"دمية كوكوشكا" وصفة غرائبية ساخرة

الكاتب البرتغالي أفونسو كروش يفضل أن يكون أسلوبه غير المألوف مُطعّماً بالسُخرية، ويهدفُ من وراء ذلك إلى قلب ما يُسمّى بالمعايير الأُسلوبية المُتسيّدة.


الكاتبُ نجحَ في أن يجعلَ ما هو غريب وغامضُ ومُتنافر حالة طبيعية في رواياته


السردُ يتسلسلُ إلى أن يفتح قوسه على شخصية تسيليا وهي تهرب من البيت

بقلم: كه يلان مُحمَد

تتميّز روايات الكاتب البرتغالي أفونسو كروش بطابع غرائبي، وهذا ما يكشفهُ القارئ من العناوين التي يختارُها، إذ تُفاجئك بعبارات وجمل إنشائية وخبرية مثل "هيا نشترِ شاعراً" أو "الكتب التي إلتهمت والدي".
يُفضّل صاحب "الرسّام تحت المجلى" أن يكون أسلوبه غير المألوف مُطعّماً بالسُخرية، ويهدفُ من وراء ذلك إلى قلب ما يُسمّى بالمعايير الأُسلوبية المُتسيّدة.
كائنات ورقية
زدْ على ذلك فإنّ الملفوظات المحمّلة بدلالات فلسفية تأتي في سياق سرده الروائي مُتفاعلاً مع نصوص غيره من الروائيين والفلاسفة، ما يعني أنّ أفونسو كروش قارئ من طراز خاص، إذ في روايته المعنونة بـ "الكتب التي التهمت والدي" يسحبُ من بين طيّات الروايات العالمية شخصيات مُتخايلة أمثال راسكولنيكوف والسيد هايد وإدوارد بريننديك وبياتريس، يتحاور بطله إلياسُ الذي يبحثُ عن مصير والده فيفالدو بونفين مع تلك الكائنات الورقية. ومن المُلاحظ أنّ الشخصية الأساسية في أعمال أفونسو كروش تمرُّ بحالة التأزّم وتعيشُ في أجواء الحرب أو تعاني من التهميش، كما هو عليه حال بطل "هيا نشترِ شاعراً".
الغريب طبيعي
نجحَ الكاتبُ في أن يجعلَ ما هو غريب وغامضُ ومُتنافر حالة طبيعية في رواياته، وذلك بفضلِ سلاسة السرد والانتقال بين الأجزاء التي تتوزّع عليها المادة السردية، وتمرير مواقف ساخرة في تجاويف عمله. كل هذه المواصفات تتوافر في الرواية التي تحمل عنوان "دمية كوكوشكا" الصادرة من مسكيلياني تونس 2018 والفائزة بجائزة الإتحاد الأوروبي للأدب 2012.
تتقاطع في فضاء هذا العمل عدة قصصٍ لشخصيات ذات تركيبة عجائبية إختبرت شتى الأطوار، التغرّب والهروب والحبّ والفراق، كما أنَّ البحث عن الجذور أيضاً هو موضوعة أساسية في بناء الرواية.

حكايات مُتناثرة لا يوجد رابط واضح يجمعها، لكنّ ذلك لا يعني بأنَّه عملُ متهلهل البنيان بل يسندُ المؤلف مهمّة لملمة تلك الشذرات وإيجاد التواصل بين وحدات روايته إلى المتلقّي

ناهيك عن الإشارة إلى أهوال الحرب العالمية الثانية وقصف مدينة درسدن. إلى جانب ذلك، فإنّ تبعثر أسرة المليونير زيغموند فارغا الذي أنجب 50 ولداً يمدُ العملَ بعناصر التشويق والمفارقة وما عاشته إبنتا المليونير أنستازيا فارغا ولويز من المُغامرات والانطلاق خارج ما هو مرسوم، يمنحُ السرد زخماً ومزيداً من الصخب.
بداية بسيطة
تتوالى حلقات الرواية وتتشابكُ خيوطُها بدءاً ممّا تُطالعه عن نشوء العلاقة بين بونيفاز فوغل وإسحاق درسنر، بينما كان بونيفاز متواجداً في حانوته المخصّص لبيع الطيور، فإذا به يسمع صوتاً طالعاً من تحت الأرض زعم بأنَّ ثمّة جرذاناً في متجره وأراد الاستعانة بشخص يخلّصه منها، لكن منعهُ شيء من القيام بذلك. تُطلقُ آلة السرد بهذه البداية البسيطة وما تلبثُ تشكيلة الأحداثِ حتى تتّخذ صورة أُخرى، وتُحاكي صيغة كاريكاتورية. إذ يتّضحُ بأنَّ مصدر الصوت هو إسحاق درسنر المُختبئ وهو يهوديُ هارب يظلُّ لا مرئياً في هذا المكان وينبّهُ صاحب الحانوت بأنَّ الشخص الذي يشترى منه الكناري يتحايل عليه بدهن العصافير باللون الأصفر.
ومن ثُم يطلبُ منه أن يتركَ له الأطعمة بعد مُغادرته للمتجر. أكثر من ذلك، يتقمصُ دور الواعظ شارحاً تعاليم دينه بالتفصيل وما ذكر عن شخصيات دينية وعندما تضعُ الحربُ أوزارها يخرجُ إسحاق درسنر من مخبئه ويتحوّلُ إلى كائن حقيقي، وما أن يمرُّ أحدُ الجنودِ سائلاً إياه عن علاقته بصاحب المتجرِ، حتى يقولُ بأنهُ إبن بونيفاز فوغل، علماً بأنَّ إسحاق أكبرُ سناً ممَّن اتّخذه أباً وتنضمُ تسيليا أيضاً إلى شجرة العائلة.
عبثيّة الأحداث
وما يُقَدِمهُ أفنسو كروش عبارة عن مشهد ما بعد الحرب الذي تتحلّل فيه ملامحُ الأشياءِ ويرخى اللامعقول بسدوله على وجه الحياة. تتواردُ في إطار الرواية ما يظهر جانباً عبثياً في سير الأحداث والعلاقات القائمة بين الشخصيات. 
ينصرفُ الراوي في مفصل آخر من الرواية إلى سرد حياة درسنر فكان جده حفار القبور وجدته قابلةً وحين بصر ديفيد درسنر النور ودّعت أمه الحياة. ويوصي حفار القبور ابنه بدفنه في تراب زوجته فيحقق ديفيد وصية أبيه. ويلى ذلك قسم عن جدتي إسحاق درسنر من أمه ويُقتلُ جده من الأم في بيت العقيد مولر والغريب فيما يرويه الحفيد عن جده هو محاولة الأخير لكتابة أحلامه بالإستمرار. 

