طاهر زمخشري وملامح تجربته الأدبية بين الإبداع والإعلام

بقلم: أ. د. محمد صالح الشنطي*

 

من المعروف أن الشعر قد ارتبط بالإعلام في تراثنا الأدبي منذ بواكيره الأولى؛ فكانت حفاوة القبيلة بنبوغ الشاعر إحدى مناسبتين كان العرب يحتفلون فيها: نتاج الفرس ونبوغ الشاعر، ذلك لأن الشاعر يذيع مآثرها ويفخر بمناقبها ويذود عن أعراضها، وهو الناطق الرسمي باسمها، كذلك فإن الشعر في الثقافة الغربية والعربية وسيلة إدراك لحقائق الحياة وإذاعتها في الناس، وقد كان “هايدجر” الفيلسوف الألماني يعد الشعر طريقا إلى المعرفة و أنه سبيل لإدراك حقائق الوجود، والوظيفة الإعلامية إحدى الوظائف الرئيسة للرسالة عند “ياكبسون”، وكذلك فإن الإعلام أحد أركان النصية في الدراسات اللسانية.

كان شاعرنا طاهر الزمخشري فارسا مجليا في هذين المجالين وفق ما كانت تسمح به الإمكانات والوسائل المتاحة آنذاك؛ وكانت منجزاته بالقياس إلى تلك المرحلة ريادة حقة، فهو أول من أسس مجلة للأطفال في ذلك الوقت المبكر في أواخر الخمسينيات الميلادية (مجلة الروضة)1959م، وهو من المؤسسين الأوَل لإذاعة المملكة العربية السعودية الذين قدموا برامج تربوية وإعلامية بحتة بعيدا عن الانغماس في معتركات السياسة، وقد أسهم في تدريب الكثير من الإذاعيين، وقد قال عنه  الدكتور حسين النجار: ” كان هو العلم الذي يترسم الكثير من الإذاعيين خطاه ويتبنونه في طموحاتهم و تطلعاتهم”، وهو أول من أسس فرقة موسيقية للإذاعة  مكونة من محمد علي بوسطجي والدكتور سليمان شبانة وسعيد شاولي وحمزة مغربي والهرساني وعبد المجيد الهندي، وقد عزفت النشيد الوطني للبلاد، وهذا عمل إعلامي مشهود.

وقد تحولت كثير من قصائده إلى أغنيات ترنم بها مشاهير المغنين وتصل إلى ما يقرب من مئة أغنية كما ذكر حفيده محمد توفيق بلو، وهو أول من ألف ولحن أول أغنية في المملكة العربية السعودية (يا فرحتي يا بهجتي) بصوت الفنان المصري عباس البليدي والأناشيد الدينية والوطنية والمونولوجات، هذا – فضلا عن كونها أعمالا فنية وأدبية محضة -أعمال إعلامية بامتياز، و لا شك أن هذه الموهبة الإعلامية لدى شاعرنا أثرت في شعره ، كما أن شعره أثر في أعماله الإعلامية فجعله يتجه نحو الطفولة لما يتسم به الشاعر من رقة في المشاعر و حساسية فائقه وعشق للبراءة والنقاء واستلهام لبكارة الفطرة ونقاء السريرة، ومقاربة المناسبات والأماكن الدينية و الشعائر.

عاش طاهر الزمخشري في مراحل تاريخية تمثل انعطافات مهمة في تاريخ المنطقة والعالم ، فحين نشبت الحرب العالمية الأولى التي امتدت من (عام 1914 إلى عام 1919 ) كان صبيا ناشئا، ربما وعى شيئا من كوارثها ولعله لم يكن قد أدرك أسباب اندلاعها؛ لكنه – بكل تأكيد – كان على وعي تام بما أحدثته الحرب العالمية الثانية (1939 -1945) وطبيعة وأسباب الصراع والقوى المتصارعة فيها، وكانت قد أتيحت له فرصة الدراسة في مدرسة الفلاح فثقف شيئا من تاريخ المرحلة وأحاط علما بالبيئة المحيطة به و بما كان يدور من حوله، و مع هذا لم ينخرط في سياق تلك المرحلة سياسيا؛ بل ظلت اهتماماته الإعلامية تربوية اجتماعية في الدرجة الأولى، والشاهد على ذلك تقديمه لبرنامجين لهما هذا الطابع: البرنامج الأول (بابا طاهر) والبرنامج الثاني (روضة المساء) وكان ما حصل عليه من أوسمة استحقاقا لما قدمه في مجال الأدب والفن وليس في مجال السياسة، فقد حصل على (وسام الأدب و الثقافة) من تونس، و(جائزة الدولة التقديرية في الأدب) من بلاده، ولم يستمر ترؤسه لجريدة البلاد سوى سنة واحدة. وانصبت معظم الدراسات والأبحاث التي كتبت عنه في مجملها على أدبه وشعره، وكل إنجازاته الريادية في الأدب والفن والموسيقى والتربية والإعلام، فهو صاحب الأولويات: أول ديوان، أول فرقة، أول مجلة للأطفال، أول أغنية رياضية (جيب الغول)، ومن أوائل المؤسسين للإذاعة.. إلخ (1)

