تأريخ الرسل والملوك لمحمد جرير الطبري

الكتاب الأول: مقدمات في دراسة السيرة النبوية الشريفة
الباب الثاني: تطور الكتابة في السيرة النبوية الشريفة وتأريخها
الفصل الثاني: كتابة السيرة الشاملة والمستقلة وتطورها
المبحث الثالث: السيرة النبوية المدمجة ضمن المصنفات التأريخية
المطلب الأول: السيرة النبوية المدمجة ضمن كتب التأريخ العام
الفرع الثاني: المصنفات التي وصلت إلينا في التأريخ العام

3 . تأريخ الرسل والملوك لمحمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ):
هـو أبـو جعفـر محمد بـن جـريـر بـن يـزيـد بـن كثيـر الطبـري ولـد بطبـرستـان سنـة (224 هـ) وبـرع منـذ صغـره فـي عـلـوم عـصـره، ونشـأ نشـأة أذكـت فـي نفسـه الفضيلـة والـزهـد والـرفـض لملـذات الـدنيـا مـن الجـاه والمنـاصـب بـل حتـى الـزواج أيضـاً، تـرك مصنفـات عـدة فـي التفسيـر والـتـأريـخ واخـتـلاف الفقهـاء (تـاريـخ بغـداد لأحمـد بـن علـي الخطيـب البغـدادي، وفيـات الأعيـان وأنبـاء أبنـاء الـزمـان لشمـس الـديـن ابـن خلكـان).

كـان كتـابـه تـأريخ الـرسـل والملـوك مـن خيـرة المصنفـات فـي مجـال الكتـابـات التـأريخيـة، إذ عـدّتـه إحـدى الدراسـات الحـديثـة التـي تنـاولـت نشـأة وتطـور التـدويـن التـأريخـي عنـد المسلميـن القمـة للهـرم الـذي وصلـت إليـه العقليـة الإسـلاميـة فـي كـتـابـة التـأريـخ، حيـث ثـبـتـت فـي هـذا الكتـاب نهـائيـاً وجـهـة نـظـر المحـدثيـن فـي كتـابـة التـأريـخ تـلـك النظـرة التـي جـعـلـت هـدف التـأريـخ التعبيـر عـن فـكـرة تـكـامـل الـرسـالات ووحـدة تـجـارب الأمـة كـجـزء مـن التعبيـر عـن المشيئـة الإلهيـة وعـن إرادتـه تـعـالـى فـي الفعـاليـات البشـريـة (بحـث فـي نشـأة علـم التـأريـخ عنـد العـرب لعبـد العـزيز الـدوري).

خـص الطبـري سيـرة الرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم فـي كتـابـه هـذا بحيـز كبيـر تنـاول فيـه الـحـوادث الـتـي جـرت منـذ ولادتـه صلـى الله عليـه وسلّـم إلـى وفـاتـه.

كـانـت السيـرة النبـويـة لبنـة أسـاسيـة مـن لبنـات هـذا المصنـف لمـا حـوتـه مـن حـوادث تنـاولهـا بالتفصيـل والإتسـاع، إذ كـان هـذا الـكـتـاب كـسـابـقيـه مـن حـيـث إن مصنفـه قـد أتخـذ منهجـاً خـاصـاً فـي كتـابـة تـأريخـه مـن أولـه إلـى آخـره إذ كـانت حـوادث السـيـرة ضـمـن هـذا الـخـضـم الهـائـل مـن المعلـومـات التـي دونهـا الطبـري فـي كتـابـه هـذا فشمـل السيـرة بالمنهـج الـذي اتبعـه فـي كـتـابـتـه للتـأريـخ مـمـا أدى إلـى انـسـحـاب كـل تـطـور يحصـل فـي هـذا الكتـاب إلـى السيـرة النبـويـة ويسجـل لصـالحهـا، والتطـور الـذي أكـسـبـه الطبـري للكتـابـة التـأريخيـة قـد تـركـز فـي محـاور عـدة هـي:

