مفهوم النشوز في القرآن الكريم

magazine slogan

مفهوم النشوز في القرآن الكريم
دة. فريدة زمرو
مؤسسة دار الحديث الحسنية، الرباط

يقدم هذا المقال دراسة لمصطلح النشوز ودلالاته في القرآن الكريم، تهدف إلى بيان المفهوم القرآني للنشوز من خلال سياقه العام والخاص، وعلاقته بالمفاهيم المتعالقة معه، وهي محاولة لتبين هذا المفهوم انطلاقا من التصور القرآني الخالص، ومقدمة لفهم أبعاده وتطبيقاته في المجالين الأسري والاجتماعي.

1-  دلالة لفظ النشوز في اللغة وموارده  في القرآن الكريم:

1- 1-  النشوز في اللغة :

يدور لفظ النشوز في اللغة على معنى العلو والارتفاع، جاء في مقاييس اللغة:"النون والشين والزاء أصلٌ صحيح يدلُّ على ارتفاعٍ وعُلوّ"، ومنه النشَز والنشْز: المكان المرتفع من الأرض، وأنشزتُ الشيء إذا رفعته عن مكانه. واستعير هذا المعنى الحسي للدلالة على ترفع المرأة أو الرجل واستعلائهما كما سيأتي بيانه.

2- 1- موارد لفظ النشوز في القرآن الكريم:

ورد لفظ النشوز في القرآن الكريم خمس مرات: بصيغة الفعل ثلاث مرات، وبصيغة الاسم مرتين، وذلك في أربع آيات وهي:

    قوله تعالى:(أوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ، وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ، وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُها ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
     قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).
     قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً).
     قوله تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن َيصَّالَحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً).

والناظر في الآيات يرى أن النشوز مفهوم مدني، بحكم وروده في آيات وسور مدنية، ونصف موارده في سورة النساء التي خصصت مقاطع منها لمعالجة قضايا المرأة والأسرة، ولذلك فهو مفهوم نسائي أسري. أما النصف الآخر من الموارد فالنشوز فيه استعمل بمعناه اللغوي، أي الارتفاع والعلو الحسي، فقوله تعالى وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا أي كيف نرفعها أو نرفع بعضها على بعض في التركيب، أي نركب بعضها فوق بعض لإحيائها، وقوله عز وجل: (وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا) فهو بمعنى القيام من المجلس، أي الارتفاع عنه. وبذلك تنحصر الدلالة الاصطلاحية للفظ النشوز في القرآن الكريم في آيتي النساء التي سنكشف سياق استعماله فيهما ضمن الفقرات التالية.

