فخري كريم مشاغب يقلق إسلاميي العراق

السبت 2016/12/24
سياسي وإعلامي مخضرم ينجح في كل المهمات

لندن - برز اسم الصحافي والكاتب فخري كريم زنكنة، قبل أبريل 2003 وبعده، كمؤثر سياسي بلا حزب أو جماعة تنظيمية، وذلك بعد الاعتزال من العمل الحزبي، في أوائل عقد التسعينات من القرن العشرين، متجهاً إلى عالم النشر والطباعة، ودخله بقوة بتأسيس دار المدى، نحو 1993 في دمشق. وكانت آنذاك علاقته جيدة بالنظام السوري بما يلتقيان به ضد النظام العراقي السابق، وكان هذا شأن المعارضة العراقية كافة، الدينية منها والعلمانية.

كان النشر والطباعة هاجساً لدى الصحافي الشاب فخري كريم، الذي انتمى إلى نقابة الصحافيين العراقيين عام 1959، وقيل كان الأصغر سناً في نقابة يترأسها الشاعر المعروف محمد مهدي الجواهري، ذلك إذا علمنا أنه ولد العام 1942 من أسرة كردية فيلية شيعية. لكن حياته في بغداد، وانخراطه في الحزب الشيوعي العراقي مبكراً، والذي تدرج فيه حتى أصبح عضواً في لجنته المركزية ثم مكتبه السياسي، لم يفسحا له بتأكيد الانتماء المذهبي أو القومي بقدر ما ظل متشبثاً بانتمائه العراقي، وبعد الخروج من العراق في نهاية السبعينات من القرن الماضي، صار محوراً بين الأحزاب الكردية والأحزاب العراقية الأخرى، وظل الأقرب إلى القطبين الكرديين: جلال الطالباني ومسعود البارزاني.

انطلق كريم في تحقيق حلمه في عالم النشر والطباعة من مجلة “النهج”، وهي مجلة الحركة الشيوعية العربية، وبدعم من اليمن الجنوبي والأحزاب الشيوعية، وأخذت المجلة موقعها بين الدوريات العربية الفكرية الثقافية، وقدمت محاور ومقابلات وبحوثا تتعلق بالماركسية والاقتصاد والسياسة، وظلت تصدر كدورية فصلية حتى توقفت بعد انتقال مؤسسة المدى من دمشق إلى بغداد، بعد أبريل 2003.

مجلة (النهج)، تعد مجلة الحركة الشيوعية العربية التي أطلقها فخري كريم بدعم من اليمن الجنوبي والأحزاب الشيوعية، لتأخذ موقعها بين الدوريات العربية الفكرية الثقافية

إلى جانب مجلة “النهج” كانت دار المدى للنشر والإعلام تصدر مجلة “المدى” الثقافية، عمل فيها مثقفون عراقيون معروفون، واستوعبت أقلاما جديدة في الشعر والرواية والبحث، إلى جانب الكُتاب القدماء، من العرب والعراقيين، وذلك بالتزامن مع نشر الكتب الثقافية والفكرية، منها الجديدة ومنها الكتب المترجمة، وعلى وجه الخصوص الروايات الفائزة بجائزة نوبل. كانت البداية العام 1993 وما تزال الدار مستمرة بالنشر، حتى أصبحت من الدور العربية في عالم النشر.

لا تستغرب إذا سمعت مَن يقول عن كريم، بأنه لولا التزامه الحزبي والاعتقال الذي تعرض له في عهود مختلفة لكان مِن أوائل رجال الأعمال، وإن كان في عالم محصور في النشر والإعلام، فعندما كان مديراً لتحرير صحيفة طريق الشعب (1979-1973)، كان يأتي بكتاب ويفرطه إلى أجزاء ويقوم بتوزيعه على أكثر من مترجم، لُيطبع باللغة العربية، لكن ذلك كان ضمن الحدود الحزبية وليس التجارية.

بعدها أسس في العام 1983 في المهجر، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، وأصدر عن المركز مجلة “النهج” مثلما ذكرنا، والتي تحولت إلى المنبر المشترك للأحزاب الشيوعية والعمالية في العالم العربي، وأصبحت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية الأخرى منبراً يسارياً.

مدرسة "البلاد"

قبل ذلك، وفي داخل العراق، عمل منذ انهيار مشروع النشر، والذي رافقه تلبّد الوضع السياسي والنزوع نحو التضييق على الحريات، في العديد من الصحف والمجلات اليومية والأسبوعية، كان من بين أبرزها وأكثرها تأثيراً على نشاطه الصحافي جريدة “البلاد” لمؤسسها روفائيل بطي، والذي بعد وفاته السنة 1956 تولى شؤونها نجله فائق بطي، وظل صديقاً لفخري كريم حتى وفاته، ونعاه فخري بكلمة بعنوان “تركتني وحدي”.