1 . كـتـابـة تـأريـخ عـام علـى وفـق مـنـهـج حـولـي يتنـاول الحـوادث علـى سنـوات وقـوعهـا، فتكـون السنـة هـي المـوضـوع والحـوادث التي تجـري فيهـا هـي المـادة التـي تستعـرض فيهـا.
والجـديـد فـي هـذا المنهـج الـذي سـبـقـه إليـه كثيـرون؛ إنـه قـد أرسـى فيـه الـدعـائـم والثـوابـت الأخيـرة فـي كـتـابـة الحـوليات التـأريخيـة عـنـد المسلميـن، وذلك بـوضـع حـد فـاصـل بيـن كتـابـة التـأريـخ علـى وفـق الحـوليـات أو المـواضيـع مـع استعمـال المنهـج المـوضـوعـي فـي التعـرض لإشبـاع السنـوات التـي حصلـت فيهـا الحـوادث.

2 . الـحـيـاديـة والـصـراحـة وعـدم الـمـحـابـاة فـي عـرض الـروايات المتعـارضـة فـي الخبـر الـواحـد أو التـي أحـجـمـت بـعـض المصنفـات مـن إيـرادهـا، وهـذا مـا بينتـه مـقـالـتـه التـي افتتـح بـهـا كـتـابـه والتـي مفـادهـا: (وليعلـم النـاظـر فـي كتـابنـا هـذا أن اعتمـادي فـي كـل ما أحضـرت ذكـره فـي ممـا شـرطـت أنـي راسمـه فـي إنمـا هـو علـى مـا رويـت مـن الأخبـار التـي أنـا ذاكـرهـا فـيـه والآثـار التـي أنـا مـسـنـدهـا إلـى رواتـهـا دون مـا أدرك لحجـج العقـول واستنبـط بـذكـر النفـوس إلا اليسيـر منـه إذ كـان العلـم بمـا كـان مـن أخـبـار المـاضـيـيـن ومـا هـو كـائـن فـي أنـبـاء الحـادثـيـن، غـيـر واصـل إلـى مـن لـم يـشـاهـده ولـم يـدرك زمـانـه إلا بأخبـار المخبـريـن ونقـل النـاقليـن، دون الإستخـراج بالعقـول، والإستنبـاط بـفـكـر النفـوس، فمـا يكـن فـي كتـابـي هـذا مـن خبـر ذكـرنـاه عـن بعـض المـاضييـن ممـا يستنكـره قـارئـه أو يستشنعـه سـامعـه مـن أجـل أنـه لـم يعـرف لـه وجهـاً فـي الصحـة ولا معنـى فـي الحقيقـة، فليعلـم أنـه لـم يـأت فـي ذلـك مـن قبلنـا وإنمـا أتـي مـن قبـل بعـض النـاقليـن إلينـا وأنـا إنمـا أدينـا ذلـك علـى نحـو مـا أدي إلينـا) (تـأريـخ الـرسـل والملـوك).

فهـو بذلـك يبـرئ ذمتـه مـن كتـابـه ويـرى أنـه قـد أدى أمـانـة نقلهـا إلـى النـاس ولهـم الحكـم الأول والآخـر عليهـا مـن حيـث صحـة أو كـذب مضـامينهـا.

3 . الفـهـم لتجـارب مـن سبقه مـن المصنفين فـي مختلف المعـارف فـي التفسيـر والتأريـخ والحـديث مـع الإستفـادة مـن حـركـة التـرجمـة للمصنفات الأجنبيـة إلـى العـربيـة، ممـا إنعكـس ذلك علـى طبيعـة كتـابـه وطـريقـة عـرضـه لـروايـاتـه (بعـض مـؤرخـي الإسـلام لأدهـم علـي).

4 . ذكـر النصـوص الشعـريـة مشفـوعـة بالـروايـات التـي تـضـمـنـت الحـوادث التـي قيلـت فيهـا هـذه النصـوص، مـع العلـم أن ذكـره لهـذه الـنـصـوص لـم يجـر عـلـى وتيـرة واحـدة فـي السيـرة التـي تضمنهـا كتـابـه هـذا؛ إذ اختصـر الطبـري منهـا محـل الشـاهـد.

