السعودة أو الطوفان.. قراءةٌ قبل الفيضان!!

اعترف قبلاً أنني واقع تحت تأثير أي فكرة ترتبط بالسعودة، هذا التأثير جاء نتيجة تراكمٍ امتد لسنواتٍ من خلال الدراسة والعمل، رسّخ أركانه لدي شريطُ المشاهد المرعبة التي يتعرّض لها شبابنا وشابّتنا في بيئة العمل السعودية. استعرضتُ بعضاً منها على امتداد سنتين مضت بدءاً من "البطالة.. كيف نُشخصها؟!" مروراً بـ "سعودة الوظائف الحكومية.. في مهب الريح"، ثم "البطالة تزداد تورماً ما لم.."، فـ "السعودة فوق صفيح ساخن"، وأخيراً وليس آخراً " السعودة.. في مواجهة الفك المفترس"، واليوم أجدني استكمل هذا الطريق المليئ بالتحديات الجسيمة، غير أن هذه المرّة بصدد ابراز وجهة نظرٍ خبيرة، حملت في داخلها أفكاراً عميقة لامست مسائل جوهرية فيما يختص بالسعودة. أسعدني الحظ بالتعرّف عليها من خلال قراءتي للكتاب الرائع "السعودة أو الطوفان" تأليف د.عبدالواحد الحميد، الذي لمحته فجأة بين صفوف الكتب الصادرة حديثاً "الكتاب في طبعته الثالثة" في أحد المكتبات، رغم اختناقه بين بقية الكتب العملاقة الحجم!. إنه الكتابٌ الذي أوفاه حقّه د. غازي القصيبي حينما وقّع عليه بعد أن قرأهُ أكثر من مرّة "يجب أن يقرأه كل مواطن حريص على مستقبل هذا الوطن، أمّا المعنيون بشؤون العمل فيجب أن يقرأوه أكثر من مرّة". أصدْقكم القول أن هناك الكثير من الأفكار والمشاعر الفريدة تنتظركم عند الانتهاء من قراءة هذا الكتاب القيّم، خاصّةً عندما يصل القارئ إلى أقوى وأقسى المشاهد الدراماتيكية للكتاب؛ إنها مجموعة من الصور المفزعة لطوفان العمالة الوافدة في الشوارع والأسواق المحلية!

استهل الكاتب بإيضاح الفكرة الأساسية لكتابه "أن موضوع الكتاب ليس السعودة بحد ذاتها بقدر ما هو مناقشة كيف نقيم اقتصادنا السعودي على أسس متينة مستدامة، تستمد قوتها وديمومتها من طبيعة الموارد الإنتاجية في بلادنا وأولها، وأهمها أيضاً، هو القوى العاملة الوطنية" – الكتاب ص 19-. ليلامس لبَّ تفاقم مشكلة عدم فعالية الاستراتيجيات والسياسات المعنية بالسعودة قائلاً أن "السبب الرئيس هو وجود فجوة بين التخطيط والتنفيذ، فالكثير من قرارات السعودة لم يتم تنفيذها، ليس لأنها غير واقعية ولكن بسبب إصرار البعض على وجود العمالة الوافدة ذات الأجور المنخفضة… إن الحل الحقيقي يتمثل في الحدِّ من الاستقدام بشكلٍ كبير جداً، حسب ما نصّت عليه استراتيجية القوى البشرية" -الكتاب ص 61-، ووفقاً للخبرة العالية والتجربة الثرية التي تتوافر لدى الكاتب يرى أن "الحل الجذري" للمشكلة ينطلق من "التحكم في عرض العمالة، عن طريق الحدِّ من العمالة الوافدة، الذي سيعيد الأمور إلى نصابها، فسوق العمل المحلي سيتأقلم بالتدريج مع الأوضاع الجديدة، من أهم ما سيجنيه منها: اقبال المنشآت على توظيف السعوديين لزيادة الإقبال على توظيفهم، تلاشي فرضية العمالة الوافدة الرخيصة التي قامت عليها بعض المنشآت، اختفاء بعض الأنشطة وبروز أخرى بما يعكس الحقيقة الاقتصادية السائدة وخصائص الاقتصاد السعودي. ما سبق ليس إلا جزءاً يسيراً جداً من فيض الأفكار الواضحة والمباشرة حول قضيةٍ من أهم القضايا والتحديات الراهنة للاقتصاد السعودي، وهذه دعوةٌ صريحة للإطلاع على الكتاب كخطوةٍ هامّة على طريق حلِّ مشكلة السعودة لدينا، خاصّةً وأنها تمس كل بيت من بيوت المجتمع السعودي، والفكرة المضافة في الكتاب صادرة عن شخصية هامّة عايشت القضية من بداياتها، وخاضت متسلحةً بالعلم والخبرة معارك طويلة في مواجهة التحديات والمعوقات المعقدة التي تزامنت مع تطورات السعودة.

أؤكد أننا أمام السيناريو الديموغرافي المتوقع لسكان السعودية –حسب تقديرات الأمم المتحدة- الذي يتحدث عن انطلاق المجتمع السعودي نحو المستقبل من عام 2005 بنحو 24.6 مليون نسمة؛ يمثل السكان في سن العمل "15 سنة-59 سنة" نحو 14.3 مليون نسمة أي نحو 58.2 في المائة. ليصل إجمالي عدد سكان السعودية بعد خمسة عشر سنة فقط إلى 34.0 مليون نسمة في عام 2020، يمثل السكان في سن العمل نحو 21.4 مليون نسمة أي نحو 63.0 في المائة. ثم إلى 45.3 مليون نسمة في عام 2040، ليستقر عند 49.5 مليون نسمة بحلول منتصف عام 2050، يمثل السكان في سن العمل نحو 31.5 مليون نسمة أي نحو 63.7 في المائة!، أؤكد أننا في مواجهة هذه الحقائق وفي ظل السخونة الداخلية لقضية السعودة نسير في اتجاهٍ إن ظل وضع العمالة الوافدة مستمراً في الزيادة على ما تم في الماضي القريب، فإن احتمال فيضان الطوفان الذي حذّر منه د.الحميد متوقع في أي زمن قريب من شريط المستقبل! لهذا يعتبر اتحاد الجهود وانسجامها في مواجهة تلك التحديات قضية جوهرية وأساسية؛ تقع مسؤوليتها الكبيرة على كل فردٍ منا ضمن إطار هذا الوطن الثمين. بدءاً من الأفراد الباحثين عن عمل بضرورة تطوير قدراتهم العلمية والعملية، ووجوب اتخاذ رجال الأعمال لموقفٍ مسؤول ووطني بفتح المجال أمام أبناء وبنات الوطن للحصول على الفرص الوظيفية المتاحة في منشآتهم ومشاريعهم التجارية والاقتصادية، وقيام المخططين الاقتصاديين وراسمي السياسات العامّة لسوق العمل المحلّي باستحداث أكثر الوسائل والسبل ابتكاراً وحداثةً لفكِّ الاختناق القائم بين الباحثين عن العمل وأرباب العمل في القطاع الخاص، والاعتماد على مبدأ المشاركة في رسم تلك السياسات مع كل من رجال الأعمال ورجال التربية والتعليم في بلادنا؛ فهل نفعل ذلك قبل فيضان الطوفان ؟!

صحيفة الاقتصادية السعودية

نبذة قصيرة عن عبدالحميد العمري

عضو جمعية الاقتصاد السعودية
هذه التدوينة كُتبت ضمن التصنيف اقتصاديات, الرأي. الأوسمة: , , , , , , . أضف الرابط الدائم إلى المفضّلة.

التعليقات مغلقة.