كما عمل خلال حياته، في صحف يومية وأسبوعية عراقية، ومن بينها جريدة “الثبات” لصاحبها محمود شوكت، بالإضافة إلى صحفٍ ومجلاتٍ أخرى.

وبعد بداية التعاون بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي كلفته قيادة الحزب الشيوعي بتقديم طلب لإصدار جريدة “الفكر الجديد” الأسبوعية وأصبح صاحب امتيازها، وكانت إلى جانبها النسخة الكردية، ويرأس التحرير الباحث العراقي حسين قاسم العزيز صاحب كتاب “البابكية” المعروف.

أصبح كريم مديراً لتحرير جريدة “طريق الشعب” اليومية، وإلى جانب ذلك نائباً لنقيب الصحافيين العراقيين، وذلك ضمن التعاون الجبهوي بين الحزبين، وذلك من 1970 وحتى 1980، إضافة إلى ذلك كان عضواً في المكتب الدائم لاتحاد الصحافيين العرب، ونائباً لرئيس اللجنة الاجتماعية لمنظمة الصحافيين العالمية.

فخري كريم ينشر باستمرار مقالات ناقدة عن الإسلام السياسي، وقد كانت إحدى أشهر مقالاته (الإسلام السياسي وحده كافٍ للإساءة للإسلام)، جمعت تلك المقالات لاحقا في كتاب تحت عنوان (الإخوان.. الحقيقة والقناع).

فخري كريم والمالكي

أصدر مع مجموعة من المثقفين والشخصيات الاجتماعية بيان احتجاج ضد الحرب، الذي أدى إلى غزو العراق، وكان يتقاطع مع المؤتمر الوطني (جماعة أحمد الجلبي)، لكن بعد سقوط النظام السابق، انتهت تلك التقاطعات، ودخل فخري كريم بغداد ليؤسس دار المدى للإعلام والنشر من جديد، مع إصدار صحيفة يومية، دعا للعمل فيها كوادر صحافية قديمة في الإعلام العراقي ثم الإعلام المعارض، ومن الشخصيات اليسارية، ومازالت الصحيفة تصدر يومياً.

اختار أن يعاود النشاط الأثير إلى نفسه في ميادين الإعلام والثقافة والفنون، محاولاً بذلك تقديم رسالة التغيير السياسي والاجتماعي في العراق، إلا أنه سرعان ما اصطدم بصخرة الأحزاب الدينية، وبلا قصد خدم كريم نوري المالكي خدمة تاريخية، فهو أحد أبرز الذين ثبتوه في ولايته الثانية، والتي أتى فيها على تدمير العراق تماماً، مستخدماً الطائفية والثروة في هذا التدمير، وعندما يُقال لفخري، وهو الناقد الحاد للمالكي وحكومته “إنك مَن ساهم بالإتيان به؟”، لا ينكر ذلك.

كان عذر كريم في مجيء المالكي والالتفاف على مؤتمر أربيل (2010) برعاية مسعود البارزاني، بأنه مارس ذلك كرهاً لعودة البعثيين، خصومه السابقين، الذين كانوا يلتفون حول إياد علاوي، حتى سمّى ذلك بالانقلاب. بينما كان مجيء علاوي سيجنب البلاد ما حصل لها من فقد ثلثي مساحتها، لكن كريم نفسه عض يده ندماً أكثر من مرة أمام مَن لا يـكفّون عن تذكيره بهذا الموقف.

في منتصف يوليو 2003 أصدر كريم صحيفته “المدى”، بعد سقوط الغزو الأميركي لبغداد بثلاثة شهور، ومَن يتابع هذه الصحيفة يجدها تغرد خارج سرب صحف أحزاب السلطة الدينية، لذا وجد فيها المثقفون والداعون إلى التقدم والحياة المدنية السياسية منبراً لهم، ناهيك عن أنها التزمت النقد والكشف لممارسات فترة المالكي، وكذلك تجرأت ونشرت العديد من تقارير الفساد المالي في العراق.

كذلك كانت الصحيفة تركز على فضح الإسلام السياسي، فقد قام كريم نفسه، وهو كاتب وصحافي بالأساس، بنشر مقالات عديدة عن الإسلام السياسي، وقد ورد عنوان إحدى مقالاته “الإسلام السياسي وحده كافٍ للإساءة للإسلام”.