إن هذه الأوليات مؤشر على نزعة إعلامية متأصلة، فهذا الجانب الريادي النوعي من جهة، والإنتاج الكمي الغزير في الشعر على وجه الخصوص، فقد بلغ عدد دواوينه ما يقرب من ثلاثين ديوانا، ومن جهة أخرى مؤشر على نزعته الإعلامية التي كان وراءها دافع نفسي يتمثل فيما أحسه من معاناة وحرمان في طفولته والملابسات الاجتماعية التي أحاطت به فأراد أن يبرز من خلال الإعلام الذي جلّى مواهبه و أبرز تفوقه فضلا عن شعره، وقد كان واضحا أن هذه الميول الإعلامية أثّرت في شعره تأثيرا واضحا، فهو وإن كان رومانسيا يتكئ في رومانسيته على الذاتية والخيال والطبيعة فإن هذه الذاتية ظلّت نزّاعة إلى التعبير عن الهم الجماعي، ثم إن الخيال ظل في إطار وجداني لم يجمح به بعيدا كما بدا عند غيره من الرومانسيين العرب، وظل بناء القصيدة دائريا توصيليا ولم يكن حلزونيا أو تصاعديا بل ظلت النزعة التراكمية هي الأوضح، و أما الطبيعة فلم يمارس الشاعر فناء تتحد ذاته فيها مع ظواهرها الكونية، ولعل فيما استحضره من نماذج من شعره مصداقا لهذا القول.

لقد كان منذ بواكيره الأولى ذا نزعة إعلامية يحرص على التوصيل، ويتفنن فيه، فيحرص على أن يطرف السامعين بجميل التعبير وجديده، فلعل ما قاله في حفل تكريمه عام 1405هـ حين منحته الدولة جائزتها التقديرية معرفا نفسه بالقول: “إنه كوة فحم سوداء يلبس ثيابا بيضاء ويقول شعرا فيه قصائد حمراء وخضراء وصفراء”، ينمّ عن موهبة إعلامية جذابة.

وعلى الرغم من غلبة الجانب الوجداني على ديوانه الأول (أحلام الربيع) كان ثمة موضوعات شعرية لها ارتباط بالجانب الإعلامي؛ فقد ضم قصائد ذات دلالات تربوية قيمية، مطلقة تتعلق بالأفكار والأغراض التعليمية أكثر من الوجدان والخيال والطبيعة، مثل: دعوة الحق، والنصر للحق والجندي في ميدان القتال، ونواة، والدجالون، وما إلى ذلك.            

كان ينتمي إلى جيل الرواد الأوَل من الوجدانيين الرومانسيين؛ غير أن نزعته الإعلامية حدت به إلى الخروج من ربقة الذاتية التي تعبر عن السمة الرئيسية في التجربة الشعرية لدى الرومانسيين إلى الخطاب الذي يستهدف الوجدان الجمعي ويسهم في تشكيل الوعي ويروج للقيم الإنسانية.

وقد نشرت جريدة الوطن حديثا كشف فيه سبط الشاعر الرائد الراحل طاهر زمخشري (1906 – 1987) محمد توفيق بلو ابن كريمة الشاعر طاهر زمخشري، عن إصداره كتابا جديدا بعنوان «الأديب طاهر زمخشري في سطور»، تتبع فيها أعماله ومنجزاته الشعرية فضلا عن مختلف جوانب حياته.