كـانـت وراء هـذا الجـانـب الـذي إنتهجـه الطـبـري فـي إيـراد الحـوادث التـأريخيـة مشفـوعـة بمـا قيـل فيهـا من أشعـار، دوافـع عـدة هـي:

   أ . اهتمـام الطبـري بالشعـر وولعـه بـروايتـه وحفظـه، إذ أورد الحمـوي آراء العـديـد مـن العلمـاء فـي مقـدرة الطبـري وقـوة حـافظتـه للشعـر الـذي قيـل قبـل الإسـلام وإثنـائـه، حتـى وصفـه بالقـول: (وكـان يحفـظ مـن الشعـر للجـاهليـة والإسـلام مـا لا يجهلـه إلا جـاهـل بـه) (معجـم الأدبـاء إرشـاد الأريـب إلـى معـرفـة الأديـب ليـاقـوت بـن عبـد الله الحمـوي).

   ب . سعـة اطـلاع الطبـري علـى الـروايـات التـي حـوت فـي طيـاتهـا أخبـاراً عـن حـوادث مضـت وتضمنـت أشعـاراً قيلـت فـي مناسبـاتـهـا، كـل ذلك مكنـه مـن أن يـرصـع كتـابـه بمجمـوعـة صـالحـة مـن القصـائـد البـديعـة والمقطـوعـات الجميلـة (بعـض مـؤرخـي الإسـلام لأدهـم علـي).

هـذه هـي الإسـهـامـات الـتـطـوريـة التـي أكسبهـا الطـبـري للكتـابـة التـأريخيـة، مـع العلـم بـوجـود اسهـامـات أخـرى أقـل منهـا أثـراً تنـاولتهـا الـدراسـات التـي تـحـدثـت عـن منهـج الطبـري وأسلـوبـه فـي كتـابـة التـأريـخ، وهـذه الأمـور أدت بـدورهـا إلـى جعـل السيـرة التـي تضمنهـا هـذا الـكـتـاب مـن السـيـر النمـوذجيـة للـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم لمـا حـوتـه مـن جـوانـب أسهمـت إسهـامـاً فـاعـلاً فـي تـطـور كتـابـة السيـرة ليـس فـي كـتـب التـأريـخ العـام فحسـب بـل فـي بـاقـي الكتـب التـي تـنـاولت سيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم وأحـوالـه وهـذه الجـوانب هـي:

1 . تـضـمـيـن القسـم الـذي خـصـص لسيـرة الرسـول باقتبـاسـات كثيـرة مـن السيـرة التـي كتبهـا محمد بـن إسحـاق، وذلـك بطـريـق مختلـف عـن الطـريـق الـذي سـلـكـه ابـن هشـام للـوصـول إلـى السيـرة التـي كتبهـا محمد بـن إسحـاق، إذ اعتمـد علـى روايـة سلمـة بـن الـفـضـل الأبـرش لـهـذه السيـرة، وذلـك فـي (204) نـصـوص، حتـى عـدّه الحمـوي الطـريـق الأسـاس الـذي بنـى عليـه الطبـري تـأريخـه عنـد تعـرضـه لسيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسـلّـم (معجـم الأدبـاء إرشـاد الأريـب إلـى معـرفـة الأديـب ليـاقـوت بـن عبـد الله الحمـوي).

ولأجـل ذلك تـضـمـنـت السيـرة التـي وردت فـي تـأريـخ الـطـبـري روايات عـديـدة لـم يـتـطـرق لهـا ابـن هشـام فـي التهـذيـب الـذي عملـه لسيـرة ابـن إسحـاق، ولا سيمـا روايـات العصـر الـذي يسبـق الرسـالـة الإسـلاميـة.