جُمعت تلك المقالات في كتاب تحت عنوان “الإخوان.. الحقيقة والقناع″. منها كشف رسالة الإخوان المصريين خلال عام سلطتهم في مصر عن رسالة بعث بها خيرت الشاطر إلى حزب الإخوان المسلمين (الاتحاد الإسلامي الكردستاني) في كردستان العراق، يدعوهم إلى الاستعداد للانقضاض على السلطة.

بادر بإطلاق مشروع “الكتاب للجميع مجاناً مع جريدة”، تقوم المدى منذ أواخر القرن الماضي بموجبها بإعداد كتاب شهري تطبعه الصحف الشريكة وتوزّعه مجاناً على القراء. وقد اشتركت في إطلاق المبادرة عشر صحف عربية في الكويت والبحرين وبيروت ودمشق والإمارات والقاهرة وبغداد. والمشروع ظل يتواصل بنجاح حتى توقف. فلصاحب المدى صلات كثيرة بكبار المثقفين العرب، بناها بعد تركه للعمل الحزبي وتوجهه لعالم الثقافة، وبين العديد منهم مَن ارتبط به خلال وجوده كقيادي في الحزب الشيوعي العراقي، وظلت تلك الشخصيات على اتصال بعد تركها لأحزابها، بعد سقوط المعسكر الاشتراكي الحاضن والداعم لها.

النشر والطباعة هاجسا فخري كريم منذ كان شاباً

في القصر الجمهوري

عندما أصبح جلال الطالباني رئيساً لجمهورية العراق (2005) عيّن فخري كريم رئيساً للمستشارين، وكان يرافق الرئيس في رحلاته إلى مؤتمرات القمة العربية وزياراته الدولية، فقد كان قريباً منه جداً، قبل أن يكون رئيساً بسنوات طويلة. حاول من موقعه هذا أن يُقدّم العون للعديد من المثقفين الذين قُطعت بهم سبل الحياة بعد غربة طويلة، فرتب لهم رواتب شهرية من ميزانية رئاسة الجمهورية، ولكنها توقفت بعد ذلك.

مما يؤخذ على كريم أنه لا يجيد العمل إلا متفرداً. وهذا سر نجاح المدى، لأن محورها فرد لا مؤسسة، ويُنقل أن وراء هذا السلوك ما كان يحصل بينه وبين قيادات حزبه الشيوعي السابق، وهذا ما عرّضه لنقد قاسٍ، وفي أحيان كثيرة يتحول إلى عداء، ومنه المحمول من الخلافات الحزبية السابقة. غير أن العديدين مِن الذين كانوا يتعرضون له بالنقد الجارح دعاهم إلى العمل معه في الإعلام، فالكثير من الخلافات انتهت بعد 2003، عندما صار الجميع أمام محنة واحدة، وما حصل أن الذين تركوا العراق بسبب الموقف من النظام السابق لم تتهيأ لهم الظروف للعودة إلى وطنهم، والأسباب مرتبطة بقوة الإرهاب والفساد، والهيمنة الدينية.

كتب الكثير ضد كريم، وساهمت فيه الصحافة العربية، حتى تقدم إلى المحاكم اللبنانية ضد واحدة منها، وهو الآن يواجه أمام المحاكم العراقية الكثير من قضايا التشهير أو الإساءة، قدمها ضده المالكي وحزب الدعوة.

على ما يبدو لدى كريم قوة ما، ربما من جانب القوى الكردية أو ضمن علاقاته الدولية والإقليمية، فنريد أو لا نريد أصبح كريم شخصية نافذة، يلتقي بالسفراء والمسؤولين العراقيين النافذين، وعلى صلة جيدة برئيس الوزراء حيدر العبادي، الذي كان لكريم دور أيضاً في التغيير باتجاهه، ولهذا كانت صحيفة المدى، وما تزال، تنشر ما لا يعجب الإسلاميين، وعلى وجه الخصوص حزب الدعوة، مع أنها تعرضت أكثر من مرة للأذى.

يبلغ كريم الآن الخامسة والسبعين عاماً، إلا أن حضوره ونشاطه مستمران، ففي أوقات محرجة وخشية من الاغتيال ترك بغداد إلى أربيل واتخذها كسكن دائم، مع حراسة خاصة، خلال فترة النزاع الشديدة مع إدارة المالكي، والتهديدات المباشرة الموجهة له.

لا يخلو فخري كريم من سلبيات في التعامل مع الآخرين، ولم يكن هو الشخص الوحيد الذي يواجه الطغيان الديني والمذهبي، لكن على ما يبدو هو الشخصية المناسبة في هذه المرحلة والقادرة على الوقوف ضد التيار، ولا نعرف إلى متى.

12