وهذا ينقلنا إلى ما قاله الأستاذ محمد توفيق لـ «الوطن»: لاحظت خلال بحثي، أن موسم الحج مثل أهمية كبرى عنده، فقد خصه منذ بداياته بالعديد من القصائد الشعرية والغنائية، ومعظم دواوينه، خصوصا التي كتبها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، تضمنت قصائد عن الحج من عدة أوجه ومواضيع مختلفة، فمنها وصف المشهد العام لمراسم الحج في مكة ومنى أو صعيد عرفات، بل أنه خص الحج بديوان كامل أصدره عام 1968م/‏1388بعنوان” لبَّيك “(2)

وقد أشار إلى : تطور اهتمام الزمخشري بموسم الحج من مجرد الإبداع الشعري إلى التوصيل الإعلامي فكان أول من أشرف على النقل المباشر لمراسم الحج، إبان عمله مع الإذاعة بمكة المكرمة في بدايتها الأولى، ثم عمد إلى استثمار الفنون للتغني بموسم الحج من خلال عدة قصائد غنائية، من أكثرها شهرة قصيدة «إلى المرْوَتَيْن» التي لحنها وغناها الموسيقار الراحل “طارق عبد الحكيم”، وقد عمدت تاليا إلى تحليلها وبيان النزعة الإعلامية فيها وأثر ذلك على بناء القصيدة وجمالياتها، وهناك قصائد غنائية سجلت للحج، لم تأخذ طريقها للذيوع والشهرة؛ لأن كلماتها ارتبطت بموسم الحج ومنها على سبيل المثال قصيدة «لبيك» التي كتبها في 28 بيتا ولحنت وغنتها الفنانة السورية مها الجابري، ونشرت هذه القصيدة في ديوانه «على الضِّفاف» الصادر في عام 1381هـ/1961م وقال فيها (3)

لبيك ربَّ العالمينْ

لبيك بالدمعِ الهتُونِ يفيضُهُ وَجَلٌ ورُعْبُ

فالعَيْنُ ترنُو للسّماءِ، ودَمْعُها الهَدَّارُ سُحْبُ

والقَلْبُ يلهجُ بالدُّعَاءِ وقد تَلَجْلَجَ فيه ذَنْبُ

أدعوكَ، يا ربَّ العبَادِ، وليسَ لي إلاك ربُّ

وهدَاكَ للغُفْرَانِ دَرْبُ

وإليهِ بالآلامِ نحبُو

فالتلبية مفتتح الحج مبتدؤه ومنتهاه، وهذا الاستهلال الشعائري يعبر عن وجدان جماعي، فهو يشرع في التلبية مستهلا قصيدته وكأنه يتمثّل صوت الحجيج في أدائهم لمناسكهم ويصور مشهدهم وهم يرنون إلى البيت الحرام خاشعين متبتلين، تنهلّ دموعهم فرحا باللقاء، وخوفا من رب العباد يلهج بدعائهم ويستغفر بلسانهم إيذانا وإعلاما. وتتكرّر لفظة التلبية على إيقاع الحجاج الساعين إلى الكعبة المشرفة، وتتداعي جمل الحال مصورة امتثالهم وخشوعهم يتلوه نداء الضراعة من أجل الغفران، تتوحّد الذات مع الزاحفين فتتضامّ الأصوات وتلتحم النداءات، وينطق الشاعر بلسان الوجدان الذاتي والجمعي، وهكذا تتبدى جماليات الشعر غبر الاستهلال والتداعي والتكرار والتصوير والإيقاع.

ويأتي المقطع الثاني ليعيد رسم المشهد من جديد، فتتكرر التلبية التي هي نداء الاستهلال وطرقات الافتتاح والتنبيه:

وصف يتجاوز الظاهر ليغوص في عمق الوجدان متمثلا ما يدور في الدواخل الخاشعة المتبتّلة والأرواح الضارعة المنيبة والأنفس الذليلة التائبة، وصف يلتقط أدق الدقائق، ويصور جلائل التفاصيل في الحركات والسكنات وأداء المناسك والشعائر في خطاب شعري متوهج ينفذ إلى نبضات القلوب وخفقات الأفئدة:

لبيك أرواحٌ يموجُ بها التبتل في الصّعيدِ

فتذوب حبَّاتُ القلوبِ منَ الضّرَاعةِ في نَشيدِ

والرَّجعُ جذّابُ الأداء وقد تمَاوَج فِي الوجُودِ

ينسابُ من بعض المآزر خشَّعاً في يومِ عيدِ

يومُ التضرُّعِ والسُّجودِ

يومُ المثوبَة للوفُودِ

والأخرى نشرها في ديوانه الثالث «أنفاس الرَّبيع» الصادر عام 1375هـ نظمها بمناسبة عودة المياه إلى مجاريها بعد الحرب العالمية الثانية، تحية لوفود بيت الله الحرام:

ألقَتْ عـصَاها فـحيَّا الخيرُ بسَّامَــا    من بعد أن عصفتْ بالنّاسِ أعواما
شعــواء لا تنزل السَّـراء ساحتـها    حمراءُ ملهبةٌ في ويلها حامَا
سقت بني الأنسِ ويْلاتٍ ومَا فتئَتْ  تدُسُّ في طبقاتِ الأرضِ ألغامَا

ويلاحظ المتلقي كيف استثمر الشاعر في معجمه الشعري جملة من أسماء المعاني ذات الدلالات المطلقة التي تشكل منظومة القيم، ثم صاغها في صورتين متقابلتين: صورة الضارعين الخاشعين في هذا اليوم الذي تشرئب فيه الأرواح والأفئدة لخالقها جل وعلا في زمن محدد ويوم محدد أكد عليه الشاعر عبر التكرار، فيوم التضرع والسجود تقابله أيام العصيان والجحود التي امتدت أعواما، وفي مقابل المصادر تأتي الصفات في الصورة الثانية لينعت بها تلك الأيام الحافلة بالجحود فهي شعواء حمراء عاصفة.

وختمها بقوله:

وهذه أممٌ من كُلّ ناحيـةٍ حجَّتْ إليهِ جماعاتٍ وأقوَامَا
مستبشرينَ إليهِم في مرَابعنا  ترْجِي التَّهانيّ أعوامًا فأعوامَا

قصيدة المروتين، وهي القصيدة الذائعة الصيت التي أظنها تمثل النفس الوجداني والإعلامي معا، يروي الأستاذ محمد توفيق سبط الشاعر قصة القصيدة فيقول:

تظل قصيدة (المروتين) الأشهر على الإطلاق من ضمن نتاج جدي الشعري عن الحج، وعن قصة مناسبتها قالت خالتي السيدة ابتسام طاهر زمخشري «في هذه الأيام الفضيلة وعند سماعي إلى”أهيم بروحي على الرابية” تذكرته، أذكر القصة كيف نزل عليه إلهام القصيدة، حيث روى لي «كنت في مصر لطباعة أحد دواويني، وكنت في دعوة لتناول الغداء عند المذيعة همت مصطفي، وعند بداية المأدبة، قالت “همت”: يا جماعة كل سنة وأنتم طيبين لقد أعلن في السعودية اليوم غرة شهر ذي الحجة.

في تلك الحظة شعرت بغصة وألم، استأذنت وخرجت مهرولا إلى الشارع أمشي في الطرقات ولا أدري إلى أين، أنا تعودت أن أكون في الجبال المقدسة بمكة المكرمة، ولم أشعر إلا وأنا في حديقة الحيوانات، أذرف الدمع السخين، وكتبت يا ابنتي تلك القصيدة بدموع ساخنة وحرقة لأنني بعيد عن مكة، ولارتباطي مع المطبعة لم أستطع السفر”(4)

كتب القصيدة في أربعة وعشرين  بيتا، أرسلها إلى صديقه الموسيقار طارق عبد الحكيم – رحمه الله – وطلب منه تلحينها وغنائها بمناسبة موسم الحج، وبدوره اختار طارق اثني عشر بيتا ولحنها على الدانة الحجازية وغناها بإحساس عال عكس مشاعر شوق وحنين “بابا طاهر” لمكة، لبعده عنها خصوصاً في موسم الحج، وأذيعت بمناسبة الحج، وأصبحت أغنية خالدة في قلوب عشاق إبداعات الزمخشري، ولسنوات طويلة اعتادت الإذاعة السعودية إذاعتها خصوصا في موسم الحج، وأعاد غناءها الفنان محمد أمان – رحمه الله – ولاحقا نشرت القصيدة كاملة في ديوانه الرابع «أغاريد الصحراء»عام 1377هـ/1958م.(5)

ولعل أجمل مافي قصائد الشاعر ما تتسق فيه وظيفة الشعر التوصيلية مع الانفعالية كما رأينا في القصيدة التي أشرت إليها آنفا، من ذلك قصيدته في رحاب الإيمان (عبير الذكريات) 27/7/1400(6)