2 . الإهـتـمـام بإيـراد الـنـصـوص الشـعـريـة مشفـوعـة بمعظـم الـروايـات التـي أرخ فيهـا حـوادث السـيـرة الـتـي بـلـغـت أكـثـر من (73) نـصـاً شـعـريـاً مـوزعـاً علـى أمـاكـن متفـرقـة فـي القسـم الـذي خصصـه الطبـري لسيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم فـي كتـابه تأريـخ الـرسـل والملـوك.

تكمـن قيمـة هـذا الشعـر الـذي ذكـره الطبـري مـع حـوادث السيـرة فـي أمـريـن:

   أ . إيـراده نصـوصـاً شعـريـة لـم تـرد عنـد غيـره مـن المتقـدميـن الـذيـن تـعـرضـوا لحـوادث الـسيـرة والـشـعـر الـذي قيـل فيهـا، مثـل شعـر الإمـام علـي عليـه السـلام، وأبـي دجـانـة الأنصـاري فـي معـركـة بـدر.

   ب . إيـراده الـشـعـر الـفـاحـش والـمـقـذع الـذي أحجـم ابـن هشـام عـن ذكـره عنـد تهـذيبـه لسيـرة ابـن إسحـاق بعـدمـا أشـار إلى ورود شعـر مقـذع فيهـا، فمـن الشعـر الفـاحـش الـذي أورده الطبـري مـا تعـرض بـه حسـان بـن ثابـت لـزوج أبـي سفيـان (هـنـد) بالألفاظ النـابيـة والمقـذعـة.

3 . هـضـم الـتجـارب السـابقـة لـه الـتـي صـنـفـت فيهـا مصنفـات مستقلـة، وذلك بتضميـن هـذه المصنفـات بمصنـف يـجـمـع الـمـهـم منهـا، إذ أشـار إلى ذلك أحـد البـاحـثـيـن بالـقـول: (وهـذا ما سمـح للطبـري أن يحتفـظ فـي كتـابـه بكثيـر مـن المقتطفـات التـأريخيـة الـمـبـكـرة فـي الـوجـود والـتي لا تـوجـد إلا فـي كتـابه، … وقيمـة الطبـري إنمـا هـي خـاصـة فـي حـفـظ هـذه المـادة الضـائعـة ولـيـس بالـرأي الـذي أعـطـاه فيهـا) (التـأريـخ العـربـي والمـؤرخـون لمصطفـى شـاكـر)؛ ويـنـتـهـي هـذا الـبـاحـث بالإستنتـاج إلـى أن مـن الأسبـاب غيـر المبـاشـرة فـي ضيـاع قسـم مـن تلك المـدونـات التـأريخيـة الأولـى هـو مـا أورده الطبـري مـن مقتبسـات مـن هـذه الـمـدونـات حـتـى جـعـل أمـر الـبـحـث عنهـا مـن قـبـل الـذيـن عـاصـروه أو الـذيـن أتـوا بعـده أمـراً لا طـائـل منـه مـا دام أنـه استقـى خـلاصـة هـذه الكتـب ووضعهـا فـي كتـابـه (التـأريـخ العـربـي والمـؤرخـون لمصطفـى شـاكـر).

ومـن أهـم الـكـتـب الـتـي حـفـظ لنـا قـسـمـاً منهـا فـي الحيـز الـذي خصصـه لسيـرة الـرسـول صـلـى الله عـلـيـه وسـلّـم:

 1 . كتـاب المغـازي لأبـي معشـر نجيـح المـدني (ت 170 هـ) الذي ذكـره ابـن النـديـم ضمـن المصنفـات التـي عـددهـا فـي كتـابـه الفهـرسـت، وقـد اعتمـد الطبـري علـى هـذا الكتـاب فـي أربعـة مـواضـع.

 2 . كتـب هشـام بـن محمد بـن السـائـب الكلبـي (ت 204 هـ) التـي صنفهـا فـي مختلـف مـواضيـع السيـرة والتـي أحصـى ابـن النـديـم أسمـاءهـا (الفهـرسـت)، واقـتـبـس الـطـبـري مـن مصنفـاتـه تلـك أكـثـر مـن عـشـريـن نصـاً.