2- مفهوم النشوز في القرآن الكريم :
2-1-  السياق العام للمفهوم :
  ورد لفظ النشوز في الآية الأولى (النساء 34) المعروفة بآية القوامة، وهي  تأتي بعد آية النهي عن تمني ما فضل الله به الرجال والنساء بعضهم على بعض (وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا  اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)، والتي تتكامل من حيث المعنى مع آية القوامة لما بين التفضيل والقوامة من علائق. والآيتان معا تؤسسان لكيفية ضبط العلاقة بين الرجال والنساء في ظل التكامل الوظيفي والتميز الطبيعي اللذين يحكمان هذه العلاقة.
  ويأتي النشوز في الآية الثانية (النساء 128) صفة للرجل الذي سمته الآية بعلا، لما لهذا اللفظ من دلالة على معنى الغلظة والاستعلاء، المناسب لمعنى النشوز. وهي تأتي بعد آية الاستفتاء في أمر النساء (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُوْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً)، والتي نزلت في أمر يتامى النساء اللاتي لا يعطيهن الرجال ممن يكفلونهن ما فرض الله لهن من الميراث أو غيره من الحقوق المالية، والمناسبة بين هذه الآية والآية موضوع الدرس أن الجامع بينهما معنى النشوز والاستعلاء عما فرضه الله للنساء من حقوق، ويأتي بعد الآية تقرير حقيقة صعوبة العدل بين النساء، والنهي عن الميل في التعامل معهن في حال كراهة عشرتهن:(وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً). وبذلك تكون الآية منسجمة مع هذا السياق الذي تعالج فيه حالة من حالات استعلاء الرجل على المرأة.
  وبالنظر إلى سياق السورة كلها، نجد الآيتين ضمن مقطعين أساسيين في السورة يعالجان قضايا مرتبطة بالنساء وعلاقتهن بالرجال في حالات مختلفة ومجالات مختلفة كالزواج وما يرتبط به، والإرث وأحكامه. فالآية الأولى تأتي في المقطع الأول الذي تبدأ به السورة مقررة حقيقة وحدة الخلق التي تجمع النساء والرجال، وينقسم هذا المقطع إلى أقسام أو مجموعة من الآيات تبدأ بموضوع يتامى النساء وواجبات الرجال اتجاههن، وما ترتب على ذلك من تشريع للتعدد في الزواج، ثم تنتقل إلى موضوع الإرث وإثبات حق النساء في الميراث، وتشريع أحكامه بالنسبة للنساء والرجال. ثم تأتي الآيات بعد ذلك بأحكام مختلفة تصحح أوضاعا غير صحيحة كانت المرأة تعيشها قبل الإسلام، وبتوجيهات وأحكام عامة وخاصة ترتبط بالزواج. بعد هذه الآيات تأتي آية النهي عن تمني التفضيل التي تشكل مفتاح آية النشوز الأولى. وبذلك تكون الآية منخرطة في سياق الأحكام المؤسسة للعلاقة بين النساء والرجال عامة، وبين الزوجين خاصة. أما الآية الثانية فهي تأتي ضمن المقطع الثاني من السورة المخصص لموضوع النساء والذي يبدأ من آية الاستفتاء في أمر النساء يستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن، وينتهي بالآية الكريمة: (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا عليما)، والآية تعالج ضمن هذا المقطع حالة من حالات الخلاف بين الزوجين، انسجمت مع ما ختم به المقطع من حديث عن الفراق.
  والملاحظ أن كل الآيات التي ارتبطت بموضوع النساء وعلاقتهن بالرجال في السورة، ركزت على معاني الائتلاف والتصالح، ونبذ الخلاف، رغم أن آيات منها عالجت مشاكل التنافر والاختلاف التي تقع بين الزوجين. ولتفسير ذلك يستدعي الأمر تدبرا في السورة ككل، ومقاصدها العامة، وخاصة فيما يتعلق بالمقاطع المخصصة لموضوع النساء. حيث يقود هذا التدبر إلى أن أحد المقاصد الكبرى للسورة: إحقاق الحق والعدل لصالح فئات من المجتمع كانت مستضعفة في تصور الناس وأعرافهم قبل الإسلام، كاليتامىوالنساء، ومما جاء في حقوق النساء قوله عز وجل:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ)، وقوله تعالى: (لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً)، ومما جاء في حقوق اليتامى، قوله عز وجل:(وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً)، وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)، وكثيرا ما قرنت الآيات بين الفئتين، ورتبت على ذلك أحكاما خاصة (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ)، وقوله أيضا: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً). وفي سياق كل ذلك ركزت الآيات على التآلف بدل التخالف، والتصالح بدل التنافر، ومن الدلائل المؤكدة  لذلك:
   افتتاح السورة بالترغيب إلى التواصل والتراحم، بعد تقرير حقيقة وحدة الخلق.
   استعمال ألفاظ الصلاح والصلح والتصالح والإصلاح بما تحمله من دلالات مناقضة للفرقة والمعاداة والخصام.
   استعمال لفظ المعروف أكثر من مرة، وضمنها قوله تعالى: (وعاشروهن بالمعروف) الذي يعد قاعدة كلية ومقصدا عظيما في باب التشريع لأحكام الزواج.
   عدم استعمال لفظ الطلاق، وحتى حين ذُكرت المشاكل الأكثر تعقيدا بين الأزواج كالشقاق وما قد يترتب عليه من استحالة التصالح، عُبر بلفظ الفراق (وإن يتفرقا) ولم يُعبَّر بلفظ الطلاق، فتُجُنِّب اللفظ الموقع للفراق والأوضح دلالة عليه، انسجاما مع المقصد العام للسورة.
  يستخلص من هذه السياقات، أن بناء السورة على التواصل والتآلف والتصالح، وحفظ الحقوق وضمان العدل فيها، يجعل النشوز، بنوعيه، وعلاجه، داخلا ضمن المقصد العام للسورة الذي يرمي إلى رأب الصدع الذي قد تتعرض له الأسرة بسبب الخلاف بين الزوجين، وهو لذلك يمثل الاستثناء من القاعدة التي بنتها السورة في مطلعها على الوحدة والتواصل بدل الفرقة والتقاطع. وهو مع هذا لا يعكس ظلما لأي طرف من الأطراف، بل على العكس يأتي منسجما مع إحقاق الحق الذي رمت إليه السورة كما مر، وأكدته آيات بينات فيها كقوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) ، وقوله عز وجل: (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً).
2-2- دلالة النشوز بحسب فاعله :
2-2-1- نشوز المرأة :
من خلال الدلالة اللغوية للفظ النشوز، ومن خلال السياق العام للمفهوم في القرآن الكريم، يتبين أن نشوز المرأة: ترفعها واستعلاؤها عن القواعد والحدود التي وضعها الله عز وجل لضبط علاقتها بزوجها. ويدخل تحت هذا المعنى كل الصور الممكنة لهذا الاستعلاء، كعدم حفظ حقوق الزوج، أو معصيته في معروف، أو الترفع عما يقتضيه نظام الفطرة من التعامل معه، أو غير ذلك من الصور التي ذكرها المفسرون.
ويأتي ذكر النشوز في الآية صفة للنساء تقابل صفة الصلاح، تفريعا على تقرير قوامة الرجال على النساء المعللة بالتفضيل والإنفاق. وبذلك يشكل مفهوم القوامة وما يرتبط به من تفضيل مدخلا مهما لفهم معنى النشوز، وهذا ما سنتبينه في دراستنا لعلاقة النشوز بالمفاهيم ذات العلاقة به.
وجاء التعبير عن نشوز النساء هنا بالصيغة الفعلية: (واللاتي تخافون نشوزهن)، وقد توقف المفسرون عند المقصود بالخوف هنا، هل هو تحسس علامات النشوز وأماراته، أم المقصود وقوعه فعلا ؟، والظاهر أن الأنسب لدلالة النشوز وعلاجاته أن يكون المقصود بالخوف هنا العلم - وهو نظير استعمال الظن بمعنى اليقين في القرآن الكريم - وذلك لأن ما يترتب على النشوز من علاج، قد يصل إلى الضرب، لا يحتمل بناءه على مجرد الظن والتوقع.
