تحتضن تونس هذا العام الدورة الـ50 للفرنكفونية. وبذلك تكون الدولة العربية الثانية بعد لبنان التي احتضنتها عام 2002م. وسيحضر الاحتفال الكبير بهذه الدورة الذي سوف ينتظم في ديسمبر القادم من العام الحالي، رؤساء دول وحكومات من مختلف أنحاء العالم. وتعدّ الفرنكفونية ركنًا أساسيًّا في السياسة الخارجية الفرنسية، ووسيلة للحفاظ على مكانة لغة موليير التي تقلصت بعد أن أصبحت اللغة الإنجليزية اللغة الأولى بالنسبة للعالم بأسره. وستعيش تونس على مدى العام الحالي على وتيرة تظاهرات وندوات ثقافية وسياسية وفنية واقتصادية تعكس وضع فرنسا الراهن على مستويات متعددة ومختلفة، وتبرز علاقتها بالدول التي لا تزال تولي اهتمامًا للغة موليير التي كانت اللغة الأكثر انتشارًا في أوربا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر.

وعلينا أن نشير في البداية إلى أن النخب التونسية أقبلت على تعلم اللغة الفرنسية انطلاقًا من مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أي عقب مرور سنوات قليلة على الزيارة التاريخية التي أداها أحمد باي إلى العاصمة الفرنسية وذلك عام 1846م. وخلال تلك الزيارة التي تمت بدعوة من الملك لوي نابليون، زار الباي العديد من المعالم التاريخية، واطلع على العديد من مظاهر الحضارة الجديدة في مجال الصناعة والثقافة، وحضر لأول مرة في حياته عرضًا مسرحيًّا تضمن دفاعًا جريئًا عن حرية المرأة. وعند عودته إلى تونس، بنى قصرًا جنوب العاصمة محاولًا تقليد قصر فارساي، وشجع مستشاريه من الشبان خاصة على تعلم اللغة الفرنسية مطالبًا إياهم بترجمة كتب عن بطولات وحروب نابليون. وكان خير الدين باشا الذي تزعم الحركة الإصلاحية، وأشرف على إنجاز أول دستور تعرفه تونس وذلك عام 1858م، أول من أتقن اللغة الفرنسية، وبها تحاور مع شخصيات سياسية كبيرة في فرنسا، وفي أوربا عامة.

كما أن هذه اللغة ساعدته على الاطلاع على الدساتير الغربية، وعلى التعرف إلى تاريخ الثورة الفرنسية ليؤلف كتابه الشهير :«أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك». وقد ازدادت النخب التونسية إقبالًا على تعلم اللغة الفرنسية بعد أن أسس خير الدين «المدرسة الصادقية» التي كان الهدف الأساسي منها الانفتاح على الحضارة الغربية ومنجزاتها العلمية والصناعية والفكرية والثقافية بواسطة اللغة الفرنسية التي ازدادت انتشارًا في البلاد التونسية بعد أن وقّعَ حاكمها الصادق باي وثيقة الاحتلال الفرنسية في الثاني عشر من شهر مايو 1881م.

لكن ماذا عن الأدب التونسي المكتوب باللغة الفرنسية؟

بداية يجدر بنا أن نشير إلى أن هذا الأدب لم يعرف الرواج والانتشار اللذين حظي بهما في كل من الجزائر والمغرب لا خلال الحقبة الاستعمارية، ولا بعدها. وأول عمل أدبي لفت انتباه النقاد الفرنسيين كان رواية «تمثال الملح» لليهودي التونسي ألبير ممي الذي ولد في حارة اليهود في قلب الجزء العتيق من العاصمة التونسية، وفيها يرسم صورة بديعة لطفولته البائسة التي عرف فيها الجوع والقهر، إلّا أن ذلك لم يمنعه من مواصلة تعليمه ليحصل من جامعة السوربون بباريس على إجازة في الفلسفة. حتى وإن كتبت بالفرنسية، وكان مؤلفها يهوديًّا، فإن النقاد ومؤرخي الأدب يعدُّون «نمثال الملح» من أهم الروايات التي تصف الحياة التونسية في النصف الأول من القرن العشرين. وفي حوار أجري معه يقول ألبير ممي: «لقد عشت الصراع بين الغرب والشرق في فترة شبابي. من ناحية أحاسيسي، وحياتي الخاصة يمكن أن أقول بإنني ظللت شرقيًّا بأتم معنى الكلمة. وأنا هنا في قلب باريس التي انتقلت للعيش فيها منذ الخمسينات، أستريح في القيلولة مثل أي شرقي يحترم عاداته وتقاليده. وعندما كنت صغيرًا، كان التكلم بالعربية في المدرسة ممنوعًا منعًا باتًّا. لذا كانت اللغة الفرنسية نافذتي على العالم».