 3 . كتـب محمد بـن عمـر الـواقـدي (ت 207 هـ) فـي سـيـرة الـرسـول صـلـى الله عـليـه وسـلّـم وأحـوالـه التـي بـلـغـت أكـثـر مـن عـشـرة مصنفـات بحسـب تـعـداد ابـن النـديـم لهـا (الفهـرسـت)، إذ اعتمـد الطبـري علـى هـذه المصنفـات فـي مـواضـع عـديـدة مـن كتـابـه ولا سيمـا عنـد التـرجيـح بيـن الـروايـات المتضـاربـة.

هـذه هـي المصـادر المكتـوبـة التـي أردفـت كتـاب الطبـري بالـروايـات العـديـدة عـن سيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم، أمـا بـاقـي الـمـصـادر التـي اعـتـمـد عليهـا الـطـبـري فـي ذكـره لسيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم فكـانـت مـرويـات شفـويـة غيـر مـدونـة حـصـل عليهـا الطبـري سـمـاعـاً مـن أفـواه قـائليهـا مـن دون إشـارة للمصـادر التـي تـولـت تـرجمـة شيـوخـه فـي الـروايـة إلـى قيـامهـم بتصنيـف كتـاب فـي السيـرة أو غيـرهـا (مـوارد تـأريـخ الطبـري لعلـي جـواد).

إن الكـلام آنـف الـذكـر لا يـعـدو كـونـه مـجـرد إحـتـمـالات تـوفيقيـة بـيـن مسـانيـد روايـات الكتـاب والمصنفـات الـتـي كـتـبـهـا شـيـوخ الطبـري الـذيـن وردت لـهـم مصنفـات ذكـرتهـا الكتـب التـي تـرجمـت لهـم، وربمـا تكشـف لنـا الأيـام عـن تلـك المصنفات فتكـون تلـك الأحكـام التـي ذكـرنـاهـا قطعيـة أو تبقـى مجـرد تخميـن لا أسـاس لـه مـن الصحـة.

مـن هـذا كـلـه نـرى أن هـذا الأسـلـوب فـي الكـتـابـة لا يعـدّ جـانبـاً تطـوريـاً بحـد ذاتـه وإنمـا يعـد إسهـامـاً مهمـاً فـي رفـد السيـرة النبـويـة بمـرويـات ومصنفـات متقـدمـة لـم تصـل إلينـا.

4 . إفـراد فـقـرات مستقلـة مـن السيـرة التـي كتبهـا الطبـري عـن الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم فـي كتـابـه هـذا للحـديـث عـن الجـوانـب الشـخـصـيـة للـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم مثـل أزواجـه ومـن خطـب منهـن ولـم ينكحهـن، وسـراريـه، وغيـر ذلـك مـن الجـوانـب الشخصيـة التـي زخـرت بهـا سيـرة الـرسـول فـي كتـاب الطبـري هـذا، وهـذا مـا لا نجـده فـي المصنفـات التـي سبقـت كتـابـه هـذا سـواء أكانـت فـي التـأريـخ العـام أم فـي غيـر هـذه الكتـب التـي عـرضـت سيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم.

5 . إغـفـال الـطـبـري فـي كـتابـه هـذا ذكـر الـمـعـاجـز والخـوارق (دلائـل وأعـلام النبـوة) الـتـي حـصـلـت مـن الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم، مـعـلـلاً ذلك بـقـولـه: (والأخـبـار الـدالـة علـى نـبـوتـه صلـى الله عليـه وسلـم أكـثـر مـن أن تحصـى، ولـذلـك كـتـاب يفـرد إن شـاء الله …) (تـأريـخ الـرسـل والملـوك)، وهـذا يبيـن لنـا منحـى الطبـري فـي عـدم تضخيـم الكـتـاب بأخـبـار عـاهـد نفسـه علـى أن يخصـص لهـا مصنفـاً مستقـلاً؛ ولسـوء الـحـظ لـم تـشـر المصـادر التـي تـرجمت لـه ولمصنفـاتـه إلـى تصنيفـه هـذا الكتـاب، إذ لـم تـذكـره ضمـن مصنفـاتـه أو ضمـن الكتـب التـي صنفـت فـي هـذا المـوضـوع مـن سيـرة الرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم.