أما العلاجات المذكورة في الآية للنشوز فهي: الموعظة، والهجر في المضاجع، والضرب، وهي علاجات متراتبة متدرجة من اللين إلى الشدة، وإن ربطت بواو العطف الدالة على الجمع دون الترتيب:
أما الوعظ فهو زجر وتذكير يغلب عليه الترغيب، وقد يقترن أحيانا بالترهيب. وأما الهجر فهو الترك للشيء والبعد عنه، والهجر في المضاجع كناية عن عدم الاقتراب من النساء في المضاجع، فهو هجر مع بقاء المضاجعة. وأما الضرب فهو باتفاق المفسرين والعلماء الضرب غير المبرح الذي يقصد به التأديب. وهذا التدرج في ترتيب هذه العلاجات مقصود ومرتبط بطبيعة النشوز ودرجاته، فهو يدل على ضرورة الوقوف عند الحد الذي يحصل معه العلاج، فإن نفعت الموعظة كفت، وإلا صار إلى الهجر، ثم لا يصير إلى الضرب إلا مع عدم جدوى العلاجات السابقة. وضمن هذه العلاجات يمكن ملاحظة التدرج في تقديم الديني على النفسي وتقديم النفسي على الجسدي، وهو ما يوحي بتراتب قيمي لهذه الوسائل ونجاعتها في حل مثل هذه الإشكالات.
يستخلص من دلالة التدرج والتراتب في إيقاع هذه العلاجات، أن مجموعها ليس واجبا، وإنما يباح منها ما له تأثير في حل المشكل.
2-2-2- نشوز الرجل :
  أما بخصوص نشوز الرجل، فقد ورد معه في الآية لفظ الإعراض (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً)، وورد لفظ الصلح، ثلاث مرات بصيغ مختلفة، علاجا لهذا النشوز (فلا جُناحَ عَلَيهِما أن َيصَّاَلحا بينَهُما صُلحا، والصُّلحُ خَير).
  أما الإعراض فهو أقل درجة من النشوز، لأن النشوز ترفع واستعلاء من الرجل عن أداء الواجب عليه لزوجه، والإعراض انصراف عنها وعدم أنس بها. وكلا الفعلين ناسبهما صفة البعولة المذكورة في الآية.
  وأما الصلح، فإن أول ما يلاحظ فيه ورود الفعل (يصَّالحا) -وهي قراءة الجمهور- بصيغة "التفاعل" الدالة على المشاركة التي أكدها قوله "بينهما"، وفسر التصالح هنا بالتواضع والاتفاق بينهما على صيغة للصلح، ويفهم من ذلك أن رضى المرأة بهذا الصلح شرط في إجرائه، كما يفهم من ذلك أن مشكل النشوز هذا وعلاجه أمر داخلي وهو في هذا لا يختلف عن علاج نشوز المرأة إلا في صورته التي اختلفت لاختلاف طبيعة كل منهما. ولم تقتصر الآية على ذكر التصالح بل أكدته باسم المفعول "صلحا"، رغم أن صيغة التفاعل لا تأتي في الغالب متعدية. ومجيء المفعول هنا مطلقا عن قيد التعريف يدل على شموله لكل أنواع الصلح الممكنة، وليكون للزوجين الحرية في اختيار الصيغة التي تناسب حالهما. ثم كررت الآية اسم الصلح ووصفته بالخيرية (والصلح خير)، فكانت هذه الجملة المتممة بلفظها العام بمثابة القاعدة التي تؤصل لمبدأ التوافق بدل التنافر، ولتؤكد أن الصلح على العموم خير من الفرقة والبغضاء والشحناء.
  وإلى جانب لفظ الصلح واشتقاقاته ذكر في الآية نفي الجناح (لا جناح عليهما) ونفي الجناح يدل على الإباحة، والإباحة لا تكون إلا حيث يُظن المنع، ويمكن تفسير هذه الإباحة هنا بأن هذا الصلح وإن كان فيه تنازل عن بعض الحقوق، فهو مباح غير ممنوع ولا محرم.
  وهذا المعنى فيه إشارة إلى قيمة هذه الحقوق التي سماها الله عز وجل أحيانا حدودا، وجعل تعديها ظلما، ولكنه هنا جعل التنازل عنها لصالح الطرف الآخر مباحا بشرط القصد إلى الخير والصلاح للأسرة. ففي العموم، الأصل أن تحفظ حقوق المرأة كما تحفظ حقوق الرجل، ولكن إذا كان في التنازل عن بعض هذه الحقوق لصالح الطرف الآخر، ما يخدم صالح الأسرة، فلا بأس بذلك. ولذلك فإن الآية أباحت هذا النوع من التصالح، بشرط التراضي، إذا كان فيه ما يحقق الأصلح للزوجين وللأسرة.
  ولأن الله عز وجل -الأعلم بخلقه- يعلم ما يطبع الأنفس (أنفس الرجال والنساء) من حرص كل منهم على حقوقه والشح في التنازل عنها، جاء في ختام الآية بالترغيب إلى التقوى والإحسان، بعد تقرير هذه الحقيقة: (وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً)، فأن يحسن الرجال والنساء في المعاشرة ويتقوا النشوز ولا يضطر أحدُهم الآخرَ لبذل حقوقه، خير وأفضل. وهذا يؤكد أن النشوز سواء كان من المرأة أو الرجل وعلاجه إنما هو أمر طاريء على الصورة المثلى التي أرادها الله عز وجل للعلاقة بينهما.
  لكن ألفاظ الآية مع كل هذا لا تفصح عن طبيعة الصلح الذي جاء علاجا لنشوز الرجل، ولا عن طبيعة النشوز الصادر من الزوج، ولهذا رجع المفسرون لبيان هذا الأمر إلى أسباب النزول حيث جاء في كتب التفسير وأسباب النزول أكثر من رواية، تتفق كلها على أن هذا النشوز مرتبط بالطلاق وتعدد الزوجات، وأن التصالح المطلوب هو تنازل المرأة عن حقها أو بعضه مقابل عدم تطليقها. من هذه الروايات ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها: "وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا" قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول: أجعلك من شأني في حل، فنزلت هذه الآية»،  في لفظ آخر: «هو الرجل يرى من امرأته ما لا يعجبه كِبَرا أو غيره فيريد فراقها فتقول: أمسكني، واقسم لي ما شئت، قالت: ولا بأس إذا تراضيا». وجاء في رواية أخرى ما يشير صراحة إلى ارتباط مفهوم النشوز بإحدى صور التعدد، وذلك أن الآية نزلت في رافع بن خديج «كانت تحته امرأة قد خلا من سنها فتزوج عليها شابة، فآثر الشابة عليها، فأبت امرأته الأولى أن تقيم على ذلك، فطلقها حتى إذا بقي من أجلها يسير قال: إن شئت راجعتك وصبرت على الأثرة، وإن شئت تركتك حتى يخلو أجلك، قالت: بل راجعني وأصبر على الأثرة، فراجعها فلم تصبر على الأثرة فطلقها أخرى وآثر عليها الشابة. فذلك الصلح الذي بلغنا أن الله أنزل فيه (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا...)». وروي أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الآية نزلت في «المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها، فيتزوج عليها الشابة يلتمس ولدها، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز»، وفي رواية عن ابن عباس ما يبين صورة من صور الصلح «..فيصالحا صلحا على أن لها يوما ولهذه يومان أو ثلاثة».
  من خلال هذه الروايات يتضح أن نشوز الرجل هنا مرتبط بإحدى صور التعدد التي تنتفي فيها قاعدة العدل، يؤكد ذلك سباق الآية ولحاقها كما مر آنفا، فالأصل -طبقا لهذه القاعدة- أن يعدل الرجل بين أزواجه مهما كن متمايزات من حيث السن أو الجمال، وأن يقسم للواحدة بمثل ما يقسمه للأخرى، ولذلك وصف الرجل بالنشوز لخروجه وترفعه عن هذه القاعدة، ولكن هذا الأصل إذا قورن مع أبغض الحلال والفرقة والخصام، كان التنازل عنه لأجل درء ما قد ينتج عن الطلاق، مباحا. فكأن التقابل هنا بين التنازل عن الحق المبني على التراضي والمؤدي إلى الصلح، وبين التمسك بالعدل المؤدي إلى المفارقة.