بعد استقلال تونس، قام بورقيبة بغلق جامع الزيتونة ليجعل من اللغة الفرنسية اللغة الأولى في المدارس والجامعات، حتى في الإدارة. مع ذلك، ظلت اللغة العربية اللغة المفضلة للكتاب والشعراء الذين لعبوا دورًا مهمًّا في بروز حركات وتيارات طلائعية في القصة والنقد والشعر خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. لكن البعض من أبناء تلك الحقبة اختاروا الكتابة باللغة الفرنسية. ومن أبرز هؤلاء يمكن أن نذكر الراحل عبدالوهاب المؤدب، والمنصف غشام، والطاهر البكري، وأمينة سعيد، والهادي بوراوي، ومحمد عزيزة الذي كان يمضي نصوصه النثرية والشعرية بـ«شمس نذير».

شهرة في الأوساط الفرنكفونية

لكن ثلاثة فقط من بين هؤلاء تمكنوا من أن تحظى أعمالهم بنوع من الشهرة في الأوساط الفرنكفونية. أول هؤلاء هو عبدالوهاب المؤدب الذي كتب الشعر، والرواية والدراسة الفكرية المركزة بالخصوص على وضع الإسلام بعد بروز الأصوليات وتغلغلها في المجتمعات العربية، وفي الجاليات المغاربية التي تعيش في فرنسا تحديدًا. وقبل وفاته عام 2014م، ازدادت شهرة عبدالوهاب المؤدب اتساعًا في فرنسا التي أقام فيها منذ سنوات شبابه ليحصل على العديد من الجوائز الرفيعة تقديرًا لأعماله الشعرية والنثرية والفكرية.

أما الهادي بوراوي الذي توفي عام 2009م، فقد عاش الشطر الأكبر من حياته بين نيويورك وتورنتو الكندية. وقد صدرت جل رواياته عن دار «غاليمار» الفرنسية المرموقة. كما أنه أحرز العديد من الجوائز المهمة في كل من كندا وفرنسا. وخلافًا لعبدالوهاب المؤدب، والهادي بوراوي، فضل المنصف غشام المولود في مدينة المهدية البحرية عام 1946م العيش في تونس. وقد أصدر إلى حد الآن العديد من المجموعات الشعرية التي لاقت تجاوبًا كبيرًا لدى أحباء الشعر.

كما أصدر المنصف غشام مجموعة قصصية واحدة حازت تقدير النقاد الفرنسيين، وفيها يرسم صورة رائعة عن حياة البحّارة في مدينته، وعن كفاحهم اليومي من أجل الحصول على القوت وسط أمواج البحر وعواصفه الهوجاء.

وإلى حد هذه الساعة، أصدرت أمينة سعيد التي تعيش في باريس منذ السبعينيات من القرن الماضي، سبع مجموعات شعرية، نالت اثنتان منهما جائزتين. وهي تقول: «صحيح أنني أكتب بالفرنسية، إلاّ أنني أحس أنني شرقية، وأن ما كتبته ينتمي إلى الشرق… والذين نقلوا قصائدي إلى اللغة العربية أكدوا لي أن قصائدي تعكس عوالم وأجواء شرقية بألوانها وروائحها وأساطيرها».

وراهنًا تشهد اللغة الفرنسية في تونس تقلصًا كبيرًا لم يسبق له مثيل. مع ذلك لا يزال هناك كُتّاب وشعراء متعلقون بها، وبها يكتبون نصوصهم النثرية والشعرية. ومن أبرز هؤلاء الكاتبة فوزية الزواري التي تعيش في باريس منذ السبعينيات من القرن الماضي. وهي تكتب بلغة فرنسية راقية وشعرية. وجميع الروايات التي أصدرتها إلى حد هذه الساعة مستوحاة من قضايا وأجواء تونسية، بل من بيئتها الريفية القريبة من الحدود الفاصلة بين تونس والجزائر. وقد حازت روايتها الأخيرة «جسد أمي» جوائز عدة تونسية وفرنسية. كما أنها كرمت مؤخرًا بوسام الفرسان من الرئيس الفرنسي ماكرون. ويُنتظر أن تؤدي فوزية الزواري التي تتمتع بتقدير الأوساط الفرنسية المثقفة والسياسية والإعلامية دورًا مهمًّا في إنجاح الدورة الحالية للفرنكفونية في تونس بحكم ترأسها لبرلمان الكاتبات الناطقات بلغة موليير الذي أنشئ قبل عامين…