فالقصيدة تتردد فيها أنفاس عاطفية وجدانية عالية تتجاوب مع الحدث وترصد أصداءه وتغطي مساحة واسعة من آثاره الاجتماعية والنفسية وتؤكد أهمية التصدي له لما يمثله من اعتداء صارخ على أقدس مقدسات المسلمين، فهي تقوم بوظيفة إعلامية من شأنها أن تعبئ الرأي العام وتكرّس الوعي بخطورة الحدث، وهذا من صميم المهمات التوصيلية التي ينهض بها الإعلام، ومع البصر بهذا الجانب من القصيدة فإن الشاعر لم يفرط بالجانب الجمالي وبالشعرية التي تمنح النص هويته الإبداعية:

فالشاعر يستهل قصيدته بمناجاة هذا المكان المقدس ويصفه بما يستحقه من أوصاف بلغة مجازية تحتشد بالكنايات، وبلاغة النداء التي تتمثل في التمني، أما أساليب البيان الأخرى فتتراءى في سلسلة من الصور التي تتحول فيها المجردات إلى شخوص حيوية وتجسيدات ماثلة للعيان: القداسات مصابيح والضلالات تتهاوى، وهذا تجسيد وتمثيل، والعين تأنف والنار تشتعل في الدماء وتخطى الفسوق والإلحاد حتى عبادة الأوثان:

يا رحابَ الهدَى ويا مهبِطَ الوحي ويا قُدْسَ قدسِنا الروحَاني
القداسَاتُ في الدُّروبِ أضاءت بمصابيِحَ من هُدَى الفُرقَانِ
والضَّلالاتُ قَد تهاوَتْ وأبقت خلفَهْا الباقيَات عقدَ جمانِ
لا بكاء فالعين تأنف أن تغسل جرحاً أصابها من جبانِ
أشعل النَّار في الدّماء فكانت لحد من قد أصيب بالهذيانِ
وتخطى الفسوقَ والكفرَ والإلحادَ حتَّى عبادة الأوثانِ

وقد كثف الشاعر من أساليب الطلب التي راوحت بين النداء وهو العمدة التي أتكأ عليه الشاعر في التعبير عن جيشان شعوره وانفعالاته؛ لأن النداء يحمل معنى النجوى والمشاركة الوجدانية واستنهاض كوامن الأحاسيس والمشاعر، ثم الاستفهام الذي يتنبأ بالخلاص المستحيل لتلك الطغمة الطاغية، وكان تكرار تلك الأساليب تعبيرا عن حرارة المشاعر وتدفقها، فالنداء يتكرر باستمرار بنصه (يارحاب الإيمان) وهو عنوان القصيدة وعتبتها التي تفضي إلى مايصطخب في أبياتها من مشاعر، وهو نداء للمكان المقدس “بيت الله الحرام” الذي وقع الاعتداء عليه، فهو الذي يقع في بؤرة الاهتمام و كذلك الاستفهام:

أين ينجو من الحِصَار الذي قامَت عليه كتائبُ الشُّجعانِ
يا رحابَ الهُدَى ويا منزلَ الوحي  ويا أقدسَ الرُّبى والمغاني
     

وقد مضى بعد ذلك فاستثمر التقرير والوصف والسرد في منحى إعلامي ينشر الحقائق ويخاطب الوعي ويستثير الوجدان، فانصرف بعد ذلك إلى الزمان فعمد إلى تسجيل تفاصيل الفعلة الشنعاء التي قام بها جهيمان ورهطه وما انتهى إليه الأمر من هزيمة للمهاجمين ونصر مؤزر للمجاهدين، من هنا كان تكراره لفعل الكينونة الماضي (كان فجرا وكان صبحا):

كان فجراً به التباشيرُ تكبيرَ طروبِ الصدى نديِّ البيانِ
كان صبحاً به الأغاريد تسبيح يجوب الآماد للآذانِ
يا رحابَ الإيمانِ يا مهبِطَ الوحي ويا شدو كل خافقٍ ولسانِ

ثم كان التقرير والإخبار إثباتا للنصر ونفيا للعدوان، وكانت ازدواجية الوصف والسرد عبر الأفعال الماضية (فقدوا الرشد وأشهروا الغدر ومدوا الشراك وأرادوا ونالوا وزعموا):