  ورغم أن أسباب النزول كانت من أهم الموجهات لتحديد طبيعة نشوز الرجال، فإننا بالنظر إلى مفهوم النشوز في القرآن الكريم عموما، وإلى سياقاته العامة والخاصة، نستطيع التأكيد على أن نشوز الرجل يماثل نشوز المرأة من حيث هو ترفع عن حسن المعاشرة، واستعلاء عن القواعد والحدود التي وضعها الله عز وجل لضمان صلاح مؤسسة الزواج، وقد يكون من صوره ما ألمحت إليه سياقات الآية، وما ذكر في أسباب النزول، وقد يكون غيره. وفي ضوء هذا النظر الشمولي يمكن أيضا أن نفسر "التصالح" المطلوب علاجا لهذا النشوز، فقد يتعارف الناس على صيغ أخرى للتصالح تضمن حقوق الطرفين وكرامتهما، بشرط التراضي بينهما، وعدم التعارض مع مقاصد الشرع وأحكامه، ولهذا السبب قيد الصلح في الآية بنفي الجناح الدال على الإباحة لا على الوجوب.
  لكن إذا كانت طبيعة النشوز واحدة عند الرجل والمرأة معا، فلم لم تساو الآيات بينهما في علاج النشوز؟.
2- 2-3- شبهات حول علاج النشوز :
والجواب على هذا الاعتراض يقتضي تفريعين:
التفريع الأول: إذا كان القصد من إنكار التباين في العلاج، وجود الضرب علاجا لنشوز المرأة، مع ما فيه من تمييز وعنف وامتهان للكرامة، ومقابلة ذلك بالتصالح والتنازل عن الحق علاجا لنشوز الرجل، فإن رد هذا الاعتراض، قد مر منه ما يتعلق بالشق الثاني من هذه المقابلة (أي معنى التصالح)، وهو انتفاء إلزام المرأة به، واشتراط التراضي في كل صور الصلح الممكنة. وأما ما يتعلق بالشق الأول وهو نشوز المرأة وعلاجه بالضرب، فالقول فيه يتضمن بيان طبيعة الضرب  وحكمه:
فالضرب وإن ذكر في الآية مطلقا، فقد قيد في السنة المبينة للقرآن بالصفة التي تحدد طبيعته، وهي أن يكون ضربا غير مبرِّح، جاء ذلك في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وفيه يقول : "...فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف.."، ومعنى غير مبرح أي غير مؤثر، وغير شائن، أي لا يترك علامات على الجسد، ومثلوا لذلك بأن يكون بالسواك.
  ويبدو أن تقييد الضرب بغير المبرح كاف للدلالة على أنه ضرب لا يضر بالجسد، ومن ثم لا يمكن تصنيفه ضمن العنف الجسدي الذي غالبا ما يترك العلامات والعاهات. ولعل في الحديث ما يبين درجة النشوز التي تستلزم الضرب وهي أن توطيء المرأة فراش زوجها لأحد يكرهه، وفسر بإدخالها بيته من يكره من الرجال، وبذلك يكون الضرب غير المبرح هو أهون ما قد يقوم به الزوج في مثل هذه الحالة.
    وأما حكم الضرب، فإن صيغة التراتب التي جاء فيها ذكر الضرب لا تدل على الوجوب كما مر، ولذلك قيل إن الأمر في قوله (واضربوهن) للإباحة، والإباحة تعني أن الأصل فيه المنع، ولكنه أبيح لدرء الفساد. ويقابل حكم الإباحة المفهوم من الآية حكم الكراهة الوارد في السنة، حيث جاء في صحيح البخاري: عن عبد الله بن زمعة أن النبي  قال: لا يجلد أحدكم امرأته جلد البعير، ثم يجامعها آخر اليوم)، وفي سنن أبي داود، عن إياس بن عبد الله بن أبي ذباب قال: قال رسول الله : «لا تضربوا إماء الله...». وبناء على ذلك جاء في أقوال العلماء ما يشير إلى كراهة الضرب وضرورة تجنبه، فقد حكى ابن العربي قول عطاء: «لا يضربها، وإن أمرها ونهاها فلم تطعه، ولكن يغضب عليها»، وعلق على ذلك بقوله: «هذا من فقه عطاء، فإنه من فهمه بالشريعة ووقوفه على مظان الاجتهاد علم أن الأمر بالضرب هاهنا مباح، ووقف على الكراهة من طريق أخرى من قول النبي »، وروي عن الشافعي قوله: «الضرب مباح وتركه أفضل».
ويبدو أن تأكيد الفقهاء على كراهة الضرب سببه الحساسية في تطبيق مبدأ الضرب، وخاصة إذا كان هذا التطبيق بيد الرجل نفسه، الذي قد لا يراعي الحق والعدل في تطبيق هذا الحكم.
ولعل هذا ما دعا الشيخ بن عاشور إلى القول بجواز تدخل القضاء في حال الإخلال بشروط الضرب حيث قال: «يجوز لولاة الأمور إذا علموا أن الأزواج لا يحسنون وضع العقوبات الشرعية مواضعها، ولا الوقوف عند حدودها أن يضربوا على أيديهم استعمال هذه العقوبة، ويعلنوا لهم أن من ضرب امرأته عوقب، كيلا يتفاقم أمر الإضرار بين الأزواج، لا سيما عند ضعف الوازع»، بل لقد ذهب إلى أبعد من ذلك حين قال بجواز أن يكون المخاطب بقوله (وعظوهن واهجروهن واضربوهن) لمجموع من يصلح لهذا العمل من ولاة الأمور والأزواج؛ فيتولى كل فريق ما هو من شأنه، فيكون الضرب حينئذ من اختصاص القضاء.
  والحق أن هذه المسألة لها أبعاد تشريعية دقيقة ترتبط بقضية إسناد تطبيق الأحكام إلى الأفراد، ومدى صحة ذلك، خصوصا في ظل جهل من يسند إليهم تطبيقها بحدود الحق والعدل والمعروف في ذلك، ولذلك يحق لنا أن نتساءل عن الأضرار المترتبة على هذا الإسناد على مستوى التنـزيل السليم للنصوص، وملاءمة الأحكام مع واقع الناس. وهو سؤال نترك لأهل الاختصاص الإجابة عليه.
  ومن جانبنا نؤكد على أن التوقف عند حالة الضرب وحدها دون غيرها من التشريعات التي رفعت عن المرأة كل أشكال التمييز، يعكس قصورا في النظر وضيقا في الأفق، لأن من قواعد النظر في النصوص أن تربط ببعضها، ويفهم بعضها في ضوء البعض، مادامت تشكل منظومة مترابطة ونسقا متماسكا يشد بعضه بعضا، والأمر إذا تعلق بالتشريعات الأسرية احتيج فيه إلى هذا النظر الشمولي المتكامل أكثر، نظرا لترابط جزئيات هذه التشريعات. دون أن ننسى أنها لا تنفك عن غيرها من الأحكام العقدية التي تربط كل هذه الأمور بتقوى الله عز وجل ومراعاة الحق وطلبه.
  التفريع الثاني: إذا كان القصد هنا الاعتراض على التباين مطلقا في التعامل مع الرجال والنساء، في حال النشوز وغيره، فإنه اعتراض مردود من جهتين:
  الأولى: أن التباين إذا كان بسبب ما بين الصنفين من اختلاف طبيعي وتمايز نوعي، فهو تباين طبيعي، وإذا كان بسبب تنوع القدرات واختلاف المواهب والاختصاصات، فهو تباين مطلوب. وأما إذا كان بسبب التعصب لجنس الذكور، واعتقاد شرفه المطلق، وتفوقه النوعي، فهذا ما لا تنطق به الآيات ولا الفهوم الصحيحة لها.
  الثانية: أن هذا التباين يجب أن ينظر إليه من خلال المنظومة العامة التي حددت العلاقة بين النوعين في القرآن الكريم، والتي تقوم على قاعدة نفي المثلية المطلقة في الطبائع والوظائف، مع إثبات وحدة الخلق والغاية من الوجود والمساواة في المجازاة على الأعمال.
3-  علاقات مفهوم النشوز :
لعل من أكثر العوامل التي تؤثر سلبا على الفهم السليم للمفاهيم القرآنية عموما، هو قطعها عن سياق علاقاتها مع المصطلحات التي تشكل معها أسرة مفهومية متكاملة، وخطورة هذه العلاقات وأهميتها لا تقل عن خطورة السياقات المقالية والمقامية الأخرى المؤثرة في المعاني والدلالات. ولذلك فإن فهم معنى النشوز في القرآن الكريم لا يكتمل إلا بدراسة المفاهيم المتعالقة معه في الآيات وهي مفاهيم: القوامة والتفضيل، والطاعة والصلاح والشقاق، ففي بيانها زيادة بيان له.
3-1- النشوز بين القوامة والتفضيل:
القوامة صفة اشتقت من الجذر (ق و م)، والقوامون جمع قوَّام مبالغة من قائم، والقائم اسم فاعل من قام يقوم قياما بمعنى حفظ ورعى وأصلح ولازم وثبت.
وفي القرآن الكريم وردت اشتقاقات كثيرة للفعل قام وكل منها له معنى:
   فجاء لفظ القَََوام بمعنى العدل (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً).
   وجاء أيضا لفظ القيُّوم صفة الله عز وجل(اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ).
   وجاء أيضا لفظ قائمون وقائمين: (وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ)، (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)، والقيام هنا بمعنى المواضبة والملازمة والثبات والوقوف.