6 . وجـود أثـر ملحـوظ لإهتمـامـات الطبـري بالقـرآن وتفسيـره فـي قسـم السيـرة النبـويـة مـن كتـابـه التـأريـخ وذلك حـيـن يـورد الـروايـات المتعلقـة بأسـبـاب نـزول عـدد جـم مـن الآيـات القـرآنـيـة فـي الحـوادث التـي يـعـرضهـا فـي كتـابـه. وفـي ذلك يـعـكـس مكـانتـه بـوصفـه مفسـراً للقـرآن الكـريم فـي كتـابـه ذائـع الصيـت (جـامـع البيـان فـي تفسيـر القـرآن) الـذي وصـف بالقـول: (لـو سـافـر رجـل إلـى الصيـن حـتـى يحصـل كتـاب تفسيـر محمد بـن جـريـر لـم يـكـن ذلك كثيـراً) (مـعـجـم الأدبـاء إرشـاد الأريـب إلـى مـعـرفـة الأديـب ليـاقـوت بـن عبـد الله الـحـمـوي).

عـلل أحـد البـاحثيـن هـذا الميـل عنـد الطبـري بأنـه أراد أن يـكـون تـأريخـه تكملـة لتفسيـره الكبيـر، ولهـذا أورد الـروايـات الـتـأريـخـيـة بالـوضـوح والـتـدقيـق والتحـري نفسـه الـذي إتسـم بـه التفسيـر (دراسـات فـي حضـارة الإسـلام لجـب هـاملتـون)؛ وهـذا مـا أوضـحـه قـول الـطـبـري الـذي أورده يـاقـوت الحمـوي والـذي مفـاده: (قـال أبـو جعفـر الطبـري لأصحـابـه: أتـنـشـطـون لـتـفـسـيـر الـقـرآن؟ قـالـوا: كـم يـكـون قـدره؟ قـال: ثـلاثــون ألـف ورقــة! فـقـالـوا: هـذا مـمـا يـفـنـي الأعـمـار قـبـل تمـامـه، فاختصـره فـي نحـو ثـلاثـة آلاف ورقـة، ثـم قـال: أتنشطـون لتـأريـخ العـالـم مـن آدم إلـى وقتنـا هـذا؟ قالـوا: كـم قـدره؟ فذكـر نـحـواً مـمـا ذكـره فـي الـتـفـسيـر، فـأجـابـوه بـمـثـل ذلـك، فـقـال: إنـا لله مـاتـت الـهـمـم، فاخـتـصـره فـي نـحـو مـا اختـصـر التفسيـر) (معجـم الأدبـاء إرشـاد الأريـب إلـى معـرفـة الأديـب ليـاقـوت بـن عبـد الله الحمـوي).

وحـدد الـحـمـوي تـاريـخ شـروع الطبـري بإمـلاء تفسيـره بسنـة (283 هـ)، وحـدد إنـهـاءه بسنـة (290 هـ)، أمـا التأريـخ فـقـد كـتـبـه سنـة (303 هـ) (معجـم الأدبتاء إرشـاد الأريـب إلـى معـرفـة الأديـب ليـاقـوت بـن عبـد الله الحمـوي).