القداسات لم تُدنَّس ولكنْ عبثٌ من سفاهةِ الصبيانِ
فقدوا الرشد والصواب فماذا بعد فقد الرشاد من خذلانِ
أشهروا الغدرَ في وجوهِ المُصَلين ومدُّوا الشراك بالعدوانِ
هُمْ أرادوا كذباً فاخزاهم الله ونالوا جزاءهم في ثوانِ
زعموا أنهم دعاةٌ إلى اللهِ وزيفُ الدّعيِّ للخسرانِ
فريةٌ حاكهَا الجناةُ فكانت لهُمُ معبراً إلى النيرانِ

ثم تأتي الضراعة لله والشكر له والتسبيح بحمده والاعتذار والإشادة بالبطولة والتهنئة بالنصر للمنتصرين في لغة مجازية مكتظة بألوان البيان: الازدهاء على الأكوان والطواف بالأكؤس والدنان وسلاف الانتصار والزفة للجنات، وهي صور بهيجة تفضي إلى ما ساد من فرح بالانتصار وغلبة للحق

فلكَ الحمدُ يا كريمَ العطايا يا سخيَّ الهباتِ بالغفرانِ
أنت أدرى بما اقترفنا وإنا لا نبالي مغبة العصيانِ
أنت أكرمتنا بخير جوار كيف لا نزدهي على الأكوانِ
فلكَ الحمدُ قد حفظت رحَاباً نحن فيِ ظلِّها منَ الجيرانِ
وحماةُ الذّمارِ في الحَرَم الآمنِ طافوا بأكؤسٍ ودنانِ
التَّهاني بها سُلافُ انتصارٍ أحرزُوه على الأثيمِ الجانيِ
والتحيَّاتُ للأولى بذلوا الأرواح زُفّت لجنة الرضوانِ

أما النموذج الثاني فهو قريب إلى نهج الشاعر في النموذج الأول من حيث الاحتفاء بما تيسر من نشوة وابتهاج ومن حفاوة بقدسية المكان، ويتمثل في القصيدة الشهيرة التي سبقت الإشارة إليها سابقا وهي (المروتين)

أهيم وحولي كؤوس المنى تقطر في شفتي رشفتين
فأحسب أني احتسيت الهنا لأسكب من عذبه غنوتين
إذا بي أليف الجوى والضنى أصاول في غـربتي شقوتين
شقاء التياعي بخضر الربى   وشقوة سهم رماني ببين
أهيم وفي خاطري التائه رؤى بلد مشرق الجانبين
يطوف خيـــالي بأنحائــه ليقطع فيه ولو خطوتين
أمـــرغ خـدي ببطحائـه وألمس منه الثرى باليدين
وألقي الرحـال بأفيائــه وأطبع في أرضه قبلتين
أهيم وللطــير في غصنه نواح يزغرد في المسمعين
فيشدو الفؤاد على لحنه ورجع الصدى يملأ الخافقين
فتجري البـوادر من مزنه وتبقي على طرفه عبرتين
تعيد النشـــيد  إلى أذنــــــه  حنينا  وشوقا  إلى المروتين

فلو تأملنا في بنية القصيدة لوجدنا أنها مصممة تصميما هندسيا منتظما في بنية وصفية  وتتسلسل في مقاطع نغمية دائرية التشكيل، فتبدو وكأنها سلسلة من الحلقات يفضي بها تأمل عميق يتردد بين مشاهد ظاهرة وأخرى كامنة، كل وحدة تبدأ بالفعل (أهيم) متبوعة بجملة الحال، يختم كل بيت من أبياته بلفظة دالة على المثنى عدا بيتا واحدا ينتهي بكلمة (بين) وتترابط تراكيبه عبرجملة من العلائق ما بين دال على التعقيب والترتيب من حروف العطف وأخرى للتعليل وأخرى دالة على المفاجأة (إذا الفجائية) وتالية تعمد إلى التفصيل، وهذه البنية المزدوجة الطابع في مفرداتها نحويا ودلاليا تسير وفق نظام قائم على تشكيل مزدوج أيضا؛ فالروابط الأساسية فيه تتمثل في واو العطف التي تدل على مطلق الجمعي فتفضي إلى التراكم ثم الفاء التي تفيد التعقيب والترتيب وتفضي إلى لون من ألوان التداعي، ولعل الواو بمختلف دلالاتها هي أكثر الروابط حضورا ما يومئ إلى بنية تراكمية في الظاهر و لكنها متنامية على نحو خاص في الحقيقة، ثم إن التراكم الكمي كما هو معروف يفضي إلى تحول كيفي .