أما لفظ القوامون الذي ورد في الآية، فقد جاء أيضا في آيتين هما قوله تعالى: (ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ)، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). والملاحظ أن القرآن الكريم يستعمل ثلاث صيغ للتعبير عن القوامة أو القيام: القيام للشيء (قوامين لله)، والقيام بالشيء (قوامين بـالقسط)، والقيام على الشيء(قوامون على النساء)، فمعنى القيام للشيء أي لأجله، فالقيام لله معناه القيام لأجل ثوابه، أما القيام بالشيء فهو الرعاية له وحفظه، وأما القيام على الشيء ففيه معنى الاقتدار والاستعلاء مع الحفظ والرعاية والملازمة لذلك.
وآية القوامة كما سبق الذكر تقع في سورة النساء ضمن مقطع يعالج قضايا مرتبطة بالعلاقة بين الرجال والنساء سواء في حالي الاتفاق أو الاختلاف. وهي تبدأ بأسلوب تقريري يثبت قوامة الرجال على النساء ثم تذكر تعليلين لذلك:
     تفضيل بعضهم على بعض.
     إنفاق الرجال من أموالهم.
أما التعليل الأول، فهو تفضيل الرجال على النساء، وعبر عن هذا التفضيل بالبعضية (بعضهم على بعض)، ولم يقل بما فضلهم عليهن، «لما في ذكر "بعض" من الإبهام الذي لا يقتضي عموم الضمير، فرب أنثى فضلت ذكرا».
والتفضيل هنا بمعنى التمييز الذي أساسه زيادة أحد الشيئين على الأخر. وبالنظر إلى مفهوم التفضيل في القرآن الكريم عموما، نجد أن منه ما يكون في أمور طبيعية خَلقية لا دخل للإنسان فيها، ومنه ما يكون في أمور مكتسبة نتيجة عمل وجهد، ومنه ما يكون فيهما معا، ومنه آية القوامة والآية التي تسبقها: (وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيما)، حيث دل فعل الاكتساب على ما يحوزه الإنسان إما بجهده وعمله، أو بقدراته الطبيعية التي مُنِح إياها، كما دل النهي عن تمني ما فضل به البعض على البعض أنه تفضيل ثابت وطبيعي، وجارٍ وفق سنن الله تعالى في خلقه، وأنه شامل للطرفين معا، وليس خاصا بالرجال دون النساء. والآية كما يبدو تضع تقابلا بين التمايز والتفاضل من جهة، والتساوي في النصيب من الاكتساب من جهة أخرى (لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ)، فإذا كان التفاضل واقعا في بعض الأحكام الجزئية كالجهاد والغزو، أو بعض المنافع المترتبة على بعض الأحكام كالميراث، فإن التساوي موجود في طبيعة الجزاء على العمل.
ولما كان التفضيل أساسا للقوامة وسببا من أسبابها، فلا شك أنه تفضيل يكسب الرجل القدرة على القوامة، أي هو زيادة في اكتسابه للخصائص التي تؤهله لرعاية المرأة والحفاظ على الأسرة، وجاء ذكر الإنفاق عطفا على التفضيل لبيان إحدى هذه الخصائص والمؤهلات وهي الإنفاق.
هذا بيان موجز لدلالة القوامة والتفضيل، أما علاقتهما بالنشوز فقد تمثلها بعض المفسرين،  من خلال صورة واحدة من صور علاج النشوز وهي الضرب، فاعتبروا ضرب الرجل لزوجه الناشز مظهرا لقوامته، ونتيجة لتفضيله عليها، قال ابن كثير: «الرجل قيم على المرأة أي هو رئيسها وكبيرها ومؤدبها إذا اعوجت، "بما فضل الله به بعضهم على بعض" أي لأن الرجال أفضل من النساء والرجل خير من المرأة». فكان الغلط في تفسير هذه العلاقة من جهتين: من جهة حصر القوامة في مظهر واحد هو التأديب، دون الحفظ والرعاية التي هي قوام معنى القوامة لغة واصطلاحا عاما واصطلاحا قرآنيا. ومن جهة ربط التأديب بالتفضيل، مع أن التفضيل عموما مشترك بين الرجال والنساء، وراجع إلى زيادة كل طرف على الآخر في أمور قد ترجع إلى العمل أو إلى القدرات الطبيعية والمكتسبة.
  إن علاقة النشوز بالقوامة والتفضيل، تتجلى في كون النشوز يمثل حالة استعلاء عن القواعد التي وضعها الله عز وجل لحفظ العلاقة بين الزوجين وما يترتب عليها، والقوامة والتفضيل من هذه القواعد، فبإسناد القوامة للرجل نتجنب مخاطر التدبير المزدوج الذي أثبتت التجربة عدم جدواه، ودلت الفطر والعقول على فساده، وبالتفضيل نضمن التنوع في القدرات الذي يمنح تكاملا في أداء الوظائف والمهمات. وحين يقع النشوز من أحد الطرفين، يختل هذا النظام وهذا التناغم.  
3-2- النشوز والطاعة :
  الطاعة في اللغة من الطوع وهو الانقياد والتسليم والتجاوب، وعرفت الطاعة في الاصطلاح بأنها «موافقة الأمر طوعا»أي عن رضى ومحبة، وضد الطاعة العصيان الدال على المخالفة والامتناع.
وورد لفظ الطاعة في القرآن الكريم عموما ثلاثا وثمانين مرة، وجاء مرتبطا بالنساء أربع مرات، منها الآية موضوع الدرس، ومنها آية الأحزاب: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). وجاء مفهوم الطاعة بلفظ نفي المعصية في آية الممتحنة: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
  وبالنظر في الآيات التي ذكرت فيها الطاعة مرتبطة بالنساء، نجد أن هذه الطاعة تتباين طبيعتها وتختلف سياقاتها بحسب موقع المرأة منها: فالمرأة بوصفها مخلوقا لله عز وجل، فإن طاعتها لله ولرسوله واجبة في حقها، وإذا نظر إليها بوصفها أما كانت طاعتها واجبة في حق ولدها ما لم تأمره بغير المعروف، وإذا نظر إليها بوصفها زوجا وشريكا للرجل في تدبير شؤون الأسرة، فإن طاعتها لزوجها واجبة في حقها احتراما لنظام الأسرة التي جُعل الرجل القيم الأول فيه والمسؤول الأول عنه.
  أما في آية النشوز فمجيء الطاعة بعد ذكر علاجات النشوز مسبوقة بحرف الشرط "فإن" ومتبوعة بالنهي عن البغي عليهن أي تجاوز حد العدل في معاملتهن: (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً)، يوحي بأن الطاعة غاية من غايات علاج النشوز، أي أن الرجل يؤدب زوجه الناشز لتطيعه، ومعنى هذا أن النشوز هو المعصية، أو أن انتفاء الطاعة هو أحد مظاهر النشوز، ولكن هذا المعنى لا يدفع احتمالا آخر وهو أن الطاعة وسيلة وقائية لدرء النشوز. وفي كل الحالات فإن الطاعة هنا مناقضة للنشوز. لكن ما طبيعة هذه الطاعة الواجبة للرجال على النساء؟.
  قد نبهنا في معنى الطاعة على وجود معنى "التجاوب" و"الموافقة" بإضافة قيد الطوع والرضى، فوجود الرضى شرط في تحقق الطاعة المنشودة في الشرع عموما، وهذا المتغير المهم جاء مناسبا لطبيعة الإنسان الذي خصه الله عز وجل بحرية الإرادة والاختيار، ورغم التمييز الواضح في مفهوم الطاعة في القرآن الكريم بين طاعة الله عز وجل التي جاءت في كل صيغها مطلقة، وطاعة المخلوقين التي جاءت مقيدة بالمعروف، فإننا لا نستطيع الفصل في هذا المفهوم بين الانقياد والمحبة، والامتثال والرضى، والطاعة متى تجردت عن الرضى والمحبة صارت قهرا وإرغاما، وأدت إلى عكس الأهداف المرجوة منها.
  هذا الأساس هو المنطلق في بيان المقصود بطاعة المرأة لزوجها، ولعل علاقة الزوجية هي أكثر العلاقات الاجتماعية المؤسسة على المحبة، أو التي يجب أن تؤسس على المحبة، وقد عبر القرآن الكريم عن هذه الحقيقة ضمن آيات خلقه الكبرى ومنها خلق الأزواج (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