شبكة معقدة من العلاقات
يصنّف الناس بحسب السلالم الموسيقية 

هكذا يتسلسلُ السردُ إلى أن يفتح قوسه على شخصية تسيليا وهي تهرب من البيت. بعدما ترفض الزواج رغماً عنها وترمي بنفسها في النهر غير أنّ مزارعاً ينقذها وبعدما تملُ من تصرفات سيدها ستيبونين وتعامله المهين تهربُ إلى ألمانيا وتستقرُ لدى فنان بمدينة درسدن. مع مضي في تتبع وقائع العمل تنتظمُ شخصيات أخرى على خطّ السرد. ويندمجُ مزيدُ من القصص في بنية الرواية.
رؤى مُتداخلة
من الواضح بالنسبة لمتابعي أدب أفونسو كروش شغفه بالأفكار الفلسفية والأسطورية إضافة إلى اهتمامه بالرياضيات إذ يضمنُ كل ذلك في نسيج سردياته الروائية. ولا يؤدي هذا التداخل إلى تورّم الرواية بما لا يخدمُ فكرته الأساسية، هنا يستعيدُ أسطورة بغماليون من خلال شخصية أوسكار كوكوشكا الذي أوصى صانعة الدمى بصناعة دمية على مقاس حبيبته ألما، كما أنّ ماتياس بوبا يُمثِّلُ وجهاً آخر لتراجيديا أوديب، فابن لويزا تورّط في زنا المحارم، وأقام علاقة حميمية مع أناستازيا فارغا دون أن يعرف بأنّ هذه المرأة ليست إلّا خالته التي طافت في القارة الأفريقية لتحقيق أسطورة أكزوم تلبية لرغبة صديقها إدوا. 
هنا يكون المتلقي أمام شبكة معقدة من العلاقات التي تبحثُ أدل فرغا عن وحداتها، زدْ على ذلك تشكلُ شخصية نيكولاس مارينا جانباً فكاهياً في خطوط الرواية فهو يؤلف كتاباً بعنوان "تقمصات فيثاغورس" ويثبتُ أسماء مراجع ومصادر وهمية في آخر إصداره ويأتي مَن يشرع بكتابة الدراسات عن تلك المصادر المُتخيّلة. وليست تصرفات زيغموند أقل تهكّماً ممّا أصدره المؤلف فكانَ الرجل الغني مولعاً بجمع الفراشات ويعتقدُ بأنّ الإنسان يتخلص من شروره بعد النوم.
وميروكودا يصنّف الناس بحسب السلالم الموسيقية واضعاً لكل شخصية سلماً خاصاً. والأهم من ذلك فإنّ أفونسو كروش يكلف شخصيات روايته بتناول رؤية فيثاغورس بشأن موضوع المسافة ودوره في الحياة كما يشير إلى مسألة الأنتروبيا أي الإعتباطية الفيزيائية. 
ما بقي أن نقوله حول أسلوب أفونسو كروش أنهُ يخلخلُ منظومة السرد العادي فـ "دمية كوكوشكا" عبارة عن حكايات مُتناثرة لا يوجد رابط واضح يجمعها، لكنّ ذلك لا يعني بأنَّه عملُ متهلهل البنيان بل يسندُ المؤلف مهمّة لملمة تلك الشذرات وإيجاد التواصل بين وحدات روايته إلى المتلقّي الذي تغريه سلاسة القص والإنسيابية في التنقل بين الأجزاء بمواصلة القراءة دون أن يسأل عن مغزى العمل وعبثية مواقف الشخصيات.