقت عليها وسألتها: ما الذي يُبكيك يا شجرتنا المباركة؟ فأجابتني ودمعُ العين يسبقها: لقد انعدم الوفاء بين الناس في غيبتك، فقد غيّروا اسمي وأصبحوا يُسمونني العرقوب بعد أن تساقطت أوراقي وقلت أغصاني ونحفت ساقي وماتت معظم جذوري، فلا طير ولا نحل يحوم حولي، ولم يعد أحد من الناس يجلس تحتي لا صغاراً ولا كباراً بل تركوني وحيدة، ولم يعد أحد منهم يريد ثماري. وعندما أصبحت بحاجة إلى من يسندني ويرعاني تحوّلوا عني إلى شجرة أخرى كانت بالأمس أمامي صغيرة.

images5y2faozj
لا يكتفون منه بابتسامة بل يريدونها قهقهة

قلت لها: لا تحزني يا عزيزتي، أريدك أن تفهمي أن مصيرك هذا هو مصير كل حيّ في هذه الحياة: ما دام يُعطي فالجميع حوله والكل يطلب ودّه ورضاه، فالإنسان ياعزيزتي عندما يكون قويّاً فإن الناس يضعون عنده أماناتهم وأسرارهم وحكاياتهم، ويتمنون التحدث معه وإضحاكه، ويُحاولون الاستفادة من كل أشيائه ابتداءً من اسمه ومروراً بممتلكاته، وانتهاءً بوفاته أما عندما يضعف هذا الإنسان فينفض الناس من حوله ويتنكرون لماضيه وحاضره.

1524696_10202943326251994_1445770938_n
يصمت لسانه وتتكلم عيونه

عليك عزيزتي أن تأخذي درساَ من الإنسان، ولا تحزني فالإنسان عندما يصبح عرقوباً يفقد السيطرة على جسمه، ولن يجد من يساعده ويشعر بضعفه، ولا يجد من يسمعه، وينتظر ردّ الجميل ممّن حوله فلا يجد من يُقدّره، عندها يكتشف أنه أصبح عبئاً على من حوله، فيصمت لسانه وتتكلم عيونه، ويبدأ بمراقبة من حوله مُستعرضاً ماضيهم واحداً تلو الآخر، لكنه لا يستطيع تذكيرهم بماضيهم عندما كانوا ينتظرون منه ولو ابتسامة. وسرعان ما يكتشف أن الأبعد عنه اليوم كان بالأمس هو الأقرب إليه، لكنه أخطأ في استشراف حقيقة الناس من حوله، ولكن الأوان قد فات لاستدراك ذلك الخطأ.  

jerold_olive.jpg
وعادت خضراء يانعة بعد أن سمعت كلامي

نظرتُ إليها بعد أن سمعت كلامي وإذا بها قد عادت إلى الحياة ثانية كما عرفتها خضراء يانعة، تنشر الظلال على مو حولها، وقالت: لا أريد منكم أن تعطوني مثل ما أخذتم مني، فأنا خُلقت للعطاء. لكن أريد منكم الوفاء فقط، فأولادكم ليسوا مثلكم فهم قد نسوا أن العرقوب يعطيهم الفرصة كي يمارسوا إنسانيتهم، ويكتشفوا من خلاله صدقهم، ويطبقوا ما يتبجحون به ليلاً نهاراً بأنهم أتقياء صالحون، فالشجرة الخضراء اليوم هي عرقوب الغد،   

لا شيء أشد إيلاماً في النفس، يا ولدي، من أن يكون العرقوب في مواجهة الموت وكل من حوله غير عابئين به، وذلك بعد أن قَضَوا حاجتهم منه.  

الدنيا حكايات

مـدفـع مـن تـيـن


untitled
من كان يمتلك كرماً من العنب يجعل نصفه للمارة

بالأمس القريب كان الناس يحسدون كل من يملك أرضاً أو بيتاً على الطريق العام لأنه سيكون الأقرب إلى خدمة المارة وبالتالي سيكون الأقرب إلى الله تعالى، فمن كانت أرضه تتصل بالشارع كان يضع أمام بيته زيراً ويملأه بالماء ليشرب منه المارة صدقة جارية عنه، ومن كان يمتلك كرماً من الأشجار المثمرة كالعنب والتين يجعل نصفه للمارة، ومن كان ذو سعة يخصص غرفة خاصة في منزله يقدم فيها الطعام والشراب والمنام لمن يحتاجها ليلاً أو نهاراً لأنه يعتبر نفسه مسؤولاً عن كل محتاج يقترب من بيته أو أرضه. 

untitled510
 قام بتقليم شجرة التين كمدفع 

أما في هذه الأيام فالبعض منا أصبح يحسد الطريق على اتساعها ويستكثر على الناس هذا الرصيف المقتطع من أرضه كي يسير عليه المارة ولا يزاحمون السيارات في الشوارع فيقوم بزراعة الأشجار المثمرة كبيرة الحجم كالتين والزيتون أمام بيوتهم ومنهم من يطلق لها العنان كي تكبر وتتفرع وتسد على الناس طريقهم. حتى وصل بهم الأمر إلى أن أحدهم وصل به الأمر أن يفتخر أمامي بأنه عصر عشر تنكات زيت من الزيتون الذي كان قد زرعه على رصيف الشارع، ومنهم من عز عليه أن يمر أحد المارة ويلتقط حبة تين ليأكلها وهو في طريقه إلى عمله فقام بتقليم شجرة التين هذه لتصبح كمدفع قاعدته منصوبة في رصيف الشارع ورأسه مُصوّب على داخل منزله ليستفيد هو فقط من الشارع ولا يفيد غيره. 

مـقـالات