لكن فهم الطاعة هنا لا يكتمل إلا بوضعه ضمن باقي المفاهيم المؤسسة للعلاقة بين الزوجين وفي مقدمتها مفهوم القوامة الذي جعلت للرجل بموجبه مهمة قيادة الأسرة، ومن أهم أسباب نجاحه في هذه المهمة طاعة من جُعِل قواما عليهم وفي مقدمتهم المرأة، من هنا كانت طاعة المرأة للزوج واجبة لأنها مناط تحقيق القوامة الحافظة لبيضة الأسرة، وكيف لا تكون واجبة في مؤسسة تسهر على إخراج النوع الإنساني ورعايته وتدبير شؤونه، وهي بعدُ واجبة في مؤسسات أقل شأنا وأضأل خطرا ؟.
وإذا كان الأساس الذي انطلقنا منه لتحديد مفهوم الطاعة هو الرضى والتوافق، فإن الضابط في تحقيق الطاعة المنشودة هو "المعروف"، وقد جاء في الحديث: (إنما الطاعة في المعروف)، والزوج متى أمر زوجه في غير المعروف -أي في ما يخالف قواعد الشرع وقوانين الفطرة وما تعارفت عليه العقول السليمة- يكون بذلك مجاوزا للحد الذي وضعه له الشارع في ممارسته لهذا الحق، ويكون من حق المرأة معصيته.
وإذ تبين مفهوم الطاعة هنا ظهر أن النشوز هو أحد نواقض الطاعة، وأن المعصية - التي هي نقيض الطاعة - مظهر من مظاهر النشوز، وليست هي النشوز كله، والذين فسروا النشوز بالمعصية إنما نظروا إلى السياق القريب في الآية، دون غيرها من السياقات المرتبطة بموارد أخر للطاعة والنشوز.
3-3- النشوز والصلاح:
  الصلاح في اللغة يجمع معاني الخير والإحسان وإقامة الشيء بعد فساده، ولذلك كان «هو الأصل الكلي للكمال». ويرتبط الصلاح في القرآن الكريم كثيرا بالعمل، فلفظ "الصالحات" وحده الذي ورد اثنتين وستين مرة جاء مقترنا بالعمل ومفعولا له تسعا وخمسين مرة. وهذا يعكس السمة الدلالية الغالبة على مفهوم الصلاح وهي أنه أثر من آثار العلم والإيمان.
  أما في سياق حديثنا فقد قابلت آية القوامة في ذكرها للنساء بين صفتي النشوز والصلاح: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ)، وذكر الصلح والتصالح في آية النشوز الثانية، كما مر، كما ذكر الإصلاح أيضا في آية الشقاق التي تلت آية النشوز الأولى:
  فالتقابل بين الصلاح والنشوز في صفات النساء يدل بوضوح على الاختلاف بينهما، ولذلك يفسر الصلاح هنا بما له علاقة بموضوع الآية، لا بمطلق الصلاح، وذلك ما بينته الآية: فالصالحات من النساء هنا: القانتات، والقنوت عموما هو لزوم الطاعة مع الخضوع، والأنسب لسياق الآية أن يفسر هنا بملازمة طاعة الزوج، في المعروف، أو طاعة الله في ما أوجب عليهن من حقوق لأزواجهن. والصالحات أيضا حافظات للغيب، أي حافظات لأزواجهن في غيابهم، ولذا ناقض الصلاح هنا معنى النشوز الذي من صوره -كما أسلفنا- أن تدخل المرأة بيت زوجها من يكره من الرجال، ولما كانت مناقَضة الفساد سمة كبرى من سمات مفهوم الصلاح، فإن الصلاح هنا هو: كل ما يصدر عن المرأة من أفعال حسنة تساعد على إقامة الخير والحق ودرء الفساد. وفي المقابل يكون النشوز استعلاء عن إقامة الحق والخير، ومقدمة من مقدمات فساد العلاقة بين الزوجين، وفساد حال الأسرة كلها. لأجل ذلك كان التقابل بين الصفتين في الآية موحيا بالأمر بتمثل صفة الصلاح وتجنب صفة النشوز.
3-4- النشوز والشقاق:
  الشقاق في اللغة من الشَّق وهو الخرم الواقع في الشيء، والصدع البائن. والشقاق والمشاقة: المخالفة والعداوة، وكونك في شِق غير شق صاحبك، ومنه قولهم شق فلان عصا الطاعة أي فارق الجماعة وخالفها.
  وفي القرآن الكريم ورد لفظ الشقاق سبع مرات، استعمل معه أحيانا لفظ التولي "عن الإيمان": (فإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ)، وأحيانا لفظ الاختلاف: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)، وأحيانا لفظ الظلم: (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)، وأحيانا لفظ الضلال: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)، وكلها ألفاظ تحمل بعضا من دلالة الشقاق في القرآن الكريم.
  أما في موضوع النشوز، فقد ذكر الشقاق في الآية التي تلي آية القوامة، وهي قوله عز وجل: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً)، وارتباطها بما سبق واضح، فبعد الحديث عن حالة النشوز عند المرأة وبيان مراتب علاجها، يأتي الحديث هنا عن حالة أكثر خطورة، وهي الشقاق.
  وكما تبين من دلالة لفظ الشقاق في اللغة والقرآن الكريم عموما، فإنه هنا حالة من المخالفة والمعاداة بين الزوجين، لا تكون المرأة مصدرها الوحيد بل يشترك معها الرجل أيضا، فالشقاق هنا: مشاقة كل واحد منهما صاحبه، وإتيانه ما يشق عليه من الأمور. أما علاج الشقاق فقد حددته الآية بتدخل الحكماء من أهل الزوجين بقصد الإصلاح بينهما.
  من خلال ما سبق تتبين معالم العلاقة بين النشوز والشقاق، وهي علاقة تتشكل من ثلاث جهات: من جهة طبيعة كل منهما، ومن جهة مصدرهما، ومن جهة كيفية علاجهما.
  فمن جهة طبيعة كل منهما، فالظاهر من دلالة اللفظين، ومن سياق الآيات، أن النشوز غير الشقاق، وأن الشقاق حالة من المخالفة والتنافر المتبادل تتعدى النشوز، وليس كما ذهب بعض المفسرين من أن الشقاق هو النشوز، كما يفهم من كلام الطبري حين فسر معنى الشقاق الصادر من المرأة بقوله: «..فأما من المرأة فالنشوز، وتركها أداء حق الله عليها الذي ألزمها الله لزوجها». وأما من حيث مصدرهما، فكما أن النشوز قد يكون من المرأة ومن الرجل، كذلك الشقاق هو حاصل منهما معا، ويشهد لذلك الأسلوب القرآني بإضافة البين إلى الشقاق "شقاق بينهما" على سبيل التوسع، والمقصود شقاقا بينهما، فهو شقاق متبادل، ويؤكد ذلك أيضا صيغة المفاعلة في المخالفة والمعاداة التي فسر بها الشقاق. لكننا قد نجد في بعض كتب التفسير ما يلمح إلى أن الشقاق استمرار للنشوز، ومن ثم فهو صادر من المرأة، ومن ذلك الخبر الذي أورده القرطبي وغيره، المروي عن سعيد بن جبير، وفيه يقول: «الحُكْمُ أن يعظها أولا، فإن قبلت وإلا هجرها، فإن هي قبلت وإلا ضربها، فإن هي قبلت وإلا بعث الحاكمُ حكما من أهله وحكما من أهلها فينظران ممن الضرر..». ومثله قول الرازي: «اعلم أنه تعالى لما ذكر عند نشوز المرأة أن الزوج يعظها ثم يهجرها ثم يضربها، تبين أنه لم يبق بعد الضرب إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم من الظالم». والظاهر أن هذا التفسير لا يسنده سياق الآيات ولا دلالة لفظي النشوز والشقاق.
  ومن جهة علاجهما فالفرق بينهما ظاهر، وهو يؤكد ما بين المفهومين من تمايز، فقد جعلت الآيات علاج النشوز الصادر من المرأة بيد الرجل، أي علاجا داخليا يتم داخل الأسرة الصغيرة، بينما جعلت علاج الشقاق بيد الحكمين من أهل الزوجين، وهذا النوع من العلاج الذي يتطلب تدخلا من خارج الأسرة الصغيرة، سواء كان من أهل الزوجين، أو من القضاء، يؤكد أن الشقاق أخطر حالا من النشوز، ولذلك كان الغرض من هذا التدخل محاولة إنهاء حالة الشقاق هاته، إما بالتصالح أو بالتفريق.
  وخلاصة القول، فإن النشوز يشكل مع باقي المفاهيم المدروسة شبكة مفهومية تترابط أجزاؤها ائتلافا واختلافا، وتداخلا وتكاملا، حيث لا يمكن فهم أبعاد علاج نشوز المرأة إلا بتبين مفهوم القوامة، ولا يمكن تبين معنى القوامة إلا بمعرفة مفهوم التفضيل، وكذلك يزداد مفهوم النشوز بيانا بمعرفة أضداه من المفاهيم كالطاعة والصلاح، وكذا ما يأتلف معه من المفاهيم كالشقاق الذي يتكامل معه من حيث طرق العلاج.