ولعل هذا البوح الغنائي الذي ألفناه في الشعر الرومانسي الذي يعتبر الشاعر من رواده في الشعر العربي السعودي يأخذ طابعا ذا خصوصية تتمثل في ازدواجية الشكوى، وهي كامنة في لاوعي الشاعر لأسباب لا داعي للتفصيل فيها، ولهذا نجد المفردات الدالة على المثنى تنتظم القصيدة من أولها إلى آخرها كما سبق أن أشرت: و قد اتخذ من ثنائية المكان مدخلا ومنطلقا أتاح له المجال لكي يشكو من اغترابه وافتتانه بمغتربه حيث الروابي الخضر؛ وقد جاء ذلك كله في سياق صورة الاحتساء والشراب، حيث قلة الماء الذي يعبر به عن زمن المتعة برشفتين وبالقطر أي الشح في النزول قطرة قطرة وعبر عن آلامه بلوعتين لوعة الغربة ولوعة التعلق بالخضرة و الجمال ، واللوعة أقصى درجات المعاناة.

ولعل الشاعر يبدي ما بداخله من صراع نتيجة اغترابه عن وطنه، فهو يدير حديثه حول المكان الذي يتوق إليه ويتوحد فيه ويعانقه على البعد؛ ولعل ذلك يفسر تشبثه بصيغة المثني حيث الون الذي يتوق إليه والمهجر الذي ارتبط به فهو يعلن عن ولائه الشديد للوطن ممثلا في بقعة مقدسة تضم مكانين من أطهر بقاع الأرض الصفا والمروة، ويأتي بكل ما يعبر عن تعلقه بهما بوصفهما رمزين مقدسين ويتخذهما مدخلا للتعبير عن الثنائيات التي يعاني منهما في حياته.

إنه يسرح بخياله مستدعيا وطنه بوجدانه العاشق لتلك البقاع، ويحرص على تجسيد مشاعره في الحس واللمس والمشاهدة فهو يتوحد في ترابه وأرضه وغصنه وطيره، ويتخذ من الطبيعة البكر مرآة لشعوره التي يخلعها على الثرى والأشياء والأحياء على شاكلة الشعراء الرومانسيين من أبناء جيله، ولكن الطبيعة هنا ليست مطلقة الدلالة بل لها خصوصيتها التي تنبع من وجدان صاف ملتاع.

ومن قصائده ذات الطابع الإعلامي تلك التي قالها بمناسبة اشتراك الدولة السعودية في تأسيس الجامعة العربية، وعنوانها (دعوة الحق) وقد خاطب بها الملك عبد العزيز (رحمه الله) قائلا:

المجد في تاجك الوضّاء لألاءُ

والجود في كفك البيضاء آلاءُ

والخير في أمة مازلت تجمعها

حتى تآخت وللتوحيدِ أفياءُ

ومن الواضح أن الشاعر يعلن عن هذا الحدث في بيانه الشعري مادحا الملك المؤسس رحمه الله، ولكنه  ليس مجرد بيان إعلامي؛ بل تتبدّى جمالياته الفنية فيما التزم به الشاعر من تقاليد القصيدة العربية القديمة إيقاعا وتصريعا واحتشادا في لغة مجازية ثرية وارفة الظلال، فثمة تجسيد للمجردات: المجد الذي تحول إلى ضوء يتلألأ وكذلك الجود والخير والتوحيد الذي تفيأ الجميع ظله، هكذا جمع الشاعر بين المعاني المطلقة وجعل منها أسسا وركائز للوحدة في تناغم و انسجام، فعبر عن هذا الحدث التاريخي مجنّدا طاقاته الشعرية وخياله المحلق في توليد الدلالات التي يشير إليها هذا المنعطف المهم في تاريخ الأمة مشير إلى القيادة الملهمة التي حققت هذه الوحدة بين بلاد الأمة في رباط مؤسسي جامع.

وقد مجّد البطولات وأعلى من شأنها وصوّر تضحياتها في حلة شعرية زاهية فكان المشهد مؤثرا حيا يبعث اللغة الشعرية حية كما الحال بالنسبة للجندي الشهيد الذي ينبعث صوت الحق من جثمانه الطاهر، على الرغم من تحوله إلى أشلاء.