مـن هـذا كـلـه نـرى أن هنـاك تـرابطـاً صميميـاً بـيـن كـل مـن (جـامـع الـبـيـان فـي تفسيـر القـرآن) و (تـأريـخ الـرسـل والملـوك)، انـعـكـسـت آثـاره عـلـى مـا ورد فيهمـا مـن روايـات؛ فقـد كـان يستشهـد بالـروايـة التـي يـوردهـا بتفسيـره الجـامـع فـي كـتـابـه التـأريـخ، ومثـال ذلـك سـبـب نـزول آيـة بـدء القتـال فـي معـركـة بـدر: {يَـسْـئَـلُـونَـكَ عَـنِ الـشَّـهْـرِ الْـحَـرامِ قِـتـالٍ فِـيـهِ، قُـلْ قِـتـالٌ فِـيـهِ كَـبِـيـرٌ وَصَـدٌّ عَـنْ سَـبِـيـلِ اللَّهِ} (سـورة الـبـقـرة، الآيـة: 217) إذ وردت هـذه الـرواية فـي الـتـفـسـيـر والتـأريـخ معـاً؛ وسـبـب نـزول آيـة تحـويـل القبلـة {قَـدْ نَـرَى تَـقَـلُّـبَ وَجْـهِـكَ فِـي الـسَّـمَـاء فَـلَـنُـوَلِّـيَـنَّـكَ قِـبْـلَـةً تَـرْضَـاهَـا فَـوَلِّ وَجْـهَـكَ شَـطْـرَ الْـمَـسْـجِـدِ الْـحَــرَامِ وَحَـيْـثُ مَـا كُـنـتُـمْ فَـوَلُّــواْ وُجُـوهَـكُــمْ شَـطْـرَهُ وَإِنَّ الَّـذِيـنَ أُوتُـواْ الْـكِـتَـابَ لَـيَـعْـلَـمُـونَ أَنَّـهُ الْـحَـقُّ مِـن رَّبِّـهِـمْ وَمَـا اللَّهُ بِـغَـافِـلٍ عَـمَّـا يَـعْـمَـلُــونَ} (سـورة الـبـقـرة، الآيـة: 144) الـذي ذكـر روايـة نـزولهـا فـي التفسيـر والتـأريـخ أيضـاً، إلـى غيـر ذلـك مـن الـروايـات الكـثـيـرة المشتـركـة بيـن الكتـابيـن معـاً.

7 . مـنـاقشـة بـعـض الـروايـات والتـرجيـح بينهـا، الأمـر الـذي بـيـن لـنـا أن الطبـري لـم يكـن نـاقـلاً فحسـب بـل حـاول تقـديـم الـروايـات التـي وصلت إليـه فـي حـادثـة معينـة ومنـاقشـة هـذه الـروايـات مـن حـيـث قـوتهـا وضعفهـا، حيـن أورد عبـارات متعـددة تـدل علـى الـتـرجيـح بـيـن هـذه الـروايـات، فـمـن تلك اسـتـعـمـالـه لـكـل مـن عـبـارات: فـي مـا يـزعـمـون، أو يـزعـم، أو قـيـل، والـزعـم فـي اللـغـة هـو القـول الـذي يـحـتـمـل الـصـدق أو الـكـذب، أو الأمـر الـذي نـسـتـيـقـن أنـه حـق وإذا شـك فـيـه لـم نـدر كـذبـه فنـقـول زعـم فـلان (تَـاج العَـرُوس مـن جَـوَاهِـر القَـامُـوس للعـلامـة المـرتضـى الـزبيـدي).

فإذا كـان هـذا الكـلام الـذي عـلـق بـه الطبـري علـى بعـض الـروايـات، والـذي تضمـن وجهـة نظـره الصـريحـة فـي الخبـر، فأيـن القـائـل الـذي صـرح وقـطـع بـأن الطبـري لـم يكـن مـحـلـلاً للـروايـات ومعـلـلاً لأحـداثهـا أو نـاقـداً لهـا؟ (بعـض مـؤرخـي الإسـلام لأدهـم علي)؛ وذلـك اعتمـاداً منـه علـى مقـالـة الطبـري التـي أفتتـح بـهـا كـتـابـه والتـي يبيـن فيهـا أنـه لـم يكـن سـوى نـاقـل للأخبـار؛ ولكـن الطبـري قـد خـرج مـن هـذا المسـار الـذي أراد أن يلـزم نفسـه بـه.

هـذه هـي الجـوانـب التـي أضفـاها الطبـري علـى كتـابـة السيـرة النبـويـة ضمـن كتـب التـأريـخ العـام بخـاصـة، وكتـب السيـرة النبـويـة بعـامـة.

                                                     

عن المدير