5
  قد تبين من خلال هذا البحث أن النشوز في القرآن الكريم، هو الترفع والاستعلاء عن الحدود والقواعد التي وضعها الله عز وجل لتنظيم العلاقة بين الزوجين، وأنه فعل يصدر من الرجال والنساء معا، وعلاجه عند كل صنف يختلف طبقا للاختلاف بين طبيعة كل منهما، وأنه مفهوم يعكس الخلل الذي قد تتعرض له مؤسسة الزواج، والعلاج المناسب لهذا الخلل، ومن ثم فهو يمثل الاستثناء من القاعدة التي بنيت عليها هذه المؤسسة في التصور القرآني، والتي أساسها المحبة والتراحم والسكن والمودة، ولذلك لا ينبغي الوقوف عند هذا الاستثناء كثيرا واعتباره ذريعة للطعن في بعض التشريعات الأسرية. كما تبين أن الفهم السليم لهذا المفهوم، ولغيره من المفاهيم القرآنية، يتطلب الإحاطة بسياقات استعماله في القرآن ككل، ودراسة علاقاته بالمفاهيم المنتمية معه إلى نفس الأسرة المفهومية، وتلك التي يربطها به أي شكل من أشكال التعالق، وقد تبين من خلال هذه العلاقات موقع مفهوم النشوز من مفاهيم القوامة والتفضيل والطاعة والصلاح والشقاق، وأنه يمثل خروجا عن النظام الذي تكفله القوامة، ونقيضا لأحد تجلياتها، أي الطاعة.
تلك هي السمات الدلالية العامة المستخلصة من موارد النشوز في القرآن الكريم، وتلك هي المعاني التي نرجو أن تكون حاكمة لأي محاولة لتفسير هذا المفهوم، وفهم أبعاده وتطبيقاته،  في ظل فوضى الفهم والتفسير والتأويل التي تخضع لها المفاهيم القرآنية ذات الأبعاد الأسرية والاجتماعية.