لم يضيع فرصة الوقوف على صعيد عرفة أثناء تأديته لمناسك الحج، فنظم من صعيد عرفات قصيدة في ستين بيتا عنونها بـ “لبيك” ومهرها بـ “ابني محمد مدني، لقد مضى عام وكان حافلاً بالمفاجآت، وكنت بجانبي استمد من شبابك القوة، التي أتوكأ عليها، وأنا أتعثر في الطريق؛ من هول الصدمات التي مّرت بي؛ فلك وللغراس حولي، أتوجه إلى الله بهذا الدعاء في رحاب البيت، وفي صعيد عرفات؛ سائلاً لك النجاح المضطرد، وللجميع العون والتوفيق الدائم. وافتتحها قائلاً:

قد سكبنا نفوسنا مذ بلغنا
غاية الشوط وارتشفنا منانا
فمن الشوق قد ركبنا المطايا
وإلى الوصل قد حثثنا خطانا
ومن اللهفة التي تسكب الفر
حة نايٌ ما ناح إلا شجانا

وختمها بقوله:

جرّد النفس من هواها ولبَّى
وعن الإثم يسأل الغفرانا
وينادى لبيك وعدك صدق
ولهذا الصعيد طاب سرانا
وبنور أشاع أشرف دينٍ
 سوف نحيا على المدى إخوانا

وتطورت اهتماماته بموسم الحج لتشمل النشاط الإعلامي، فكان أول من أشرف على النقل المباشر لمراسم الحج إبان عمله مع الإذاعة بمكة المكرمة في بدايتها الأولى، وقد تميزت قصائد الأديب طاهر عبد الرحمن زمخشري في موسم الحج، وشاعت وانتشرت بحكم أنها غُنت.

إن الشاعر والصحفي والإذاعي والفنان طاهر الزمخشري جدير بأن يحمل لقبا قريبا من لقب المعري، ولكنه ليس رهينا ولا سجينا بل طائر غريد فهو (شادي الغربتين) غربة قضاها بعيدا عن الوطن، فهي غربة مكانية، وأخرى تمثل اغترابا وجدانيا كما في أشعاره التي تتغنى بالجمال الذي يتوق إليه؛ ولكنه لا يستطيع إليه سبيلا.

ولعلي أوجز مأردت أن أشير إليه في هذه المقالة من أن جدلية الشعر والإعلام كانت واضحة في دواوينه التي يستحق كل ديوان منها دراسة مستقلة، فالجانب الذاتي الوجداني أثر في توجهه الإعلامي، وشعره أثر في جهده الإعلامي:

أولا- الاتجاه إلى صحافة الطفولة كانت ثمرة من ثمرات شعره، فهو شاعر وجداني رقيق تهزّه براءة الطفولة.

ثانيا – شعوره العميق بالمعاناة حفّزه إلى أن يعوض ذلك بإثبات وجوده ورد اعتباره من خلال جهده الإعلامي ومبادراته ورياداته في هذا المجال.

ثالثا – شعره الرومانسي جمع بين الذاتية والموضوعية، ولم تستغرق ذاتيته جل جهده الشعري؛ فكانت أشعاره الرومانسية تتداخل فيها الذاتية والموضوعية.

رابعا – حفلت بعض قصائده بالثنائيات، وخصوصا المروتين، ولعل ذلك يومئ إلى لون من ألوان التماهي مع طبيعة الحياة التي عاشها والاهتمام المزدوج بالإعلام والإبداع.

خامسا – الخيال الذي يعد أحد ركائز الرومانسية لم يكن موغلا في التحليق على النحو الذي شهدناه عند الشعراء الرومانسيين المتقدمين فكان قريب التمثل واضح الدلالة، ولعل ذلك يعد أثرا من آثار الإعلام.

 

* أستاذ النقد الأدبي الحديث، عضو هيئة تحكيم عدة مسابقات أدبية، له العديد من المؤلفات الأدبية والنقدية أشهرها (سلسلة الأدب العربي).

الهوامش

(1) استقيت المعلومات المتصلة بحياته من كتاب:

محمد توفيق بلو، الأديب طاهر زمخشري في سطور، جدة، 1440

(2) طاهر زمخشري، ديوان لبيك، 1968

(3) راجع: عبد السلام طاهر الساسي، شعراء الحجاز في العصر الحديث، مطبوعات نادي الطائف الأدبي، الطائف (د.ت)

(4) ttps://www.alwatan.com.sa/article/383915

(5) طاهر زمخشري، ديوان أغاريد الصحراء عام 1377هـ/1958م.

(6) طاهر زمخشري، عبير الذكريات) 27/7/1400

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *