رأي

عمر أكلته الحروف

عمر أكلته الحروف

عقيل عبد الحسين

يقول النقّاد إن في المذكرات يُخفى ابتذال الأحداث ويتم تبريره عن طريق الأهمية التي يعطيها المدوّن لعملية الكتابة.   وهذا تحديدا ما يفعله (نجيب المانع) في كتاب (ذكريات عمر أكلته الحروف). وهو كتاب مذكرات ولكن كاتبه يرفض أن يجعلها مذكرات يومية تفصيلية، ولذا يميل فيها كثيرا إلى الانتقائية، أي انه يختار من أحداث حياته الطويلة، على تنوعها وعلى ثرائها بالخبرات والمعرفة والأصدقاء والقراءات، ما يجد فيه معنى أو قيمة، وما يصلح لأن يستنتج منه هو فكرة ويعممها، ليشير من خلالها إلى عيب من عيوب الشخصية المثقفة أو الاعتيادية، والى عيب من عيوب العرب التي تمنعهم من التقدم والنهضة.   وقد يخترع هو حادثة ويوهم القارئ أنه يتذكرها في سياق المذكرات، كحادثة الرسالة التي وصلت إلى رئيس تحرير الجريدة التي يعمل فيها، وتنتقد بشدة شخصية نجيب المانع وتصفها بالمملة، وكتاباته وتصفها بالتحذلق، وأفكاره وتصفها بالبلادة.   ويقول المانع إنه أقنع رئيس التحرير بنشر الرسالة في الجريدة كما وردت من المرسل في سياق مذكراته التي كانت تُنشر مسلسلة. ثم يعود في فصل آخر من الكتاب ليقول إن هذه الرسالة مزيفة وإنه هو من ابتكرها وحادثتها، ليؤكد لنفسه ولقرائه طبيعة الشخصية المثقفة والعربية التي تهتم بكل ما يغض من الآخرين وتغتبط به، فقد وجد أن القرّاء اهتموا بحلقة الرسالة وتابعوا بعناية كل ما جاء فيها، بينما لم يهتموا كثيرا بغيرها وبما جاء فيه من أفكار ودعوات وحوادث.   ويرى نجيب المانع أن كتابه، وأي كتاب آخر أدبي أو روائي، يجب أن يتضمن أفكارا صريحة ومعلنة، واستنتاجات واضحة يفيد منها القارئ في توسيع آفاقه وإغناء عقله، ولا يحسن بالكتّاب، بمن فيهم كتّاب الروايات، أن يقتصروا على الحكايات مدعين أنها ضرورية لتسلي القارئ، أو أن الروايات يجب أن تكون حكايات خالصة تخلو من الفكر الصريح أو الدعوات الصريحة إلى التفكير والنقد.   ومهما يكن من أمر، وسواء اتفقنا مع نجيب المانع في دعوته هذا أم اختلفنا، فلا بد من القول إن كتابه يظل كتابا مهما ومفيدا للقارئ لما فيه من حكايات تتصل بشعراء كبار كالسياب، وبمواقف من كتّاب ونقاد كالعقاد وطه حسين، وبجولات مع كتّاب عالميين كشكسبير وموسيقيين كبتهوفن وتعريفا بموسيقاهم وطريقة تذوقها تشعرنا أننا أمام شخصية متنوعة الثقافة وعميقة الإدراك وموسوعية قلّ أن يكون لها مثيل في ثقافتنا العراقية المعاصرة بل العربية. شخصية حرصت على القراءة والتعلم الذاتي فألمت بتراثها إلماما كبيرا، وأحاطت في الوقت نفسه بالثقافة الأجنبية عبر لغتين هما الإنكليزية والفرنسية. واللغتان تعلمهما المانع بنفسه ومن دون الالتحاق بمدارس أو جامعات.   وقد انعكست تلك الثقافات والمعارف وما صاحبها من وعي متميز بدور المثقف الاصلاحي والتنويري، في الكتاب الذي جاء كتابا فريدا يجمع بين الذكريات والسيرة والمراجعة والسياحة الثقافية والفكرية، وكتابا يستحق القراءة والتأمل.

مقالات أخرى للكاتب