      أحكام القرآن لابن العربي، تحقيق محمد علي البيجاوي، طبعة البابي الحلبي (د. ت).
     أسباب النزول للواحدي، دار الفكر، لبنان، 1994م.
     البحر المحيط لأبي حيان مطبعة السعادة، مصر، ط: 1/1328هـ  
     تاريخ يحيى بن معين، تحقيق أحمد محمد نور سيف، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1979م.
     التحرير والتنوير، للشيخ الطاهر بن عاشور، دار سحنون للنشر، تونس (د ت).
     تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)، محمد عبده ورشيد رضا، دار المنار، مصر: ط 4، 1373هـ.
     تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تصحيح نخبة من العلماء، دار المعرفة، بيروت، 1969م.
     التعريفات لعلي بن محمد الجرجاني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1988م.
     جامع البيان في تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، دار الفكر، بيروت، 1978م.
     الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، تحقيق محمد إبراهيم الحفناوي ومحمود حامد عثمان، دار الحديث القاهرة، 2002م.
     سنن أبي داود دار إحياء التراث العربي ودار الكتب العلمية (د.ت).
     سنن الترمذي دار الكتب العلمية، طبعة دون تاريخ.
     صحيح مسلم بشرح النووي، حققه وخرجه وفهرسه: عصام الصباطي وحازم محمد زعماد عامر، دار الحديث، القاهرة، 2001م.
     فتح الباري بشرح صحيح البخاري، تحقيق عبد العزيز بن باز وفؤاد عبد الباقي، دار الحديث، القاهرة، 2004م.
     الكشاف للزمخشري، دار الفكر، لبنان (د ت).
     لسان العرب، لابن منظور، دار الحديث، القاهرة، ط: 2003م.
     المحرر الوجيز لابن عطية، تحقيق: عبد الله بن إبراهيم الأنصاري وعبد العال السيد إبراهيم ومحمد الشافعي صادق، ط وزارة الأوقاف بقطر 1982.
     مفاتيح الغيب للرازي، المطبعة البهية، مصر، ط 1، 1935م.
     المصباح المنير، أحمد بن محمد بن علي الفيومي، مكتبة لبنان، 1987م.
     المفردات في غريب القرآن للراغب الأصبهاني، تح محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، د.ت.
     مفردات القرآن لعبد الحميد الفراهي، تحقيق محمد أجمل أيوب الإصلاحي، دار الغرب الإسلامي، ط 1، 2002م.
  معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل، بيروت، ط1، 1991م.

روابط مهمة

-

-

-

-

-

-

-

الواضحة - مجلة علمية محكّمة

الواضحة مجلة علمية محكّمة تصدر عن دار الحديث الحسنية للدراسات الإسلامية العليا بالرباط.

المدير المســؤول: مدير دار الحديث الحسنية أ.د   أحمد الخمليشي.

التنسيق والتحرير: د. الناجي لمين د. محمد ناصيري د. عبد المجيد محيب.

سكرتير التحريــــــر: عبد الرحيم مطر.

الناشـــــــــــــــــــــــــــر: دار الحديث الحسنية مطبعة الأمنية - الرباط.